عربي
Friday 15th of November 2024
0
نفر 0

تذكير بالعامل النفسي لنشأة الفكر التعددي

تذكير بالعامل النفسي لنشأة الفكر التعددي:

تقدّم في الحديث السابق أنّ أحد العوامل الباعثة على نشوء الفكر التعددي، عبارة عن عامل نفسي يراود ذهن كثير من الأشخاص لا سيما الشباب منهم، ويمكن تلخيص هذا العامل بسؤال يلحّ على الأذهان فيؤدّي بها إلى الاضطراب، وهو: أننا لو نظرنا إلى جميع أتباع الأديان لوجدنا أكثرهم متمسكين وملتزمين بالدين الذي اختاروه، فهل يعقل أن يكون جميع أهل الأرض معذّبين يوم القيامة إلا مجموعة خاصة من المسلمين وهم الشيعة، وذلك بعد استثناء عدد منهم أيضاً كأصحاب الكبائر من المذنبين؟ وبما أنّ ذلك لا يقبله الذهن ولا يتحمله الأشخاص تتهيأ الأرضية لقبول فكرة التعددية الدينية، أو على الأقل يقولون: إنّ الأشخاص الملتزمين بأحكام دينهم وتعاليمه لا يُعذّبون وهم من أهل السعادة في الآخرة.

ولرفع هذا الاستبعاد الموجود في الأذهان، تقدّم أنّه لا ملازمة بين قولنا: (الإسلام هو الدين الحق فقط واتّباعه يؤدّي إلى السعادة في الآخرة) وبين القول (بأنّ جميع أهل الأرض معذّبون)، بل يمكن تقسيم الناس غير التابعين للإسلام إلى


مجموعتين، ولا يهمّنا هنا البحث الإحصائي وأنه أي المجموعتين أكبر من الأخرى:

1 ـ أشخاص سعَوا للوصول إلى الحق ولكنهم لسبب من الأسباب لم يتعرفوا عليه.

2 ـ أشخاص لم يسعَوا للوصول إلى الحق مع توفّر جميع الإمكانات والاستعدادات لهم، أو أنهم عرفوا أنّ الإسلام هو الدين الحق ولكن مع ذلك عاندوه ولم يقبلوه.

وهذه المجموعة هي التي تذهب إلى جهنم يوم القيامة.

وأمّا المجموعة الأُولى، التي لم تصل إلى الحق عن قصور فإنّ لها حساباً آخر، وهؤلاء هم المعبّر عنهم بحسب الاصطلاح في الأبحاث الفقهية بالمستضعفين (فكرياً)، وهم سوف يثابون على أعمالهم الحسنة التي وصلوا إليها عن طريق عقولهم أو عَبر الدين الخاص الذي اتبعوه، ولكن هل سيوضعون في أَدْوَن درجات الجنة، أو في عالم ثالث بين الجنّة والنار، أو أنهم سيمتحنون ثانيةً في ساحة يوم القيامة، أو مسائل أُخرى من هذا القبيل؟ وعلى كلّ الأحوال فإنهم لا يخلّدون في النار.

توضيح آية {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً}:

لقد كان السبب من تكرار بعض مطالب الحديث السابق هو التعرّض لهذا السؤال الذي نتج عن البحث وهو: كيف تحلّون التهافت بين ما ذكرتم وبين الآية القرآنية الصريحة؟ فإنّ لازم كلامكم من دخول بعض الأشخاص غير المسلمين إلى الجنّة هو قبول بعض الأديان نوعاً ما وفي الجملة، بينما نجد الآية القرآنية تصرّح بعدم قبول أيّ دين غير الإسلام على الإطلاق: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}([1]).

أما بالنسبة لهذه الآية الكريمة فلو أردنا أن نتعرّض لتفسيرها بشكل مفصّل لخرج بنا البحث عن موضوعنا الأصلي، لذا نقتصر على الإجمال دون التفصيل ونقول:

لقد كان الدين الذي أنزله الله للناس في زمن النبي إبراهيم × هو الدين الإسلامي، وكان على الناس اتباعه والالتزام به إلى أن تُنزَّل شريعة جديدة. وعندما أرسل النبي موسى × نُسخت شريعة إبراهيم×، وكان دينه هو الإسلام أيضاً؛ مع وجود بعض الاختلافات في الأحكام التي كانت في شريعة إبراهيم. وعندما بُعث النبي عيسى × نُسخت شريعة موسى× وكُلّف الناس بإتباع شريعة عيسى التي تختلف مع شريعة موسى ببعض الأحكام، وأما دين عيسى فقد كان الإسلام أيضاً؛ إلى أن انتهى الأمر بأنّ بعث الله النبي الأكرم محمداً | فنُسخت كلّ الشرائع السابقة، وكُلّف الناس بالعمل بالشريعة الإسلامية، وأما دين النبي محمد | فهو الإسلام أيضاً؛ وحيث كان لهذه الشريعة أحكام وقوانين وتعاليم خاصة تميّزت به عن جميع الشرائع السابقة، صار للإسلام معنى جديداً خاصاً، وهو ما نفهمه اليوم من الإسلام.

وبهذا البيان ظهر أن للإسلام مصاديق مختلفة: شريعة إبراهيم × وشريعة موسى × وشريعة عيسى × وشريعة محمد |؛ وعلى هذا الأساس يكون معنى الآية  هو: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} أنّه على الشخص الذي يعيش في أيّ زمن مع مصداق من مصاديق الإسلام أن يختار هذا المصداق للإسلام ولن يُقبَل منه أيّ دين آخر، ولا شك أنّ الأشخاص الذين اتبعوا إبراهيم في زمانه، وموسى وعيسى كذلك (عليهم جميعاً سلام الله) منعّمون ورضي الله عنهم؛ وبتعبير آخر يكون معنى الآية أننا علينا أن نقبل بجميع ما جاء به الأنبياء علاوة على الأحكام الخاصة التي جاء بها نبي الإسلام، ومن الواضح أنّ نسخ الأحكام لا يختص بين شريعتين بأنّ تقوم اللاحقة بنسخ بعض أحكام الشريعة السابقة، بل قد يحصل النسخ في ضمن أحكام شريعة واحدة أيضاً كما حصل في أوائل البعثة النبوية، حيث كان يأمر النبي المسلمين بالصلاة إلى بيت المقدس فترة استمرت إلى ما بعد الهجرة النبوية وبعد مدة أمر المسلمين بالصلاة إلى مكة المكرّمة مما أدى إلى نسخ الحكم السابق.

وعلى هذا لا نرى أنّ نسخ بعض الأحكام يفضي إلى تغيير جوهر الدين، فإنّ جوهره عبارة عن الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والمعاد، والاعتقاد بالنبوة هو الإيمان بجميع الأنبياء {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ...}([2])، ولا يجوز تكذيب أيّ واحد من الأنبياء، بل تجب طاعتهم جميعا، علماً لو أنّ النبي موسى × أو عيسى × كانوا في هذا الزمان لوجب عليهم الالتزام بشريعة نبي الإسلام محمد |.

 وظيفتنا في اختيار الدين، وحكم متّبعي الأديان الاُخرى:

بناء على ما مرّ، فإننا مكلفون بالإلتزام بأحكام القرآن الكريم وتعاليم النبي الأكرم والأئمة الأطهار ^، ولن يتقَّبل منّا أيّ التزام آخر، ولا يعني أنّ هذا الدين يغاير بقية الأديان السابقة تغايراً ماهوياً، بل هناك مشابهة في كثير من الأحكام وفي العناوين العامة رغم الاختلاف الموجود وكلّها تعتبر من الإسلام، والأشخاص الذين لم يقدروا على معرفة الحق وكانوا مستضعفين فسوف يؤجرون يوم القيامة على قدر معرفتهم، وأما الأشخاص الذين عرفوا الحق فعاندوه وخالفوه فسوف يخلّدون في العذاب، وهذا معنى الجملة الواردة في دعاء كميل «أقسَمْتَ أن تملأها من الكافرين من الجِنَّة والناس أجمعين وأن تخلِّدَ فيها المعاندين»، وأما المقصّرون الذين لم يكن عندهم أيّ عناد فإنهم يعذّبون على قدر تقصيرهم.

والنتيجة هي: أنّ المخلدون في العذاب هم أصحاب العناد فقط، وأما غيرهم فإما أن يُعذر على قصوره وإما أن يُعذب على قدر تقصيره، وما يهمّنا من هذا الكلام هو، أننا إذا قلنا: إنّ بعض الأشخاص ممن لم يتّبع الإسلام سوف لن يُعذب يوم القيامة فذلك بسبب العذر والقصور لا بسبب أنّ دينهم حق ومقبول، والدين الحق والصراط المستقيم واحد لا غير، فعدم ذهاب عدد من غير المسلمين إلى جهنم وعدم عذابهم في النار لا يستلزم تعدد الأديان، ولا أن نعتبر أنّ سبلَ الحق كثيرة.

إشارة إلى نكتة نفسية:

ليس من الضروري أن يتّبع الإنسان أمراً معيّناً لأجل ما ظهر له من الأدلة والبراهين، بل قد يعجب بهذا الأمر ابتداء فيتبعه ومن ثم يقوم بإثبات الأدلة على صحته وحسنه، وفي هكذا موارد وإن كانت حسنة أحياناً، يكون الإنسان متبعاً للقلب لا للعقل، وهذا ما نجده في كثير من الناس، حيث تتعلق قلوبهم بشيء ما ثم يسعَون لتأييده ودعمه بالبرهان والعقل، وقد حصل ذلك مع كثير ممّن آمن بالرسول الأكرم |، بمعنى أنَّ كثيراً من المؤمنين لم يُقِم في بداية إيمانه البراهينَ والأدلةَ العلمية على التوحيد والنبوة وبقية المعتقدات الإسلامية، بل عندما شاهد أفعال النبي وحركاته أحبَّ أن تكون جميع تصرفاته مثل تصرفات الرسول|، فآمن به ثم بدأ بإقامة الأدلة على ذلك فيما بعد.

ولهذه المسألة مصاديق في المطالب الباطلة أيضاً، فحيث إنّ قلب بعض الناس يميل إلى الباطل ويعشقه يقوم بالسعي لإيجاد الأدلة والبراهين لإثباته. وكثير من الناس قد اعتادوا على الذنوب والتحلّل الخلقي، ويحبون أن يكونوا أحراراً من القيود ويفعلوا ما يحلو لهم، و لا نراهم يقبلون بوجود الحساب والكتاب والقبر والقيامة وأن جميع أعمالهم مسجلة وسوف يحاسبون عليها، ويسعون لإقامة الأدلة على بطلانها، وما ذلك إلا لأنهم لا يحبون هذه الحقائق كلها، ويقول القرآن الكريم: {أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ([3]).

فهل يظن من ينكر المعاد أننا لا نقدر أن نحييه ثانية؟ ولو فكر قليلاً لصدق أن القدرة التي أوجدت الإنسان من العدم تستطيع أن تحييه ثانية، بل الأمر أسهل لأنه في المرحلة الأولى لم يكن شيئا فأوجدته القدرة لا من شيء، أما في هذه المرحلة فهناك على الأقل لحم وعظام بالية يمكن أن تُجمع من جديد، والعقل بأدنى تأمّل يصل إلى أن القادر على خلق الإنسان لا من شيء قادر على أحيائه بعد موته، ولكن لماذا يُصرّ منكرو المعاد إلى هذا الحدّ على دعواهم؟ لأنّه { بَلْ يُرِيدُ الأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}يريد الإنسان أن يكون حراً في كلّ شيء ويفعل ما يحلو له، ولا يحبّ أن يكون هناك أيّ حساب وأيّ كتاب، فقلوبهم تميل أولاً للقول بعدم وجود يوم القيامة، ثم يسعون ثانياً لإقامة البراهين على ذلك. وأغلب المسائل الاجتماعية من هذا القبيل وبدل أن يقتفي القلبُ أثرَ العقل نجد القلبَ يسير في المقدمة.

والمثال الحيّ لهذه المسألة في عصرنا هو اتباع بعض الأشخاص للماركسية؛ فهؤلاء لم تثبت لهم بالبرهان والعقل أصول الديالكتيك والمادية وأنه لا يوجد شيء غير المادة، وأنّ الاقتصاد الماركسي وكلّ المسائل التي تتعلق بالماركسية صحيحة. وأنا أعرف أشخاصاً كانوا مسلمين يصلون ويصومون ولكن يتبعون الماركسية، ويظنون أنّه يمكن الجمع بينها وبين الإسلام، وإنما تمسكوا بالفكر الماركسي لأنهم عندما كانوا يرون الظلم والتفاوت الطبقي الفاحش في المجتمع، فمجموعة من الناس تحتار كيف تبذر أموالها من شدة الغنى، وأخرى تحتار كيف تجد لقمة العيش من شدة الفقر، وحيث كانوا يظنون أنّه لا يوجد إلا حلّين إما اتباع الرأسمالية، وقد عاينوا ما جرّته على مجتمعهم من مأساة وتفاوت في الطبقات، وإما اتباع الماركسية، فذهبوا إلى تبني الماركسية، ثم بعد ذلك أخذوا بإقامة الأدلة على هذا الفكر إلى أن وصل بهم الأمر للاعتقاد بأصالة المادة.

وقد جرى نفس الأمر أيضاً مع كثير ممَّن يقول بالتعددية الدينية، فقد استبعدوا في بداية الأمر أن يكون جميع أهل الأرض معذبين يوم القيامة ولا ينجو إلا القليل، بل لا بدّ أن يدخل الجميع الجنة، عندها طرحت مسألة «صحة جميع الأديان وحسنها» وبدأ السعي لإقامة الأدلة عليها.

ما هو المبنى الفلسفي والمعرفي الذي يؤدّي إلى التعددية؟

هناك أشخاص شرعوا في البداية ببعض المباني الفكرية والفلسفية الخاصة، وعلى أساسها وصلوا إلى التعددية، لا أنّه منذ البداية كانوا يحبونها ويريدونها، ثم جاء دور العقل بعد ذلك؛ ونريد أن نعرف ما هو المبنى الفلسفي الذي يُفضي تبنِّيه إلى التعددية؟

إذا اعتقد الفرد ـ في مسألة التعرف على الواقع وكشف الحقيقة ـ أنّ عقل الإنسان يستطيع أن يُدرك الواقع، عندها لا يمكن له أن يقبل بوجود حقائق متعددة في مسألة واحدة، بل يرى بفطرته أن الحقيقة واحدة، وهو يسعى وراءها ويريد كشفها بالدليل والبرهان، وإذا قدمنا له مسألة في الفيزياء أو الرياضيات فهو يعتقد أنّ لها جواباً صحيحاً واحداً لا غير، ولو حصل على حل لهذه المسألة فإنه يعتقد أن هذا الحل لا يخلو من أحد أمرين: إما خطأ وإما صحيح ولا يمكن أن يكون هناك حلول صحيحة متعددة.

أما إذا كان اعتقاد الفرد في المسألة المذكورة بأنّ الإنسان لا يمكنه إدراك الواقع، ومهما استفاد من أدوات كالعقل أو التجربة أو غيرها فإن غاية ما يصل إليه هو الاقتراب من الحقيقة، ولا يتأتّى له الوصول إلى نفس الحقيقية والواقع، وهكذا فرد يُفتح له المجال على أنواع متعددة من نظريات الشك والنسبية والتعددية. ونحن نرى اليوم أشخاصاً كثيرين في العالم يتبنّون هذه النظرية في علم المعرفة وأنّ الحقيقة فوق العقل والعلم ومعرفة الإنسان، ومهما يسعى الإنسان بما يمتلك من أدوات وطاقات فلن يصل إلى الحقيقة وإنما يصل إلى قشورها ويُكشف له عن بعض أبعادها ووجودها؛ وتشترك كثير من المدارس أمثال مدرسة >كانت< والشكاكين الجُدُد، والمدرسة النسبية، ومذهب الشك في هذه المقولة: «لا يمكن لنا أن ندرك الواقع كما هو عليه».

وعلى هذا المبنى المعرفي يكون صدق القضايا أو كذبها أمراً نسبياً، بمعنى أن القضية تكشف عن وجه من الواقعية وتشتمل على قسم من الحقيقة، ولا يوجد قضية تكشف عن الحقيقة بتمامها، وجميع القضايا العملية على هذا المنوال، وفي الأصل ليست ماهية العلم إلا ذلك، فلا تتصوّروا أنّ العلم يقول: «هذه المسألة على هذا النحو ولا يمكن أن تكون غير ذلك»، كلا العلم لا يدعي ذلك أبدا ولا يمكن أن يكون كذلك. وإنما يقع الكلام في النظريات العلمية عن التأييد والإبطال لا عن كشف الواقع وعدمه. وأكثر ما تدعيه النظرية العلمية هو «طالما لم يرد نقض على النظرية فهي ثابتة ومقبولة، ولكن بمجرد ورود النقض عليها فستبطل وتحلّ مكانها نظرية جديدة»، وهكذا بالنسبة للنظرية الثانية والثالثة وما بعدها، ويستمرّ الأمر بأنّ تُكمل اللاحقةُ السابقةَ ولا يوجد في العلم نظرية ثابتة على إطلاقها أبداً.

ويُحقّر الذين يتبنون هذا الأصل في مباحث «علم المعرفة وقيمتها» الأبحاثَ المنطقية والفلسفية وبحسب الاصطلاح الأبحاثَ الميتافيزيقية،  ويعتبرونها غير علمية وليس لها أي قيمة، وعندما تُطرح هكذا أبحاث يقولون بلهجة مميزة وحالة خاصة: (دعونا من الفلسفة)، فهم لا يرون قيمة إلا للعلم، والعلم عندهم لا يعني الكشف عن الواقع بتمامه، وإنما كلّ نظرية علمية تقوم بالإشارة إلى وجه من وجوه الواقع لا غير؛ فقد كشف لنا قانون الجاذبة لنيوتن وجهاً من وجوه الواقع، وكشف لنا قانون النسبية لـ(أنشتاين) وجهاً آخر، ولكن لم يكشف أي واحد منها الواقع بأسره، وبما أن الأمر كذلك فهذه النظرية صحيحة وتلك أيضا صحيحة.

وعلى هذا الأساس نصل إلى نوع من التعددية في علم المعرفة، وهي في الواقع ليست إلا النسبية أو التشكيك، ويصر البعض على تسميتها بالنسبية ولا يرضون بإرجاعها إلى الشك أبداً، ولا يرونه لازماً لهذه النظرية. ولكن لا تهمنا التسمية أبداً فليكن اسمها النسبية أو التشكيك أو أيّ شيء آخر، وإنما المهم هو مضمون هذه النظرية، وهو أنّه لا يمكن إدراك الواقع بتمامه، والعلم لا يوصل أبداً إلى الاعتقاد اليقيني بمعنى الكشف عن الواقع بأسره.

توضيح التعددية عبر الاستفادة من مثال >الهرم الزجاجي<:

لقد ذكرنا أنّ هذه النظرية يمكن أن تكون مبنى للتعددية الدينية، لأنه بناء على هذا التفسير للعلم ستكون كلّ نظرية علمية بمثابة سطح وزاوية من الهرم الزجاجي، حيث يكشف لنا هذا السطح عن قسم من الواقعية ولا يكشف كلّ الواقعية، لأنها مقسمة على جميع سطوح وزوايا الهرم المختلفة، وإذا فسّرنا التعددية على هذا النحو أمكن لنا القول: إنّ الحقيقة واحدة، وهي الهرم الذي له سطوح مختلفة، ولكنها تظهر لكلّ شخص على شكل خاص بحسب الزاوية التي ينظر من خلالها إلى الهرم. وتكون كلّ نظرية علمية بمثابة سطح من الهرم، والنتيجة هي عدم إمكان الإحاطة بكلّ الحقيقة.

فإذا أخذنا بعين الاعتبار هذا التشبيه بالهرم وأردنا أن نستفيد منه في توضيح التعددية وتفسيراتها المختلفة، لقلنا: إنّ هذا التفسير الأول ـ وهو أنّ الحقيقة واحدة ولكن طرق الوصول إليها مختلفة ـ تماماً مثل الهرم الزجاجي ليس إلا شيئاً واحداً، ولكن بما أنّ الناظر إليه ينظر من إحدى الجهات فمن الممكن أن يرى صورة عن الهرم غير الصورة التي يراها ناظر آخر من جهة ثانية، لأنّ سطوح هذا الهرم كلّ منها له لونه الخاص مثلا ومميزاته الخاصة، فلو تصورنا هرماً زجاجياً ولكن إحدى سطوحه بشكل محدّب والسطح الثاني مقعّر والثالث مصقول وأوقفنا ثلاثة أشخاص كلّ واحد منهم مقابل سطح من السطوح، وجعلناهم ينظرون إلى شيء واحد من خلال هذا الهرم، فسوف يحصل كلّ شخص على صورة عن ذلك الشيء تختلف عن صورة الآخرين، ويكون عندنا ثلاث صور مختلفة عن الشيء، مع أننا ـ بصفتنا ناظرين من خارج إلى هذه المسألة ـ نعلم أنهم قد حصلوا على صوَر مختلفة بسبب اختلاف زاوية نظرهم ومحلّ وقوفهم، وأما ذلك الشيء فهو واحد لا غير. وهذه هي التعددية بالتفسير القائل: إنّ هناك حقيقة واحدة وتوجد طرق مختلفة كلها توصل إليها. فمطلوب ومعبود جميع الأديان بل جميع البشر ليس إلا شيئاً واحداً، وكلهم يسعَون في طلب هذه الحقيقة الواحدة، ولكنّ أحدهم قد سلك طريق المسيحية، وآخر طريق اليهودية، وثالث سلك طريق الإسلام، وفي النهاية فإنّ جميعهم سوف يلتقون في مقصد وهدف واحد علماً أنّ كلّها سبلَ مستقيمة.

والتفسير الثاني للتعددية هو أن نقول: إنّ الحقيقة ليست واحدة، بل هي بعدد سطوح هذا الهرم، فالحقيقة لكلّ شخص هي تلك التي ينظر إليها من زاويته، واختلاف ألوان وسطوح الهرم يؤدّي إلى أن يرى شخص الحقيقة بلون أحمر ومحدّبة والثاني يراها بلون أخضر ومقعّرة والثالث بلون أصفر ومصقولة، والحقيقة ليست إلا هذه الصور المختلفة بالبداهة فتختلف الحقيقة تابع لاختلاف الصوَر. ومن الواضح أنّ هذا التفسير للتعددية يختلف عن التفسير السابق القائل بأنّ الحقيقة واحدة ولكن الطرق المستقيمة إليها مختلفة.

وأما التفسير الثالث للتعددية، فأن ننظر إلى مجموع قضايا الدين أو العلم دفعة واحدة ونحكم عليه، لا أن ننظر إلى كلّ قضية منه على حدة، فعلى سبيل المثال: إذا أردنا معرفة هل أنّ المذهب الشيعي على حق وصواب أو أنّه باطل، علينا أن نلحظ مجموع الاعتقادات الشيعية ونحكم عليها، وعلى أساس هذا التفسير للتعددية لا يمكن لنا الحكم بصحّة ولا ببطلان أيّ واحد من الأديان ولا المذاهب، لأنّ كلّ الأديان تشتمل على قضايا حقّة وصحيحة كما أنّها تشتمل على قضايا باطلة، وبعبارة ثانية: إنّ جميع الأديان صحيحة وفاسدة، فهي صحيحة باعتبار بعض محتواها، وفاسدة باعتبار محتواها الآخر، وبما أنّ كلّ دين أو مذهب مؤلف من مجموعة من الاعتقادات والأفكار والأحكام والقيم الصحيحة والفاسدة، الحقة والباطلة، فلا يمكن لنا الحكم ببطلان أحدها؛ بل كلّها متساوية من الناحية القيمية، ولا فرق في أن نتمسّك بأيّ واحد منها.

نظرية وحدة الحقيقة في المعرفة الدينية:

الاتجاه الثاني ـ الموجود في مقابل التعددية الدينية بتفسيراتها المختلفة ـ هو: الاتجاه القائل بأنّ هناك مجموعة من القضايا الدينية كلّها صحيحة، وأيّ اعتقاد بغير هذه القضايا فهو اعتقاد باطل، فالحقيقة عند هذا الاتجاه واحدة ولا تختلف أبداً بين شخص وآخر أو مجتمع وآخر ولا بين زمان وزمان، وبناء على هذا الاتجاه يمكن أن يكون عندنا مجموعة من الاعتقادات والقيم والأحكام الحقة، وأما بقية الاعتقادات والقيم والأحكام فباطلة بشكل كلي، أو هي خليط من الحق والباطل.

وهذه هي النظرية الموجودة في أذهان الشيعة، ولو سألنا الناس العاديين في المجتمع الشيعي لوجدنا أنهم يحملون هذه النظرية، وأنّ العقيدة الحقّة الوحيدة هي عقيدة الشيعة التي استقت معارفها من القرآن الكريم وأهل بيت العصمة والطهارة، وأما بقيّة الأديان والمذاهب فهي إما باطلة بصورة مطلقة، أو أنّها باطلة على قدر ما تخالف الاعتقادات الشيعية، وهذه هي الصورة الموجودة عن صحة الدين والمذهب وأحقيّته عند أيّ شخص قبل أن يسمع بفكرة التعددية الدينية.

لا علاقة لاختلاف فتاوى المراجع بالتعددية الدينية:

السؤال الذي يخطر في الذهن هو أنّنا نرى في المذهب الشيعي اختلافاً في المسائل الإعتقادية وفي الأحكام والمسائل الفقهية، فكيف يمكن لنا أن ننسب للمذهب الشيعي مجموعة واحدة من الأحكام والعقائد مع وجود تلك الاختلافات؟ فعلى سبيل المثال: نرى مراجع التقليد عند الشيعة يختلفون في الفتوى، فيقول مرجع: إنّ التسبيحات الأربع مثلا يكفي ذِكرها مرّة واحدة في الركعة الثالثة والرابعة من الصلاة، بينما يقول المرجع الآخر بأنّه لا بدّ من ذِكرها ثلاث مرات.

وفي مسائل عالم البرزخ هناك اختلاف في الليلة الأولى من دخول القبر، وفي سائر المسائل المتعلقة بهذا العالم، كذلك هناك اختلاف بين علماء الشيعة في تفصيلات المسائل المتعلقة بيوم القيامة. فأيّ واحد من بين جميع هذه الآراء المختلفة على حقّ وأيّها على باطل؟

ونراهم أيضاً يوجبون تقليد الأعلم في الأحكام الشرعية، ولكن هناك اختلاف عند أهل الخبرة في تشخيص الأعلم، وكلّ واحد من الناس يرى مرجعاً معيناً هو الأعلم فيقلّده، ولا يدخل الجنّة مقلّدو مرجع معين فقط، بل كلّ من يشخِّص المرجع الأعلم ويعمل على طبق فتواه يُعتبر من أهل السعادة والفوز بالجنة.

ومن هنا تطرح هذه الشبهة، وهي: أننا إذا لم نقبل أن الأديان عبارة عن سبل مستقيمة توصل إلى الحقيقة الواحدة، فعلى الأقل قبول ذلك في دائرة المذهب الشيعي والقول بأنّ هناك سبلاً مستقيمة ومجموعات مختلفة من الأحكام والاعتقادات صحيحة وعلى حق؛ وهذا هو عين التعددية التي كان الهدف الابتعاد عنها.

وفي مقام الجواب نقول: إن هناك خلطا بين مقام الإثبات ومقام الثبوت، فلا ملازمة بين دخول الجنّة وبين الوصول إلى الحكم الواقعي والحقيقي للإسلام. وما ذُكر في مجال تقليد الأعلم من العلماء فعلى الشخص أن يقلّد من يراه الأعلم وإذا قلّده وصادف أنّ بعض فتاواه لم تصب الحكم الواقعي فسوف يكون هذا الشخص معذوراً أمام الله (عزّ وجل)، ولا يعذّب لعدم علمه بالحكم الواقعي للإسلام.

وفي مسألة التسبيحات الأربع، فالحقيقة واحدة لا أكثر، والحكم الواقعي لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الواجب هو ذكر التسبيحات ثلاث مرات، وإما أنّه يكفي ذكرها مرّة واحدة فقط، وتكون فتوى الفقيه الذي تطابق فتواه الحكم الواقعي لله سبحانه وتعالى هي الصحيحة وفتوى الفقيه الآخر خاطئة، ولكن هذا الخطأ يعذر عليه المجتهد فضلاً عن مقلّديه، لأنه سعى بكلّ استطاعته للوصول إلى حكم الله الواقعي، ولكن لم يقدر على الوصول إليه لسبب من الأسباب، وهنا ستكون المسألة شبيهة ببحث المستضعف الفكري التي مرّت الإشارة إليه.



[1] ) سورة آل عمران: 85.

[2] ) سورة البقرة: 285.

[3] ) سورة القيامة: 3 ـ 4 ـ 5.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مکاتبات علي عليه السلام ومعاوية
السر في مُطالبة فاطمة الزهراء (ع) بفدك
النفخ في الصور
الشهیدة بنت الهدی
ما أروع يومك يا أبا الشهداء
من هو الصحابي
العجز عن التحكيم الصريح
تذكير بالعامل النفسي لنشأة الفكر التعددي
أوصاف جهنم في القرآن الكريم
المقام العلمي للإمام الباقر عليه السلام

 
user comment