عدم الاختلاف في مجال ضروريات وقطعيات الإسلام:
يحتوي الإسلام على مجموعة من الحقائق اليقينية الثابتة المطلقة التي لا تقبل التغيير أبدا، وهي ما يُعبر عنها بضروريات الدين، وقد تتسع أحيانا دائرة هذه المجموعة من الحقائق لتشمل قطعيات ومسلّمات الإسلام، وهي حقائق لا خلاف فيها بين أحد من المسلمين، فصلاة الصبح ـ مثلاً ـ مؤلّفة من ركعتين عند الجميع ولا تحتاج إلى أيّ بحث وتحقيق، بل هي من ضروريات الإسلام ولذا يقول الفقهاء بأنه لا حاجة للتقليد في ضروريات الإسلام، ويعتقد البعض أنّه لا مجال للتقليد أيضاً في القطعيّات وإنما يصحّ التقليد في خصوص الظنيات، وأما بالنسبة لوجوب الصلاة فليس جميع المسلمين يعلمون ذلك فقط بل الكفار الذين لا يقبلون الإسلام يعلمون أنّ في الإسلام حكماً باسم وجوب الصلاة على الناس، وهي تلك المؤلفة من ركوع وسجود وبقية الأفعال الأخرى. ومَن ذا الذي لا يعلم بالحج الواجب على المسلمين وأنهم في بعض أيّام ذي الحجة يذهبون إلى مكة ويقومون ببعض الشعائر والأعمال؟ ولو ادعى شخص بأنّ الصلاة أو الحج ليسا من الإسلام، فسيواجه بالرفض من أَدون الناس معرفةً بالإسلام، ويقول له بأنّ ذلك من ضروريات وقطعيات الإسلام، ولا تردد في وجوبهما أبداً، ولا يمكن أن يتغيرا أو يؤثر عليهما الزمان والمكان بل حتى أنّه لا مجال للتقليد فيهما، لأنّ كلّ مسلم يعلم بوجوبهما في الإسلام، ولذا قيل بأنّ إنكار ضرورية في ضروريات الإسلام يؤدّي إلى الارتداد، وتحسن الإشارة إلى رأي الإمام الخميني + وهو: أنّ إنكار الضروري الإسلامي يوجب الارتداد إذا رجع ذلك إلى إنكار الرسالة، ولكن بعض الفقهاء لا يرى هذا الشرط لازماً وإنكار الضروري عنده يؤدّي إلى الارتداد مطلقاً.
توضيح الاختلاف في مجال ظنيات الإسلام:
بعد أن تعرّضنا لحكم دائرة الأحكام والعقائد الإسلاميّة التي يعبر عنها بالضروريات، وبالتعبير الأوسع بالقطعيات التي لا يوجد فيها أيّ اختلاف وأيّ ترديد، والتي يُعتبر منكر أحدها خارجاً عن الإسلام، نذكر الآن حكم الأمور الظنية في الإسلام.
فالظنيات يمكن وجود الاختلاف فيها بين المجتهدين، والظفر بآراء وفتاوى مختلفة ومتعددة لأصحاب الرأي وأهل الخبرة، وأما غير المجتهدين، فعليهم الرجوع في تحديد وظيفتهم إلى فتوى المجتهد، كما دلّ على ذلك الدليل العقلي والنقلي، وليست حقيقة التقليد إلا عبارة عن رجوع غير المتخصص إلى المتخصص، وهذه قاعدة عامة لا حصر لها في دائرة الأحكام والمسائل الدينية فقط، بل تسري إلى كلّ الأمور التي لا يكون الشخص فيها من أهل الخبرة فيرجع فيها إلى أهل الخبرة وأصحاب الفن.
والمثال المشهور لذلك هو رجوع المريض إلى الطبيب المتخصص لتعيين حالته الصحية ووصف العلاج الشافي، وفي دائرة الأمور الدينية الظنية، لا يوجد للناس العاديين ولغير المجتهدين إلا هذا الحلّ وهو الرجوع إلى المتخصصين وهم المراجع العظام، ومن الطبيعي أن تختلف أعمال المقلدين فيما بينهم تبعاً لاختلاف فتاوى المراجع، تماماً كما تختلف الوصفة الطبية للمريض الواحد من طبيب إلى طبيب آخر، فعلى الأقل أن أحدهما يكون مخطئاً في وصفته إن لم نقل بخطئهما معاً، وكذلك بالنسبة لطبيب واحد فإنه لا يمكن القول أنّ جميع وصفاته الطبية التي أعطاها لمرضاه صحيحة، واختلاف مراجع التقليد في مسألة واحدة يعني وجود رأي واحد صحيح بين هذه الآراء على الأقل إن لم نقل أن كلها أحياناً غير مصيبة للواقع، وكذلك بالنسبة لفقيه واحد فإنه يحتمل أن يكون من بين مئات الفتاوى التي أصدرها بعض الفتاوى غير مصيبة للواقع. وصحيح أنّه مخطئ في بعضها والمقلد المعذور يتبعه على خطئه هذا، ولكن لا يوجد لنا حلّ آخر بعد غياب الإمام المعصوم، ولا يعقل أن نترك اتباع المراجع لوجود بعض الأخطاء في فتاواهم، كما أنّه لا يعقل ترك مراجعة الطبيب والعمل بنصائحه لمجرّد احتمال وجود بعض الأخطاء في مجموع فحوصه.
وعلى هذا الأساس، فإذا كان المراد من التعددية في الإسلام والمذهب الشيعي، هو اختلاف المراجع والعلماء في الفتاوى والظنيات الدينية فهذا أمر مسلم ولا غبار عليه، إذ يمكن أن يقع الاختلاف في الأمور الظنية بين المراجع وعلى المقلّد أن يتبع المرجع الذي شخّص أنّه الأعلم، ولا يمكن أن نقول لمجتهد ما إنك قطعا مخطئ في فتواك هذه، لأن المفروض هو كون المسألة ظنية لا نعلم واقع الأمر فيها، ولا يعني إذا كانت المسألة ظنية أنّه يمكن لأيّ شخص إبداء نظره فيها، بل هناك شرط أساس وهو أن يكون متخصصاً وصاحب نظر في الأمور الدينية، وهل يرضى الناس فضلاً عن وزارة الصحة أن يقوم مَن ليس متخصصاً بالطب بفتح عيادة طبية لمداواة الناس؟
وعلى كلّ حال، فإذا ادعى شخص أنّ هذا الأمر دليل على وجود التعددية في الإسلام، فنحن نقبل بذلك ونقول: نعم هناك تعددية في الإسلام، ولكن لم يدَّعِ أحدٌ أبداً أنّ التعددية هي بهذا المعنى؛ لأنّ حقيقتها كما ذكرناه إما وجود حقائق متعددة أو طرق متعددة للحقيقة، وهذا غير ما نراه في مسألة اختلاف فتوى المجتهدين لأنّ الحقيقة فيها هي الحكم الواقعي لله عزّ وجل وهو أمر واحد وحقيقة واحدة لا أكثر، والمجتهد الذي يصيب هذا الحكم الواقعي تكون فتواه صحيحة والذي لا يصيبه تكون فتواه غير صحيحة قطعاً، غاية الأمر أن يكون هو ومقلّدوه معذورين أمام الله عزّ وجل، وإذا كان الأمر على هذا الحال بين حقيقة معنى التعددية وبين مسألة اختلاف فتوى العلماء فلا يمكن لنا إذاً أن نطلق اسم التعددية في الإسلام على هذه المسألة.
نفي التعددية في القضايا الخبرية وقبولها في المسائل القيمية والأخلاقية:
المطلب الثاني الذي يجدر التعرّض له، هو: الفرق بين القضايا الخبرية والقضايا الإنشائية، فقد قسموا في علم المعرفة القضايا التي يتعلق بها علم الإنسان إلى مجموعتين:
ألف: القضايا الخبرية: وهي ما يعبر عنها «بالموجودات والمعدومات» بمعنى أنّها تقوم بالاختبار عن تحقق ووجود شيء معين، أو عدم تحققه ووجوده.
ب: القضايا الإنشائية: وهي ما يعبر عنها «بما يجب وما لا يجب» أو «بما ينبغي أو لا ينبغي»، وهي قضايا لا تقوم بالإخبار عن تحقق أو عدم تحقق شيء معين.
أما بالنسبة للقضايا الخبرية التي تتصف بالصدق والكذب فمن الممكن أن يقال بعدم وجود بحث فيها.
وأما بالنسبة للقضايا الإنشائية فقد يقال بعدم اتصافها بالصدق والكذب ولا بالصحة والفساد، وهذا ما قد يُطبّق على محلّ بحثنا فيقال: إنّه بالنسبة للمسائل الدينية الإعتقادية التي تتصف بالصدق والكذب، يمكن القول بأنّ هناك رأياً أو عقيدة صحيحة فقط، وأما بقية الآراء ففاسدة وباطلة. ولكن هذا الحكم لا يجري على القضايا الدينية، التي تقوم ببيان القيميات وتشتمل على تعابير نحو (يجب) و(لا يجب) و(ينبغي) و(لا ينبغي)، ولا تكون هذه القضايا كاشفة عن واقع عيني واحد ليمكن القول بأنّ هناك رأياً واحداً هو الصحيح وأما البقية فباطلة وفاسدة. وكلّ قوانين الإسلام وأحكامه وقيمه الأخلاقية أيضاً من هذا القبيل نحو: تجب الصلاة، لا ينبغي الاعتداء على حقوق الآخرين، ينبغي أن تكون صادقاً، ولا ينبغي أن تكون كاذباً وأمثال ذلك من القضايا التي لا يمكن لنا أن نصفها بالصدق والكذب، أو بالصحة والفساد، إذ ليس لها أي واقع عيني لكي يتأتّى لنا مقايسة محتواها مع الواقع العيني ونرى هل هناك مطابقة فنصفها بالصحة، أو لا يوجد مطابقة فنصفها بالفساد، بل حقيقة هذه القضايا ليست سوى الذوق والجعل والاعتبار، تماماً مثل قول شخص إنّ اللون الأخضر جميل، وقول آخر إنّ اللون الأصفر جميل، فليس لمقولتهما حقيقة سوى أنّ ذوق الأول يعجبه اللون الأخضر، وذوق الثاني يعجبه اللون الأصفر، ولا يمكن أن نقول بأنّ الأول صادق والثاني كاذب أو العكس، وأنّ اللون الأخضر مثلاً في الواقع هو الجميل دون الأصفر، وفي هكذا موارد لا معنى أبداً للبحث عن الصدق والكذب ولا عن الصحة والفساد.
وعلى أساس هذا المبنى الموجود في علم المعرفة، يُفتح المجال للنسبية وقبول عدة آراء مختلفة في أمر واحد في مورد القضايا القيمية، فكما نقول بأنّ اللون الأخضر جميل واللون الأحمر والأصفر و... والأمر راجع لذوق الشخص وإعجابه، كذلك بالنسبة للقضايا الدينية وعلى الأقل في قسم منها ـ وهو الأحكام والمسائل القيمية ـ يمكن أن نقول بهذا الرأي أيضا، وعندما تطرح المسائل القيمية المتضمنة >ليجب ولا يجب< >وينبغي ولا ينبغي<، يُفسح المجال للأقوال المختلفة بحسب اختلاف الزمان والمكان والأشخاص والمجتمعات ويمكن قبولها كلّها، فيمكن اعتبار أمر ما في القرن الهجري الأول حسناً، ونفسه يكون في القرن الرابع عشر قبيحاً، وكلّ من الحكمين صحيح في زمانه. والأمور الحسنة عند الإنجليز شيء ما وعند اليابانيين شيء آخر، وكلّ منهما على حق، والتعرّي أمام الناس أمر مستقبح في كلّ المجتمعات الحالية، لكن لعله يأتي اليوم الذي تكون فيه هذه المسألة عادية جداً في بعض المجتمعات، بل قد تكون مطلوبة أيضاً، فهذه مسألة تتعلق بالعرف الاجتماعي وعاداته ولا فرق أبداً بين أن يتفقوا على قبح التعرّي أو على حسنه. والحسن والقبح الموجود في الإسلام أو أيّ دين آخر من هذا القبيل بلا أدنى فرق، فلا نقول إن أحكام الإسلام وقيمه هي الصحيحة، أو إن أحكام المسيحية أو اليهودية هي كذلك دون غيرها، بل المسألة تتعلق بنفس الشخص فالدين الذي ينتخبه ويختاره هو الصحيح.
وخلاصة الكلام هي: أننا إذا لم نقبل التعددية الدينية في مجال الاعتقادات، وذلك القسم من الأمور الدينية المشتملة على «الموجودات والمعدومات» فإننا نقبل التعددية حتماً في مجال الأحكام والمسائل القيمية في الأديان.
وقد اختار البعض ـ كما ذكرنا ـ في علم المعرفة، أنّ جميع المعارف البشرية وفي أيّ اختصاص كانت تعتبر نسبية، بينما اختار البعض الآخر نسبيتها في مجال الأخلاقيات والقيميات، أو أن القضايا القيمية والأخلاقية لا تتصف من الأساس بالصدق والكذب.
والآن، حان الوقت لتقويم النسبية في القيميات، ومدى اعتبارها.
الردّ على التعددية في الأخلاقيات والقيميات:
لا شك أنّ هناك أمورا تتغير أحوالها من زمان إلى زمان ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، فتكون حسنة في زمان وتصبح سيئة في زمان آخر، أو تكون حسنة في مجتمع وسيئة في مجتمع آخر، أو تكون حسنة في ظروف معينة وتصبح سيئة إذا تغيرت تلك الظروف؛ فمثلاً الصدق والكذب ليس الأول منهما دائماً حسن والثاني قبيح ـ وإن اعتقد (كانْت) بأنّ الصدق دائماً حسن والكذب دائماً قبيح بلا أي استثناء ـ والجميع يعلم أن الكذب في بعض الموارد ليس قبيحاً، بل قد يكون الصدق محرماً ويصبح الكذب واجباً، كما لو أدى الصدق إلى قتل الظالم للمؤمن، والكذب إلى حفظه، فلكي نحافظ على حياة الإنسان المؤمن يجب علينا الكذب ويحرم الصدق، وهذا أمر واضح للغاية.
ويوجد أيضا في التعاليم والأحكام الإسلاميّة حكم يحرّم القيام بأيّ عمل يؤدّي إلى تحقير وإهانة المؤمن، والنتيجة التي نحصل عليها من هذا الحكم، هي أنّه علينا أن لا نقوم بأيّ عمل يؤذي المؤمن في ذلك المجتمع الذي يعيش فيه، ويتصرف على طبق عاداته وتقاليده، وعلينا أن نراعي شعوره على ما هو عليه في آداب ذلك المجتمع وتقاليده، طبعاً طالما لا تتصادم تقاليد المجتمع وعاداته مع الواجبات أو المحرمات الشرعية.
فهناك إذاً موارد كثيرة من هذا القبيل، يبدو من خلالها قبول فكرة التعددية والنسبية في الأُصول والقيم الأخلاقية والاجتماعية الإسلامية، فالصدق والكذب كلّ منهما حسن وقبيح بحسب الشروط والظروف المحيطة. ولا بدّ من الإنتباه إلى أنّ نتيجة هذا البيان هو النسبية لا التشكيك، أي أننا لا نعني بذلك الشك بأنّ الصدق حسن أو قبيح، بل نحن نقطع أنّ الصدق في هذه الظروف حسن وفي تلك الظروف أو الشرائط قبيح. والأشخاص الذين يذكرون هذه الموارد يريدون أن يقولوا إنّ النسبية الأخلاقية والقيمية مقبولة حتى في الفكر الإسلامي، وأما البيان العلمي والفني الذي ذكروه بصدد بيان هذه المسألة فيحتاج إلى شرح وتفصيل خاص خارج عن محل بحثنا الفعلي.
وما يمكن أن نقوله هنا هو: إننا إذا لاحظنا في كلّ قضية جميع الشروط والظروف المحيطة، فلن تكون أيّ قضية نسبية وكلها ستكون مطلقة. ولتوضيح ذلك نذكر هذا المثال وهو: لو سألَنا شخصٌ في الفيزياء عن درجة حرارة الماء عندما يغلي، لقلنا له: إنّ الماء يغلي في مائة درجة، فإذا جاء بماء مالح جداً أو أخذ الماء إلى مكان يكون فيه ضغط الهواء أكثر أو أقلّ من الحالة العادية، ثم شرع بتسخينه لرأينا أنّه يغلي في أكثر أو أقل من مائة درجة بقليل، ولكن لا يدعي أحد بوجود النسبية في هذا المثال، غاية الأمر أنّ في الجواب مسامحة، ولم تُبيّن القضية بشكل دقيق وكامل، وأما البيان والجواب الدقيق عن سؤال ذلك الشخص فأن نقول: إنّ الماء بهذه النسبة من الأملاح وبهذه الدرجة من ضغط الهواء يغلي في مائة درجة حرارية، وكلّ الفيزيائيين والكيميائيين يعلمون أنّ الماء يغلي في مائة درجة بشروط خاصة، ولكن عندما يكتبون هذه القاعدة يكتبونها مع نوع من المسامحة ومع حذف تلك القيود والشرائط، ويقولون إن الماء يغلي في مائة درجة حرارية. وأمثال هذه القضايا كثيرة في العلوم، ولكن لا تدل أبداً على النسبية أو على عدم كلية تلك القضايا، وإنما حصل ذلك لنوع من المسامحة وعدم ذكر كلّ القيود والشروط أثناء بيانها وعرضها.
وإذا رجعنا إلى القضايا الأخلاقية لوجدناها من هذا القبيل، وأنها بُيِّنت بنوع من المسامحة وعدم ذكر كلّ القيود، وأما إذا أردنا بيان القضايا الأخلاقية مع ذكر كلّ الشروط والقيود والظروف المحيطة، فإنها ستكون كلية ومطلقة لا تتغير أبداً فهي إما حسنة دائماً وأما سيئة وقبيحة دائماً، وأما مثال الصدق والكذب وأنهما يتغيران فتارة يكون الصدق حسناً وطوراً قبيحاً فليس ذلك إلا لأننا لم نذكر كلّ القيود والشروط الداخلية في القضية.
أما الوضعيون وأتباع النسبية في المسائل القيمية، فهم يقولون بالنسبية حتى لو ذكرنا جميع القيود والشرائط، ولا يوجد عندهم حسن مطلق أو قبيح مطلق، بل الحَسَن والقبيح يتغيران ويختلفان باختلاف ذوق الأشخاص وباختلاف المجتمعات، وأما دليلهم فهو أنّ المسائل القيمية أساساً لا تكشف عن الواقع أبدا وهي كمثال حسن اللون الأخضر والأصفر وغيرهما مما لا يحكي إلا عن ذوق الشخص، وليس وراءها أيّ حقيقة مخفية.
وفي المقام يوجد بحث مبنائي بيننا وبين الآخرين لا بدّ من التعرض له، وهو أنّه هل يمكن للقيم بهذا المعنى أن تتعدد؟ وبتعبير آخر: هل يمكن أن نقول بصحة جميع الأحكام القيمية المتخالفة والمتضادة المنصبّة على مسألة خاصة ومورد واحد؟ أو أننا إذا قمنا ببيان جميع الشرائط والقيود سيكون الحكم مطلقاً وثابتاً في كلّ زمان وكلّ مكان؟
أحكام الإسلام القيمية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية والحقيقية:
إنّ ما نعتقد به في الإسلام ـ ويمكن إثباته بالبرهان العقلي فضلاً عن النقلي ـ هو أنّ المسائل القيمية والتي يُعبّر عنها عادة بما ينبغي وما لا ينبغي، تماما مثل المسائل الخبرية المشتملة على ما هو موجود وما هو معدوم، ليس لها إلا حقيقة واحدة ولا تقبل على هذا الرأي لا التعدد ولا التكثر. وإن كان هناك سلسلة من المسائل المتصفة بالحسن والقبح قد بُنيت على أساس الجعل والإعتبار، ولا تعتمد على جذور حقيقية وواقعية، فإنه ليس كلّ المسائل من هذا القبيل، والحسن والقبح الأخلاقي والقيمي المعتبر في الإسلام كلّه تابع للمصالح والمفاسد.
فالكذب ـ مثلاً ـ ممنوع من جهة أنّه يؤدّي إلى عدم اعتماد الناس على بعضهم، وبالتالي إلى اختلال النظام الاجتماعي وعدم إمكان العيش في مجتمع كهذا، فلو تصورنا مجتمعاً ما يعتمد كلّ أفراده على الكذب، فستنحلّ في هكذا مجتمع جميع الأمور وتضطرب كلّ الأوضاع والنظم الاجتماعية. ولذا نرى أنّ أساس الحياة الاجتماعية قد بني على اعتماد الناس على بعضهم البعض، وأما إذا ساد الكذب في المجتمع فلا يمكن للشخص أن يعتمد على أحد أبداً لا على زوجته ولا ابنه ولا صديقه ولا قريبه، وسوف تتبدّد أوصال هذا المجتمع. ولدفع هذا الضرر الإجتماعي العظيم قام الإسلام بتحريم الكذب واعتباره ذنباً كبيراً.
وأما الصدق فعلى العكس تماما حيث إنّه يؤدّي إلى تعزيز الثقة بالآخرين وشدّ عرى الترابط فيما بينهم، واعتماد بعضهم على بعض، مما يدفع الناس للإستفادة والتقدّم في حياتهم الاجتماعية، ولو أنّ الطالب في المدرسة أو الجامعة لا يعتمد على ما يقوله الأُستاذ أو الكتاب فستكون كلّ هذه الصفوف والمدارس والكتب لغوا وبلا فائدة، وعليه فالصدق والكذب تابعان للمصالح والمفاسد وكذلك الحسن والقبح، وقد اعتبر الإسلام الصدق بالقياس على ما يترتب عليه من مصالح حسناً، والكذب بالقياس إلى ما يترتب عليه من مفاسد قبيحاً.
والنكتة المهمة التي لا بدّ من إضافتها هي: أنّ الإسلام لا يحصر المصالح والمفاسد بالأُمور الدنيوية والمادية، بل هناك سلسلة من المصالح والمفاسد تتعلق بالأُمور المعنوية والحياة الأبدية للإنسان أكّد على وجودها الدين الإسلامي.
نتيجة البحث في التعددية:
وصلنا في هذا القسم من البحث إلى أنّ المعارف الدينية ـ سواء كانت مجموعة العقائد أم مجموعة الأحكام والمسائل الأخلاقية والقيمية ـ تابعةٌ للأُمور الواقعية، والحقيقة في كلّ هذه المجالات واحدة لا أكثر، والدين الحق واحد لا تعدد فيه أيضاً، وما يظهر من التغيير في مجموعة الأحكام والقيم، وأنّ الصدق مثلا حسن تارة وقبيح تارة أخرى، فإنه يعود لنوع من المسامحة في بيان الحكم وعدم عرضه مع تمام شرائطه وقيوده. ولو ذكر الصدق مع جميع قيوده لكان إما حسناً دائماً وإما قبيحاً دائماً دون أيّ تغيير.
وذكرنا أنّه بالإمكان أن يكون منشأ الفكر التعددي من الناحية الفلسفية والمعرفية أحد أمور ثلاثة: الوضعية أو النسبية أو التشكيك، فإذا قلنا كما قال الوضعيون بأنّ جميع الأمور الميتافيزقية وغير التجريبية نحو (الله موجود) و(القيامة موجودة) وأمثال ذلك، كلها قضايا لا معنى لها، أو قلنا كما يقول النسبيون بأنّ المعارف البشرية أو على الأقل خصوص القضايا الأخلاقية والقيمية نسبية، أو قلنا بالتشكيك في جميع المعارف البشرية وأنها كلها ليست قطعية ولا يقينية بل متفاوتة الدرجات في الشك والترديد، فسوف نصل بناء على كلّ واحد من هذه المباني الثلاثة الفلسفية والمعرفية، إلى التعددية وقبول تعدد الحقائق في المعارف البشرية ومن جملتها المعرفة الدينية.
كما أننا ذكرنا في بداية البحث أنّه ليس كلّ من يتبنى التعددية كان في بداية تفكيره متبنياً للنسبية أو الوضعية أو التشكيك ثم وصل من خلال ذلك إلى التعددية، بل قد يكون أحياناً من المعجبين بالفكر التعددي، ثم يسعى فيما بعد لإثبات هذا الفكر بالأدلة والبراهين، ولكن إذا أردنا أن نتَّبع التسلسل المنطقي للبحث لا بدّ من قبول أحد هذه المباني في علم المعرفة، ومن ثمّ نخلص إلى القول بالتعددية، والتسلسل المنطقي الدقيق هو الابتداء بالأبحاث المعرفية ثم الأبحاث الفلسفية ثم ننتهي بالأبحاث العلمية، لأن جميع المسائل العلمية تبتني بنحو من الأنحاء على أصول فلسفية، وجميع الأبحاث الفلسفية تبتني بنحو ما على مسائل في علم المعرفة.
فعلى سبيل المثال: لو أراد أحد الأطباء أن يقوم بالبحث في المختبر عن دواء لعلاج مرض معين، فهو وإن لم يذهب لدراسة الفلسفة وإثبات القواعد الفلسفية بالدليل والبرهان، ولكن تحقيقه وبحثه يبتني على أصل فلسفي وهو أصل العلية، وتوضيح ذلك: إن هذا الطبيب عندما يصرف ساعات من حياته في المختبر ليكتشف دواءً لعلاج مرض معين، فذلك يعني أنّه يعتقد قبل شروعه بالبحث بجملة من الأمور منها: أنّ هذا المرض الذي أصاب المريض لم يكن من دون أي علة وسبب، ومنها: أنّه يوجد عامل وسبب آخر يمكن أن يؤثر في دفع هذا المرض ويؤدي إلى شفاء المريض.
وعلى هذا الأساس لا يقوم أيّ محقّق بالبحث إن لم يكن معتقداً بأصل العلية، ولكن لا يعني ذلك أنّه ذهب وبدأ بدارسة الفلسفة وأقام البراهين والأدلة لإثبات أصل العلية، ومن ثمّ عاد إلى المختبر وبدأ بالبحث والتحقيق، بل الاعتقاد بأصل العلية مرتكز في الضمائر والنفوس بشكل غير واعٍ أو نصف واعٍ ويكفي ذلك للاعتماد عليه والشروع في البحث والتحقيق.