العلاقة بين الليبرالية والتعددية:
لكي نقوم بتوضيح العلاقة بين الليبرالية والتعددية علينا أن نشخّص المعنى المراد من كلّ منهما، أما معنى التعددية فقد مرّ توضيحه في الأبحاث السابقة، وأما معنى الليبرالية فهو لغةً (طلب الحرية)، وأما المعنى الإصطلاحي فيمكن القول
بأنّه عبارة عن إيديولوجية يستطيع الإنسان على أساسها أن يفعل ما يحلو له في الحياة دون أن يحدّه أيّ قيد أو شرط خارجي، طالما لا يخلّ بحرية وأمن الآخرين.
وتُطرح الليبرالية عادة في ثلاثة مجالات مهمة، وهي: الاقتصاد، السياسة، الدين والثقافة.
وتعني الليبرالية الاقتصادية إطلاق العنان للنشاطات الاقتصادية، فيقوم الشخص بإنتاج أيّ نوع يريده من البضائع، وبعرضها بالكيفية التي يريدها، وخلاصة الليبرالية الاقتصادية هي: أن يكون الشخص حرّاً بالإنتاج وتأمين المواد الأولية، والعرض والدعاية والبيع، وبرأس المال وبقية الموارد الاقتصادية، من دون أن يقيّد بأيّ قيد إلا بقيد عدم التعدّي على حريّة وأمن الآخرين.
وتعني الليبرالية السياسية حرية الناس في انتخاب نوع الحكومة والأفراد الحاكمين والقوانين الحاكمة في المجتمع وبقية الأعمال السياسية، وأن يفعلوا ما يحلو لهم ما لم يمسّوا بحرية وأمن الآخرين.
وتستعمل الليبرالية أحيانا في مجال الثقافة أو بخصوص الدين والمذاهب، وتعني الليبرالية الدينية أن يكون الناس أحراراً في اختيار الدين الذي يريدونه، وبالأحرى هم مطلقو العنان من ناحية قبول أصل الدين والأحكام الدينية أو عدم قبول ذلك من الأساس، ولا ينبغي أن يُفرض على الإنسان أيّ قيد وأيّ شرط في ذلك، وقيل إنّ أوّل شخص استعمل اصطلاح الليبرالية في الأبحاث الدينية هو (شلاير ماخر) حيث عبّر «المذهب البروتستانتي الليبرالي» ومن ثمّ بدأ استعمال الليبرالية في الأبحاث الدينية.
وإذا أردنا أن نتعرّض لاصطلاح الليبرالية في خصوص الاقتصاد والسياسة فلن يكون هناك علاقة بشكل مستقيم مع التعددية الدينية، ولكن إذا وسّعنا الإصطلاح ليشمل الليبرالية الدينية تظهر العلاقة بين الليبرالية والتعددية على هذا النحو، وهي إنّ لازم القول «بالليبرالية الدينية» وأن الشخص حرّ في اختيار أو عدم اختيار الدين هو، قبول «التعددية الدينية» وأنّ هناك أدياناً متعددة وكلها على حق. وعلى هذا تكون النسبة المنطقية بين الليبرالية والتعددية الدينية من بين النسب الأربع الموجودة بين المفاهيم (التساوي، التباين، والعموم والخصوص المطلق، العموم والخصوص من وجه) هي نسبة العموم والخصوص المطلق؛ بمعنى أنّ كلّ تعددية دينية تكون مصداقا للّيبرالية ولكن ليس كلّ ليبرالية مصداقا للتعددية الدينية، لأنّ الليبرالية السياسية ـ مثلاً ـ مصداق للّيبرالية، وليست مصداقاً للتعددية الدينية.
وأما إذا قلنا أن التعددية تطرح بمعنى أوسع ـ كما تقدمت الإشارة إلى ذلك ـ وتشتمل على التعددية السياسية والاقتصادية والتعددية في علم المعرفة، عند ذلك سوف تكون النسبة مختلفة عمّا ذكرنا بين التعددية والليبرالية.
هذا من ناحية النسبة والعلاقة بينهما، وأما من الناحية التاريخية وزمن نشوء كلّ منهما فالظاهر أن الليبرالية متقدمة على التعددية بل حتى على العلمانية أيضاً.
لمحة ثانية عن العامل الإجتماعي لنشوء التعددية الدينية:
أشرنا في أحد الأبحاث السابقة إلى أنّ أحد العوامل المهمة الباعثة على نشوء التعددية كان عبارة عن عامل اجتماعي، يهدف إلى إنهاء الحروب وإراقة الدماء الناتجة عن الاختلافات والنزاعات الدينية، وقد طرحت هذه الفكرة لأول مرة في الديانة المسيحية لحلّ النزاعات والحروب الدامية بين الكاثوليك والبروتستانت، ذلك المذهب الذي أسّسه القسيس «مارتين لوثر» الألماني، وتبعه عليه عدد كبير من المسيحيين، وبعد أن صار له هذا العدد من الأنصار بدأت المعارك الدموية مع الكاثوليك واستمرّت فترة طويلة، وما زالت مستمرّة في بعض من الدول كإيرلندا وبريطانيا، وهذا كله غير النزاعات الأخرى بين أتباع مذهب الأرثوذكس وبين الكاثوليك.
وللحدّ من هذه النزاعات والحروب المذهبية قام بعض علماء ومتكلمي المسيحيين بطرح فكرة التعددية في الدين المسيحي، وقال إنّه يكفي للسعادة والنجاة أن نكون مسيحيين ولا فرق بين الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس أبداً، ثم بعد ذلك طرحت الفكرة نفسها لإنهاء الحروب التاريخية بين اليهود والمسيحية، وحاولوا جهدهم لرفع كلّ المسائل المؤدية لهذه الخلافات، ففي إحدى المناسك المسيحية ـ وبالخصوص عند الكاثوليك ـ تقام مراسم العشاء الرباني، وهو عبارة عن صلاة عندهم يقرؤون فيها بعض الأدعية والأذكار والمطالب الخاصة الأخرى، وقد كان من جملة ما يقرؤونه سابقاً هو لعن اليهود لأنهم قتلة السيد المسيح، ولكن عندما استطاع اليهود وبالخصوص الصهاينة منهم أن يفرضوا قدرتهم ويكون لهم النفوذ في الساحة الأُوروبية، أجبروا الفاتيكان على حذف هذا اللعن من صلاة المسيحيين ومراسم العشاء الرباني بشكل قانوني، وقام علماء المسيحية فعلاً بإصدار الحكم بحذف هذا اللعن من الصلاة، وبقي المسيحيون يعتبرون اليهودَ قتلةَ السيد المسيح، لكن في هذه السنوات الأخيرة قام البابا بإصدار حكمه للمسيحيين بلزوم إخراج هذا الاعتقاد من أذهانهم وأرواحهم، وأنه علينا أن نتصالح مع اليهود، ثم قام مؤخراً بزيارة رسمية إلى فلسطين المحتلة والتقى مع زعماء اليهود.
على كلّ حال، قام المسيحيون بعد مدّة باستعمال هذه السياسة مع جميع المذاهب وفي كلّ بلدان العالم، وأنه لا عداء لهم مع أيّ مذهب وأيّ دين، وأنها كلها مقبولة، بل وصل الحال ببعضهم إلى التصريح بأنّ الإسلام أفضل من المسيحية، ولكن مع ذلك يبقى على دين المسيحية لأنّه دين جيد ومقبول أيضاً.
وما ذكرناه الآن ليس إلا تأكيداً على الصلح وتجنب الحروب وسفك الدماء الناشئ من الاعتقادات الدينية والخلافات المذهبية، وقد قلنا سابقاً: إنّ الإسلام يقبل بهذا النوع من التعددية، وهي التعددية العملية بين الإسلام وبقية الأديان السماوية وأصحاب الكتاب، ومع غير أهل الكتاب أحياناً، واعتبر أنّ أرواحهم وأعراضهم وأموالهم كلها محفوظة عند المسلمين.
ولكن التعددية الدينية لا يقصد بها التعددية العملية فقط، وأنه لا نزاع ولا خلاف ولا حروب عملا بين الأديان، وإنما يقصد بها التعددية النظرية أيضاً، وأنه من الناحية النظرية تعتبر جميع الأديان صحيحة، ويصل الشخص إلى السعادة والنجاة فيما لو اعتقد بأيّ واحد منها والتزم بتعاليمه، وكلّ من كان اعتقاده هذا فعمله مقبول عند الله. وقد تعرضنا لذلك في الأبحاث السابقة، وأنه توجد هناك تفسيرات متعددة لهذه الفكرة التي تعتبر جميع الأديان على ما فيها من المتناقضات والمتضادات صحيحةً وعلى صواب، وأما الآن فأحبّ أن انتقل إلى القسم الثاني من البحث وهو الإجابة على سؤال طرح في إحدى الجلسات السابقة.
تأسيس دين واحد عالمي:
السؤال هو: ما المانع أن نتعرف على جميع المشتركات بين الأديان ونوجد بينها نظاماً معيناً ونقدمه كدين واحد عالمي؟
لماذا لا نقول: إنّ حقيقة الدين هي هذه المجموعة من المشتركات الدينية، وأما الاختلافات بين الأديان فهي اختلافات فرعية ترجع إلى الذوق لا أكثر، فلا يضرّ وجودها وعدمه بأصل الدين أبداً؟
لماذا لا نقول بأنّ الشجرة الأصلية للدين هي هذه المشتركات، وأما الاختلافات فهي أوراق الشجرة وغصونها، وكلّ واحد يختار واحد منها بحسب ذوقه ومزاجه؟
وهذا تفسير رابع للتعددية غير التفسيرات الثلاثة التي تقدمت الإشارة إليها، ونريد أن نتعرّض الآن لهذا التفسير الجديد بالبحث والدراسة.
تحقيق هذه النظرية:
إنّ هذه النظرية مشكلة من الناحية الثبوتية ومن الناحية الإثباتية، كما يعبر بالإصطلاح الفني، وهي متناقضة من حيث المحتوى والمضمون ولا يوجد دليل على إثباتها أيضاً.
وأما إشكال هذه النظرية من الناحية الثبوتية والمحتوى هو: أنّ هذه المشتركات المُدّعاة بين الأديان لا تخلو من أحد أمرين: إما أننا لا نعثر على هكذا مشتركات أصلاً، أو أننا إذا عثرنا عليها فهي مبهمة جداً وكلية وقليلة إلى درجة لا يصح إطلاق الدين عليها.
وتوضيح ذلك: إذا أخذنا بعين الاعتبار من بين الأديان الموجودة خصوص الأديان السماوية الأربعة. (الإسلام والمسيحية واليهودية والزردشتية) ـ رغم اعتقادنا بأنّ هذه الثلاثة الأخيرة قد حرِّفت وُبدِّلت وأن ما هو موجود منها فعلاً غير ما أنزله الله أولاً ـ فقد يُتصوّر في بداية الأمر أنّ هناك مشتركات بين هذه الأديان الأربعة يمكن التعرف عليها والتمسك بها، بأنّ يُتصور أنّ هذه الأديان كلها مثلا تشترك في أصل الاعتقاد بوجود الإله، ولكن المسألة ليست كذلك وكما عليه هذا التصور الابتدائي، والمسائل التي يتصور أنّها مشتركات بين الأديان يوجد بينها اختلافات أساسية تجعل اعتبارها مشتركات أمراً مستحيلاً.
وفي مثال أصل الاعتقاد بوجود الإله فقد يتصور إبتداءً بأنه أصل مشترك بينها، ولكن لو دققنا النظر قليلاً لثبت لنا خلاف ذلك وأنه ليس مشتركا أصلاً.
فإله المسيحية يمكن له أن يظهر على صورة إنسان ويمشي بين الناس، ثم يصلب على خشبة ويكون فداءً لكلّ الناس الآخرين، وكفارةً لذنوبهم وسبباً لنجاتهم وفَلاحِهم في الآخرة، والمسيحية تصف الإله بهذا الشكل، وهو: أنّ الإله الأب وضع الإله الابن في رحم السيدة مريم ÷، ثم تولّد منها وعاش عدّة سنوات بين عبيده ومخلوقاته إلى أن صلبوه على الخشبة وشنقوه فعاد ثانية إلى السماء إلهاً!
وأما إله اليهود فهو أعجب من ذلك، فإنّ مكان عيشه الأصلي في السماء وينزل أحيانا إلى الأرض ليتنزه فيها، وأحيانا يخطر في باله أن يصارع، فينزل إلى الأرض ويتصارع مع يعقوب فيطرحه يعقوب على الأرض ويجلس على صدره!!! ويبقى يعقوب على صدره فترة طويلة إلى أن يوشك الصبح أن يطلع والإله يقول: عزيزي يعقوب، اتركني... سيطلع الضوء ويرى الناس أنك غلبتني ]فيذهب ماء وجهي[. ويعقوب يجيب: لن أتركك ما لم تمنحني البركة؛ فلم يجد الإله حيلة إلا أن أعطى يعقوب البركة وعاد إلى السماء!
وأما إله الإسلام، إله ليس بجسم، لا يصعد إلى سماء ولا ينزل إلى أرض، لا يؤثر عليه البارحة ولا اليوم لأنه خالق الزمان والمكان فلا يمكن أن يُحدّ بهما، إله لا يمكن أن يُرى، إله تخضع لقدرته كلّ المخلوقات، إله لم يلد ولم يولد، ومنزه عما نسبه إليه المسيحيون واليهود من أمور غريبة وسخافات عجيبة.
هذا وصف الإله عند كلٍّ من المسيحية واليهود والإسلام، ومن الواضح أنهم لا يشتركون إلا في الاسم واللفظ، وأمّا من الناحية الوجودية فلا يوجد أي مشابهة أو سنخيّة بينها، تماماً مثل ]لفظ العين الذي يطلق على الباصرة والذهب والماء الجاري[ أو مثل لفظ (شير) في اللغة الفارسية الذي يطلق على الأسد وعلى الحليب، وإذا كان (شير) الصحراء مساوياً لـ(شير) الفطور الصباحي، أو كانت العين الباصرة مساوية لعين الذهب، كان بالتالي إله الإسلام مساوياً لإله المسيحية أو اليهودية، والحقيقة أنّه لا يوجد أي اشتراك أبداً بين إله الإسلام وإله المسيحية، فإن الإسلام عندهم أنّه ليس بجسم، وأما عند المسيحية فهو جسم يصعد وينزل ويمشي بين الناس. وما هو الاشتراك بين (ما ليس بجسم) وبين (ما هو جسم)؟!
عِلماً أنّ ما حصلنا عليه خاص بالأديان السابقة الذكر، أما إذا لاحظنا جميع الأديان الموجودة في العالم فإنّ وضع الاشتراك بينها سيزداد سوءاً. فالبوذية من الأديان القديمة والتي لها أتباع كثيرون اليوم، هذه الديانة لا تعتقد بوجود الله، وغاية ما تقوله هو: إنّه على الإنسان أن يتحرّر من كلّ القيود والعلائق المادية والدنيوية لكي يتعالى فيصل إلى الكمال، وهذا يحصل فقط فيما لو ترك جميع الآلام والعلائق عندها يصل إلى السعادة المطلوبة والسرور المطلق.
فهل بين هذه العقيدة القائلة بأنّ «الله غير موجود» وبين اعتقاد الأديان السماوية بأنّ «الله موجود»، وجه مشترك يمكن لنا أخذه وعرضه للبشر بعنوان كونه ديناً واحداً عالمياً؟!
وإذا توسعنا أكثر من ذلك وذهبنا إلى رأي «أوغست كُنت» القائل بألوهية الإنسان فإنّ الوضع يزداد سوءا بعد سوء، حيث يقول أوغست كنت: صحيح بأنّ الإنسان بحاجة إلى دين، ولكن لا يحتاج إلى ذلك الدين الذي فيه الله والنبي السماوي والوحي والأُمور الميتافيزيقية، بل يحتاج إلى الدين الذي سيكون إلهه الإنسان ونبيه العقل، فالإنسان محور الوجود وقبلة ومعبود كلّ الأشياء، ولا بدّ لعالم الوجود بأسره أن يطوِّع نفسه لخدمة رغبات الإنسان وميوله.
ثم نعود لنسأل ثانية: ما هو الوجه المشترك بين دين يرى معبوده الإنسان وبين دين يرى أن معبوده هو ذلك الوجود المطلق اللامحدود... وبين دين يرى معبوده أنّه جسم محدود جلس على صدره يعقوب، وبين دين يرى معبوده البقر، وبين دين لا يعتقد أساساً بوجود إله يُعبد؟ هل يوجد وجه مشترك بين هذه المتناقضات لنقدمه كدين واحد عالمي للناس؟ إنّ الكلام عن المشتركات بين الأديان على ما هي عليه من التناقض والتضاد أشبه بالخرافة منه بالواقعية، وأقرب إلى عالم الخيال منه إلى عالم العقل ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾؟
إنّ أساس الدين هو الاعتقاد بالله، وها قد واجهنا كلّ هذه المشاكل والتناقضات في الأساس الأول والخطوة الأولى، فكيف نسعى للبحث عن المشتركات الذاتية بين الأديان ـ واعتبار الاختلافات أموراً عرضية ـ لنعلنها ديناً واحداً عالمياً؟! وبسبب هذا الإشكال الذي لا يمكن حله قام أحد الكتاب الداخليين، الذي يميل إلى هذه النظرية، بالادعاء في إحدى مقالاته تحت عنوان «ذاتيات وعرضيات الدين» بأنّ الاعتقاد بالله ليس من ذاتيات الدين وجوهره، بل هو من العرضيات، ومن الممكن أن يكون للشخص دين وفي نفس الوقت لا يعتقد بوجود إله!! وأنا أقول لهذا الشخص بأنه إذا لم يكن هناك إله فمن الطبيعي جداً أن لا يكون هناك نبي يرسله إلى الناس!! والنتيجة الحاصلة من ذلك هو إمكان وجود شخص متديّن وفي نفس الوقت لا يعتقد بوجود الله ولا بوجود النبي، وأما العبادات فالأمر فيها واضح للغاية إذ لا يوجد بين الأديان عبادات مشتركة أبداً، وصحيح أنّه في الأديان السماوية توجد عبادة باسم الصلاة إلا أنّها ليست مشتركة بنفس الماهية والحقيقة بين الجميع، والاشتراك بينها ليس إلا اشتراكاً لفظياً وباسم الصلاة فقط، وأما حقيقة الصلاة فتختلف بشكل كلي فيما بينها. وعلى هذا لم يبقَ عندنا إله مشترك ولا نبي مشترك ولا عبادات مشتركة، فأين تلك العناصر المشتركة بين جميع الأديان لنتمسك بها ونؤمن بأنها دين واحد عالمي يوصلنا إلى السعادة والفلاح؟!
الأُصول الأخلاقية المشتركة والدين الواحد العالمي:
نقدم هذه النظرية بثوب آخر لكي لا تبدو ساذجة بسيطة بطرحها الأوّل، وأن الجواب والرد عليها سهل للغاية.
ويقول أصحاب هذه النظرية: نحن نسلّم بأنه لا يوجد وجه مشترك في مسألة الله والنبوة والإمامة والعبادات، ولكن يمكن لنا إيجاد دين واحد عالمي على أساس المشتركات الأخلاقية بين الأديان. وبعبارة أخرى، من الممكن أن يُدّعى أنّ المقصود من الدين الواحد العالمي عبارة عن مجموعة من الأُصول الأخلاقية التي تتفق عليها جميع الأديان وتقرّ بها كلّ الشعوب، ومن أمثلة هذه الأُصول: حسن العدل وقبح الظلم، وحسن الصدق وقبح الكذب، وحسن الأمانة وقبح الخيانة، وهكذا نسعى خلف هذه الأُصول المشتركة ونقدمها ديناً واحداً للعالم، ولا مشكلة في ذلك.
وفي مقام الجواب على هذه النظرية التي طرحت بثوبها الجديد نذكر إشكالين:
الإشكال الأول: هذا العرض الجديد للنظرية يجعل الدين مرادفاً للأخلاق، وأنّ الدين عبارة عن مجموعة من الأُصول الأخلاقية، وهذا خلاف المتعارف والاصطلاح الرائج عند الناس والعقلاء، ولو راجعنا القواميس وكتب اللغة لوجدنا أن الدين غير الأخلاق، والأخلاق غير الدين، وأنهما كلمتان منفصلتان تماما عن بعضهما ولا يوجد قاموس ولا لغة تعتبر أنّ الدين والأخلاق موضوعان لمعنى واحد. والذي يؤيّد ذلك أننا نجد كثيراً من الأشخاص الذين لا يعتقدون بدين ولا بمذهب، يعتقدون في نفس الوقت ببعض الأُصول الأخلاقية كحسن العدل والصدق والأمانة، وقبح الظلم والكذب والخيانة ويلتزمون بها عمليا. وخلاصة الإشكال الأوّل هي أنّه لا يوجد أيّ ملازمة بين قبول الأُصول الأخلاقية وبين قبول الدين، ومن الممكن أن نجد من لا يعتقد بأيّ دين يلتزم بالأُصول الأخلاقية.
الإشكال الثاني: لو سلّمنا أنّ الاعتقاد بالله والنبوة والمعاد والمسائل العبادية وغيرها، ليس له أيّ مدخلية في حقيقة وماهية الدين، وأنّ الدين ليس إلا مجموعة من الأُصول الأخلاقية، يأتي دور هذا السؤال وهو: هل الدين عبارة عن الاعتقاد بهذه الأُصول الأخلاقية فقط، أو أنّه لا بدّ علاوة على الاعتقاد من الالتزام والعمل بهذه الأُصول؟ وهل يكفي لأن يكون الشخص متديناً بهذا الدين الواحد العالمي أن يدافع عن هذه الأُصول بالكتب والمقالات والخُطب ولو لم يتقيد ويلتزم بها عملياً؟ أو أنّه لا بدّ للمتدينين بهذا الدين العالمي أن يراعوا هذه الأُصول الأخلاقية في مقام العمل علاوة على اعتقادهم وكلامهم؟
فإذا كان الجواب: أنّه يكفي الاعتقاد بهذا الدين ونغضّ النظر عن التزام الشخص عملياً بهذه الأُصول، قلنا: إن هكذا دين ليس له أيّ تأثير على الحياة البشرية والاجتماعية، ووجوده وعدمه سيّان، وإذا كان الكلام والاعتقاد لوحده كافياً فيمكن لأيّ ظالم جان أن يسطّر أروع المقالات ويلقي أجمل الخطب دفاعاً عن العدالة والصدق والأمانة؛ ولا أظنّ أحداً يقبل بهذا الجواب، وأنّ هذه هي حقيقة التدين. ومن الواضح أنّ الاعتقاد بدون عمل لا يشكِّل ديناً ولا تديّناً بل لا بدّ أن يترافق الاعتقاد مع الالتزام لكي نصف الشخص بالمتدين.
وعلى هذا الجواب: يبرز سؤال مهم جداً وهو: ما هو الدافع للشخص على أن لا يقول إلا الصدق، وما هو الضمان على أن لا يخون ولا يطبق إلا العدالة مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه لا يعتقد بربّ ولا نبي ولا كتاب ولا حساب؟
إنّ أحد الأبحاث الخطيرة التي طُرحت في القرون الأخيرة وقام باتباعه البعض، هذه المسألة وهي: فصل الدين عن الأخلاق، فيقال على أساس هذه النظرية أن الذي له تأثير في حياتنا البشرية هو الأخلاق والقيم الأخلاقية وأما الدين فليس له أيّ تأثير، ولذا فنحن نقبل الأخلاق والأُصول الأخلاقية لما لها من تأثير، ونرفض الدين إذ لا شغل لنا معه، وهذا النوع من التفكير موجود عند بعض الناس، فيقولون مثلا: إنّه على الشخص أن يسعى لكي يكون (إنساناً)، وأما ما هو دينه أو هل هو يعتقد بدين أولاً، فهذا لا أهمية له؛ وإليكم هذه المحاورة التي سمعتها بين رجلين في طهران:
قال الأول: فلان إنسان جيد وهو يقيم الصلاة.
فقال له رفيقه: أنا اعتقد أن على الإنسان أن يكون جيداً ولا يهم هل يؤدّي الصلاة أو لا.
فهذا النوع من التفكير مأخوذٌ من هذه المسألة وهي فصل الدين عن الأخلاق، وأنّ الأخلاق مطلوبة لا الدين، والتي يكون على طبقها الإنسان الجيد هو الذي يراعي القيَم الأخلاقية فيكون مؤدّباً مثلاً موقّراً صادقاً... ولا يهمّ أبداً أنّه متدين أو ليس بمتدين.
والحقيقة أنّ هذه النظرية لا توصلنا إلى شيء، ويرد عليها إشكالات كثيرة ذكرت بشكل مفصل في أبحاث فلسفة الأخلاق نذكر واحداً منها وهو:
إنّ إحدى المدارس في فلسفة الأخلاق ترى أنّ (حسن الشيء في لذته)، بمعنى أنّ الشيء الذي يلتذّ به الإنسان يكون حسناً ومقبولاً، وكلّ شيء كانت لذته أكثر كان حسنه أكبر. فلو فرضنا أنّ شخصاً يعتقد بهذه النظرية في فلسفة الأخلاق وكان هذا الشخص يلتذّ بالكذب ويتأذى من الصدق، فعند ذلك نسأل: ما هو الدليل على أنّ هذا الشخص لا يكذب وما هو الضامن لنا أنّه لن يكذب في المستقبل؟ بل من الواضح جداً أنّ هذا الشخص سيكذب في أقواله بناء على ما يعتقده من مبنى (الحسن في اللذة) والحال أنّه يلتذّ بالكذب، وإذا كان الصدق يوقعه في مشاكل كثيرة وسيتضرر منه، عندها سيكون قول الصدق لهذا الشخص أمراً سيّئاً، وكذلك الأمر بالنسبة لبقيّة الأُصول التي جميعنا يعطيها القيمة الأخلاقية، فعلى هذا المبنى لا يوجد أيّ مُلزم لرعاية الأُصول الأخلاقية، بل كثير منها سيُضرَب بعرض الحائط لأنه لا يؤدّي إلى اللذة، ويكون غير هذه الأُصول حسناً لأنه لذيذ، فإذا كانت السرقة والخيانة والرشوة والجناية تبعث على اللذة والسرور فهي إذاً أمور حسنة، وهذه نتيجة طبيعية لمبنى طلب اللذة.
إذا رجعنا إلى الإشكال على النظرية القائلة «إن الدين الواحد العالمي هو عبارة عن مجموعة من الأُصول الأخلاقية المعتبرة عند الجميع» ـ ومع غضّ النظر عن أنّ هذه الأُصول العامة المشتركة هل هي واقعاً موجودة أو لاـ لوجدنا أنّ الإشكال الأساس هو: كيف نُلزم الناس برعاية هذه الأُصول؟ وإذا لم يكن هناك ربّ ولا نبيّ ولا كتاب ولا حساب، فلماذا نقيد الناس بهذه الأُصول الأخلاقية ونفرض عليهم رعايتها؟
الحقيقة هي أنّه لا يمكن رعاية هذه الأُصول ولا يوجد باعث على الالتزام بها أبدا فيما لو غضضنا النظر عن الله وعن المعاد. نعم، من الممكن أن تُراعى هذه الأُصول عندما تصبح عادة عندهم وذلك بتربية الناس منذ طفولتهم والاهتمام بهم إلى درجة كبيرة من التلقين والتشويق وعبر المنبّه الشرطي وتعليمهم الآداب والرسوم الاجتماعية، ولكن من الواضح أنّه لا يمكننا الدفاع عن ذلك بعنوان أنّها نظرية منطقية يمكن إقامة الدليل عليها؛ بمعنى أننا نسلم أنكم تستطيعون أن تربوا الطفل وتؤدبوه بهذه الآداب ويتخلق بهذه الأخلاق، ولكن كيف تثبتون لنا أنكم لا تلقّنونه إلا الأعمال الصحيحة؟ وكيف تثبتون أن عملكم هذا هو الصحيح؟ فإنّه بالإمكان الاستفادة من نفس هذه الأساليب لتعليم الطفل الكذب ـ مثلاً ـ إلى أن يصبح عادةً عنده، فعندما نقرّر أن نحوّل الكذب عند الطفل إلى عادة فهل هذا دليل على أنّ الكذب حسن؟
وقد التفت (كانت) إلى هذا الإشكال، وفهم جيداً أنّ الإنسان إذا لم يكن معتقداً بوجود الجزاء والعقاب فبالتالي لا يوجد ضمان على أنّ هذا الشخص سوف يلتزم بالأُصول الأخلاقية، ولذا ـ رغم أنّه كان يعتقد بأنّ القيمة الأخلاقية للعمل هي أن تقوم به طاعةً لحكم العقل والوجدان وأمّا إذا قمت به رجاءً للثواب أو خوفاً من العقاب فسوف يفقد العمل قيمته الأخلاقية ـ كان يقول: إننا إذا أردنا للأخلاق أن تُطبّق خارجاً لا بدّ أن نوجد ضامناً على تنفيذها وإجرائها، وهذا الضامن عبارة عن قبول عدد من الأُصول ـ تلك الأُصول التي نقبلها تقريباً نحن المسلمون ـ وهي وجود الله وخلود الروح الإنسانية، ويقول (كانت) نحن نثبت وجود الله وخلود الروح من خلال ذلك، فإذا لم نعتقد بالحساب والكتاب وأنّ هناك ربّاً يُعاقب ويجازي على الأعمال، فلن يكون عندنا أيّ دافع على فعل الأعمال الحسنة، ولا رادع عن فعل الأعمال القبيحة، وكذلك إذا اعتقدنا بوجود الله ولكن لم نعتقد أنّ روح الإنسان خالدة، وأنّ الإنسان ينتهي ويُمحمى له كلّ أثر بعد موته ولا يوجد جزاء وعقاب إلا في هذه الدنيا، فإنه لن يكون عندنا دافع قوي لرعاية الأصول والقيم الأخلاقية. وعلى هذا الأساس يرى (كانْت) أنّ الله لا يمكن إثباته بالبرهان النظري، ولكن مع ذلك يمكن إثباته عبر العقل العملي وأنه لا بدّ أن يكون موجودا ليكون ضامنا لتنفيذ وإجراء الأخلاق على الأرض.
خلاصة الردّ على نظرية (الدين الواحد العالمي) :
الخلاصة: يدّعي البعض أننا نعتبر الاختلافات بين الأديان أُموراً فرعية وذوقية، ونقوم بالتمسك بالمشتركات بينها لنقدمها للناس ديناً واحداً عالمياً.
ونحن في مقام الجواب نقول:
أولاً: أنّ أهم الأُصول عند جميع الأديان هي الله والنبوة والمناسك العبادية، وقد تبين معنا أنّه لا يوجد أيّ وجه مشترك بين جميع الأديان الموجودة.
ثانياً: لو غضنا الطرف عن مسألة الله والنبوة والمعاد، وقبلنا أنّ هذا الدين الواحد العالمي يتألف من مجموعة أصول أخلاقية مشتركة ومقبولة عند جميع الأديان؛ فنسأل:
هل يكفي مجرد الاعتقاد بهذه الأُصول، أو أنّه لا بدّ من الالتزام والعمل بها؟ ومن الواضح أن مجردّ الاعتقاد لا يؤدّي إلى أيّ أثر عملي ولن تُحلّ المشكلة، وأما إذا قلنا أنّ العمل شرط في التدين وله المدخلية الكبرى، عندها يأتي دور هذا السؤال:
ما هو الضامن لرعاية وإجراء هذه الأُصول؟ خصوصاً مع وجود مدارس في فلسفة الأخلاق كالتي تعتبر الحسن الأخلاقي هو ذلك الشيء الذي يؤدّي إلى سعادة ولذة الإنسان، وهي مدرسة (طلب اللذة)، فمن كان يعتقد بهذه المدرسة كيف نحثّه على قول الصدق والحال أنّه يؤدّي إلى تضرره وألمه؟ وكيف نبعده عن الكذب والخيانة والحال أنهما سببان في فرحه ولذته؟
ولا نغفل عن النكتة التي تزيد المشكلة تعقيداً وهي: علاوة على عدم وجود مشتركات بين الأديان فإنّ جميع أو على الأقل كثيراً من الأديان يرفض ويواجه الاعتقادات المخالفة لإعتقاداته، فالإسلام مثلاً في مسألة الاعتقاد بالله يؤكّد ـ رغم أنّه يلزم الاعتقاد بالتوحيد ـ على نفي الشرك مطلقاً، بل هو يبتدئ بنفي الشرك ثمّ ينتقل إلى التوحيد، والمُسلم يقول أوّلاً: (لا إله) ثم يقول: (إلا الله)، ومعنى هذا الكلام أن المسلمين يرفضون أولا تثليث المسيحية ثم يقرِّون بتوحيد الإسلام، لذا نرى أنّ هذه المسألة أيضا تزيد المشكلة تعقيدا على أصحاب هذه النظرية.
والنتيجة النهاية التي وصلنا إليها هي: أنّ هذه النظرية تواجه المشاكل ثبوتاً وإثباتاً فهي تتضارب في محتواها ومضمونها، ولا دليل على إثباتها ولا برهان، فلذلك نرفضها رفضاً قاطعاً.