عربي
Thursday 21st of November 2024
0
نفر 0

حدود الجاذبة والطاردة (العنف والتسامح) في الإسلام (2)

حدود الجاذبة والطاردة

(العنف والتسامح) في الإسلام (2)


ثلاثة مجالات للجاذبة والطاردة في الإسلام:

إذا أردنا أن نتعرّض لبحث الجاذبة والطاردة في الإسلام بشكل واسعٍ وجامعٍ لكلّ الأطراف تقريباً؛ فهناك ثلاثة مجالات وثلاثة إشكالات على الأقل يمكن طرح البحث فيها.

المجال الأول: القول بأنّ مجموعة المعارف الإسلاميّة تؤديّ إلى سعي الإنسان لجذب بعض الأمور، ودفع بعض الأُمور الأُخرى الأعم من كونها مادية أو معنوية، ونعني بالمعارف الإسلاميّة الأعم من المسائل الاعتقادية والأخلاقية والأحكام والأعم من كونها فردية أو إجتماعية ومن كونها عبادية أو حقوقية سياسية أو غيرها وهكذا...، وعلى هذا المعنى عندما نقول: إنّ الإسلام جاذب فنقصد بذلك: أنّ مجموعة معارفه مجعولة على شكل تحرّك وتحثّ الإنسان على جذب بعض الأشياء إليه؛ وأما قولنا: الإسلام دافع فنقصد بذلك: أنّ المعارف فيه على نحو تدفع الإنسان لاجتناب أشياء معينة وإبعادها عن نفسه. وهذا هو المعنى الأول الذي يمكن اعتباره للجاذبة والطاردة في الإسلام، وقد كان فرض السؤال السابق مبنيّاً على هذا المعنى، وأما جوابه الإجمالي فهو أنّ


الفروض التي تتصوّر في هذا المجال أربعة:

1 ـ الإسلام جاذب لا غير.

2 ـ الإسلام طارد لا غير.

3 ـ الإسلام لا يجذب ولا يطرد.

4 ـ الإسلام جاذب وطارد، وهذا الفرض الأخير هو الصحيح فقط.

المجال الثاني: وهو المعنى الثاني الذي يمكن فرضه للجاذبة والطاردة في الإسلام، وهو القول بأنّ مجموعة المعارف الإسلاميّة مجعولة على شكل تجذب نوع الناس والأشخاص إليها، أو أنّها مجعولة على شكل تطردهم عنها وتكون سبباً لابتعادهم عن الإسلام، أو أنّ مجموعة المعارف الإسلاميّة تنقسم إلى قسمين، قسم منها يعجب نوع الناس والأفراد فيكون جاذباً لهم، وقسم آخر لا يعجب نوع الناس فيكون طارداً لهم عن الإسلام.

المجال الثالث: وهو معنى ثالث يمكن فرضه للجاذبة والطاردة في الإسلام، وهو السؤال عن السلوك والتعاطي الذي يطلبه الإسلام ويحث عليه بين المسلمين أنفسهم، ومع غير المسلمين أيضاً، فهل يوصي باتّباع سياسة الجاذبة فقط؟ أو السياسة الطاردة فقط؟ أو أنّه يوصي باتّباع كلتا السياستين كلّ بحسب ظروفه ومقتضياته؟

تكامل الإنسان بين الجاذبة والطاردة:

وقبل أن ندخل في تحقيق هذه المجالات والمعاني الثلاثة نطرح السؤال التالي: هل القوّة الجاذبة تساعد الإنسان على الوصول إلى هدفه في مسيرته التكاملية بشكل أفضل وأكثر من القوّة الطاردة؟ بعد ملاحظة أنّ الإنسان باعتبار كونه موجوداً متحرّكاً قد وضع هدفاً يسعى للوصول إليه في مسيرته التكاملية.

والجواب على هذا السؤال سهل، ويمكن الحصول عليه بقليل من التأمل وهو: أننا لو بحثنا في مجال الموجودات الحيّة كلّها التي تشمل النبات والحيوان والإنسان لرأينا أنّها جميعاً تحتاج إلى القوانين الجاذبة والطاردة، فأوّل خصوصيات الموجود الحيّ هو التغذية، فلكي تنمو هذه الموجودات وتبقى على قيد الحياة تحتاج إلى التغذية، وعملية التغذية هذه، لا تتم من دون قوّة الجذب، فلا بدّ من وجود مواد خارجة عن الجسم يقوم بجذبها وإدخالها إليه لتتم عملية التغذية، ولكن ليس كلّ جذب مفيداً للجسم الحيّ، بل قد يؤدّي جذب بعض المواد إلى اختلال أعمال الجسم وتوقفه عن النموّ، بل قد يموت جرّاء ذلك في بعض الأحيان، ولذا لا بدّ من وجود قوّة طاردة لهذه المواد من الجسم ولتحافظ على سلامته، وعلى هذا يحتاج كلّ موجود حيّ في حياته ونموّه إلى كلّ من القوتين الجاذبة والطاردة. والذي يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الجذب والطرد هو الجذب والطرد المادي، وأنّ الجسم يقوم بجذب وطرد أمورَ وموادَّ محسوسة مادية، ولكن الذي ينبغي الإشارة إليه أنّ الحياة الإنسانية من وجهة نظر المعارف الإسلاميّة لا تنحصر بهذه الحياة المادية والطبيعية، بل هناك حياة معنوية للإنسان تتعلق بروحه ونفسه، وهذا يعني أنّ للإنسان حياة ونموّاً وتكاملاً جسمياً، وله أيضاً حياة ونموّ وتكامل روحي، وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}([1])، ونلاحظ أن الله يخاطب في هذه الآية المؤمنين ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهذا يعني أنهم أحياء ويسمعون كلام الرسول، فكيف يأمرهم بالاستجابة لبعض الأمور التي تعطيهم الحياة، إذاً لابدّ أن تكون الحياة المقصودة في الآية غير الحياة الجسمية والمادية وهي الحياة المعنوية، ويقول في آية أُخرى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}([2])، فالقرآن إنّما ينذر ويهدي من كان (حيّاً)، فما المراد من الحياة هنا؟ هل المراد هو الحياة الجسمية والمادية، أو تلك الحياة المعنوية والروحية؟ وإذا كان المراد هو الحياة الجسمية سيكون القرآن هادياً لكلّ الناس، لأنهم يتصفون بهذا النوع من الحياة، وهذا المعنى مرفوض قطعاً لأن القرآن الكريم لا يهدي أمثال أبي لهب وأبي جهل رغم اتصافهم بالحياة الجسمية، فالمراد إذا هو الحياة المعنوية، حياة القلب وحياة الروح هي الحياة التي تعطي الأذن للإنسان ليسمع كلام الله فيهتدي لسماعه: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}([3])؛ والمراد (بالموتى): هم موتى القلوب الذين يعيشون على هذه الأرض ولكن بقلوب وروح ميّتة.

علامة حياة القلب والروح:

ما هي علامة حياة القلب والروح؟

الجواب: هو حالة «الخشية»: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}([4])، فعندما يؤمن الإنسان بأنّ له خالقاً، وله عليه حقاً، وأنه خلقه لهدف، وأنه حمّله التكاليف والمسؤوليات، سيضطرب قلبه وتتغير حاله، ونتيجة هذه الخشية ودخول الإيمان إلى القلب أن {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ}([5]) وليس هذا بنورٍ حسي ومادي قطعاً، وإنما هو نورٌ يرجع إلى حياة الروح والقلب، تلك الحياة التي أشار إليها القرآن الكريم بطرق متعددة وفي موارد متعددة {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}([6])، فالعين المادية حيّة تنظر وترى، ولكن القلب أعمى لا ينظر ولا يرى، ]وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}([7]) يراد منه عمى القلوب لا عمى العيون المادية[([8]).

القلب الصنوبري الموجود في الصدر حيّ وينبض، ولكن هناك قلب آخر وله أشكال مختلفة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، بل أصبحت هذه القلوب أقسى وأصلب من ذلك بكثير: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ...}([9]).

وهناك آيات كثيرة يستفاد منها بوضوح وجود عين وأذن وقلب وحياة للإنسان غير تلك المادية والجسمية منها، وكما أنّ حياة الجسم ونموّه وتكامله قائم على الجذب والطرد، كذلك بالنسبة لحياة الروح فإنها قائمة على جذب بعض أمور وطرد بعضها الآخر. وكما أنّ هناك أشياء تؤثر على جسم الإنسان فتضره أو تنفعه، كذلك يوجد أُمور تؤثر على حياة الإنسان الروحية فتضره أو تنفعه، وكما أنّ للحياة الجسمية مراتب مختلفة من شدّة وضعف ونقص وكمال، كذلك الحياة الروحية فإنّ لها مراتب مختلفة، وأوّل مرتبة للحياة الروحية هي ترتيب الإنسان الأثر على دعوة الأنبياء للإيمان والتوحيد والانحراف إلى ذلك، وبعد أن يهتدي على يد الأنبياء ويبدأ بالعمل بتعاليمهم تبدأ الروح بالنمو والتكامل، وكلما تكاملت الروح وصلت إلى مراتب أعلى في الحياة الروحية، وفي هذا المجال يطرح بحث تزكية وتهذيب النفس.

تزكية النفس = الجذب والطرد اللازمين لتكامل النفس:

إنّ بحث التزكية هو نفسه بحث الجذب والطرد الراجعين للروح، وإذا كان للشجرة مثلاً أن تنمو بشكل جيد فعليها ـ علاوةً على ما تجذبه من ماءٍ وهواءٍ وترابٍ ـ أن تقوم بطرد السموم والآفات المضرّة بها، وهذا بعينه يجري بالنسبة للإنسان، ولا بدّ من بعض الأعمال حتى تصبح روحه صافية مهذبة، وأوّل تلك الأعمال هو المعرفة بالأُمور المفيدة للروح التي ينبغي جذبها، والأُمور المضرّة لها التي ينبغي طردها، فالمعرفة هي الخطوة الأولى للتزكية، وعلى الإنسان أن يعرف بأنّ روحه تتغذى بذكر اللهِ { أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}([10])، وأن هناك علاقة بين حياة القلب وذكر الله، وعليه أن يعرف بأنّ قلبه إذا لم يقُم بالمحافظة عليه وطرد السموم والآفات عنه، سوف يبتعد عن الله ويشمئز منه {وَإِذَا ذُكِرَ اللهَ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}([11])، وهذا على خلاف الفطرة الإنسانية تلك الفطرة الباحثة عن الله، فقد جبلت الطبيعة الأوّليّة للناس على حبّ الله ومعرفته، إلّا أنّ السموم لوّثتها وحرفتها عن مسارها القويم إلى أن وصل بها المقام حدّ الاشمئزاز من ذكر اسم الله عند سماعه، وهذا الأمر يشبه تماماً الطبيعة الأولية لجسم الإنسان؛ فإنها جُبلت ـ هذه الطبيعة الجسمية ـ على عدم قبول التدخين، وبمجرد دخول الدخان إلى الصدر سيكون ردّ الفعل هو السعال واضطراب الرئة لإخراجه منها، ولكن عندما يعتاد الإنسان على التدخين فإن الأمر سيكون بالعكس ولن يهدأ باله ما لم يدخل الدخان إلى صدره، بل قد يحصل ما هو أعجب من ذلك، بأنّ يشرب الدخان ويشبع رغبته، ولكن عندما يخلد إلى النوم ويجد أنّ علبة السجائر فارغة فلا يهدأ له بال ويذهب النوم من عينيه، فهذا الدخان المرّ الذي كان على خلاف الطبيعة الأوليّة وسبباً لانزعاجها، أصبح يمثّل كلّ حياة هذا الإنسان المعتاد، ولا يقدر على النوم إذا لم يكن بحوزته علبة منه، ذلك بعد أن انحرفت الطبيعة بالاعتبار عن مسارها الأوّلي.

ومن جملة الأشياء المؤثرة على حياة الإنسان المعنوية: محبّة الله، وأحبّاء الله ومن يحبّ أحبّاء الله، ولا بدّ من السعي لجذب هذه المحبّة، لطرد المعصية والشيطان وأعداء الله وإبعادهم عن القلب. ولا تحسبوا أنّ الذنب والمعصية مضرة بالحياة المعنوية فحسب، بل نفس التفكير بالمعصية مضرّ أيضاً، ولكي يكمل إيمان الإنسان المؤمن وتسمو روحه ويرتفع مقامه المعنوي، عليه أن لا يفكّر بالمعصية ولا يخطرها في ذهنه، ولعلّ هذا الكلام في هذا العصر وهذه الأوضاع والظروف الموجودة في المجتمع، قريب إلى الخيال والأُسطورة، ونفس تصوّر هذا الأمر مشكل علينا، فكيف بالتصديق بوجوده؟ ولكن شئنا أم أبينا، فإنّ هذا الأمر موجود وله واقعية حقيقية.

مثال رفيع للجذب والطرد الروحي:

بالنسبة لي شخصياً لا أعتقد بقسم من هذه القصص التي تُنقل، ولم أعوّد نفسي على إثبات الأبحاث التي أتعرض لها بذكر القصص، ولكن لا تخلو القصّة أحياناً من بعض الفوائد وتقريب الفكرة إلى الذهن؛ ولذا أنقل لكم قصةً تتعلّق بهذا البحث: وهي القصّة المشهورة عن الشريف الرضي والشريف المرتضى؛ فالشريف الرضي هو ذلك العالم الذي قام بجمع نهج البلاغة، والشريف المرتضى معروف بأنّه من الدرجة الأولى من علمائنا الكبار، وعندما أراد هذان الأخوان الذهاب لأوّل مرة إلى الدرس عند أستاذهم الشيخ المفيد، رأى الشيخ في منامه أنّ السيدة الزهراء ÷ جاءت إليه وهي تمسك بيدي الحسن والحسين وقالت له: «يا شيخ علِّمهما الفقه»، وعندما استيقظ الشيخ تعجّب كثيراً من هذا المنام وقال: من أكون أنا حتى أُعلِّم سيدَي شباب أهل الجنّة الفقه؟! ولكن عندما ذهب إلى إعطاء الدرس رأى امرأة تتقدم إليه وهي تمسك بيدي ولديها وتقول له: «يا شيخ علمهما الفقه». وهذان الولدان هما الشريف الرضي والشريف المرتضى.

وأنا أُريد أن أذكر قصة وحادثة حصلت بين الأخوين، فقد كانا في مقام أخلاقي رفيع يمتثلان المستحبات ويتركان المكروهات فضلاً عن فعل الواجبات وترك المحرمات، وصادف مرّةً، أن حان وقت الصلاة وأرادا الصلاة جماعة لأن الصلاة جماعة أفضل من الصلاة فرادى، والحال أنهما شخصان فقط، ويوجد أيضاً استحباب بأنّ يكون الإمام أفضل من المأموم، وعلى هذا الحال من سيكون الإمام منهما ومن يكون المأموم؟ هنا أراد السيد المرتضى أن يعمل بهذا الاستحباب ويقدم نفسه لإمامة الجماعة من دون أن يصرّح بأنه بنظره أفضل من أخيه، ويكون لهما ثواب أكثر في هذه الصلاة لعملهما بالاستحباب، فقال: «الأفضل أن يتقدّم لإمامة الجماعة منّا من لم يرتكب ذنباً واحداً في كلّ حياته»، وهذه كناية يريد بها إعلام أخيه أنّني أفضل منك حيث لم أرتكب ذنباً واحداً كلّ حياتي، فيكون هو أولى بإمامة الجماعة؛ ولكن ماذا أجاب الشريف الرضي؟ قال: «الأفضل أن يتقدّم لإمامة الجماعة منّا من لم يفكّر بارتكاب معصيةٍ في كلّ حياته» وهذه كناية يقصد بها أنّه لم يفكّر بارتكاب معصيةٍ واحدة طيلة حياته.

ولا يهمنا مدى صحة هذه القصة بقدر ما تهمنا الإشارة إلى هذه الواقعية، وهي أنّ من درجات الإيمان العالية عدم التفكير بالمعصية، واجتناب إخطارها وتصوّر فعلها في ذهن الإنسان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}([12])، فعلى المؤمن أن يطرد عن ذهنه الظن السيئ، إذ من الممكن أن يجرّ التفكير بالمعصية رويداً رويداً إلى ارتكابها، ويوسوس تصوّر بعض الأعمال شيئاً فشيئاً إلى فعله، وعلى المؤمن أن يعيش دوام الذكر مع الله في كلّ الأحوال.{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}([13])، فحاولوا أن تطبق جفونكم عند النوم وأنتم تسبحون الله وتمجدونه، ويكون نومكم على ذكر الله، لتسير روحكم أثناء النوم في عالم الملكوت وتحلّق إلى العرش الإلهي. ولكن هناك من ينام وهو يفكر بأشياء أُخرى تلوّث له ذهنه فتسير روحه في عالم الشياطين ويرى في منامه أنّه يرتكب المعاصي ويفعل المحرمات.

هذه أُمور شئنا أم أبينا لها تأثيرها في الحياة المعنوية للإنسان، وكما أنّه يقوم بجذب الأغذية المفيدة لبدنه في حياته المادية والحيوانية، وطرد الأغذية السامة والأشياء الضارة المانعة عن سلامة ونموّ جسمه، عليه أيضاً أن يقوم بجذب الأُمور المفيدة لروحه في حياته المعنوية، وطرد كلّ ما يضرّ بها ويلوّثها.

تفسير آية: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ:

يقول القرآن الكريم: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}([14])، وظاهر هذه الآية مع ملاحظة سياق الآيات المتقدمة والمتأخرة عنها، أنّها تتحدث عن الغذاء المادي والجسمي، وأنّ على الإنسان أن يفكّر في هذا الغذاء من أين وجد، وكيف أنزلنا الماء من السماء وأنبتنا النبات والشجر، وكيف أصبح النبات غذاء الحيوان، والفواكه غذاء الإنسان، فإنّ ذلك كلّه مع أمور لا تحصى نعماً إلهية وُفّرت للإنسان ليستفيد منها، والخلاصة أنّ ظاهر الآية مع ملاحظة المقام والسياق كون المراد من (الطعام) هو الغذاء المادي.

لكن ورد في ذيل هذه الآية رواية، وهي في الحقيقة بمنزلة تأويل وإعطاء المعنى الباطني للآية، جاء فيها بأنّ معنى الآية «فلينظر الإنسان إلى علمه ممّن يأخذه»، والعلم غذاء الروح، فلا بدّ أن ندقق جيداً في نوعه وكيفه وكميته، فكما أننا بالنسبة لغذاء البدن المادي نسأل جيداً عن الطعام والغذاء الذي نجلبه من الخارج، وندقق بالمصدر الذي نأخذه منه كالمطعم مثلاً، بأنه هل يراعي الطهارة والنظافة والمسائل الصحيّة وغيرها من الأُمور، فلا نأكل إلا من المطعم الذي يراعي كلّ هذه المسائل، وسيكون أطيب وألذّ من غيره، كذلك بالنسبة للعلم، لأنّه غذاء الروح، فلا يصح أن نأخذه من أيّ شخص وأيّ مكان، بل لابدّ  أن نرى الأُستاذ الذي نريد أن نأخذ منه العلم، هل يراعي النظافة والطهارة والتعقيم الروحي؟ ولا يصح الاعتماد على أيّ علم من دون تأمل وفكر، ومهما كانت وسيلة ذلك العلم، من كتاب أو درس أو خطبة أو غير ذلك، بل لابدّ  أن نرى القناة التي يمرّ فيها هذا العلم، لأن تأثير العلم على الروح لا يقلّ أبداً عن تأثير الغذاء على الجسم، وكما أنّنا نراقب جيداً الغذاء الذي نريد الاستفادة منه، علينا أن نراقب العلم الذي يقوم بتغذية روحنا، فلا يكون فاسداً ولا ملوثاً؛ وفي هذا المجال يطرح بحث الجاذبة والطاردة أيضاً.

يجب علينا أن نبتعد عن كلّ ما يؤدّي إلى ضعف الإيمان، من عقيدة وقيم وأحكام، وعن كلّ ما يفسد ذلك، إلا إذا وصلنا إلى مرحلة المناعة من التأثر منه، وعندما نقوم بتقوية وتمتين البنية العلمية، فمن الممكن أن لا تتأثر أرواحنا ببعض الأفكار والشبهات الفاسدة والمنحرفة لما قمنا به من تلقيح ضدّ التأثر بها، تماماً كما نلقح الجسم بإعطائه بعض المكروبات فيقاومها ويكتسب مناعة قويّة عند مواجهة الأمراض الملقَّح ضدّها، ولا يتأثر بذلك؛ فإذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من المناعة والنموّ العلمي فلا مانع من أن يقرأ أو يسمع المطالب ذات الشبهات والأفكار المحرفة، وأما إذا لم يصل إلى هذا الحدّ من النموّ والمناعة العلمية، فعليه أن يبتعد عن هكذا مطالب: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الُمنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}([15])، ولا ينبغي له أن يقول: أنا مؤمن بالله وبالرسول وبالكتاب، ولا أتأثّر من أيّ كلام آخر، لأنه طالما لم يُحْكِم أُسُسَه العلمية، ولم يتم له التلقيح العلمي، فإنّ الأفكار المنحرفة والاستماع إلى أصحابها سيترك جرثومته الفكرية في الأذهان، فيؤثر شيئاً فشيئاً على الإيمان والمعتقدات: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِه}([16])، فالله سبحانه وتعالى هو الطبيب الروحي وقد أعطى الدواء الشافي، فلم يسمح بالاشتراك بالجلسات التي تلقى فيها الشبهات الفكرية ما لم يصل الإنسان إلى درجة من المناعة الفكرية والعلم والمعرفة اللازمة؛ ولا يسمح بمطالعة المجلات والصحف والمقالات والكتب التي تشكك في المباني الدينية، وتستهزئ وتهين المقدسات؛ وماذا يحصل لو أننا قرأنا ذلك؟ يجيب القرآن الكريم: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} وإذا لم تلتزموا بهذه الوصية وجلستم في هكذا محافل ومع هكذا أشخاص، فإنّكم ستلتحقون تدريجاً بحلقة إهانة المقدّسات ومَن يضعف القيم والمعتقدات، وستكون العاقبة {إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنّم جميعاً}([17]).

وكما أنكم تبتعدون عن المصاب بمرض مُعدٍ، عليكم أن تبتعدوا عن الأفراد والجلسات والمطالب التي تحمل في طيّاتها الأمراض الفكرية، إلّا إذا كنتم مجهّزين بالوقاية والحماية اللازمة، بل عليكم إذا كنتم مجهّزين أن تداووا أمراض هؤلاء الأشخاص ـ  لا أن تبتعدوا عنهم ـ وتهدوهم إلى سواء السبيل، كالطبيب والممرّض الذي يستعمل سبل الوقاية والمحافظة الجسمية لإنقاذ أرواح المرضى المصابين، ومع ذلك نجد هذا الطبيب المجهّز يداوي المرضى باحتياط كامل ومراقبة شديدة وحذرة، والأشخاص العاديّون وغير المجهزين بالعلم والمعرفة اللازمة سيصابون بالأمراض الفكريّة عند حضورهم محافل تحقير المقدسات وإهانة المعتقدات وبثّ الأفكار الضالة، وقد يبتلى بعض الناس بأمراض فكرية وروحية وقلبية خطيرةً جداً، وإذا لم تحصل المراقبة التامة والضرورية لهؤلاء، فلا يستبعد احتمال سراية هذه الأمراض إلينا.

أمراض الروح وسلامتها:

ذكرنا أن العلامة لسلامة الروح هي محبّة الله، والإلتذاذ بذكر الله، ومحبّة كلّ من يطيع الله ويلتزم بأحكامه كاملة، وأما العلامة التي تدل على مرض الروح فهي تظهر من سمات وحركات الشخص عندما يسمع باسم الله، أو بالأعمال التي تربطنا به من قبيل الصلاة والدعاء وغير ذلك من الأذكار والأعمال الدينية، فتراه مشمئزاً منزعجاً أو ليس له رغبة في ذلك، كالشخص الذي يبقى عدة ساعات بلا طعام وعندما يُقدّم له الطعام الشهي لا يبدي رغبة في تناوله، ولا يمدّ يده إلى الطعام فإنّ ذلك إنّما يدل على المرض وعدم سلامة المزاج الشخصي.

لابدّ أن نعلم بأنّ للقلب أمراضاً أيضاً، وعلينا أن نراقبها جيداً، وعندما يتحدث القرآن عن الكفار يقول في أحد تعابيره: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}([18])، وإذا لم يعالج هذا المرض فإنّه سيكبر ويزداد {فزادهمُ الله مرضاً}([19])، وإذا لم يُحدّ ازدياد المرض فسوف يستفحل ويخبث ويخرج عن دائرة العلاج، ولن يبقى أمل بالشفاء والسلامة، كمن يرمي نفسه في منحدر قوي جداً فإنّه لا يقدر أحد على إيقافه وإنقاذه من المنحدر: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}([20]) وقد يتبدّل المرض أحياناً إلى سرطان لا علاج له، ويكون الشخص غافلاً عن ذلك، هذا إذا لم يكن فرحاً وظاناً أنّه في مدارج الكمال يوماً بعد يوم، ومَثَل هذا الشخص في القرآن الكريم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}([21]).

فالروح تحتاج إلى الجذب والطرد، وقد ألقي اختيار الشيء الذي تجذبه أو تدفعه على عاتق نفس الشخص، فله أن يدخل إلى روحه ما يشاء، فكما يمكن له أن يكون مثل المدخنين والمدمنين فيدخل السموم إلى روحه وقلبه، يمكن له أن يكون مثل الرياضيين ومتسلقي الجبال فيدخل الهواء النقي والمنعش إلى هذه الروح: { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}([22])، أُولئك الأشخاص الذين يريدون اللذة الدنيوية العاجلة ولا يفكرون بغيرها، يسعون جهدهم للحصول عليها، ولكن لا يمكن أن يصلوا إلى كلّ رغباتهم لأنه لا حدّ لرغبات الإنسان فكلما وصل إلى مرتبة من المراتب يتطلع إلى المرتبة الأعلى، ويبدأ بالسعي لها، والله سبحانه يساعدهم للوصول إلى بعض رغباتهم الدنيوية لا كلّها، وستكون عاقبتهم النار يوم القيامة، ولكن هناك مجموعة أُخرى تطلب الآخرة ولذائذها، يعبّر عنهم القرآن بتعبير دقيق لا بأس بالتأمل فيه، حيث يقول إنّ هناك بعض الأشخاص:

أوّلاً: ﴿أراد الآخرة﴾، ولكن للوصول إلى هذه الرغبة.

 ثانياً: بذل جُهده ﴿وسعى لها سعيها﴾ بشكل يتناسب سعيه مع ما يريد الحصول عليه، ولم يكتفِ بذلك فحسب.

 ثالثاً: «وهو مؤمن» فيتصف بالإيمان بالله ويضيف هذه الصفة على سعيه نحو غايته، وهذه المجموعة الثانية سيوصلها الله إلى كلّ رغباتها، وسيقوم بشكرها أيضاً على ما قدمته من السعي ﴿وكان سعيهم مشكوراً﴾.

والشيء المهمّ واللافت للنظر في هذه الآية هو قوله: {كلاً نمدّ هؤلاءِ وهؤلاءِ من عطاءِ ربّك}، فالله سبحانه يعين كلتا المجموعتين ويهيئ لها الأدوات والوسائل اللازمة ليتأتى لها الوصول إلى رغباتها، وهذا يعني أنّ اختيار نوع المادة المدفوعة أو المجذوبة موكول إلى الناس، ولا يفرّق الإمداد الإلهي بين اختيارنا لهذا النوع من المواد أو لذلك النوع، بل الله يمدّ دائماً والجميع يستفيد من هذا الإمداد، وهذه سُنَّة إلهية موجودة، وإلى جانبها سُنَّة ثانية وهي: ﴿مَن جاءَ بالحَسَنَةِ فلَهُ عَشرُ أمثَالِهَا وَمَن جَاءَ بالسيِّئَةِ فَلَا يُجزَى إلَّا مِثلَها ([23]). فمن يختار المواد الفاسدة والضارّة ويدخلها إلى روحه، فسيتضرّر منها على قدر ما تملك من ضرر وإفساد لا أكثر، وأما اختيار المواد المرغوبة والمفيدة للروح، فإنّها ستضاعف له الأثر الناتج عن ذلك عشرة أضعاف.

خلاصة البحث:

وصلنا إلى هذه النتيجة وهي: أنّ للإنسان في الحياة بُعدين، بعدٌ مادي وبعدٌ معنوي، وكما أنّ البُعد المادي يحتاج إلى قوتي الجذب والطرد، كذلك يحتاج إلى هاتين القوتين في بُعده الروحي والمعنوي، فهو يحتاج إلى قوّة تجذب له تلك العناصر أمثال محبّة الله وعباد الله، والعلم النافع، التي تفيد القلب وتنمي الإنسانية وتقويها؛ وهو يحتاج أيضاً إلى قوّة تطرد عن قلبه كلّ ما يضرّه نحو: الشيطان والمعصية ومحبّة أعداء الله وأعداء دينه.

وكلّ ما ذكرناه كان مقدمة لبحثنا الأصلي، وهو ما أشرنا إليه في بداية هذا الحديث عن الجاذبة والطاردة في الإسلام، وأنّ هذا البحث يمكن أن يتصوّر على ثلاثة أشكال:

1 ـ هل أن جميع المعارف الإسلامية، من العقائد إلى الأحكام مروراً بالأخلاق والقيم قد جعلت على نحو تبعث وتحرك الإنسان نحو جذب بعض الأُمور فقط، أو أنّها تحثه فقط على طرد بعض الأُمور، أو أن كلا هذين القسمين صحيح؟

2 ـ هل جعلت هذه المعارف الإسلاميّة على نحو تكون جاذبة لنوع الناس، أو طاردة لهم، أو كلا القسمين صحيح؟

3 ـ هل أنّ الإسلام في مقام الدعوة إليه يأمر المسلمين بالاستفادة من الأساليب الجاذبة فقط، أو من الأساليب الطاردة فقط، أو من كلا النوعين؟ هذه الأسئلة الثلاثة هي أساس البحث، ولكن لا يمكن التعرّض لها فيما بقي من الوقت، فلذا نرجئها إلى البحث القادم إن شاء الله تعالى.

سؤال وجواب:

السؤال: إذا لا حظنا الجسم المادي وجدنا فيه هذه الخصوصية، وهي أنّه يحتاج إلى كميّة محدّدة من الغذاء، وإذا أضاف على هذه الكميّة شيئاً فإنه سيتضرّر ويقوم الجسم بطرد ذلك؛ فهل توجد هكذا محدوديّة في مجال الروح والغذاء الروحي؟

الجواب: هذا سؤال مهم له ارتباط بإحدى المدارس المعروفة في فلسفة الأخلاق باسم «مدرسة الاعتدال»؛ ويعتقد أتباع هذه المدرسة في مجال الفضائل الأخلاقية بأنّ ملاك الفضيلة هو الاعتدال، وكلّ من الإفراط والتفريط مضرّ. ولكن أوّل ما يخطر في الذهن عند سماع فكرة الإعتدال في الأخلاق هو: أنّ هناك بعض الأُمور كلّما ازددنا منها كان أفضل، كمحبّة الله والعلم والعبادة وكثير من المسائل الأُخرى، فماذا تعني فكرة الإعتدال في هذه الموارد؟

وهذا السؤال يشبه تقريباً السؤال المطروح في هذا البحث، والجواب عليه هو: أنّنا نسلم بأنّه لا حدّ لاكتساب الفضائل، ولكن طاقات الإنسان في الدنيا محدودة، وإذا أراد أن يصبّ كلّ طاقاته على مجال واحد فإنه سوف يُحرم من بقية المجالات، وعلى سبيل المثال: لو أننا تفرّغنا للعبادة وتركنا كلّ أنواع الاهتمامات الأُخرى من تهيئة الغذاء للجسد، وتأمين الراحة له، فإنّ ذلك سيؤدّي قطعاً للمرض وعدم القدرة على العبادة أيضاً، ونفقد كلاً من الجسم والعبادة؛ أو إذا أراد أن يصرف الإنسان كلّ جهوده في مجال التكامل المعنوي والأخلاقي، ويترك الزواج أو يهجر الزوجة ولا يفكّر بإنجاب الأطفال، ولا يصرف بعض أوقاته على تشكيل العائلة وتربية الأطفال ـ مع أنّ هذا ما يريده الله منّا لبقاء النسل الإنساني ـ ولا يقوم بتأمين الحاجات المنزلية والعائلية، وغير ذلك من الروابط التي تحتاج إلى صرف الوقت وبذل الجهد وفقدان بعض الطاقات، فلو حصل ذلك فإنه سيؤدي إلى انقراض نسل الإنسان أو فساده؛ وكذلك الشخص الذي يكون في ساحة القتال، فإنّ نفس الموقعية التي هو فيها تفرض عليه اهتمامات تمنعه من القيام بكثير من العبادات والمستحبات.

وعلى هذا أصبح من الواضح أنّ للإنسان في هذه الدنيا وظائف متعددة، وفي نفس الوقت نرى أنّ طاقاته وقدراته محدودة، فلذا عليه أن يقسِّم هذه الطاقات على تلك الوظائف، ويتفرّغ لكلّ وظيفة بالمقدار اللازم الذي لا يزاحم به بقية الوظائف، علما أنّ بإمكان الإنسان أن يجعل كلّ حياته عبادة لله، ابتداءً من العبادات وقراءة القرآن والأذكار، مروراً بالنوم والأكل والشرب، وانتهاء بكلّ التصرفات العادية في الحياة، كلّ ذلك يمكن أن يصدر منه بنية القربة إلى الله ويكون سبباً للتكامل المعنوي والروحي.



[1] ) سورة الأنفال: 24.

[2] ) سورة يس: 69 ـ 70.

[3] ) سورة الروم: 52.

[4] ) سورة فاطر:18.

[5] ) سورة الحديد: 28.

[6] ) سورة الحج: 46.

[7] ) سورة الروم: 53.

[8]) هذه الإضافة من المترجم.

[9] ) سورة البقرة: 74.

[10] ) سورة الرعد: 28.

[11] ) سورة الزمر: 45.

[12] ) سورة الحجرات: 12.

[13] ) سورة آل عمران: 191.

[14] ) سورة عبس: 24.

[15] ) سورة النساء:140.

[16] ) سورة الأنعام: 68.

[17] ) سورة النساء: 140.

[18] ) سورة البقرة: 10.

[19] ) سورة البقرة: 10.

[20] ) سورة النحل: 108.

[21] ) سورة الكهف: 104ـ 103.

[22] ) سورة الإسراء: 18 ـ 20.

[23] ) سورة الإنعام: 160.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

آداب العبادة العامة
الاسراف فی العطاء عند الحصاد
نسختان من القرآن عند علي عليه السلام
السيدة أم كلثوم بنت الإمام علي عليهما السلام
كيف تقضي وقتك في المدينة المنورة
أهـل البيت (عليهم السلام) العصمـة من الضـلالة
مِن معاجز الإمام الحسن العسكري عليه السّلام
حركة الموت والحياة عند الأمة من منظور قرآني
ظلامات فاطمة الزهراء عليها السلام
اللعن في القرآن الكريم

 
user comment