قلنا: إنّ الصدر الأول حاز على منـزلة دينية عند أهل السنّة، غير أن هذه الفترة كانت مشحونة بالصراعات والخلافات بين كبار الصحابة، إذ وقع السيف بين أكثر أفراد مجموعة العشرة المبشَّرة الذين لم يكن يُشك في علوِّ شأنهم الديني، فكيف يقف كل منهم بوجه الآخر ويهرق دمه في الوقت الذي يتبوَّأ مثل هذه المكانة الدينية السامية؟
المسألة تخرج هنا عن الإطار الشخصي إلى المعايير والضوابط، وما هو المعيار في كون المرء على حق أو على باطل؟ وما هو الحق والباطل؟ وأي سلوك حياتي ينهجه الإنسان؟ وأيّ موقف يتخذه لكي يكون على حق؟ وهل ينبغي مواجهة الباطل أو لا؟ وإذا كان نعم، فما هو الباطل، وما هو معيار تحديده؟
الحق أنهم لم يستطيعوا أن يتوصّلوا إلى جواب مقنع، فالتجؤوا إلى التبرير والتأويل الذي لو أردنا الخوض فيه لطال بنا المقام، إذ يكفي أن نعرف أن هذه المعضلة تركت بصماتها على التكوين النفسي والاعتقادي لأهل السنّة، بمعنى أنّه لمّا كان من المستحيل حلّ هذه المعضلة بلحاظ المبادئ التي يعتقد بها أهل السنّة فإنهم التزموا الصمت حيال الأمثلة المشابهة، بعبارة ثانية: أصبح الحلّ النهائي هو: لا جواب على المسألة، ولا ينبغي أن يبذل أي جهد لحلها، حتّى حرّم البعض أية محاولة في هذا الاتجاه! وأصبح المبدأ الحاكم هنا الوقوف عند هذا الحد والاكتفاء بالفضائل التي وردت دون الخوض في دراسة صحتها من سُقمها.
لكنّ التزام الصمت حيال هذه القضية أدّى بدوره إلى السكوت إزاء قضايا مشابهة، ومن هذه النقطة يمكن ملاحظة الآثار الناجمة عن هذا الصمت والإجمال على التكوين العقيدي والنفسي لأهل السنّة الذي أثّر بدوره وبشدة على بلورة تاريخهم وتحوّلاتهم الاجتماعية والسياسية والدينية.
على سبيل المثال لاحظوا الموقف التالي لابن حنبل: « كان الإمام ابن حنبل يُجلّ صحابة رسول الله 9 ويحترمهم ولا يذكرهم إلا بالخير، وهذا هو السبب في أنه لم يتناول معاوية بكلمة نقد واحدة مع تسليمه بشرعية خلافة علي، ولم يعلِّق على حروب صفّين والجمل على كثرة ما وقع فيها من ضحايا كان بعضهم من رؤوس الصحابة. إن أحمد لم يفعل ذلك إلا لكي يصون لسانه عن أن ينـزلق بكلمة في واحد من أصحاب رسول الله.
وكان الصحابة عنده سواء لا يصدر عنه في شأنهم إلا القول الجميل، وكان يقول: معاوية وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري كلّهم وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: )سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود (»([1]).
ويذهب أحد شرّاح كتاب السنّة لإبن حنبل إلى أن من يناقش في أعمال الصحابة ويطعن بها فهو من أهل الهوى. وبعد أن يستدل بأقوال للرسول 9 يؤكد بأن من يخوض في سلوك وأعمال الصحابة فكأنما يتعرض للرسول 9 نفسه ويؤذيه في قبره([2]).
والأكثر صراحة منه الفقيه والمتكلم المعروف في القرن الثامن ابن جزي حيث يقول: «... وأمّا ما شجر بين علي ومعاوية ومن كان مع كلٍّ منهما من الصحابة فالأولى الإمساك عن ذكره، وأن يُذكروا بأحسن الذكر، ويُلتَمس لهم أحسن التأويل فإنّ الأمر كان في محلّ الاجتهاد. فأما علي ومن كان معه فكانوا على الحق؛ لأنهم اجتهدوا فأصابوا فهم مأجورون، وأما معاوية ومن كان معه فاجتهدوا فاخطؤوا فهم معذورون. وينبغي توفيرهم وتوقير سائر الصحابة ومحبتهم...»([3]).
ويمكن الاستشهاد بالمزيد من هذه الأمثلة من التاريخ.
على أية حال فإنّ فهم أهل السنّة لأحداث صدر الإسلام هو الذي ساقهم إلى مثل هذه النتائج والاعتقاد بأنه لا يمكن لأي مسلمَين أن يختلفا ويتنازعا ويقف كلّ منهما بوجه الآخر أحدهما على الحق وثانيهما على الباطل بصورته المطلقة، لا سيما وأنهم يؤكدون على أن أيّاً من طرفَي النـزاع لا يمكن أن يكون على باطل لو كانا مسلمَين حسب الشروط والضوابط التي تجعل الإنسان مسلماً في رأيهم. فليست القضية أيهما على حق؟ وإنما لا وجود للباطل هنا، وهذا يعني أنهم يقولون بنسبية الحق في مثل هذه الحالة لا إطلاقه، فحينما لا يكون للباطل وجود فلابد إذاً أن يستحوذ كلاهما على نسبة من الحقّ.
بلغ هذا المنهج في التفكير لدى بعض أهل السنّة حدّاً وتجذّر في أعماقهم، مما حدا بهم لالتزام الصمت حيال قضية مهمة كقضية عاشوراء، أمّا اُولئك الذين اتخذوا منحىً مغايراً وأعلنوها صراحة بأن الحسين على حق ويزيد على باطل فلأنهم تمسّكوا بالأحاديث الواردة عن الرسول 9 في مناقب الإمام الحسين D والأحاديث الاُخرى التي تشير إلى حادثة عاشوراء بالتصريح والتلميح. ويبدو أنهم وبدون هذه الأحاديث لا يستطيعون التمييز بين الحق والباطل حتى في هذه الواقعة. لماذا؟ للسبب الذي ذكرناه، فضلاً عن أسباب فقهية وكلامية اُخرى.
لنقل بوضوح: لو وضعنا جانباً مجموعة الأحاديث الواردة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في قضية عاشوراء وشأن آل بيت الرسول 9 والخمسة الطيبة ومثالب بني اُمية ويزيد بالذات فإن مذهب أهل السنّة يتوقف في تكوينه النفسي الديني والاعتقادي عند قضية صريحة واضحة كواقعة عاشوراء، ولا يجد لها جواباً كما حصل بالفعل، فلم يستطع أن يميز بين طرف الحق وطرف الباطل وفقاً للأدلة والمعايير التي يتبنّاها.
والغريب أن البعض بالغ في هذا المجال، ووجّه أصابع الاتهام إلى الإمام الحسين D مبرِّئاً ساحة يزيد منحازاً إليه، مستنداً – على حدِّ زعمه – في هذا الحكم على اُسس دينية وفقهية، ومنهم أبو بكر بن العربي وأمثاله في الماضي والحاضر، فهو يمتدح يزيد صراحة ويرى أنّ الإمام الحسين D مخطئاً في تحرّكه، ويقول: «... ولكنه رضي الله عنه لم يقبل نصيحة أعلم أهل زمانه ابن عباس، وعدل عن رأي شيخ الصحابة ابن عمر، وطلب الابتداء في الانتهاء، والاستقامة [من أهل] الاعوجاج، ونضارة الشيبة في هشيم المشيخة. ليس حوله مثله، ولا له من الأنصار من يرعى حقه، ولا من يبذل نفسه دونه. وما خرج إليه أحد بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذّر [عن] الدخول في الفتن، وأقواله في ذلك كثيرة ، منها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّه ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الاُمّة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان،... ولو أنّ عظيمها وابن عظيمها وشريفها وابن شريفها الحسين يسعه بيته أو ضيعته أو أبله وحضره ما أنذر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما قال في أخيه ورأى أنها [قد] خرجت عن أخيه ومعه جيوش الأرض وكبار الخلق يطلبونه، فكيف ترجع إليه بأوباش الكوفة، وكبار الصحابة ينهونه وينأون عنه؟»([4]).
لا يهمّ هنا الهدف الذي يستبطنه ابن العربي والدافع إلى هذا الانتقاد الذي وجّهه من موقع ديني، إنما المهم هو أنّ كلامه يصبّ أخيراً في مصبّ التكيّف مع المبادئ والضوابط الفقهية والكلامية المعتبرة عند أهل السنّة. والحق أن شأن الإمام ومنـزلته وفسق يزيد وفجوره هو الذي حال أمام إبداء مثل هذا الرأي الصريح من قبل عامة علماء أهل السنّة، بعبارة ثانية: كان للإلزامات الثانوية دور أكبر في عدم موافقتهم لابن العربي من اختلاف المبادئ الأولية، وإذا كان ثمة خلاف في هذه الحالة فهو ليس خلافاً مبدئياً أساسياً وإنما ثانوياً وأخلاقياً أحياناً([5]).
لهذا السبب تحديداً توقّف كبار علماء أهل السنّة عند هذه القضية وفضلوا الصمت على الكلام. فما هو سبب ذلك؟ ولماذا توقّف الكثير من علماء أهل السنّة في التنديد بيزيد فيما حرّم البعض ذلك؟
الواقع أن بعض هؤلاء العلماء لم يكن من ذلك الصنف الذي يبيع دينه بدنياه ويبدي مثل هذا الرأي نزولاً عند رغبات حكام الجور، بل إنّ البعض صرّح بمثل هذا الرأي في فترة خالف فيها الرأي العام أو رغبات السلطة الحاكمة، لكنه أصرّ على رأيه كتكليف شرعي. وقد اضطر علماء أهل السنّة لاتخاذ جانب الصمت في التعارض بين مبادئهم الفقهية والكلامية وبين الإلزامات الثانوية الناجمة عن الاعتراف باعتبار الأحاديث الواردة في شأن الإمام الحسين D ومثالب يزيد وحتى الأحاديث التي تشير إلى قضية عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين D مظلوماً تصريحاً أو تلميحاً، وللتخلص من هذه العقدة الشائكة كان النجاة في الاحتياط، والاحتياط يتطلب الصمت والتوقف([6]).
على أية حال ينبغي البحث عن الجواب في التكوين النفسي الديني المحتاط الناشئ مباشرة من إضفاء القداسة على تاريخ صدر الإسلام وشخصياته.
من اللازم أن نذكر أن مصاديق الاحتياط ومفهومه إلى حدٍّ ما يتباين تبايناً كبيراً بين الشيعة والسنّة رغم وجود بعض الشبه، سواء كان ذلك الاحتياط اعتقادياً يعود إلى اُصول العقائد أو فقهياً يرجع إلى الأحكام العملية، وسنلقي ضوءاً على هذه الملاحظة في الفقرات اللاحقة من الكتاب.
إنّ الالتزام بالمبدأ القائل بقداسة جميع شخصيات الصدر الأول وتساويها في الشأن الديني والمرتبة المعنوية يؤدي إلى الاحتياط في إبداء الرأي حولهم حتى وإن تنازعوا واقتتلوا، وهو احتياط مُشِلّ يمنع حتى من إصدار الحكم على قضية طرفاها معروفان تماماً كقضية عاشوراء، ويفضل التوقف عندها ويبرئ ساحة الطرفين، بل إنّه يمنع الآخرين من التحقيق فيها والحكم عليها تحت يافطة المسؤولية الشرعية النابعة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فعلى سبيل المثال يقول محمود صبحي عن النتائج التي تركها استشهاد الإمام الحسين D على الاتجاه الكلامي والاعتقادي لدى أهل السنّة الذين يميلون إلى الحلول الوسطى – على حدّ تعبيره –: «وكان ردّ الفعل لمقتل الحسين عنيفاً لدى أهل السنّة، إذ فشلت تماماً كل محاولة للتوفيق في الحكم بتصويب حركة الحسين وموالاة أعدائه من الخلفاء مع ميل أهل السنّة عادة إلى الحلول الوسطى، ولكن ذلك قد انهار عند مقتل الحسين»، ثم ذكر المؤلف بعض القرائن التي تؤكد رأيه([7]).
إنّ لهذا المنهج من التفكير تاريخ طويل بطول تاريخ الإسلام، ولا يمكن أن يتلاشى يوماً، ولا تجد عالماً من علماء السنّة تقريباً إلا وتطرق إلى هذا الأمر. وينقل ابن أبي الحديد في أجزاء عديدة من كتابه الموسوعي مثل هذه الآراء حول عصر صدر الإسلام، ويخصّص جانباً مهماً من الجزء الأخير لهذا المبحث([8]). ومن المناسب هنا أن نورد شيئاً من رأي الغزالي حول الصحابة ويزيد، وقد تعمّدنا في اختيار هذا الرجل لاعتباره العلمي ومكانته عند الجميع وزهده وإعراضه عن الدنيا؛ حتى لا يتصور البعض بأن هذا الرأي صادر عن جهل أو خدمة للحكام أو مرفوض من قبل البعض.
يقول الغزالي في بيان الاعتقاد بالصحابة بعد أن يدعو إلى سلوك "الاقتصاد في الاعتقاد": «.. واعلم أنك في هذا المقام بين أن تسيئ الظن بمسلم وتطعن عليه وتكون كاذباً، أو تحسن الظن به وتكفّ لسانك عن الطعن وأنت مخطئ مثلاً، والخطأ في حسن الظن بالمسلم أسلم من الصواب بالطعن فيه، فلو سكت إنسان – مثلاً – عن لعن إبليس أو لعن أبي جهل أو أبي لهب أو من شئت من الأشرار طول عمره لم يضرّه السكوت، ولو هفا هفوة بالطعن في مسلم بما هو بريء عند الله تعالى منه فقد تعرض للهلاك»([9]).
ولإمام الحرمين الجويني رأي مثل هذا مزدان بالتفصيل والتوضيح نقله ابن أبي الحديد في الجزء العشرين من كتابه.
يقول الغزالي في أشهر كتبه إحياء علوم الدين: «فإن قيل: هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به؟ قلنا: هذا لم يثبت أصلاً، فلا يجوز أن يقال: إنّه قتله أو أمر به ما لم يثبت، فضلاً عن اللعنة، لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق»([10]).
فما السبب في اتخاذ مثل هذا الموقف؟
نعود إلى ما ذكرناه آنفاً بأنه نتيجة طبيعية ومنطقية للتكوين الاعتقادي والنفسي الذي تبلور على هذا الأساس. فالمسألة لا تكمن في طبيعة الحقائق الخارجية، وإنما في طبيعة الفكر والذهن الذي نتعرف به عليها، فمثل هذا الفكر ينظر إلى قضية عاشوراء وفق موازينه ومعاييره وهو أمر طبيعي.
واللافت للنظر بأن مثل هذه النظرة عند بعض علماء أهل السنّة دخلت مرحلة اليقين بحيث بات هذا البعض يشكّك بصحة الأحاديث التي تشير مباشرة إلى واقعة عاشوراء ومثالب يزيد. ولا شك في أن بعض هؤلاء يدخلون في عداد وعّاظ السلاطين الذين ينشطون في عصرنا الحاضر أيضاً، فيما يفكر آخرون منهم بهذه الصورة ويعتقدون بذلك حقاً([11]).
نلاحظ كم هو الفارق بين الخلفية النفسية والتكوين الذهني والاعتقادي لأتباع المذهبين في هذا الجانب على الأقل، فقد تبلور التكوين الذهني لدى أحدهما بشكل يفقد القدرة على التحكيم المتضاد حول مسلمين أو طائفتين متنازعتين من المسلمين، بينما تشكَّل التكوين الفكري والنفسي عند الآخر بصورة لا يمكنه التحكيم في مثل هذه القضية إلا من خلال التضاد، بمعنى أن يعتبر الحق المطلق مع أحد الطرفين والباطل المطلق مع الآخر. لا ريب في أن هذا التباين الدقيق والمصيري يولد مسارين اجتماعيين وثقافيين مختلفين للتحولات السياسية والاجتماعية، فصدى الثورة في مجتمع يصنف طرفي أي نزاع إلى حسيني ويزيدي يختلف في شدته وقوته عنه في مجتمع لا ينظر إلى التاريخ أو التاريخ الإسلامي على الأقل بمنظار الحسيني البحت واليزيدي البحت (حتى لو آمن افتراضاً بأن يزيد كان على الباطل المطلق والحسين على الحق المطلق).
ولسنا هنا بصدد فرز المنهج الصحيح عن الخاطئ في موقفه، وإنما نستهدف بيان خصائص كلٍّ منهما. هذا هو أهم تباين بين الشيعة والسنّة، حيث يختلفان في طريقة التفكير وينظران إلى الاُمور كل من زاويته الخاصة، ولهذا أصبح من المشكل أن يدرك كل منهما الآخر؛ لاختلاف الرؤية لديهما إزاء قضية واحدة، ذلك أن رؤية كلٍّ منهما تستند على سلسلة مقدمات تختلف تماماً عن الآخر، فإذا استطاع أحد السنّة أن يدرك كيفية فهم الشيعة لهذه القضايا ويستوعب الأحداث التاريخية والسياسية ويحلِّلها كما يحلِّلها ويستوعبها الشيعي فهو لم يفكر بهذه الطريقة استلهاماً من تكوينه المذهبي الخاص، وإنما لحمله منهج التفكير الشيعي في ذهنه، وينطبق هذا الكلام نفسه على الشيعي أيضاً، إذ أنه لا يستطيع أن ينظر إلى الأحداث التاريخية والاجتماعية كما ينظر إليها السنّي. فالتكوين الذهني والاعتقادي يختلف بين الشيعة والسنّة، ومن الطبيعي أن تختلف رؤيتهما وتقويمهما للاُمور([12]).
إدراك جديد في ظلّ تجربة جديدة:
ثمة أشخاص من أهل السنّة ولا سيما من بين جيل الشباب المعاصر يحملون رؤى مقاربة لرؤى الشيعة أو مماثلة لها نتجت عن خضوع تكوينهم النفسي والفكري والاعتقادي لعوامل اُخرى هي غير التراث الديني والتاريخي والاعتقادي لمذهبهم. وكان لمسار التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في بعض البلدان الإسلامية دور في إيجاد فهم آخر للأحداث لدى الشبان والجامعيين، وكلّما كانت التحولات أعمق وأسرع والمجتمع أعقد وأكثر تمسكاً بالتقاليد كلما كانت هذه الخصيصة أقوى وأشمل، وكلما ارتفع مستوى الجهد الثوري في بلد ما كلما اشتدت هذه الحالة في صفوف المجتمع؛ ذلك لأنّ من ضرورات الحالة الثورية والفكر الثوري وخاصة بين الشباب توفرهم على فهمٍ متضاد للتاريخ والوضع السائد.
وقد ظهرت مثل هذه الحالة والروح في العالم الثالث ودنيا الإسلام خلال العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة؛ لأنّ التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية ساعدت على تنمية هذا التفكير وتوسيعه وتعميقه. وسوف لا نخوض في أسباب هذه الضرورة الثورية التي تختصّ بعامة الناس وليس بالنخبة التي تتسم بالميول الثورية رغم عمق تفكيرها وسعة معلوماتها وتجاربها، إذ يمكن أن نتطرق إلى هذا البحث على المستوى النظري وعلى الصعيد التاريخي والاجتماعي. وكذلك طبيعة التعامل الشيعي والسني خلال العقود الماضية مع الماركسية التي جعلت من التضاد أساساً لفلسفتها، والفوارق بينهما، والأسباب التي أدّت إلى نشوئها، وكذلك دراسة كيفية تأثير تطورات المرحلة الأخيرة على معنويات الشبان الشيعة والسنّة([13]).
بلحاظ أهمية الموضوع الأخير يجدر بنا أن نثبِّت بعض فقرات كتاب "معالم في الطريق" الذي يُعدّ بحقٍّ أهم كتاب في إرشاد تفكير الجيل السنّي الثائر في القرن الحاضر، وسنلاحظ أنّ الرؤية السنية مشابهة للرؤية الشيعية، ولا سيما الرؤية الشيعية الثائرة في القرن الحاضر من حيث الفهم المتضاد للأحداث، بمعنى أن حفظ ظاهر الدين لم يمنع من اتخاذ الموقف الصريح من قبل السنّة في عدم مشروعية هذا الظاهر ومن يتمسك به، لكنهم توصلوا إلى هذه النتيجة التي كان الشيعة قد توصلوا إليها في الماضي والحاضر من موقف مباين لموقف الشيعة، إذ يمتلك الشيعة تراثاً ضخماً من سنن الأئمة الطاهرين، وبالتالي فإن هذه المسألة تعتبر في عقيدتهم من البديهيات الأولية، فقد كان من الأهداف الأساسية للأئمة E في حياتهم إزاحة النقاب عن وجوه المتاجرين بالدين أو طلاب السلطة أو الجهلة وبمختلف الطرق، لكن لم يكن باستطاعة أهل السنّة اتخاذ هذا المنحى للأسباب التي ذكرناها آنفاً؛ ذلك أن أفكارهم ومعتقداتهم تكونت بشكل يمنعهم من القيام بمثل هذا العمل أو اتخاذ الموقف الصريح حياله.
فحينما دفعت الضغوط الاجتماعية والسياسية والفكرية والدينية في العقود الأخيرة بعض مفكّري أهل السنّة إلى البحث عن حلول مناسبة، وتوجَّه نحوهم الشبان الملتزمون الذين تعتمل فيهم روح الثورة، اضطروا لحلّ هذه المشكلة من طريق آخر متجاهلين معتقدات وأفكار وذهنيات الأسلاف والمعاصرين من ذوي التفكير المناقض، وفتح هذا التوجه طريقاً جديداً رغم المشاكل المستجدّة التي ظهرت أثر ذلك.
(1) العواصم من القواصم: 231–232. يقول الدكتور أحمد محمود صبحي عن الانتقاد الشديد لإبن العربي وأمثاله: «بالرغم من أن رأي الظاهريين وأهل السلف [في الإمام الحسين D] صادر عن عقيدة إلا أن دوافع وجهة نظرهم ليست دينية بحتة، فمعظمهم من أهل الشام كابن تيمية أو من الأندلس الاُموية كابن حزم وابن العربي، ولا يخلو رأيهم من باعث العصبية الإقليمية أو مشايعة الحكام الاُمويين، ولقد صيغت آراء هذه الفرقة أساساً كردّ فعل لمذهب الشيعة ... ولمّا كان مقتل الحسين هو السند الرئيسي في العقيدة الشيعية من حيث إنّ فرق الشيعة تستمدّ وجودها واستمرار بقائها من الدماء التي سفكت في كربلاء كان في تخطئة الحسين وتهوين أمر قتله وإلقاء التبعة عليه أو على أهل الكوفة محاولة منهم لاجتثاث كيان الشيعة وهدمه». نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية: 337.
(1) الغريب أنّ ابن حنبل ونقلاً عن ابن العربي يعتمد على ما ينقله عن يزيد ويعتبره من الأجلاّء والعظماء، ويذكره في كتابه "كتاب الزهد" إلى جانب الزهّاد والصحابة والتابعين. انظر تفصيل ذلك في: العواصم من القواصم: 232–233، في باب الدفاع عن يزيد بدافع ديني.لاحظ أيضاً هوامش محب الدين الخطيب على هذا الكتاب: 227–228. وحول الدفاع عن معاوية لاستخلافه يزيداً راجع تلك الهوامش في نفس الكتاب: 215–216.
(1) الاقتصاد في الاعتقاد :205و203، انظر آراء إمام الحرمين الجويني في كتاب: شرح ابن أبي الحديد: 20/10–12. ولاحظ نقد آرائه نقداً حيادياً في نفس المصدر: 13–34.
(2) إحياء علوم الدين: 3/134، ويوضح اُستاذ الغزالي إمام الحرمين باستدلال أعمق وأشمل حرمة لعن المسلم. انظر : شرح ابن أبي الحديد: 20/11.
(1) حول آراء الداعين إلى لعن يزيد والمعارضين لهم واستدلالات الطرفين عليها راجع كتاب ابن الجوزي تحت عنوان: الرد على المتعصب العنيد.
(1) الرؤية التاريخية للشيعة والسنّة متباينة منذ البدء، وكان هذا التباين ينحصر في الماضي بتاريخ صدر الإسلام، بينما يشمل حالياً كل التاريخ الإسلامي بل التاريخ بمفهومه العام. حول اختلاف هذه الرؤية وفهم تاريخ صدر الإسلام قارن بين: العواصم من القواصم ومقدمة محب الدين الخطيب وهوامشه مع النص والاجتهاد والغدير وخاصة أجزائه الرابع والسادس والسابع.
لكن حصل تحول في العصر الحاضر، واقترب الفهم التاريخي لمثقّفي أهل السنّة حيال تاريخ الصدر الأول لفهم الشيعة لأسباب عديدة، أولها: خفوت التعصب الديني، وثانيها: اتجاههم نحو الضوابط الجديدة للنقد التاريخي. ولعل طه حسين هو أفضل من مثّل هذه الجماعة في كتابه: الفتنة الكبرى، حيث تقترب آراؤه وتحليلاته في الجزء الأول والثاني في الكثير من النقاط مع آراء الشيعة بل تتفق معها. ورغم أن العلامة الأميني انتقد هذا الكتاب في الغدير: 9/251–254، كما انتقده أنور الجندي في: مؤلفات في الميزان: 6–19، إلا أن هناك أمثلة كثيرة مماثلة، انظر: انديشه سياسي در إسلام معاصر (الفكر السياسي في الإسلام المعاصر): 308–332، لدى توضيح اُسلوب تحليل الكتّاب المعاصرين من السنّة لواقعة عاشوراء. كما أن هناك الكثير من علماء الدين والمثقفين الذين لا يزالون ينهجون منهج التعصب السلفي، انظر كمثال إلى هوامش محمد حامد الفقي مصحح كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية، الذي يتصدى لمنصب رئاسة جماعة أنصار السنّة المحمدية، ولا سيما الصفحات 165و166، وكذلك كتاب: التاريخ الإسلامي وفكر القرن العشرين، لفاروق عمر وخاصة مقدمته والصفحات 87–106.