عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

موقف بني إسرائيل من نبي الإسلام

موقف بني إسرائيل من نبي الإسلام

 

لقد بشّر الله عزّ وجلّ على لسان أنبيائه في الكتب السماوية السابقة، بمبعث خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، لذلك كان أعرف الناس به (صلّى الله عليه وآله) هم أهل الكتاب الذين كانوا يهيئون أنفسهم لاستقباله ويبشرون الناس بمقدمه (صلّى الله عليه وآله)، ولمّا اختاره الله من العرب ومن ذرية إسماعيل (عليه السلام) بالخصوص، وكان اليهود يتوقعون أن يكون منهم، أي من ذرية إسحاق تغيّر كلّ شيء.

ماذا حدث؟ وماذا فعل اليهود يا ترى؟

هذا ما أجاب عنه القرآن الكريم حيث بيّن أنهم (أي اليهود) بدلاً من أن يكونوا خير أنصار وأعوان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كانوا أشدّ الناس له عداوة، وبذلوا كلّ ما في وسعهم من أجل قتله (صلّى الله عليه وآله)، أو تفريق أنصاره عنه، ومن يطالع التاريخ يجد أنّ أكثر من حارب الرسول (صلّى الله عليه وآله) بعد قريش، هم اليهود وهم أشد عداوة من غيرهم كما قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}(1).

____________

(1) المائدة: 82.

 

 


فكانوا يمكرون ويخدعون، وينقضون عهودهم ويغدرون، ويتخذون أخبث الحيل وأشدّها مكراً، ليطفئوا نور الله الذي تجلّى في محمد (صلّى الله عليه وآله)، ومن حيلهم ومكرهم، أنّهم كانوا يوصون بعضهم أن يؤمن بالإسلام في الصباح، وبعد الظهر يكفر به لكي يحدث للمؤمنين إحباط نفسي، ففي الصباح يستبشر المؤمنون بإيمان أحد من أهل الكتاب، الذي يعتبر حجة كبيرة على البقية من المعاندين، ولكنّه بعد الظهر يبدأ بإظهار الشك في الإسلام لكي يحطّم معنويات المسلمين ويردّهم إلى الكفر، كما قال تعالى: {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }(1).

هكذا حارب اليهود الإسلام، وكم وكم من أمثلة تؤكد هذا الحقد اليهودي وتفضحه، فكل من لديه أدنى مطالعة للتّاريخ، يعرف جيداً ماذا صنع اليهود وكيف بذلوا الغالي والنفيس من أجل الإطاحة برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وحتى بعد وفاته (صلّى الله عليه وآله)! وإلى يومنا هذا، ونحن نرى هذا الحقد اليهودي، يتجلّى كل يوم في ثوب جديد.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا كل هذا الحقد والحرب ضد الإسلام ونبيّه؟

____________

(1) آل عمران: 72.

 

 


والجواب: قد يتصوّر البعض أنّ السبب هو أنّ اليهود كانوا على طريقة معينة من عبادة الله عزّ وجلّ، حيث كانت قبلتهم بيت المقدس، وكانت صلاتهم تختلف عما جاء به رسول الإسلام (صلّى الله عليه وآله)، وغير ذلك، ولشدّة حرص اليهود على دينهم قاموا ضد الإسلام، وأعدوا أنفسهم لمحاربته.

فهل هذا هو السبب الواقعي لحرب اليهود للإسلام يا ترى؟

مع ملاحظة أن هذا ما يتعلل به اليهود.!

القرآن الكريم لا يقبل هذا التعلل، بل كشف النقاب عن أسباب هذه الحرب الظالمة، حيث بيّن أن مشكلتهم، هي نفس مشكلة إمامهم إبليس، وهي أيضاً مشكلة أكابر المجرمين في كل مكان وزمان، حيث بيّن القرآن الكريم أنّ المشكلة ليست بسبب اختلاف الفقه الإسلامي مع الفقه اليهودي، وليست بسبب اختلاف بعض العقائد اليهودية مع العقائد الإسلامية، إنما المشكلة هي: (عدم الرضى والتسليم للاختيار الإلهي)؛ لذلك لمّا أراد اليهود طرح بعض المسائل العقائدية، ليحتجوا على الرسول (صلّى الله عليه وآله) ويقولوا له مثلاً: أنت لم تأت بما يوافق عقائدنا، أجاب الله على لسان نبيه جواباً قاطعاً للشك والريب، وبيّن أنّ هذه العلة إنّما هي محاولة فاشلة للتهرب من السبب الواقعي الذي حارب اليهود الإسلام من أجله.

 

 


جاء في سورة آل عمران ما يشير إلى مراوغة اليهود، وفرارهم عن طرح السبب الحقيقي للنزاع، حيث طرحوا بعض المسائل العقائدية؛ لكي يتخذوها عذراً لعدم قبولهم الإسلام، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1).

انظر أخي القارئ كيف احتج عليهم القرآن الكريم، احتجاجاً قاطعاً لا يترك لهم عذراً، فما دمتم ـ أي اليهود ـ قد قتلتم الأنبياء من قبل ـ أي من قبل الرسول (صلّى الله عليه وآله) ـ مع أنهم جاؤوكم بالبينات وبالذي قلتم، ـ أي بالقربان الذي تأكله النار ـ، إذن أنتم كاذبون في ادّعائكم، بل مغالطون تريدون أن تحرفوا المسألة وتجعلوا السبب في محاربتكم للإسلام هو مذهبكم وعقائدكم، ولكن هذا كذب، فلو كنتم صادقين في هذا الادعاء، لما فعلتم بأنبياء الله ما فعلتم.

إذن هناك سبب آخر يوضّحه الله عزّ وجلّ في آيات كثيرة في كتابه الكريم، نذكر منها الجزء القليل والباقي نتركه للمتتبع لكتاب الله عزّ وجلّ حتى يكتشف هو أكثر فأكثر، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا

____________

(1) آل عمران: 183.

 

 


جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ الله بَغْياً أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(1).

هكذا بيّن القرآن الكريم سرّ عناد اليهود وحربهم للإسلام، نعم، إنّه سرّ الخلافات والنزاعات وأساسها وسبب تفرّق الأمم والمذاهب، وهو عدم التسليم لمن اختارهم الله عزّ وجلّ عناداً واعتراضاً، وليس هو اختلاف الآراء الفقهية والعقائدية والمذهبية، بل إن رأس الفتنة، هو منازعة المختارين، الذين اختارهم الله واصطفاهم وعدم التواضع والتسليم لهم.

وما من أحد يقول حينما يختار الله عزّ وجلّ غيره أنا أحاربه لأنّ الله اختاره واصطفاه، فهو يعلم ـ إن قال مثل هذا الكلام ـ أنّ الناس لا يقبلونه، وسيحاربونه، وسينصرون المختار من قبل الله عزّ وجلّ، ولذا يضطر المعاند للاختيار الإلهي إلى اختلاق الأعذار المذهبية والدينية كما فعل اليهود، حيث كانوا يقولون عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إن هذا الرجل يخالف عقائدنا، هو يقول كذا ونحن نقول كذا، وهكذا يبررون لأنفسهم سوء عملهم، ويخدعون عامة الناس تحت ستار حماية الدين والعقيدة.

____________

(1) البقرة: 89، 90.

 

 


ومن يتأمل في الآيات السابقة يجدها واضحة الدلالة في هذا المطلب، فاليهود كانوا ينتظرون ظهور نبي آخر الزمان، وكانوا كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(1).

قال الآلوسي في روح المعاني في ذكره الضمير في يعرفونه قال: ((وضمير (يعرفونه) لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وإنْ لم يسبق ذكره ذكر الرسول (صلّى الله عليه وآله)، لدلالة قوله تعالى: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} عليه، فإن تشبيه معرفته بمعرفة ـ الأبناء ـ دليل على أنّه المراد))(2).

فاليهود كانوا يعرفون الرسول (صلّى الله عليه وآله) كما يعرفون أبناءَهم، وكما قالت الآيات التي كنّا بصددها، حيث بيّنت أنّه لما جاءَهم ما عرفوه ولم ينكروه، وما علموه ولم يجهلوه، كفروا به، وهم كانوا من قبل يبشّرون بقدومه (صلّى الله عليه وآله) ويستفتحون على الكفار ـ أي يطلبوا النصرة على الكفار به (صلّى الله عليه وآله)، قال الآلوسي بعد ذكره قوله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}(3): ((نزلت في بني قريظة والنضير، كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبل مبعثه

____________

(1) البقرة: 146.

(2) روح المعاني، الآلوسي 1: 411، ط. دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان.

(3) البقرة: 89.

 

 


قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة: والمعنى يطلبون من الله تعالى أن ينصرهم به على المشركين، كما روى السدي: أنهم كانوا إذا اشتد الحرب بينهم وبين المشركين، أخرجوا التوراة ووضعوا أيديهم على موضع ذكر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وقالوا: اللّهم إنّا نسألك بحق نبيك الذي وعدتنا أن تبعثه في آخر الزمان أن تنصرنا اليوم على عدونا فينصرون...))(1).

من هذه الآية الكريمة وغيرها نفهم جيداً أنّ اليهود وأهل الكتاب بشكل عام كانوا يعرفون الرسول (صلّى الله عليه وآله) تمام المعرفة، ويعرفون أنّ ما يدّعيه حق لا شك فيه!

فلماذا حارب أهل الكتاب هذا النبي الأمي، الذي يجدونه عندهم مكتوباً؟!

كما أشرنا سابقاً، وقلنا إنّ القرآن الكريم أجاب بوضوح عن هذا السؤال، وذلك بعد ذكر الآية التي ذكر فيها ـ تعــالى ـ أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا قال تعــالى مبيّــناً العلّة والسبب الواقعي بقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ الله}، لماذا يكفرون بما أنزل الله {بَغْيَاً} وعناداً واعتراضاً {أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} ونتيجة هذا البغي والعناد {فَبَآؤُواْ

____________

(1) الآلوسي، روح المعاني 1: 319، ط دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان.

 

 


بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ} المغطين الكاتمين الحق، الذي هو الاعتراف بالرسول (صلّى الله عليه وآله) {عَذَابٌ مُّهِينٌ}(1).

هكذا بيّن القرآن الكريم، ووضّح أنّ اليهود لم يكونوا جُهالاً، بل كانوا عارفين للرسول (صلّى الله عليه وآله) معرفتهم بأولادهم، ولكن لم تمنعهم معرفتهم من العناد، والعمى، كما كان إبليس وقابيل، وكثير من أكابر المجرمين، الذين حاربوا أولياء الله حقداً، وحسداً، وعناداً، واتخذوا المذاهب والفرق، وما تعارف الناس وما اعتادوه، وسيلة إعلامية لإثارة الضجة ضد المختارين من قبل الله عزّ وجلّ، ولتحريك عوامّ الناس والهمج الرعاع ضدهم؛ فالمشكلة إذن ليست هي المذاهب والفرق، بل المشكلة دائماً تبدأ من أشخاص معدودين يعارضون من اختاره الله عزّ وجلّ، ثم يضلّون من تبعهم من الناس تحت ستار أمور عقائدية فتنشأ مع مرور الزمان، المذاهب والفرق، وما شابه ذلك.

وفي الواقع هذا نتاج ما أقسم عليه إبليس من إضلال أولاد آدم (عليه السلام) أجمعين إلاّ عباد الله منهم المخلصين!

فما هي جريمتنا يا ترى؛ حتى يقسم إبليس أن ينتقم منّا بسببها؟

جريمتنا واضحة، وهي تفضيل الله سبحانه لأبينا آدم (عليه السلام) على

____________

(1) البقرة: 90. إبليس; وكذلك ما هي جريمتنا التي حاربنا اليهود من أجلها؟ إنها ـ وبدون شك ـ اختيار الله لرسوله محمد (صلّى الله عليه وآله) منّا.

هكذا يفضح الله عزّ وجلّ اليهود وأمثالهم، من الظالمين، ويحذّر العوامّ، وأهل الأهواء الذين يتبعون كلّ ناعق، يتبعون من يدعونهم بدون بصيرة وتفكر، حذّر المولى عزّ وجلّ هذا القسم من الناس بقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار}(1).

لذا يجب أن نحذر، ونركّز على هذه المسألة، ونبحث عن الذين اختارهم الله عزّ وجلّ، ولا نشغل أنفسنا بالمسائل الأخرى، فإنها لا تنتهي أبداً، وكلّ يوم تظهر مسائل وشبه جديدة، ومن عرف أولياء الله عزّ وجلّ وخيرته واتبعهم فلا عليه أوَقع على الموت أم وقع الموت عليه، لأنّه على يقين، يأخذ دينه من المبلغين المختارين لهذا الأمر من الله عزّ وجلّ لا من عند أنفسهم، ومن لم يعرف أولياء الله عزّ وجلّ وخيرته فسوف يبقى في ضلال وتخبّط، كل يوم يشك في بعض ما عنده ويؤمن بغيره، وهكذا حتى يلقى الله عزّ وجلّ وهو على ضلاله.

____________

(1) البقرة: 166، 167.

 

   


فأخطر المسائل وأهمها هي مسألة الولاية.

وقد يقول قائل: هل من أجل هذا السبب حاربت قريش الإسلام؟

وهذا ما يبيّنه القرآن الكريم ويوضّحه.

 

 


موقف قريش من الإسلام

 

لماذا حاربت قريش الدين الإسلامي؟

لماذا بذلت قريش الغالي والنفيس من أجل الإطاحة بالإسلام؟

لماذا ضحّت قريش بأعزّ رجالها وأشجعهم وقدّمتهم للموت؟

إذا سألنا كبار قريش عن السبب، فسيتعللون، كما تعلّلت اليهود، وغيرهم من المعاندين، بأن محمداً سفّه أحلامنا وكفر بآلهتنا، وساوى بيننا وبين عبيدنا; سنسمع لهم شكاوى تستعطف القلوب، ومن تلك الشكاوى: أنّ محمداً أذلّ كبارنا، واستخف بصغارنا، وفرّق شملنا وأضحك العدو علينا.

هل يا ترى يقبل الله عزّ وجلّ هذه الأعذار الواهية ويؤيد دعواهم، أم أنّه عزّ وجلّ يفضحهم كما فضح اليهود، ويبيّن أنّ السبب والسرّ الذي حاربوا الإسلام من أجله، هو شيء آخر؟

القرآن الكريم لا يقبل هذه الدعاوى المزخرفة؛ لأنّه من لدن عزيز حكيم عليم بذات الصدور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور; ولذا كشف القرآن الكريم ما أخفت صدورهم ويبين سبب كفرهم وإعراضهم، وهذا واضح في صريح الآيات المحكمات.

 

    


قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}(1)؟.

وهذا السؤال طرح؛ كي يلفتنا القرآن الكريم إلى أهمية الموقف وخطورته، ويلفتنا أيضاً إلى التوجه والتركيز على الجواب، وقبل الإجابة يشبّه الله عزّ وجلّ الكفار تشبيهاً عجيباً، فشبههم بالحُمر المستنفرة، وذكر أهل التفاسير أن {حُمُرٌ} جمع حمار، والمراد بها هنا الحمر الوحشية، والملاحظ أنّ الحمر الوحشية مستنفرة دائماً، ومع ذلك يقول الله عزّ وجلّ لكي يبيّن شدّة استنفارها {حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ}.

ثم مِنْ ماذا مستنفرة؟ هل من إنسان؟ لا بل من أسد، وهذا الأسد أسد مفترس أيضاً، كما ذكر المفسّرون، والملاحظ أيضاً في هذا التشبيه الدقيق هو أنك ترى الحيوانات الأخرى غير الحمر مثل القط والكلب، وغيرهما غالباً إذا هربت من شيء يخيفها، تراها تهرب، ولكنها في حالة الهرب تكون ملتفتة إلى طريقها فلا تضلّ الطريق، ولا تسقط في الحفر ولا تقع على الأشواك، ولكن الحمر المستنفرة حينما تهرب غالباً تفقد توازنها، فتراها تقوم وتسقط، وتقتحم ما أمامها حتى لو كان فيه هلاكها.

هكذا شبّه القرآن الكريم المعاندين ومن جملتهم زعماء قريش بالحمر المستنفرة التي فرت من قسورة، لكي يبين سوء حالهم، وأنهم

____________

(1) المدّثر: 49.

 

 


تماماً مثل تلك الحمر التي تقتحم ما أمامها حتى لو كان الذي أمامها جهنم.

وبعد أن سألت الآية السابقة عن سرّ إعراضهم عن التذكرة، أجابت الآيات اللاحقة بقوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً}(1)، ولماذا يا ترى كلّ واحد وكل امرىءٍ منهم يريد أن يؤتى صحفاً منشّرة؟

والجواب: { كَلا بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ}(2).

قال ابن كثير: ((وقوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً}(3) أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب كما أنزل الله على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قاله مجاهد وغيره، كقوله تعالى: { وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}))(4) انتهى كلام ابن كثير.

وهناك آيات كثيرة تبيّن أن قريشاً لم يكن حربها للإسلام بسبب العقيدة، فقريش كانت فاقدة للعقيدة؛ ولذا يُروى أن أحد القرشيين ذات مرّة صنع له إلهاً من تمر، ثم لما جاع أكله، لكي يحوله إلى عالم

____________

(1) المدثر: 52.

(2) المدثر: 53.

(3) المدّثر: 52.

(4) تفسير ابن كثير 4: 476، المطبعة: دار المعرفة ـ بيروت.

 

 


المنفيات والنجاسات، وهذه القصة تشير إلى أي حد كانت قريش تتعامل مع الأصنام، فلو كان هناك أدنى اعتقاد لما تجرّأ ذلك الرجل على أكل معبوده بعد أن عبده، فالمسألة كانت سياسية، فكبار قريش قد استفادوا من الأصنام استفادة كثيرة، حيث جعلوا من أنفسهم الناطق الرسمي باسم الآلهة، يحرمون ما شاءوا ويحلّون ما شاءوا، ويؤمّنون قوافلهم التجارية، حتى وصل الأمر إلى أنه حتى قطاع الطرق يحترمون قوافل قريش.

ويبيّن القرآن الكريم في مكان آخر السرّ الذي حاربت قريش الإسلام من أجله، حيث بين أنه ليس مسألة الإيمان بالله عزّ وجلّ، فإنّ قريشاً كانت تعترف بالله عزّ وجلّ، ومعرفة الله عزّ وجلّ هي من الفطرة، التي فطر الله الناس عليها، كما في قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}(1)، وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}(2)، وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله...}(3)، وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ

____________

(1) العنكبوت: 61.

(2) الزخرف: 9.

(3) الزمر: 38.

 

 


أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}(1).

من هذه الآيات الكريمات يتّضح أن مشكلة قريش مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليست بسبب عدم معرفة الله عزّ وجلّ، فهم يعرفون أنّ الله عزّ وجلّ هو الذي خلق السموات والأرض، كما هو واضح، إذن ما هو سبب حربهم للرسول (صلّى الله عليه وآله)؟.

القرآن الكريم يجيب عن هذا السؤال، ويفضح كفار قريش ونظرائهم، كما فضح إبليس، بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(2).

قال ابن كثير حول هذه الآية وهو يفسّر قوله تعالى: (({قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية أي أنت المتصرف في خلقك الفعّال لما تريد كما ردّ ـ تعالى ـ على من يحكم عليه في أمره حيث قال: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} قال الله ردّاً عليهم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} الآية، أي نحن نتصرّف فيما خلقنا، كما نريد بلا مانع ولا دافع، ولنا الحكمة البالغة والحجة التامة في ذلك، وهكذا يعطي النبوة لمن يريد كما قال تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}

____________

(1) لقمان: 25.

(2) الزخرف: 31.

 

 


الآية))(1).

وقال ابن كثير في مورد آخر حول الآية المذكورة: ((يعنون لولا نزّل هذا القرآن على رجل عظيم كبير مبجّل في أعينهم، {مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ} أي من مكة والطائف، وذلك أنهم ـ قبّحهم الله ـ كانوا يزدرون بالرسول (صلّى الله عليه وآله) بغياً وحسداً وعناداً واستكباراً كقوله تعالى مخبراً عنه {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ الله رَسُولاً}، وقال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}، وقال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون}. هذا، وهم معترفون بفضله، وشرفه، ونسبه، وطهارة بيته، ومرباه ومنشئه ـ صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه ـ حتى أنهم كانوا يسمّونه بينهم قبل أن يوحى إليه، الأمين، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم...))(2).

هذه الآية الكريمة بيّنت ما هي مشكلة قريش مع الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فإنهم معترضون على الحكمة الإلهية وهي نزول القرآن على رجل من القريتين ـ أي مكة والطائف ـ ولكن هذا الرجل الذي من مكة ليس

____________

(1) تفسير ابن كثير 1: 364، المطبعة دار المعرفة ـ بيروت.

(2) تفسير ابن كثير 2: 179.

 

 


بعظيم في نظرهم، بل هو رجل عـادي ـ أي لـم يكن تاجراً، ولم يكن شيخ عشيرة كبيرة، ولم يسفك الدماء لتكون له الشهرة والوجاهة عندهم بذلك العمل.

إنّ مشكلة قريش هي مشكلة إبليس، ومشكلة بني إسرائيل، نعم، إنك تجد نفس المشكلة عند قريش، فهم يرون أنّ محمداً (صلّى الله عليه وآله) لم يؤتَ سعة من المال، وأنّ مشائخ عشائرهم خير منه فلا يعتبرونه عظيماً، ولذلك قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يعني أنهم لم يمنعهم من الإيمان بهذا القرآن إلاّ هذا السبب، وهو عدم نزوله على رجل عظيم في نظرهم!

وقد أجاب الله عزّ وجلّ على كلامهم هذا في الآية التي تلت تلك الآية؛ حيث قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(1)، وهذه الآية الكريمة ناقشت عقولهم، وخاطبت ضمائرهم، وقالت لهم: هل أنتم تقسّمون رحمة الله؟! أفلا ترون أنّ الله هو الذي قسّم بينكم معيشتكم وأرزاقكم في الدنيا، والتي بسببها أصبح من تحسبونه عظيماً عظيماً، والله عزّ وجلّ هو الذي قسّمها بينكم، ولم يكن لكم دخل في

____________

(1) الزخرف: 32.

 

 


تقسيمها، ولمّا لم تعترضوا على الله عزّ وجلّ في ذلك، فكيف تعترضون عليه في تقسيمه للمناصب الإلهية، التي يختص بها من يشاء من عباده؟!

مع هذا كلّه، ومع هذه الحجج القرآنية الواضحة أصرّت قريش على عنادها وكبرها، ولم ترض بالاختيار الإلهي.

ثم إنّ قريشاً بعد ذلك لجأت إلى طريقة جديدة لمحاجة الإسلام، وهي قولهم كما حكى القرآن الكريم ذلك عنهم: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}(1).

فقريش ومن شاكلهم يريدون أن يقولوا كذباً وظلماً: إنّ أصنامهم هي الطريق الموصل إلى الله عزّ وجلّ، وذلك أنه قد يكون معنى اتخاذهم لأوليائهم سواءً كانوا أصناماً، أم بشراً، أم غير ذلك، بمعنى اتباعهم لهم، وإطاعتهم إياهم، ولكنّ الله لا يهدي من هو كاذب في ادعائه، كفار بخيرة الله عزّ وجلّ من خلقه.

فالقرآن الكريم لم يقبل هذا التهرّب من قريش، بل إن القرآن الكريم حدّد الطريق الواقعي والصحيح، الذي يقرب إلى الله عزّ وجلّ،

____________

(1) الزمر: 3.

 

 


ويوصل إلى رضاه بقوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).

ومن هنا يتّضح الأمر، فإن قريشاً تدّعي حبّ الله عزّ وجلّ، وأنها تريد أن تتقرب إليه زلفى، لكنّ الله عزّ وجلّ لا يقبل هذا الحب وذلك التقرب، إلاّ من حيث شاء هو عزّ وجلّ لا من حيث تشاء قريش، ومن شاكلها من المعاندين والمتكبرين.

فمن أراد محبة الله عزّ وجلّ والقرب منه، فلابدّ له من اتباع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو من أوصى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) باتباعه.

فتحصل من هذا أن مشكلة أكابر قريش واضحة، وهي لماذا اختار الله عزّ وجلّ رجلاً فقيراً في نظرهم، وليس من أعاظمهم، ولا من مشائخهم وكُبرائهم، وهذه هي المشكلة الحقيقية لهم ولأمثالهم.

وكذلك اتضح أن قريشاً لم تضحِّ بأعز رجالها، وأوفر أموالها حبّاً وفداءً من أجل الأصنام، ومن أجل العقيدة، بل كانت الأصنام ذريعة يستعطفون بها قلوب العوام، وأصحاب العقول الضعيفة، ويتّضح أيضاً من آيات اُخرى أن قريشاً لم تكذب الرسول (صلّى الله عليه وآله)، بمعنى انّها لم تعرف الحق، ولم يتّضح لها أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) صادق في دعواه، بل كانت تكذبه عناداً وجحوداً كما قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ

____________

(1) آل عمران: 31.

 

 


لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ}(1).

فانهم يجحدون؛ لأنّ الله عزّ وجلّ لم ينزل القرآن الكريم على رجل من القريتين عظيم عندهم، لأنّ الله لم يختر الوليد للرسالة، ولم يختر أبا سفيان، لأنّ الله اختص برحمته من يشاء، لأن الله اختار لرسالته محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، لذلك يجحدون، نعم إنّ هذه هي المشكلة التي جعلت قريشاً تفرّ من الإسلام فرار الحمر المستنفرة، وقد أضرّوا بالإسلام كثيراً، ولكنهم لم يستطيعوا أن يطفئوا نور الله عزّ وجلّ، كذلك كان دأب إبليس، ومن شاكله، وهذا هو دأبهم إلى يوم القيامة، وهو دأب اتباعهم في كل زمان ومكان.

____________

(1) الأنعام: 33.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

لا توفيق مع الغشّ
تحرير المدينة المنورة والحجاز
من شهد واقعة الطف
آداب المعلّم والمتعلّم في درسهما
الألفاظ الدخيلة والمولَّدة
الحجّ في نهج البلاغة -4
مكانة الشهيد
المجالس والبعد السياسي
المهدي المنتظر يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ...
المدلول الاجتماعي واللفظي للنص

 
user comment