عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

أهل البيت والعلم

أهل البيت والعلم

في قصة النبي سليمان× مع أهل سبأ في سورة النمل وبعد أن رفض النبي× هديتهم وعاد الوفد إلى اليمن يحمل رسالة سليمان× إلى بلقيس قال النبي لأركان دولته: أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ فقال عفريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك هذا وأني عليه لقوي أمين.

حينئذ: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ...)([1]).

وعندما رأى سليمان العرش حاضراً عنده قال: هذا من فضل ربي ونلاحظ في آخر آية من سورة الرعد إشارة إلى من عنده علم الكتاب:

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ}([2]).

وواضح في الآية الكريمة من سورة النمل أن دخول من علم الكتاب تفيد التبعيض فالذي قام بإحضار عرش بلقيس كان عنده علم من الكتاب.

وإذن فإن وصي سليمان كان عنده جزء من علم الكتاب، أما الآية (43) من سورة الرعد فتشير إلى من عنده علم الكتاب.

فمصداق الآية الكريمة عنده علم الكتاب وهو الذي يشهد بالصدق على رسالة النبي محمد’، فهو أعلم الناس بعد الرسول’ ولقد أجمع مفسرو الشيعة الإمامية وكثير من مفسري السنة أن مصداق هذه الآية ليس إلا الإمام علي أمير المؤمنين×.

وهو الشخص الذي يشهد على صدق رسالة النبي’، وهو أعلم الأمة {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} بعد النبي’ والآية نزلت وكان الإمام علي× دون العشرين.

يقول الصحابي أبو سعيد الخدري:

>سألت رسول الله’ عن قول الله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} قال: ذاك أخي علي بن أبي طالب<([3]).

وهذه الرواية مثبتة في مصادر السنة أيضاً.

وعن الإمام أمير المؤمنين×، في قوله تعالى: {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ}

>أنا هو الذي عنده علم الكتاب<([4]).

وقال عبدالرحمن بن كثير في هذه الآية من قوله تعالى: {قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}([5]).

وأنه سأل الإمام الصادق عن تفسيرها، فأشار الإمام إلى صدره بأصبعين مفتوحين وقال: >وعندنا والله علم الكتاب كله<([6]).

وجاء في الحديث القدسي عن رسول الله’ أن الله عز وجل قال مخاطباً نبيه’ حول أهل بيت الرسول’: >هم خزّاني على علمي من بعدك<([7]).

وعن الإمام علي بن الحسين السجاد× قال: > نحن أبواب الله ونحن الصراط المستقيم، ونحن عيبة علمه ونحن تراجمه وحيه، ونحن أركان توحيده، ونحن موضع سرّه<([8]).

ويقول الإمام علي أمير المؤمنين×: ألا أن العلم الذي هبط به آدم وجميع ما فضلت به النبيون إلا خاتم النبيين في عترة خاتم النبيين والمرسلين محمد’ فأين يتاه بكم وأين تذهبون<([9]).

وعن رسول الله’ قال:

>نحن أهل بيت مفاتيح الرحمة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة ومعدن العلم<([10]).

وعن الإمام السجاد× قال: > ما ينقم الناس منا! فنحن والله شجرة النبوّة وبيت الرحمة، ومعدن العلم ومختلف الملائكة<([11]).

إنّ أهل البيت^ هم الراسخون في العلم وهم معدن الحكمة والفكر وهم ورثة علوم الأنبياء وهم من عندهم أسرار السماء.

وأهل البيت عندهم الاسم الأعظم للحق تعالى، وهم أعلم الناس بلغات الناس وهم من عندهم علم الأولين والآخرين، علم ما مضى وعلم ما يأتي، وأعلم العالمين بكتب السماء ورسالات الله.

وهم بيت الله وسفينة نوح وعدل القرآن وأفضل الناس وهم أولو الأمر وأهل الذكر وأساس الحق، وهم معدن الرسالة وأركان العالم وحرّاس الشريعة والأمناء على الدين.

وهذه كتب الحديث والروايات تشهد لهم بذلك وهذا الكافي يشهد لهم وتفسير القرآن ومعاني الأخبار وكفاية الأثر وينابيع المودة، ونزهة الناظر كلها تنطق بالحق وما بعد الحق إلا الضلال.

أهل البيت^ والعبودية

بلغ أهل البيت^ مقام العبودية لله عز وجل لا يبلغ شأوهم في هذا أحد لأن معرفتهم بالله عز وجل هي الأجل والأعظم والأكثر من سائر الناس أجمعين، وقد بلغوا مقام التسليم لله تبارك وتعالى.

فهم لا يخطون خطوة واحدة إلا لله وفي سبيل الله وامتثالاً لأمر الله عز وجل وحياتهم وأعمالهم وأقوالهم وسيرتهم تدور في فلك الخالق البارئ المصور سبحانه وتعالى.

قيامهم وقعودهم سكوتهم وحديثهم وحتى زواجهم وتعاملهم وكسبهم وتجارتهم وحربهم وصلحهم سفرهم وحضرهم لباسهم ونظرتهم قولهم وصحوهم بكاؤهم وابتسامتهم وكل أعمالهم: إن كل ذلك ينطلق من نية خالصة وصفاء قلب وإيمان عميق، وهي بذلك جزء لا ينفك من مسيرتهم العبادية وهي انعكاس تام لعبوديتهم الخالصة لله عز وجل.

أهل البيت^ وهم يعبدون الله ويطيعونه ويسلّمون له سبحانه تسليماً أنما يفعلون ذلك لأن الله أهل للعبادة، فهم لا يعبدون الله طمعاً في الجنة أو خوفاً من النار، إنما ينطلقون في عبادتهم من خلال معرفة بالله سبحانه وعرفاناً لنعمائه وتسليماً لأمره ووفاء له تبارك وتعالى.

ولهذا فقد بلغوا الأوج في العبادة، ومن يطلع على مناجاتهم ودعواتهم لا يجد فيها إلا الإخلاص والتسليم والشعور بالتقصير لأنهم يقارنون عبادتهم بعبادة رسول الله التي لا يبلغها أحد من العالمين.

وقد بلغت عبادتهم أعلى المراتب لأنها لا تأتي خوفاً ولا طمعاً وإنما لإدراك ووعي تام بأن الله سبحانه يجب أن يعبد وأن الإنسان الكامل يجب أن يكون عبداً لله عز وجل.

يقول الإمام علي أمير المؤمنين×: >إلهي ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك<([12]).

وعنه× أيضاً قال: >إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار<([13]).

وأقسم بالله لو أن الله عز وجل قال لأهل البيت^: سأمحو عن الوجود الجنة والجحيم فلا عقاب ولا ثواب فإن ذلك لن يؤثر قيد شعرة على عبادة أهل البيت وتسليمهم.

وبلغ الإمام علي أمير المؤمنين× الذروة التي لا يبلغها أحد حتى أولاده وذريته واعترفوا بذلك مراراً.

وأهل البيت^ من الأئمة الأطهار بلغوا الذرى في عبادتهم وإن كانت لا تضاهي عبادة الرسول’ ووصيه علي× ولكن عبادتهم كانت المثل الأعلى للجميع، وبهذه العبادة الفريدة بلغوا ما بلغوا من القرب الإلهي، فكانت لهم الولاية والإمامة وبلغوا المقام المحمود ومقام الشفاعة، وأصبحت طاعتهم على الناس من أوجب الواجبات.

مفهوم العبادة

العبادة لله عز وجل هي أن تكون حركات الإنسان وسكناته وحياته ومماته لله سبحانه وتعالى، فكل خطوة يخطوها يجب أن تكون استجابة لإرادة الله ومشيئته خالصة لله دون سواه:

{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}([14]).

وللمرحوم الشهيد مطهري في موضوع العبادة والعبودية إشارات مفيدة للغاية، حيث تنطوي على المعارف الإلهية الحقة وللقارئ الكريم بعض ما ذكر مع شرح وتوضيح.

روي عن الإمام الصادق× قوله: >العبودية جوهره كنهها الربوبية<([15]).

إن بإمكان الإنسان أن يخطو في طريق الكمال وأن يبلغ درجات رفيعة في هذا المضمار، وقد يصل الإنسان إذا نجح في طي هذا الطريق أن يعبر حدود الخيال وبالرغم من كون الإنسان مخلوقاً فقيراً محتاجاً، ولا يملك شيئاً بذاته.

إلا أنه ومن خلال عبوديته لله عز وجل وإخلاصه في العبودية أن يبلغ درجة تمكنه من تسخير العالم.

مراحل بلوغ العبودية الكاملة

ومن أجل بلوغ مرحلة الولاية وتسخير العالم وبعبارة أخرى بلوغ درجة الكمال والقدرة التي تحصل من خلال العبودية لله والإخلاص والعبادة الحقّة فإنه يتوجب اجتياز وطي مراحل ومنازل عديدة:

المرحلة الأولى

ضبط النفس وتطويعها من خلال الارتفاع بالعبادة والعبودية بنية خالصة نقية كما يريدها الله عزّ وجلّ.

{وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}([16]).

{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً}([17]).

{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ}([18]).

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}([19]).

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}([20]).

وفي هذه المرحلة من العبودية تنفتح الشخصية الإنسانية على آفاق من المعرفة بحيث تكون الرغبات والميول النفسانية للإنسان طوع إرادته فتظهر بذلك أولى ملامح العبودية وهي الولاية على النفس الإمارة والسيطرة عليها.

المرحلة الثانية

وفيها تكون للإنسان ولاية على أفكاره المشتتة المبعثرة، وبعبارة أولى تكون له القدرة على التحكم والسيطرة بقوته التخيلية.

إن من أعجب العجائب في القوى الإنسانية قوّته التخيلية وبسبب هذه القوة ينتقل ذهن الإنسان في كل لحظة ويقفز من موضوع إلى موضوع آخر أو بما يمكن التعبير عنه بتداعي المعاني وتسلسل الخواطر.

هذه القوة ليست تحت طوعنا وإرادتنا، بل نحن أسرى هذه القوّة المدهشة، ولذا كلما حاولنا أن نركز على موضوع معين إذا بنا نقفز إلى موضوع آخر، وإذا نحن أسرى هذه القوّة التخيلية التي تحلّق بنا هنا وهناك، ولعلنا ندرك كيف نحاول أن نستحضر وقوفنا في الصلاة، فكلما حاولنا من أن نركز على ما نقوله أثناء الصلاة من كلمات ومعاني وأن يكون لنا حضور قلبي إذا بنا نعجز عن ذلك ونكلّ.

وهناك حديث لسيدنا ونبينا عليه أفضل الصلاة والسلام يقول فيه:

>مثل القلب مثل الريشة في الفلاة تعلقت في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن<([21]).

وتصور مشهد الريشة في مهب الريح وهي معلقة في أصل الشجرة كيف تقلبها الريح بهذه الجهة.

وقال النبي الكريم قلب ابن آدم

 

ريشة في فلاة في مهب الرياح

تعصف بها الريح مرّة صوب اليمين

 

وأخرى تتجه بها نحو الشمال

وفي حديث آخر قال النبي:

قلب ابن آدم كالمياه تفور في القدر الكبيرة

مرة تراه هنا وأخرى هناك

هناك في تقلب كالمياه وهي تفور

>قلب ابن آدم أشدّ انقلاباً من القدر إذا اجتمعت غليا<([22]).

فهل الإنسان خاضع لهذه القوة التخيلية وهل أن هذه القوة الغامضة التي تشبه عصفوراً يقفز من هذه الغصن إلى ذاك هي التي تتحكم بكياننا؟ أم أن سيطرتها علينا نابعة من ضعفنا وسذاجتنا بينما الذين بلغوا درجات الكمال وأهل الولاية قادرون على تسخير هذه القوة العتيدة وتطويقها؟.

لا ريب أن القسم الثاني من هذا التساؤل هو الصحيح ذلك أن من واجبات الإنسان أن يتحكم برغباته ويقهر قوّة الخيال لديه ويسيطر عليها وإلاّ فأن هذه القوة الشيطانية إذا ما تحكمت بالنفس الإنسانية،فانها ستذهب بها بعيداً عن طريق التكامل والصراط المستقيم وسوف تستغل جميع القوى النفسانية أبشع استغلال وتبدد كل هذه القوى بعيداً عن بناء الشخصية الإنسانية الرفيعة.

الروح العوبة بيد الخيال تقذفها هنا وهناك.

إن السالكين في طريق العبودية يبلغون في المرحلة الثانية مقام الولاية والربوبية على القوة التخيلية فتصبح في طوعهم، وأثر ذلك فإن الروح والضمير ينهجان بنحو التسامي وتجذبهم الفطرة نحو الله، وحينئذ تكون الطريق مفتوحة بعد التحكم بالقوة التخيلية وبعادها عن قطع الطريق إلى الله.

يقول الشاعر مولوي وهو يصوغ حديث النبي’:

>تنام عيناي ولا ينام قلبي<([23]).

وقال النبي’: >عيناي لا تنام

 

لا ينام القلب عن رب الأنام

عينك متيقظة وقلبك نائم

 

عيني نائمة وقلبي متيقظ قائم

جليسك لست أنا إنما ظلي

 

أبعد من الأفكار أنا

إن من الممكن كسب المعركة مع قوّة الخيال لأنه:

{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها}([24]).

وعلى الإنسان أن يتجه إلى الله على أساس قابلياته في العبادة، إن المرتاضين ينتهجون طرقاً أخرى وأقصى جهدهم هو الإنزواء بعيداً عن الحياة واتخاذ موقف سلبي تجاه نشاط الإنسان في الدنيا، يعني إهمال الحياة وتعذيب الذات عن طريق معاقبة الجسم من خلال التجويع والتشديد عليه والقيام بحركات هي في الحقيقة نوع من التعذيب الذاتي، ومع كل ذلك فإنهم يحققون تقدماً طفيفاً على الصعيد الروحي.

إلا أن الإسلام حدد مساراً عبادياً يحقق أقصى النتائج من دون اللجوء إلى ما يقوم به المرتاضون.

إن استحضار القلب والوقوف أمام الرب والاستغراق في هذا المشهد بشكل وجداني سوف يوفر الظروف المساعدة للتركيز الذهني والصفاء النفسي.

يقول ابن سينا: >العبادة عند العارف رياضة ما لهممه وقوى نفسه المتوهمة والمتخيلة ليجرّها بالتعويد عن جناب الغرور إلى جناب الحق فتصير مسالمة للسرّ الباطن حينما يتجلّى الحق لا تنازعه فيخلص إلى الشروق الباطن<([25]).

وابن سينا في هذا النص يعتبر القوى المتوهمة والخيال و قوى تجرّ الإنسان في طريق الغرور بعيداً عن الحق. والرياضة هنا هي تقوية الإرادة والهمّة لكبح جماح الخيال والوهم وتطويعها من خلال التعويد الذي هو تمارين مستمرة ورياضة روحية إلى حدّ استسلام قوّة الخيال وبالتالي حدوث حالة سلام داخل النفس بانتهاء حالة النزاع، وهنا يكون القلب مستعداً لتلقي الإشراق.

المرحلة الثالثة

وفي هذه المرحلة تصل الروح في قدرتها وقوّتها وولايتها مرحلة تكون مستغنية في كثير من الشؤون البدنية في وقت يكون فيه البدن محتاجاً للروح مئة بالمئة.

الروح والبدن محتاجان لبعضهما البعض، فحياة البدن بالروح والروح صورة وحافظة للبدن، وإن سلب العلاقة التدبيرية للروح بالبدن تستلزم خراب وفساد البدن.

ومن جهة أخرى فإن الروح تحتاج البدن لأداء العديد من النشاطات فالروح تستخدم البدن في نشاطها.

أي أن الروح لا يمكنها أن تقوم بنشاطها وفعالياتها من دون الأدوات البدنية.

واستغناء الروح عن البدن في بعض نشاطاتها قد يحصل أحياناً في لحظات، وقد يتكرر ذلك وربما يصبح دائمياً، وهذه الحالة يطلق عليها >خلع البدن<.

والسهروردي فيلسوف الإشراق، يقول: أنه لا يعترف بحكمة من لا يستطيع القيام بـ >خلع البدن<، أما ميرداماد فيذهب إلى أبعد من ذلك فيقول: أنه لا يعترف بحكمة من لا يصبح >خلع البدن< لديه ملكة، بحيث يمكنه القيام بذلك متى شاء.

ويرى بعض الباحثين أن خلع البدن لا يدل على مرتبة متقدمة من الكمال؛ لأن بعض من لم يعبر >عالم المثال<. ولم يضع قدميه في مرحلة الغيب المعقول، يمكنه أن يقوم بذلك ويبلغ مرحلة> خلع البدن<.

المرحلة الرابعة

وفيها يكون البدن تحت إمرة وقيادة وإرادة الإنسان، بحيث يمكنه القيام بأعمال خارقة للعادة في إطار بدنه.

يقول الإمام الصادق×: >ما ضعف بدن عما قويت عليه النية<([26]).

المرحلة الخامسة

وهذه المرحلة من أعلى المراحل وفيها تصبح الطبيعة تحت نفوذ الإنسان وتحت سيطرته وطوع إرادته، ومن هنا تأتي معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء؛ وذلك أن المعجزات هي تصرّف وتسخير للطبيعة وتنضوي تحت الولاية التكوينية.

فالعصا واستحالتها إلى أفعى وثعبان وتحويل الأعمى إلى بصير وبعث الحياة في الموتى ومعرفة ما رواء الأستار، إن كل ذلك يأتي من باب التصرّف والولاية التكوينية.

ويظن البعض أن وقوع معجزة ما على يد نبي أو كرامة على يد ولي ليس له علاقة بإرادة صاحب المعجزة أو الكرامة ولا دخل لشخصيتة في ذلك وأنه فقط واسطة أو مسرح لوقوع هذه الحادثة المدهشة، وأن الذات إلى الاحدية المقدسة هي وحدها فقط وبشكل مباشر وراء ذلك، لأن المعجزة إنما هي خرق للقانون الطبيعي وهو خارج عن قدرات الإنسان مهما بلغ من قدرته.

وهذا التصور خاطئ ذلك أن الله عز وجل جعل لكل شيء سبباً وهو سبحانه يأبى أن يحدث فعل بدون واسطة وخارج نظامه ولأن هذا التصور يصطدم مع نصوص القرآن الكريم.

إن القرآن الكريم يصرح بشكل واضح أن الأنبياء هم من كانوا يقومون بالمعجزات، ولكن بإذن الله سبحانه وأنهم صلوات الله عليهم يقومون بالمعجزات بترخيص من الله عز وجل.

ومن البديهي أن الأذن الإلهي والترخيص الربّاني ليس من سنخ الأذن الإنساني الذي نفهمه ونتصور وهو الطلب من إنسان ما الأذن بفعل شيء.

كما أنه ليس هناك منعاً أخلاقياً أو اجتماعياً، بحيث يطلب الإنسان ترخيصاً بما يقوم به مثلاً.

إن الإذن الإلهي هو نوع من الكمال يبلغه النبي وهو بإرادة الله:

{وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}([27]).

وفي هذه الآية الكريمة دلالة واضحة على أن المعجزة هي من النبي، ولكن بإذن الله وهو إذن تكويني فكل كائن في هذا العالم وفي أي درجة كان ومرحلة إنما هو منفذ لإرادة الله ومشيئته، وهو مظهر من مظاهره، وأن الأنبياء وفي كل ما يفعلون ومن ضمن ذلك قيامهم بالمعجزات إنما يستمدون ذلك من النبع الأزلي للغيب، وقد أشرنا إلى ما ورد في قصة النبي سليمان وعرش بلقيس ملكة سبأ:

{قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}([28]).

وفي الآية الكريمة تصريح إلى نسبة هذا العمل الخارق إلى الإنسان، أي ذلك الشخص فهو يقول أنا آتيك به واستناداً إلى علمه بجزء من الكتاب، فهناك علم لديه من اللوح المحفوظ وما حصل من علم خارق إنما جاء بموجب ما لديه من علم، وهكذا الأعمال الخارقة تأتي من خلال بلوغ الإنسان واطلاعه بنوع من العلوم لها علاقة واتصال باللوح المحفوظ ومقام القرب من الحق.

إذن فالقرآن الكريم يشير إلى تدرج الإنسان في حركة جوهرية وبلوغه مرحلة يمكنه أن يتصرف بالطبيعة وتكون له ولاية على الكائنات، وهذه كلها نتيجة للقرب الإلهي وكلما زادت درجة القرب من الله عز وجل زادت قدرته في التصرّف واشتدت ولايته.

عن الإمام الصادق× عن جدّه رسول الله’ عن الله عز وجل في حديث قدسي: >ما تقرّب إليّ عبد بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وأنه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته<([29]).

وعلى هذا فإن الطريق الوحيد لبلوغ المقامات الإنسانية والوصول إلى درجة الإنسان الكامل هو سلوك طريق العبودية؛ لأن جوهر وكنه العبودية وحقيقتها هي الربوبية والولاية.

وقد بلغ أهل البيت في عبادتهم وأخلاقهم وعبوديتهم لله تعالى مرحلة أصبحوا فيها الأكثر قرباً من الله عز وجل من سائر الكائنات من الجن والإنس والملائكة والكائنات صاحبة العقل الأخروي، ولهذا فقد أصبحت دائرة ولايتهم من السعة والإمتداد مستوى شملت الكائنات.



([1]) سورة النمل: الآية 40.

([2]) سورة الرعد: الآية 43.

([3]) شواهد التنزيل: 1/400، حديث 422، وفي المصادر الشيعية، الأمالي للصدوق: 564، المجلس الثالث والثمانون، حديث3، بحار الأنوار: 35/429 باب 24 حديث1، وسائل الشيعة: 27/188، باب 13، حديث 33564.

([4]) بصائر الدرجات: 216 باب 1 حديث 21، بحار الأنوار: 35/432 باب 24 حديث 12.

([5]) سورة النمل: الآية 40.

([6]) الكافي: 1/229 باب أنه لم يجمع القرآن كله، حديث 5، الخرائج والجرائح: 2/796 باب 16، بحار الأنوار: 26/17، باب 12، حديث 37.

([7]) الكافي: 1/193 باب أن الأئمة ولاة أمر الله، حديث 4، بصائر الدرجات: 23، حديث 3، بحار الأنوار: 36/249، باب 41 حديث 96.

([8]) معاني الأخبار: 35 باب معنى الصراط، حديث 5، بحار الأنوار: 24/12 باب 24 حديث 5، ينابيع المودة: 3/359.

([9]) تفسير القمي: 1/368، بحار الأنوار: 89/80 باب 8 حديث 7.

([10]) فرائد السمطين: 1/44.

([11]) الكافي: 1/221، باب أن الأئمة معدن العلم حديث1، بصائر الدرجات: 85، باب 1 حديث 9.

([12]) عوالي اللئالي: 1/404 حديث 63؛ بحار الأنوار: 69/278، باب 116، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/361.

([13]) نهج البلاغة: 815، حكمة 237، كشف الغمة: 2/150، وسائل الشيعة: 1/63 باب 9، حديث 136، بحار الأنوار: 41/14، باب 101، حديث 4.

([14]) سورة الأنعام: الآية 162.

([15]) مصباح الشريعة.

([16]) العنكبوت: الآية 269.

([17]) سورة الأنفال: الآية 29.

([18]) سورة العنكبوت: الآية 45.

([19]) سورة البقرة: الآية 153.

([20]) سورة البقرة: الآية 153.

([21]) نهج البلاغة: 1/103.

([22]) مسند أحمد: 7/24317.

([23]) مصباح الشريعة: 44 باب 20، بحار الأنوار: 64/252.

([24]) سورة البقرة: 286.

([25]) الإشارات: النمط التاسع.

([26]) الأمالي للصدوق: 293، مجلس 53، حديث6، من لا يحضره الفقيه: 4/400، حديث 5859، وسائل الشيعة: 1/53: 1/53، باب 6، حديث106.

([27]) سورة المؤمن: الآية 78.

([28]) سورة النمل: الآية 40.

([29]) الكافي: 2/352، باب من آذى المسلمين، حديث 7.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

عليٌ لا يحبّه منافق
سيرة الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)
خطيب جمعة بغداد: ما احوجنا اليوم لفهم مشروع ...
أربعينية الامام الحسين (ع) في كربلاء
وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)
أهل البيت^ الطريق إلى الله
مخالفة عائشة للرسول (ص) من كتب السنة
أحداث ليلة ضرب الرأس الشريف لأمير المؤمنين
أهذا هو العبّاس "عليه السلام"-3
الشعائر الحسينية... الجذور والمعطيات

 
user comment