علم الإنسان وعمله
ما أكثر الاختلاف بين البشر في رؤيتهم وسيرتهم في علمهم وعملهم، وكلما تنزّل الإنسان من علياء إنسانيته وشخصيته الإلهية، أزدادت الفاصلة بين عقله النظري وعقله العملي، وبعدت الهوّة، واختلّ التوازن من هنا نجد أحدهما قويّاً فيما الآخر نراه ضعيفاً، حضور أحدهما وغياب الآخر.
وكلما ترشدت حركة الإنسان واتجه نحو الكمال فإن جناحيه هذين يقتربان من بعضهما إلى أن يتحدا أولاً ويستحيل العلم والعمل كلاً متوحداً كما هو حال الملائكة والمجرّدات العالية، حيث العلم عين العمل والعمل عين العلم.
وهذا ما نجده متجلّياً في الحقيقة المحمدية، وقد بلغ التوحّد لديه نقطة الأوج.
علم الحق وعمله
إنّ علم الحق تعالى عين العمل والاثنان هما عين القدرة و ....
{وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الأَْرْضِ وَلا فِي السَّماءِ}([1]).
وإن الحق تعالى منزه عن الجهل والخطأ والنسيان:
{وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}([2]).
وهو منزه من كل قبح وسوء وهو سبحانه منزه عن الظلم:
قال عزّ وجلّ:{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}([3]).
إنّه سبحانه يبغض السيئات ويكرهها ورحابه لا يقبل بها:
{كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً}([4]).
والسبب في أن الذات الأحدية المقدسة منزهة من كل قبيح مبرأة من كل سوء ومنزهة عن كل خطأ ونسيان، وأمثال ذلك هو أن علمه سبحانه في القرار الرفيع، وهو عين العمل والقدرة، وقدرته وعمله هما أيضاً عين علمه بالرغم من وجود ألفاظ متعددة ومفاهيم مختلفة.
العصمة العلمية والعملية لأهل البيت^
ينبغي الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي أن ملكة العصمة العملية أو العلمية ليست محض: لأن الأنبياء والأئمة وهم شخوصات وهويات في طول الحق، هم معصومون في العلم ومعصومون في العمل أيضاً، ولهذا فإن علمهم وعملهم حجة على الجميع مهما كان شأنه إلى يوم القيامة وأساس حجيتهم هي كونهم معصومين ليكونوا مرجعاً ومعياراً لمعرفة الحقيقة وميزاناً لتمييز الحق والباطل.
أجل إنّهم وبعصمتهم العلمية والعملية يمكنهم أن يكونوا حججاً تامّة، وهم وحدهم الذين باستطاعتهم أن يبينوا الحق والحقيقة، كما هي يمكنهم دعوة الناس بأعمالهم وسيرتهم إلى الحق والى الطريق اللاهب المضيء .
وروي أن هشام بن الحكم قدم البصرة فأتى حلقة عمرو بن عبيد فجلس فيها وعمرو لا يعرفه فقال هشام لعمرو: أليس قد جعل الله لك عينين؟ قال: بلى
قال: ولم؟
قال: لأنظر بهما في ملكوت السماوات والأرض فاعتبر.
قال: وجعل لك فماً؟
قال: نعم.
قال: ولمَ؟
قال: لأذوق الطعوم وأجيب الداعي.
ثم عدد عليه الحواس كلها ثم قال: وجعل لك قلباً؟
قال: نعم.
قال: ولمَ؟
قال: لتؤدي إليه الحواس ما أدركته فيميّز بينها.
قال: فأنت لم يرض لك ربك تعالى أن خلق لك خمس حواس حتى جعل لها إماماً ترجع إليه، يرضى لهذا الخلق الذين حشى بهم العالم أن لا يجعل لهم إماماً يرجعون إليه؟
فقال عمرو: ارتفع حتى ننظر في مسألتك وعرفه. ولكنه لم ؟؟؟ جواباً.
العصمة أعلى درجات التقوى
العصمة في الحقيقة هي نورانية العقل النظري والعملي والإنسان المعصوم ينطوي على قدرات تمنع نفوذ الأوهام والخيالات إلى دائرة عقله المضيء، ولهذا فإن المغالطات لا يمكنها أن تحدث ارباكاً في مركز المحاسبات المنطقية في هذه المنطقة الحساسة، كما أن هذه القوى التي ينطوي عليها المعصوم تحول دون نفوذ قوى مثل الشهوة والغضب، وبالتالي احتلال العقل وجرّ الإنسان إلى ارتكاب الآثام والذنوب.
من هنا فإن المعصوم يسلك طريقه آمناً نحو آفاق التكامل والفضائل والأخلاق الرفيعة.
والعصمة العملية والسلوكية هي أعلى درجات التقوى ولها مراحل عديدة ونهايتها وغايتها أن يصبح السلوك والعمل في أعلى درجات الصواب والحكمة.
إنّ العصمة العملية والمعرفية هي التقوى العملية، أما التقوى في السلوك، فهي الفعل الاختياري للإنسان وجزء من قضايا العقل العملي.
عصمة أهل البيت^ في كل الشؤون
إن أئمتنا^ هم معصومون في كل الأمور وكل الشؤون فهم في علمهم، معصومون وكذا في تلقي الحقيقة وفي حفظ أعماق أنفسهم وفي إلقاء الحقيقة وتبليغها وإبلاغها، وهم مصونون عن كل أنواع الخطأ والسهو والغفلة والنسيان، يعني أن كل ما يرتبط وما له علاقة بهداية الناس، فإنهم يتلقونه عن الحق تعالى ويدركونه كما هو ويحفظونه كما هو ويؤدونه ويبلغونه إلى الناس كما هو.
وهذه الملكة العلمية والمعرفية لا يمكن أن تتم بدون الشهود، وهي لا تحصل إلا بالشهود. ذلك أن الإنسان قد ينسج من عالمه المترع بالخيالات والأوهام ثم يتصور أنها حقائق عقلية أو مكتشفات عقلية، ومن هنا تحصل حالة من اختلاط الحقيقة بالخيال والحق بالأباطيل والعلم بالجهالات وبالنهاية بنقاء الإنسان هو ومن اتبعه إلى الهاوية إلى أن يرتطموا بالدرك الأسفل من الجحيم: {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ}([5]).
قوة المعصوم وعجز الشيطان
إذا تمكن الإنسان من صون دائرة العقل ـ وهو مركز المحاسبات المنطقية ـ من نفوذ سهام الأوهام والخيال إذا استطاع ذلك فإنّه لابد وأن يصل إلى مقام يكون فيه بمأمن من الخطأ والنسيان وسيكون بمأمن أيضاً من هجمات غيلان الذنوب والآثام والمعاصي، وبالتالي سيعيش في دائرة من العصمة الدائمية، ذلك أن العقل الخالص يستعصي على نفوذ الشيطان وعلى اختراقات الأوهام والخيالات، سيكون إبليس عاجزاً بكل أحابيله وألاعيبه من النفوذ إلى هذه المنطقة الحساسة ومركز القيادة في سمار الإنسان.
إنّ تجرّد إبليس هو في مستوى الأوهام والخيال وهو أدنى درجة ومرتبة ومنزلة من العقل الخالص أو العقل المحض، والشيطان أعجز من أن يطال مقام العقل المحض.
إن نظام التجرد التام العقلي يستعصي على نفوذ الأوهام والخيالات التي هي بمثابة لصوص وقطاع طرق وسلاّبين.
حتى إبليس الذي يمثل تهديداً من خارج الإنسان هو الآخر لا يمكنه أن يلج هذا الوادي المقدس، إنه يمكنه فقط أن يقعد على قارعة الطريق والصراط المستقيم.
{لأََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}([6]).
وإبليس هذا بكل ما أوتي من قدرات شيطانية التي راح يتهدد بها في خداع الناس وإضلالهم سيكون أشدّ عجزاً في أن ينفذ إلى ساحة إنسان يمثل بنفسه الصراط المستقيم.
ذلك أن الصراط يمثل قدرة الله عزّ وجلّ المطلقة وهو في مأمن تام من كل أضرار الوسوسة والتآمر.
ومن الثابت لدى العاشقين والسالكين في درب الحبيب و لدى العارفين إن الصراط هو عين السالك، وإن السالك هو عين الصراط فالسالك والطريق هما شيء واحد.
إن الشيطان يكمن في بدء الطريق والصراط وليس في وسط الطريق ولا في المراحل العالية منه.
ومن هنا فإن الذين يقومون بالإرتياض وأداء الفرائض يكونون قد قطعوا شوطاً بعيداً، وبلغا مقام الإخلاص، فهم في مأمن من آفات الوسوسة.
{وَلأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}([7]).
أبعاد العصمة
من هنا فإن الذي بلغ مقام الإخلاص العلمي وبلغ مرتبة الشهود والقضايا المعرفية والعلمية فإنه سيكون في مأمن الخطأ والاشتباه، وهو لهذا لن يفهم الأشياء بالخطأ أو يتصور بشكل ناقص ولن يعتريه الشك؛ لأن المدرك هنا هو روح مجرّدة ومخلصة.
وهو يتلقى الحقائق من الحق والعلم المحض.
إن المعصوم لا يتلقى الحقيقة ناقصة أو مشوشة أو خطأ أبداً وهو لا يشك في الحق ولا يرتاب أبداً.
يقول أمير المؤمنين علي×: «ما شككت في الحق مذ رأيته»([8]).
وفي هذا ما يدلّ أن الإمام علي× قد بلغ من الناحية العلمية والمعرفية مرحلة الشهود التام في طريق الوصول إلى الله أي أنه وصل إلى إدراك أبعد الحقائق التي لا يمكن لغير المعصوم أن يبلغها أو يصل إليها، فكان عليه الصلاة والسلام المصداق العيني لـ (لا ريب فيه).
وفي مرحلة العصمة العملية يتوجب القول أيضاً في أن هذا المقام قد أُعد للذين بلغوا ساحة الإخلاص أي الذين هم في مأمن تام من نفوذ واحتلال قوى الشهوة والغضب، والحقد والحسد والغرور والرياء و... أن المعصوم قد حسم كل هذه الأمور، وقد ألقت بأزمتها إليه.
مقام الولاء والبراءة
الشهوة والغضب في نفس المعصوم المخلصة تتجلى في البدء بصورة رغبة ونفور وتخرج من حالتي الشهوة والغضب، بحيث أن ما يتبقى منها هما الرغبة والنفور، ومن بعد ذلك ومع الرياضة والعبادة والاجتهاد تستحيل إلى صورة الولاء والبراءة >التولّي والتبري< فالولاء والبراءة هما صورة متكاملة للشهوة والغضب والرغبة والنفور.
إن الإنسان المعصوم والكامل قد طوى مراحل الجذب والدفع، الشهوة والغضب، المحبة والعداوة، والرغبة والنفور ووصل إلى مقام التولّي والتبرّي الذي هو أسمى وأكمل واجلّ مرحلة، بعبارة أخرى أن التولّي والتبري مرحلة أسمى من مرحلة الرغبة والنفور، وهذه أسمى من مرحلة الحب والعداء، التي هي أسمى من مرحلة الشهوة والغضب والتي هي أصفى من مرحلة الجذب والدفع.
إنّ من بلغ مقام التولّي والتبري يشعر بأنّ الشيطان هو أشدّ الأعداء لشخصيته في الداخل والخارج، في الباطن والظاهر.
ولذا فإنّه يعلن حربه على الشيطان بدون هوادة وهو يستند إلى قوّة الحق الذي يتولاّه بقوة:
{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}([9]).
ومن هنا فإنّ الصالحين هم من سيرث الأرض بسبب عصمتهم في التفكير والسلوك، ذلك أن جوهر ذواتهم صالح فهم لا يفكرون بالسوء ولا يسلكون طريق السوء:
{أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ}([10]).
وإذن فإن الحق تبارك وتعالى شاء أن تكون الأرض ميراث الإنسان الصالح في فكره وعمله.
العصمة ليست أمراً انحصارياً
عندما يجد الإنسان السالك طريقه نحو مقام الإخلاص فإنه سيكون في مأمن ، وسيكون جزءً من الصالحين وهو في هذا المقام يكون تحت ولاية الله، ولن يكون للشيطان أو غيره القدرة على النفوذ إلى منطقته، سيكون في مأمن من الوساوس والدسائس الشيطانية والأحابيل، ولقد اعترف إبليس، بل وأقسم أنه سيفعل كل جهده لخداع الناس أجمعين إلا المخلصين فليس له القدرة على النفوذ إليهم وإضلالهم، إنه أعلن عجزه التام عن فعل مضاد لمن هم في مقام الإخلاص.
وعلى أية حال فإن المخلصين هم جزء من عباد الله الذين لن يكون للشيطان سلطان عليهم ولا يمكنه الوصول إليهم، وأن المصاديق التامّة والكاملة للمخلصين هم الأنبياء والأئمة الطاهرين، ولذا فإن العصمة ليست شأناً انهصارياً أو وقفاً على الأنبياء والأئمة، إذ يمكن لمن وصل مقام العبودية التامة و الخالصة أن يبلغ هذا المقام في العصمة في مرحلتي العلم والعمل وسيكون حينئذ بمأمن من كيد الشيطان الذي أقسم على إغواء الناس أجمعين.
{لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}([11]).
وعبادك تعني معنى عاماً والمخلصين هنا هم مصداق بارز للعباد، وليس المصداق الوحيد، وإذن يمكن لكل إنسان أن يسعى ويجدّ ويجتهد ويعبد ويستغرق في عبوديته لله عزّ وجلّ إلى أن يصل مقام العصمة، وكل ما يجد الإنسان ويحصل عليه في ساحة الوجود هو هبة إلهية.
{وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}([12]).
ولكن سلّم المواهب فيه درجات وكما أن بعض الأمور عللها معلومة فإن هناك أمور تخفى علينا عللها وأسبابها.
الله هو العلّة الحقيقية
الإنسان ليس مفوضاً في ما يملك بحيث لا يكون لله سبحانه دور في ذلك؛ فكل ممكن الوجود مرتبط بواجب الوجود، وعندما يكون وجود الممكن متوقفاً على واجب الوجود، فإنه لابد وأن كل كمال حي ممكن الوجود هو من واجب الوجود، وإن الفاعل الحقيقي في تعلّم العلم هو الله عزّ وجلّ: {عَلَّمَ الإِْنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}([13]).
وإذن فإن البحث والدراسة والكتاب والمعلم ليست عللاً حقيقية، بل هو علل ممهدة فقط! وإن العلّة الفاعلة الحقيقية هو الله عزّ وجلّ.
وهذه العلل إنّما تمهد فقط؛ مثل حراثة الأرض ونثر البذور والسقي، وإن الفاعل الحقيقي وراء نمو البذور وتحولها إلى شجيرات وأشجار وثمار هو الله سبحانه وتعالى.