رضا الله في رضا أهل البيت^
إنّ من يبلغ في مرحلة التوحيد والإخلاص مقام الولاية الإلهية، وأصبح ولياً لله عزّ وجلّ، فهو في الحقيقة سيكون مظهر >هو الولي< ويكون موحداً تاماً لله تبارك وتعالى في كل أموره وشؤون حياته، ويكون إقدامه وتنفيذ أوامره بمثابة توقير لله عزّ وجلّ واستجابة لأمره ونهيه.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ}([1]).
وحينئذ يكون الجميع أمامه مسؤولاً ومطيعاً، ذلك أنه سيكون هو الشفيع ويكون رضاه من رضا الله عزّ وجل.
إن الله تبارك وتعالى جعل من رضا النبي’ وأهل بيته أمراً هامّاً، ولقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:
{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها}([2]).
إن رضا النبي’ وآل البيت^ هو رضا الله عزّ وجلّ وهو المضمون الحقيقي لقول المعصوم «رضا الله رضانا أهل البيت»([3]).
ذلك أنهم في مقام الرضا وهم أهل التوحيد، يعني أنهم لا يرضون إلا برضا الله عز وجل، لا برضا أنفسهم أو رضا الآخرين، بل أن منتهى غايتهم هو الرضا الإلهي، ومن هنا فهم حالة التسليم التام لله تبارك وتعالى.
فيجب ـ والحال هكذا ـ على الآخرين الاقتداء بهم ومودّتهم؛ لأن في رضاهم يكمن رضا الله عز وجل.
وحقاً أن على من يسلك درب الحبيب فعليه أن يقتدي بأهل البيت^ في كل شؤون حياته، كل حسب سعته الوجودية وطاقته وقابلياته،
إن عليه أن يستفيض من ولايتهم ويتدرّج في مراتب الإنسانية العليا.
ولقد بيّن الله تبارك وتعالى في كتابه المحكم سيرتهم ومنهج الحياة لديهم، فهناك آيات فيها تصريح وآيات أخرى فيها تلميح تبين لنا خصائصهم الأخلاقية وسيرتهم العملية من أجل نهتدي بنورهم ونقتبس من ضوئهم.
فهناك إشارات إلى تفاصيل في حياتهم، من رصد لحركاتهم وسكناتهم وأفكارهم، وحتى نواياهم فعلى سبيل المثال: نجد قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}([4]).
وما جاء في سورة الإنسان على لسان حالهم: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ}([5]).
أهل البيت^ معدن الرحمة
الرحمة هي الحنان والتسامح والعفو والرقّة والرأفة والعطف.
وقد جاءت الرحمة في القرآن الكريم بمعان ومصاديق عديدة، ولذا يتوجب إدراك معنى الرحمة إدراكاً جيداً يمهد إلى أداء الواجب الشرعي.
إن الرحمة حقيقة إلهية وصفة ربّانية لأنّها من أوصاف الرب تبارك وتعالى متحدة مع ذات ذي الجلال، وهي تتجلى في صور عديدة في ساحة الوجود وأبعاد الحياة المختلفة، وبخاصّة في الإنسان.
إن عوالم الوجود المختلفة وكل عناصره وكل الكائنات ما ظهر منها وما بطن، وكل ذرّات الوجود إنما هي تجلّيات للرحمة الإلهية وسنا من أنوار الرحمة والحنان الرباني والرأفة الإلهية والإحسان.
الرحمة في القرآن الكريم
تطرق القرآن المجيد في العديد من آياته إلى الرحمة وآثارها وفيما أمثلة صور الرحمة ومفرداتها:
1ـ إن القرآن الكريم ينظر إلى الرسالة والنبوة التي هي الأساس في الرشد والتكامل والسبب في الخلاص من مشكلات الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة على أنها رحمة الله التي يختص بها من يشاء من عباده، فهناك من عباد الله عزّ وجلّ من بلغ به السموات أصبح جديراً أن تشرق عليه رحمة الله فيكون مأموراً بإبلاغ الوحي الإلهي إلى الناس وهدايتهم.
{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}([6]).
2ـ وربما جاءت الرحمة الإلهية على أنها تخفيف في الأحكام والواجبات والفرائض، ففي مسألة القصاص والديات، تطرق القرآن الكريم إلى ذكر تخفيف في هذا الخصوص رحمة من الله عزّ وجلّ.
{ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}([7]).
3ـ إنّ القرآن الشريف يعدّ سيادة الخلق الكريم والتعامل السمح مع الناس والرفق بهم رحمة من الله غمرت الناس.
{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}([8]).
4ـ إنّ القرآن المجيد ينظر إلى من يدفع عنه العذاب يوم القيامة على أنه فائز إذ تداركته رحمة من الله فنجا من سوء العذاب.
{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}([9]).
5ـ إنّ القرآن المجيد يصرح بإن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة فمن اقترف ذنباً عن جهل ثم تاب فإن الله عزّ وجلّ يتجاوز عن ذنبه ويقبل توبته؛ لأن الرحمة الإلهية تشمل العصاة من عباده إذا تابوا وأنابوا وعادوا إلى طريق الحق.
{وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([10]).
6ـ إن القرآن الكريم هو رحمة الله لعباده، وهذا ما صرّحت به آيات عديدة:
{فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ}([11]).
7 ـ إنّ القرآن الكريم يصرّح أنه لولا رحمة الله لكان الناس من الخاسرين، فالرحمة الإلهية هي التي تحفظ العباد من السقوط في هاوية الجحيم: {فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ}([12]).
8ـ إن القرآن الكريم هو الدليل والهادي لجميع الناس وإن الرحمة الإلهية تغمر كل من شرح صدره للحق وعمل صالحاً وأحسن في حياته حينئذ تشمله رحمة الله ويدخل الجنة وذلك هو الفوز يوم القيامة.
{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}([13]).
9ـ إن القرآن المجيد يعتبر رحمة الله عز وجل هي السبب في نجاة المظلومين من ظلم الظالمين والجبارين.
{فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا}([14]).
10ـ إن القرآن الحكيم ينظر إلى السعة الوجودية وانشراح الصدر وتوهج الباطن بالنور والإشراق الروحي التي هي تجلّيات الفيض الإلهي في الإنسان رحمة إلهية.
{فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}([15]).
11ـ إن القرآن المجيد ينظر إلى انبعاث الحياة في الأرض بعد أن تسودها مظاهر الموت في فصل الشتاء، فإذا بنسائم الربيع تحيي الأرض بعد موتها وتنبت الأعشاب، وتظهر النباتات وتتفتح الأزهار والورود وتورق الأشجار وتصبح الأرض مخضرّة معشوشبة.
إن كل هذه الظواهر إنما هي رحمة الله تتجلى وتنعكس على الأرض.
{فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ}([16]).
13ـ إن القرآن الكريم يصرّح بأن رحمة الله عز وجل تغمر كل ذرّة في الوجود، فما من كائن أي إلا وهو قائم برحمة الله وآثار رحمة الله هي أساس الوجود من مثقال الذرّة إلى نجوم المجرّة.
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ}([17]).
14ـ إن القرآن الكريم يعتبر اليأس من رحمة الله كفراً، وهو من خصائص الكافرين:
{ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ}([18]).
15ـ إن القرآن الكريم يعتبر الرحمة الإلهية هي خير من الدنيا وما فيها، إنها أسمى وأغلى من الثروة والمال والجاه والنفوذ، وإن رحمة الله لهي أعظم بكثير من كل ما يجمعه المرء في حياته من ثراء وغنى، إن رحمة الله’ أفضل من ذلك بكثير:
{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}([19]).
معدن الرحمة
إن الآيات الكريمة التي أشارت إلى الرحمة تؤكد بما لا يقبل الشك، إن أعظم ما في الوجود وأسمى ما فيه الكون هو رحمة الله عز وجل، وإن معدن الرحمة في هذا العالم والعالم الآخر، هم أهل البيت^، وهذا ما أشار إليه الإمام الهادي× في الزيارة الجامعة الكبيرة:
>معدن الرحمة<([20]).
وعلى هذا فإن من يريد الأمان في الدارين: الدنيا والآخرة ومن يريد النجاة يوم القيامة، ومن يريد الانتهال من معارف القرآن المجيد ومن يريد أن يكون من المحسنين ومن يريد أن يشرح الله صدره للحق فعليه أن يقتدي بأهل البيت وينهل من ثقافتهم ويعمل بإرشاداتهم ويهتدي بهداهم، ويكن لهم الحب والمودّة.
بعبارة واحدة أن يطيعهم؛ لأن من يطيعهم يشمله كل ما تحدثت به الآيات الكريمة عن رحمة الله عز وجل، فيحيا مطمئناً في الدنيا؛ لأنه يسير في طريق الحق والصراط المستقيم ويعيش سعيداً في الآخرة؛ لأنه سيكون من الفائزين يوم القيامة.
وما كانت وصايا النبي’ في كل مناسبة طوال ثلاثة وعشرين سنة في وجوب طاعة أهل البيت إلا من أجل أن يهتدي الذين آمنوا برسالته ويسيروا على هداه.
إن طريق أهل البيت هو طريق الإسلام الحق، كما جاء به النبي’ فهم الأمناء على الرسالة بعد غياب النبي’ وإن طاعة آل البيت^ هي طاعة للنبي’ التي هي طاعة لله عز وجل.
وهذا الصحابي الجليل زيد بن أرقم وهو في طليعة الرواة المعتمدين لدى كتب العامة يذكر هذه الرواية عن النبي’:
>قام رسول الله’ يوماً فينا خطيباً ـ بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: أما بعد ألا يا أيها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب وأنا تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، ثم قال وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي<([21]).
تجليات الرحمة
أهل البيت^ معدن الرحمة، وكل من عرف حقهم عن بصيرة وتمسك بهم واعترف بفضلهم واضمر لهم المودة والحب وسار على دربهم وعبر عن طاعته لهم واقتدى بسلوكهم، فإن ذلك سيكون سبباً في انفتاح الرحمة عليه في لحظات الاحتضار، وفي حياة البرزخ، وفي يوم القيامة.
يقول الإمام محمد الباقر’.
«إنما أحدكم حين يبلغ نَفَسُهُ ههنا ينزل عليه ملك الموت فيقول: إمّا ما كنت ترجو نقد أعطيته، وأما ما كنت تخافه فقد أمنت منه، ويفتح له باب إلى منزلة من الجنّة ويقال له: انظر إلى مسكنك في الجنّة وانظر هذا رسول الله وعلي والحسن والحسين رفقاؤك وهو قول الله: {وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآْخِرَةِ}([22])([23]).
وروى الحارث الهمداني قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب× فقال: ما جاء بك؟ فقلت: حبّي لك يا أمير المؤمنين، فقال: يا حارث أتحبني؟ قلت، نعم والله يا أمير المؤمنين؟
قال: أما لو بلغت نفسك الحلقوم رأيتني حيث تحب، ولو رأيتني وأنا أذود الرجال عن الحوض ذود غريبة الإبل لرأيتني، حيث تحب، ولو رأيتني وأنا مارّ على الصراط بلواء الحمد بين يدي رسول الله’ لرأيتني حيث تحب([24]).
وروي عن الإمام الباقر× قوله: «اتقوا الله واستعينوا على ما أنتم عليه بالورع والاجتهاد في طاعة الله، فإن أشدّ ما يكون أحدكم اغتباطاً بما هو عليه لوقد صار في حدّ الآخرة وانقطعت الدنيا عنه، فإذا كان في ذلك الحدّ عرف أنّه قد استقبل النعيم والكرامة عن الله والبشرى بالجنّة وأمن ممن كان يخاف وأيقن أن الذي كان عليه هو الحق، وأنّ من خالف دينه على باطل هالك»([25]).
وقال رسول الله’: «والذي نفسي بيد لا تفارق جسد صاحبها حتى تأكل من ثمار الجنّة أو من شجرة الزقوم، وحين ترى ملك الموت تراني وترى علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً^ فإن كان يحبنا قلت: يا ملك الموت أرفق به إنّه كان يحبّني ويحبّ أهل بيتي، وإن كان يبغضنا قلت: يا ملك الموت شدّد عليه أنه كان يبغضني ويبغض أهل بيتي»([26]).
وعن سدير الصيرفي في حديث هام جداً قال: قلت لأبي عبدالله× جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا والله أنه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك فيقول له ملك الموت: يا ولي الله! لا تجزع فوالذي بعث محمداً’ لأنا أبر بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر! قال: ويمثل له رسول الله’ وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذرّيتهم^ فيقال له: هذا رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة رفقاؤك، قال: فيفتح عينيه فينظر فينادى روحه مناد من قِبَل ربّ العزّة، فيقول: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} إلى محمد وأهل بيته (ارجعي) (إلى ربك راضية) بالولاية (مرضية) بالثواب (فادخلي في عبادي) يعني محمداً وأهل بيته( وأدخلي جنتي) فما من شيء أحب إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي<([27]).
واقعة مدهشة
وهذه واقعة مدهشة يرويها العالم المشهور والفيلسوف المعروف السيد حسين علي راشد وهو ممن يدقق في قضايا الكرامات والمكاشفات والواقعة كانت عند لحظات احتضار والده المرحوم الآخوند ملا عباس تربتي وهو من العلماء الأفذاذ في عصره كتب يقول عن والده، ومن جملة الأشياء التي رأيناها (أفراد الأسرة) منه وظلت غامضة هي أن والدي في يوم الأحد 24 مهر( الشهر السابع في السنة الإيرانية، وهو من أشهر الخريف) سنة 1322 هجرية شمسية الموافق لـ 17 شوال 1362 هـ . ق وكان قد مرّ على شروق الشمس حوالي ساعتين، وكان قد صلّى الصبح راقداً وهو في حالة احتضار، وقد مدّ رجليه باتجاه القبلة وكان حتى آخر لحظة واعياً ويتمتم بكلمات، حيث أنتبه إلى حالة لفظ أنفاسه الأخيرة، وكان يردد هذه الجملة >لا إله إلا الله< .
وفي يوم الأحد الماضي وبعد صلاة الصبح تمدد باتجاه القبلة وسحب عباءته وغطى وجهه، فجأة غمره نور كما لو أن نور الشمس يغمره، من كوّة أو نور الكشّاف، وقد غمره من أخمص قدميه إلى هامة رأسه، وأصبح لون وجهه وكأنه قد أصفرّ بسبب المرض ـ شفافاً مورداً حتى أنه ليرى من وراء عباءته الرقيقة فتحرك وقال: سلام عليكم يا رسول الله أجئت لزيارتي أنا العبد الذي لا قدر له؟ ثم راح يسلم على أناس جاءوا للسلام عليه فحيّا أمير المؤمنين علي× ثم الأئمة من بعده واحداً، وأظهر لهم الشكر ثم سلّم على السيدة الزهراء ثم سلّم على السيدة زينب ثم بكى وقال: يا سيدتي طالما بكيت لمصائبك ثم سلّم على أمه، وقال: شكراً لك يا أمي وقد أرضعتني حليباً طاهراً، واستمر ذلك حتى مضت ساعتان على طلوع الشمس، ثم رحل النور الذي غمر جسمه وعاد كما كان قبل ذلك، وعادت إلى وجهه صفرة المرض، حتى إذا حل يوم الأحد التالي سلّم الروح في نفس تلك الفترة من الصباح يعني بعد ساعتين من طلوع الشمس.
وكنت قد سألته في أحد الأيام التي سبقت وفاته وبعد تلك الحادثة العجيبة، وقلت له: أننا نسمع في الروايات أشياء عن حالات الأنبياء والأولياء ونتمنى أننا كنا نشهد ونرى ونفهم ما جرى؛ الآن وأنت أقرب الناس إليّ رأيت حالة من ذلك وأحب أن أفهم ما جرى فيها لك؟
فسكت ولم يقل شيئاً وكررت عليه ذلك مرّة وأخرى وثالثة فسكت، فلما كررت عليه رابعة أو خامسة، قال: لا تؤذيني يا حسين! قلت، إنما أردت أن أدرك ما جرى قال: لا أستطيع أن أفهمك، أذهب وأفهم بنفسك، وظل ما جرى غامضاً عليّ وعلى أمي وأخي وأختي وعمتي، وحتى كتابة هذه السطور في الساعة 9.30 من صباح الثلاثاء 24 تير (الشهر الرابع في السنة الإيرانية وأول شهر في فصل الصيف) سنة 1354هـ. ش الموافق لشهر رجب سنة 1395هـ.ق وأنا لا أستطيع إلا أن أذكر ما حصل فقط([28]).
لماذا أصبحت شيعياً؟
وهذا العلامة الكبير المجاهد الشيخ محمد مرعي الأمين الأنطاكي في كتابه: >لماذا اخترت مذهب الشيعة مذهب أهل البيت^<.
يعزو سبب انتخابه مذهب أهل البيت إلى آيات الولاية والتطهير والمباهلة والمودّة والصلاة والتبليغ والى ما جرى في يوم غدير خم والتهنئة بخلافة الإمام أمير المؤمنين وإلى حديث الدار والثقلين، وحديث المنزلة، وحديث السفينة وحديث مدينة العلم والروايات الواردة عن النبي’ في استخلاف الإمام علي والأئمة من ولده([29]).
ويختتم كتابه الجليل بهذه الأبيات ا لمؤثرة:
لماذا اخترت مذهب آل طه |
|
وحاربت الأقارب في ولاها |
وعفت ديار آبائي وأهلي |
|
وعبثاً كان ممتلئاً رفاها |
لأني قد رأيت الحق نصاً |
|
ورب البيت لم يألف سواها |
بالاستمساك بالثقلين حازت |
|
بأولاها وأخراها نجاها |
وصارت أعظم المخلوق قدراً |
|
وأورثها الولا عزّا وجاها |
ولا أصغي لعذر بعد علمي |
|
بأن الله للحق أصطفاها |
ولا أهتم في الدنيا لأمر |
|
إذا ما النفس وأفاها هداها |
فمذهبي التشيع وهو فخر |
|
لمن رام الحقيقة وامتطاها |
وفرعي من علي وهو در |
|
صفا والدهر فيه قد تباها |
وهل ينجو بيوم الحشر فرد |
|
مشى في غير مذهب آل طه([30]) |
أجل أنه ما من شك في أهل البيت^ هم معدن الرحمة والبركة، وأنه لا أمل في النجاة وتحقيق رضا الله تبارك وتعالى إلا بالتمسك بهم، وإعلان الدعاء لهم والسير على خطاهم وسلوك طريقهم.
إن محبي أهل البيت^ وعشاق العترة الطاهرة لا يرون أحداً جديراً بالطاعة، غيرهم لا يعرفون قدوة سواهم، وهم يدركون جيداً أن الاعتقاد بإمامتهم والأخذ بأحكامهم وانتهاج سيرتهم يحقق لهم السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة.
ببركة ويمن أهل البيت^ تستمسك السماء فلا تقع على الأرض وببركة أهل البيت^ تستقر الأرض ويشعر الناس فيها الأمان، وبوجود أهل البيت^ وكرامة لهم تستمسك السموات والأرض أنت تزولا وهذه الحقيقة لا يدركها إلا أهل الإيمان من الذين أضاء نور الحق أعماقهم وملأت الأنوار أفئدتهم من الصالحين المتقين.
ومن هنا يقول الإمام الباقر×:
«إن رسول الله باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وسبيله الذين من سلكه وصل إلى الله عز وجل، وكذلك كان أمير المؤمنين× من بعده وجرى للأئمة واحداً بعد واحد جعلهم الله عزّ وجلّ أركان الأرض أن تميد بأهلها»([31]).
وقال الإمام علي بن الحسين السجاد×:
«نحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بأذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها وبنا ينزل الغيث وبنا ينشر الرحمة ويُخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها»([32]).
وعن النبي الأكرم’ قال: «النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي، فإذا ذهب النجوم ذهب أهل السماء، وإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»([33]).
وقال أمير المؤمنين علي×:«نحن بيت النبوّة ومعدن الحكمة، وأمان الأهل الأرض ونجاة لمن طلب»([34]).
إن السماء قائمة بيمن أهل البيت^ والأرض مستقرة ببركة وجودهم، فهم عماد الأرض والسماء، والأحاديث التي تشير إلى هذه الحقيقة لا يقتصر وجودها في مصادر الإمامية فقط؛ ففي مصادر أهل السنة أحاديث عديدة تشير إلى هذا المعنى ويمكن لمن يريد التحقق من ذلك أن العديد من المصادر من قبيل: ذخائر العقبى: 170.
وينابيع المودّة: 19 ومستدرك الصحيحين: 3/149.
والصواعق المحرقة: 140 وكنز العمال: 6/116 و7/217.
ومجمع الزوائد: 9/174 وغيرها.
أهل البيت^ أئمة الإنسانية
من خصائص كوكب الأرض وربما بعض الكواكب الأخرى هي وفرة المعادن فيها من قبيل الذهب والفضة والعقيق والفيروز والماس والحديد. أن جميع البشر يعتبرونها عناصر ذات أهمية بالغة جدا ولهذا فهي غالية ومفيدة ولها دور أساسي في اقتصاد الناس وحياتهم كما أن وجود مناجم لها في هذه البقعة من الأرض وتلك الدولة يؤثر بشكل كبير على اقتصاديات الدول ومركزها وأهميتها العالمية.
من هنا أصبح البحث عن المناجم والخبرة في العثور عليها وطريقة استخراج المواد الخام وتنقية فلزاتها وتسويق المواد المستخرجة كل هذا وغيره أصبح ذا أهمية في حياة الناس وكان البشر منذ القدم يقومون بهذا النشاط ويبذل الإنسان جهودا مضنية ويتحمل المشاق في سبيل ذلك.
ومن المعادن التي حازت أهمية بالغة في حياة الإنسان ومستقبلة هو الذهب ولهذا نرى الإنسان ومنذ عصور قديمة يبحث عن مناجم الذهب وكان الكثيرون يتحملون المشاق من اجل استكشاف المناطق التي يوجد فيها مناجم للذهب من أجل استخراجه والذهب وغيره لا يوجد نقيا في الطبيعة إنما هو على شكل خامات مليئة بالشوائب ولهذا فانه يستخرج من مناجم الذهب مواد خام تتعرض إلى عمليات للتنقية قبل أن يتحول إلى سبائك نقية.
ومن هذه السبائك ويقوم الفنانون والحرفيون والصاغة في العمل على هذه السبائك وصناعة الخواتم والقلائد أو وضعه في البنوك كسيولة لدعم العملة وتسيير اقتصاد البلد إضافة إلى صناعة الحلي وتلبية غريزة الإنسان في الجمال .
وبهذا المناسبة نشير إلى إن السماوات والأرض هي بمثابة منجم وان الخبير إلاوحد فيه هو الله عز وجل.
ومن هذا المنجم قام الله سبحانه باستخراج عنصرا ذهبيا هو الإنسان فخلقة وجعله خليفة له في كوكب الأرض يقوم باستثمار طاقاته وما أودعه لله فيه من قابليات من اجل تحقيق خلافته في إعمار الأرض وفي بناء حياة كريمة في الدنيا وتأمين السعادة الأبدية في الآخرة.
وكان من واجب الإنسان في الأرض أن يفجر طاقاته وما أودعه الله فيه من قوى في طريق الإيمان فتتجلى في وجوده صفات الله الذي استخلفه في الأرض وأمره بإعمارها.
وهذه المهام لا تتحقق إلا بوضع سبيكة الإنسانية والطاقات الآدمية تحت تصرف قادة ومعلمين ربانيين اصطفاهم الله لهداية الناس وتوجيههم إلى معرفة الحقائق لصياغة كائن الهي مما أودعه الله في النفوس الآدمية من قابليات وطاقات خام وقدرة على السمو.
إن الله سبحانه شاء برحمة منه أن يختار لبناء الإنسانية خبراء ربانيين يهدون الناس إلى بناء صروح الخير والجمال وهم أهل البيت^.
ما الذي حصل فيسلم الإنسان خامات ذهب إلى صاغة غير مؤتمنين يلوثون نفوسهم وأرواحهم.
وما أسوأ أن يسلم المرء نفسه بأيدي اللصوص وقطاع الطريق طريق الإنسانية، نعم ما أسوأ أن يسلم المرء نفسه بأيدي المغيرين الذين لا ينفكون يغيرون على القيم النبيلة، وحينئذ فإن هؤلاء سوف يحيلون الإنسان إلى غول أو في أحسن الأحوال إلى حيوان وما هو أسوأ وأحط من الحيوان.
تعالوا أيها الناس إلى أن نطرد الفراعنة والطغاة من أمثال نمرود وقارون وأبي لهب وأبي جهل والأمويين والعباسيين، وعملاء الشرق والغرب المعاصرين، تعالوا نطردهم من وجودنا وحياتنا، تعالوا نسلم أنفسنا بأيدي الأنبياء والأئمة الأطهار من أجل أن يصوغوا من سبائك وجودنا أناساً طيبين من أمثال سلمان وأبي ذر وبرير وزهير وميثم ورشيد الهجري وحجر بن عدي و ....
أسلم قلبك لعشق الواحد |
|
واترك القطرة تأخذ طريقها إلى البحر |
والى أن لا يبقى من العاشقين أثر |
|
سلّم تربة مجنون إلى ماء ليلى |
وأوقف روح فرهاد على شير بن |
|
واجعل من قلب وامق مهراً لعذراء |
وخذ بايدي الزاهدين إلى الحور والقصور |
|
واجعل العشاق يلتقون |
فؤادي من فراقك ما عاد يخفق |
|
فيا روحي افتح على فؤادي لحظة |
حتى يحترق وهج وجهك |
|
هبه فيضاً اللرؤية والنظر |
أيها الزاهد أسلم قلبك لقصة العشق |
|
والحديد العتيق للحلوى |
فإلى متى تصنع من كل هوى صنما |
|
أسلم فؤادك لله الواحد الأحد |
أهل البيت قدوة السالكين
أشرنا فيما مضى إلى أن السالك في درب الحبيب يجب عليه أن يجعل من أهل البيت^ القدوة له والمثال في كل شؤون حياته.
إن الله وهو أرحم الراحمين قد بيّن طريق الوصول إلى كسب الفضائل، ثم أمر عباده أن يسلكوا طريق الكمال مقتدين بالأئمة المعصومين، فمن أراد بلوغ الكمال فعليه أن يحذو حذوهم وأن يسلك طريقهم، وهذا لا يعني أنه يمكن لمن يسلك الطريق طريق أهل البيت أن يبلغ ما بلغوه من درجات الكمال، فلقد بلغ أهل بيت النبي’ مرتبة لم يبلغها حتى عبدالله جبريل مع منزلته الرفيعة، إذ قال للنبي’ في قصّة المعراج:
«لو دنوت أنملة لاحترقت»([35]).
أسوة الإنسانية
إن الله عز وجل، اصطفى أهل البيت^ وجعلهم للإنسانية جمعاء قدوة وأسوة، حتى يمكن لمن أراد التكامل أن يقتدي بهم كل حسب سعته وطاقته قال سبحانه وتعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها}([36]).
وقد قيل في تأويل هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل أنزل من العالم العلوي ماء الحياة والعلم والمعرفة فتتلقى النفوس من ذلك كل حسب قدرها، فإن كان الوادي فسيحاً بعيد الغور، وكانت له سعة كبيرة فإنّه حظة من المعرفة والعلم والكمال، كان كبيراً وكان بإمكانه أن يتدرج في مدارج الكمال حتى يصل مقام المحسنين، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}([37]).
فإن ذلك لا يعني نفس الرسول فقط؛ لأن موضوع الأسوة ينتقل إلى أوصيائه وخلفائه بالحق، وهم الأئمة الأطهار من أهل بيته^، فمقام الأسوة ليس مقاماً شخصياً مرتبطاً بشخص النبي’ وإنما هو مقام حقوقي ينتقل إلى أهل بيته وأوصيائه، وعلى السالك في طريق الولاية أن يعرف أن الأنس بملائكة الغيب وسماع تسبيحهم لا يحصل إلا بالتأسي بالنبي’ وبآله الأطهار والاقتداء بهم، ذلك أنّهم قد طووا هذا الطريق ولا يمكن لغيرهم طيّه إلا بالاقتداء بهم والسير على خطاهم، قال رسول الله’:
«الروح والراحة والرحمة والنصرة واليسر واليسار والرضا والرضوان، والمخرج والفلج والقرب والمحبّة من الله ومن رسوله لمن أحب علياً وائتم بالأوصياء من بعده»([38]).
وعن الإمام علي بن موسى الرضا× قال:
«من سرّه أن ينظر إلى الله بغير حجاب وينظر الله إليه بغير حجاب فليتولّ آل محمد’ وليتبرأ من عدوهم وليأتم بإمام المؤمنين منهم، فإنه إذا كان يوم القيامة نظر الله إليه بغير حجاب ونظر إلى الله بغير حجاب»([39]).
إن أهل البيت^ قد طووا جميع المراحل وبلغوا جميع المقامات واجتازوا جميع دروب العبودية وكل طرق الفضيلة، بكل إخلاص فأصبحوا أسوة وقدوة للجميع.
إنهم قد بلغوا المرحلة التي فيها القرآن كثير فهم مشرفين على هذه الكثرة وفي المرحلة التي فيها بسيط فهم شهود على هذه البساطة ذلك أن حقيقتهم هي ذاتها حقيقة القرآن وبد ونهم لا يمكن إدراك القرآن، ويكون بلوغ مقام القرب أمراً مستحيلاً.
([21]) صحيح مسلم: 4/1492، باب4، ح2408 (مع اختلاف ضئيل) سنن الدارمي: 2/889، مسند أحمد بن حنبل: 7/75، السنن الكبرى: 10/194، وكذا في العمدة: 118، الطرائف: 1/114، الحديث: 174، بحار الأنوار: 30/588 باب3.
([27]) الكافي: 3/127، باب: أن المؤمن لا يكره على قبض روحه: ح2، فضائل الشيعة: 30 ح24، تأويل الآيات الظاهر:770، بحار الأنوار: 6/196، باب7 ح49.