عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

>وَطَهَّرَ أَفْئِدَتَهُمْ لِفِكْرِهِ<

 

>وَطَهَّرَ أَفْئِدَتَهُمْ لِفِكْرِهِ<

 

طهارة القلب:

القلب، أو بعبارة أخرى (الفؤاد)، هو عضو من اعضاء الجسم المهمة والحساسة جداً،  وصلاح القلب وطهارته، هو سببٌ لصلاح وطهارة جميع البدن،  وفساده،  يكون سبباً لفساد جميع اعضاء وجوارح الجسد.

فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنّه قال:

>فِي الإِنْسانِ مُضْغَةٌ إِذا هِيَ سَلُمَتْ وَصَحَّتْ سَلُمَ بِها سائِرُ الْجَسَدِ، فَإِذا سَقُمَتْ سَقُمَ بِها سائِرُ الْجَسَد وَفَسَدَ وَهِيَ القَلْب<([1]).

 وفي رواية أخرى:

>إِذا طابَ قَلْبُ الْمَرءِ طابَ جَسَدُهُ ، وَإِذا خَبَثَ الْقَلْبِ خَبَثَ الْجَسَدْ<([2]).

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في توضيح هذه الآية الشريفة Pإِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍO([3]) ، هو قلب حُرّر من اسارة الدنيا، وطُهّر من الحب الشديد للمادّيات التي هي سببٌ لجميع الذنوب والمعاصي.

إنّ عظمة وقابلية القلب كبيرة جداً، لدرجة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

>إِنَّ الْقَلْبَ خَزانَةُ اللّه تَعالى<([4]).

 

 القلب الميت:

إنّ الإسلام العزيز؛ ومعارفه الملكوتية، وضع لنا علل وأسباب حياة وموت القلب؛ بشكل مفصل،  والذي سيأتي شرحه في المجلد الثاني من هذا الكتاب.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):

>مَنْ قَلَّ وَرَعُهُ ماتَ قَلْبُه وَمَنْ ماتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النّار<([5]).

يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

>ثَلاثَةٌ مُجالِسَتُهُمْ تُمِيتُ القَلبَ: مُجالَسَةُ الأَنْذالِ وَالحَديثُ مَعَ النّساءِ وَمُجالَسَةُ الأغنِياءِ<([6]).

عندما يتحول قلب الإنسان إلى مرتع للشيطان، ويكون كل همّته وفكره؛ هي الماديات ومتعلقاتها، عندئذ يصبح الإنسان منبعاً للذنب والفساد، ويتّصل بهوى النفس وهوسها؛ ويقع في كل لذةٍ ممنوعة ومحرّمة.

لكنّه، عندما يطيع قلبه الحق سبحانه وتعالى، ويصبح حرم لتجلي نور الله فيه، فإنهّ تزيّن بالصلاح عند ذاك،  ويسيّر جميع وجوده وكيانه معه، للوصول إلى الله سبحانه وتعالى.

كل انسان ـ كما صرّحت الآيات القرآنية ـ هو مسؤول عن القلب، ويجب عليه ان يحافظ على هذا البيت والحرم لله؛ لكي لا يصبح مركزاً للأصنام، كي لا تجرّه لعبادة الاوثان.

إنّ أفضل عامل لعمران القلب وحياته، هو التفكر في النّفس، والعالم والمبدأ والمعاد، وخصوصاً التدبّر في آيات القرآن الكريم، والمعارف الإلهية السامية.

إذا سار القلب وسلك هذا السبيل، فإنه يتخلص من كل شرّ، ويتحلى ويتزيّن بكل خير، ويكون في عصمة وعافية الحق وماضياً في طريقه.

التخلص من اسارة الشيطان، التحرر من الذنوب الظاهرة والباطنة، التفكر في الحقائق، يزيّن القلب بالطهارة، ويهيئ أرضية توجّه وانتباه الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى وصفاته واسمائه، وهذا كل لا يحصل ولا يأتي إلا بتوفيق الحق، وهو مشروطٌ بتهئية الإنسان ذلك؛ عن طريق سبل المعرفة والجهاد.

 

ياأيها الذي يستحيل للروح التحمل بدونه، يا أيها الذي في القلب والروح أين انت؟

اذا جئتنا في منتصف الليل، والنساء والمتكلمين في حالة سكر.

نفديك بأرواحنا وترخص الروح لك، لكن لم نعرف هل انت الروح ام روحنا؟

وسقط النار في أعلى سطح الفلك، ريثما تخرج في أعلى سطح بيتك.

ولا جمال وجهك لا يقارن بالشمس، حتى تدّعي النور والضياء.

انت نور مشكاة لنا، تدفع البلاء وانت بلاء ايضاً.

في نظر القانطين انت الأمل، يا عين القلب ماذا تظهر.

ويا أيها البلبل الرنان من صياحك، يأتي ريح المعرفة.

يأنّ بأن الدواء قد أتى، لألم جرح الفراق.

حتى ينكشف من أنينك، شيءٌ من حقيقة الله([7]).


 

>وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ بِنُورِهِ<

 

حقيقة شرح الصدر:

هذه الجملة تشير إلى الآية (22) من سورة الزمر المباركة:

Pأَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِْسْلامِ فَهوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ...O([8]).

وكذلك المعنى مأخوذ من الآية Pقالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِيO([9]).

ومنبع هذه الآية؛ هي من هذه الآية Pأَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَO([10]).

معنى كلمة (شرح) لغة: الفتح والافساح، وايضاح الشيء بصورة شفافة.

ومعنى كلمة (صدر): مجازاً يعني القلب لأن مكانه في الصدر، لذا فإن (شرح الصدر) تعني فتح الصدر واخراج الهموم والغموم من الإنسان، أو إفساح المزاج والقدرة على التحمّل([11]).

الملا عبد الرزاق لاهيجي؛ بالنظر إلى الآية (22) من سورة الزمر؛ يقول:

معنى هذه الجملة هو: و وضع نور معرفته في قلوبهم وعلى إثر هذا النور، انقادوا للإسلام وسلّموا له، وليس هذا التوفيق لقبول الإسلام؛ إلا من اثر ذلك النور الذي قذفه في قلوبهم.

وكذلك تشير إلى الحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يشير إلى هذا، ومضمونه هو :

>متى ما دخل نور الله سبحانه وتعالى إلى قلب المؤمن، فإن قلبه ينشرح من الضيق والظلام، ويتنور ويكبر، ودليل ذلك، انه إفراغ نفسه من منزل الغرور، والرجوع لدار الخلود و الإستعداد ليوم الورود<.

وإنما ذكر شرح الصدر بعد طهارة القلب، لإشارته إلى تقديم الطهارة على التزكية، وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدل على انه ما لم يطهر القلب من ظلمات الذنوب، ويصفو من الشوائب وكدورات الدنيا، لا يستطيع ان يتحلى بجواهر المعرفة. مثلما هو حال الطبيب؛ إذ يعالج مريضه أولاً في التخلص من المواد الفاسدة؛ ثم بعد ذلك يجوّز له الاغذية المناسبة والأشربة النافعة. وكذلك لا يمكن ان للقماش الأبيض أن يكون لامعاً، مالم ننظفه أولاً من الاوساخ.

يقع الصدر أعلى البطن، وهو القفص الصدري الذي يحافظ على أجهزة القلب والرئة، والاوعية الدموية والتنفس؛ الذي يكون مصنوعاً من العظام والعضلات ومن غشاء مخاطي مطاطي. دائماً هو في حالة انقباض وانبساط، ولأن كل تأثر فكري وروحي، يؤثر على حركة القلب والدورة الدموية؛ وعلى طريقة التنفس، لذا تنسب هذه الآثار المعنوية إلى هذه الاجهزة العضوية.

القلب أو الصدر المنشرح، واضح، حزين، مظلم، مريض، منحرف...

انقباض القلب أو الصدر، أو بتعبير عامة الناس؛ قلة الصبر واليأس؛ فقلّة الصبر نابع من عدم تحقق الأحلام والشهوات؛ واليأس من الوصول إلى المراد ناشئ من التلوّث بالذنوب، وكل هذه الأمور هي بسبب الجهل بحقائق الأمور والحوادث وسنن الحياة؛ والتي لا يمكن معرفة هذه الاشياء إلا عن طريق الوحي والإلهام من الله سبحانه وتعالى؛ فلهذا إن أكثر الناس يلجأ إلى وسائل تخدير الشعور، ليتخلصوا من المصير المبهم والهموم والمشاكل.

 بصورة إجمالية، فإن ضيق الصدر والحزن؛ يكون سبباً في تزلزل الإنسان في اتخاذ قراراته؛ وهو نوع من الانفعال والتأثر النفسي، ومن آثار انجذاب الأفكار المختلفة. وعندما يتخلص الإنسان من الجاذبية المخالفة وتأثيراتها؛ ويتخذ قراراً، بالمضي في مسير واحد؛ عنذ ذلك فإنّه يتحرر من ضيق الانفعال والاضطراب، وينشرح صدره، ويُسهّل أمره.

ربما يكون معنى شرح الصدر في الإسلام والكفر في القرآن بهذا المعنى:

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِْسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} ([12]).

وعلى أية حال؛ فأيٌ يكون المعنى الحقيقي لشرح الصدر، فإن اثره هو الخروج من حالة الشك والترديد، والتصميم بالعمل وتحمّل الصعاب؛ والاطمئنان النفسي. كما يُفهم من محتوى ومضمون الآيات التي تخصّ النبي موسى (عليه السلام) والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وممّا وصلنا من سيرة الأنبياء؛ يتضح ان تقدم دعوة الأنبياء (عليهم السلام) بعد نزول الوحي والقيام بأعباء الرسالة؛ هو شرح الصدر التي كانت تحصل عندما يقومون بتبليغ الرسالة أو المواجهة مع الأعداء والصعاب.([13])

 

يستغرق ان تصبح مسلماً الف عام، والف عام أخرى لأن تصبح إنساناً.

إذا حرّكت سلسلة العشق، وتدور الخرزة داخل قاعدة الفلك.

فأنت عظيم وذو أصل ونسب، وما الفائدة منها وانت لا تعرف قدرك.

أنت لم تذهب إلى ذلك الوادي الطويل آسا، عندما تسير فيه فإنك تتيه.

تعال واستمع إل جوهر أصلك في هذا العدم، ولا هم أكبر من الجهل.

مثل عيسى في هذا الدير، وموسى في ذلك الطور، لا يوجد رداء، ناقوس، مزمار، كالرهبان.

ولا تصبح مثل صعوه وتتواجه في قعر البئر، فاللعب مع النسر والعنقاء من أعمال سليمان.

إذا الكأس والساقي اتحدوا وطلبوا منك الشراب، تصبح مثل الخضر تقر سرّ المعاني.

لم يشاهد حقيقة وجهه في المرآة، ولم يعلم أن المعاني الحقيقية فيه.

انظر بتمعن في داخل هذا المحيط، وشاهد المعاني الواضحة في الصدف.


 

>وَأَنْطَقَهُمْ بَيانَهُ<([14])

 

ان ذات المقدسة للحق، هي التي ارشدت العرفاء إلى وادي الثناء والحمد والشكر، وأفصح لسانهم بنعمة البيان والنطق.

ووفقهم لكي ينشرو الحقائق التي هي سبب طهارة الروح وشرح الصدر،  وألهمهم الجهاد في سبيل المعرفة، وهداهم لتعريف الله سبحانه وتعالى واحواله والمعاد والنبوة والإمامة والأخلاق بين الجهلاء من الناس، وارشاد اولئك العطاشى إلى منبع الحقائق.

 

>وَشَغَلَهُمْ بِخِدْمَتِهِ<

 

ان من لطف وعناية الله سبحانه وتعالى؛ ان جعل العرفاء يسلكون طريق الإيمان والاعتقاد؛ واختارهم لخدمته، ووفقهم لها، ومن بركته ان اصطفاهم؛ و وفّقهم للقيام بأعمال مهمة، عشقاً للساحة القدسية؛ ومحبةً لعباده.


 

>وَوَفَّقَهُمْ لِعِبادَتِهِ<

 

توفيق العبادة:

العبادة هي حقيقة مركبة من سلسلة من الوقائع والحقائق ولا تسع هذه المقدمة لتوضيح وتفسير العبادة؛ وان شاء الله ، حينما نصل إلى الفصول التي تحتوي على هذه المسألة، سنقوم بالشرح والبيان.

فالعرفاء لم يغترّوا بهذه الحياة، ولم أمام اللذات المحرّمة، ولم يبعيوا آخرتهم بدنياهم.

يقول صاحب كتاب >كشف الحقائق<:

وأعلم أن أهل الشريعة والحكمة يقولون: إن حياة الدنيا ما هي إلا أيام معدودة، لكنّ حياة الآخرة لا انقطاع لها ولا أمد، لذا فكل من عرف حقيقة الدنيا والهدف المنشود منها، واتضحت له علل اجتماع النور مع الظلام؛ يعني اجتماع الروح وهو النور المطلق مع الجسد وهو الظلام الحالك، وعرف ماهية فائدته، وقضى عمره من الحياة واستفاد منها لنفس الهدف المنشود، واشترى الحياة الآخرة بالدنيا، وتحمل شتّى المحن، واختار سبيل الجهاد؛ لأجل الحياة الأخروية التي ملئها السعادة والرضوان، بعنى أنه صرف جميع وقته في الحياة الدنيا بكسب العمل الصالح، وطلب العلم النافع، وهما بذور الحياة الطيبة، وسبب اللذة الدائمة، فنعم في الآخرة بحياة هادئة.

وان الذي لم يفهم حقيقة حياة الدنيا، ولم يعرف الهدف الحقيقي من ماهية الدنيا، وأمضى جميع وقته في اللهو واللعب وطلب الملذات والشهوات الحيوانية والتي هي بذور العذاب والعقوبة، فسوف يواجه في الآخرة؛ العذاب الشديد، وهذا معنى هذا الحديث >الدُّنيا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ<([15]).

وكذلك معنى هذه الآية:

Pمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآْخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الآْخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍO([16]).


 

>وَاسْتَعْبَدَهُمْ بِالْعِبادَةِ عَلى مُشاهِدَتِهِ<

 

وان الله سبحانه وتعالى طلب منهم العبادة الخالصة له، ومن بركة هذه العبادة وفقهم الله جلا وعلا لمشاهدة أنوار الجلال والجمال ببصيرة القلب.

 

>وَدَعاهُمْ إِلى رَحْمَتِهِ<

 

والله سبحانه وتعالى طلبهم إلى رحمته.


 

>وَصَلَّى اللّهُ عَلى مُحَمَّد إِمامِ الْمُتَّقينَ ، وَقائِدِ الْمُوَحِّدينَ وَمُونِسِ الْمُقَرَّبينَ وَعَلى آلِهِ الْمُنْتَخَبينَ<

 

الهي! يا أمل المحتاجين ويا مغيث الفقراء ويا سند المضلين ويا معين الضعفاء، الهي اكرر طلبي، ويدي فارغة، وكتاب اعمالي خالية، وقلبي مظلم، وعمري فاني. انقطع املي من كل شيء سواك، انت املي الوحيد، الهي ازل غم الدنيا عن قلبي، وانقذني من الكسل والخمول، وارزقني الشهادة في سبيلك، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة، ولا تحرمني من لطفك ورحمتك.

 

أظهر وجهك لنا ولا تغيّبه عنا، يا مشهوراً في السموات والأرض.

نحن مجموعة من العشاق، جئنا إليك راغبين من طريق بعيد.

يا روحنا وعيننا، جئنا إليك من طريق بعيد.

انظر إلى الأسفل وتمعّن، إلى جماعة من العشّاق المعذّبين.

ياساقي العرفاء؛ إسقنا شراباً، لا يكون الشراب من العنب ولا من غيره.

من ذلك الشراب الذي من عطره الفوّاح؛ تخرج الموتى من القبور([17]).


 

 

 

 

الباب (1)

 

 

في بيان حالات العرفاء



 

 

 

 

قالَ الصَّادِقُ (عليه السلام) :

نَجْوَىَ الْعارِفينَ تَدورُ عَلى ثَلاثَةِ أُصُول: الخَوْفُ وَالرَّجاءُ والحبّ.

فَالْخَوْفُ فَرْعُ الْعِلْمِ، وَالرّجاءُ فَرْعُ اليَقينِ، وَالْحُبُّ فَرْعُ الْمَعْرِفَةِ.

فَدَليلُ الْخَوفِ الهَرَبُ، وَدَليلُ الرَجاءَ الطَّلَبُ، وَدَليلُ الحُبّ إيثارُ الْمَحْبُوبِ عَلى ما سِواهُ.

فَإِذا تَحَقَّقَ الْعِلمُ في الصَّدْرِ خافَ، وَإِذا صَحّ الخَوفُ هَرَبَ، وَإِذا هَرَبَ نَجا، وَإِذا أَشْرَقَ نُورُ اليَقينِ في الْقَلْبِ شاهَدَ الفَضْلَ وَإِذا تَمَكّنَ مِنْهُ رَجا وَاِذا وَجَدَ حَلاوَةَ الرَّجَا طَلَبَ، وَإِذا وُفِّقَ لِلْطَّلَبِ وَجَدَ، وَإِذا تَجَلّى ضِياءُ الْمَعْرِفَةِ في الفُؤادِ هاجَ ريحُ الْمَحَبَّةِ، وَإِذا هَاجَ ريحُ الْمَحَبَّةِ إِسْتأْنَسَ في ظِلالِ الْمَحْبُوبِ وَآثَرَ الْمَحبُوبَ عَلى ما سِواهُ، وَباشَرَ أَوامِرَهُ وَاجْتَنَبَ نَواهِيهِ .

وَإِذا اسْتَقامَ عَلى بَساطِ الأُنْسِ بِالْمَحْبُوبِ مَعَ أَداءِ أَوامِرِهِ وَاجْتِنابِ نَواهِيهِ وَصَلَ إِلى رُوحِ الْمُناجاة .

وَمِثالُ هذِهِ الأُصُولِ الثَّلاثَةِ كَالْحَرَمِ وَالْمَسْجِدِ وَالْكَعْبَةِ فَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ أَمِنَ مِنَ الْخَلْقِ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدِ أَمِنَتْ جَوارِحُهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَها فى الْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ أَمِنَ قَلْبُهُ مِنْ أَنْ يَشْغَلَهُ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللّهِ.

فَانْظُرْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ، فَإِنْ كانَتْ حَالَتُكَ حالَةً تَرْضاها لِحُلُولِ الْمَوتِ فَاشْكُرِ اللّهَ عَلى تَوْفيقِهِ وَعِصْمَتِهِ ; وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرى فَانْتَقِلْ عَنْها بِصِحَّةِ العَزيمَةِ وَانْدَمْ عَلى ما سَلَفَ مِنْ عُمْرِكَ في الْغَفْلَةِ، وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ عَلى تَطْهِيرِ الظّاهِرِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَنْظيفِ الْباطِنِ مِنَ الْعُيُوبِ، وَاقْطَعْ زِيادَةَ الْغَفْلَةِ مِنْ قَلْبِكَ وَاَطْفِ نارَ الشَّهْوَةِ مِنْ نَفْسِكَ.


 

 

 

 

 

 

العرفان والعارف



 

> قالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): نَجْوَىَ الْعارِفينَ <

 

حقيقة باطن العارفين:

يقول الصادق (عليه السلام) في بداية هذه الرواية: إن سر وجود العارفين وحقائق باطنهم؛ قائمة على أصول ثلاثة: الخوف، الرجاء، الحب.

ولو أننا في السطور السابقة تعلمنا مسائل مهمة، حول العرفان والعرفاء ولكن لدي شعور قوي باننا نحتاج إلى توضيح أكثر في هذا المجال، حتى نبيّن أكثر العارفين من وجهة نظر الإمام المعصوم (عليه السلام) المذكورفي أقوالهم ورواياتهم. بعد ذلك نتطرق إلى تفسير الأصول الثلاثة. الخوف، الرجاء والحب.

العارف: هو الإنسان الذي بمساعدة ثقافة الوحي وسنن الأنبياء والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، يتوفّق لمعرفة المبدأ والمعاد والحقائق الأصيلة الأساسية، ويتحلى عملاًً بهذه الحقائق.

العارف: هو الإنسان الذي اضاء قلبه بنور التوحيد، وبالاعتماد على القرآن الكريم، يشاهد القيامة ببصيرة قلبه، وأيضاً بالاعتماد على حقيقة التوحيد والمعاد، فإنّه يطهر أعماله، وعقائده واخلاقه؛ من الدنس، ويزيّن روحه وجسمه وقلبه وجميع جوارحه واعضائه بالفيوضات الإلهية ويجاهد في طريق العلم والعمل؛ ثم بعد ذلك يستقر في مملكة الخلوص.

العارف: هو الإنسان الذي لا يرى سوى الله، ولا يعلم غيره، ولا يريد إلا هو، ويقول ولا يسمع إلا الله، ولا يميل ولا يمشي إلا لله.

العارف: هو الذي المطلع بحقوق الله سبحانه وتعالى وخلقه ويراعيهما في جميع شؤون حياته.

العارف: هو الإنسان الذي لا يضيع دقيقة من عمره، ولا يطلب إلا ما طلب رب العزة، ولا يسلك إلا  الصراط المستقيم، ولا يفترق عن طالبي وعاشقي الجمال، ولا يغفل عن إرشاد المضلين ومعالجة المرضى.

العارف: هو الذي يكون عبداً مثالياً لله، وانساناً حسن الاخلاق للناس.

العارف: هو الذي يكون كالأرض، منبعاً للفضل والفيض، وكالشمس موزّعاً للحرارة، وكأمطار الربيع مصدراً للخير والبركة.

العارف: مثل النحل، فشرابه، دواءاً للأصدقاء ولدغته، سُماً للأعداء.

العارف: هو الذي يكون غارقاً في بحر الطاعة، ومتحدٌّ وجوده مع العبادة، وهو حقيقة متصفة بالكرامة، وهي لعباد الله، بحر من البركة.

العارف: هو انسان سامي، وفي درجة عالية من الإنسانية، وبين الناس، جوهرة نادرة، و للمجتمع الانساني كالمشكاة تضي الطريق.

العارف: هو وردةُ من دون شوك، ومعين ذا منفعة للدين، حذقٌ؛ في نطقه وكلامه للناس، ومستيقظ بين الغافلين، متدينٌ؛ في سلوكه وتعامله  مع عباد الله، مجتهدٌ؛ في طريق الحق، وبوصلة لجميع حقائق الوجود، و شجرة مثمرة في مزرعة الإنسانية، ومظهرٌ لصفات الله في جميع حركاته.

العارف: هو الذي أطاع اوامر الله سبحانه وتعالى، وأحياقلبه بعشق المحبوب، ولم يحمل من عبء الشيطان، ولم يقل إلا الحق، ولا لم ير إلا الحق.

انظر إلى الصحراء اراك فيها انظر إلى البحر اراك فيه.

حينما انظر إلى كل جهة، وجبل، و وادي، وبيداء، اراك فيها([18]).

العارف: هو تلميذ مدرسة الأنبياء (عليهم السلام)، وجليس الاولياء، ومن اصفياء عباد الله سبحانه وتعالى، وبصير بطريق السلوك والعرفان، وقدير على تنفيذ أوامر المولى جل وعلا، ولسانه ناطق بذكر وعشق الحق، وفي بحث الحقيقة دائماً، وعالم بأسرار خزانة المحبوب.

العارف: هو الإنسان الخبير بحيثيات العبودية، وقائد في جميع أمور الدنيا، ونورٌ يهدي المضلين، ومنفذٌ الهاوين في الظلمات، وفي السحر جليس الندم؛ وخادم لمالك الملوك؛ وفي جميع الاوقات حاضرٌ في حضرته سبحانه وتعالى، ومُنزّهٌ عن حبّ الجاه، وطالب فقط لله سبحانه وتعالى.

طوبى للذين صاحبهم الله، وعملهم الحمد وقل هو الله.

طوبى للذين دائماً في حالة الصلاة، وسوقهم جنة الخلد([19]).

 

العارف: هو الإنسان الذي يكون عاشقاً لله سبحانه وتعالى، مجاهداً في سبيل الله متحلياً بأخلاق الطاهرين، جليساً للطيبين، متجنباً للكفار والمشركين، ونور شمع العاشقين، طاهراً مطهراً من الاخلاق الشيطانية، ودواءاً للمرضى، وعوناً للمحتاجين، وأملاً للآيسين، وشهيداً من الشهداء في سبيل لقاء الله جلا وعلا.

العارف: هو الإنسان الذي يملك قلباً خاشعاً ومتواضعاً، ومؤمناً خاضعاً في مقابل الناس، اشترى نفسه وماله ابتغاء مرضات الله، وحياته مليئة بأمور، تعتبر دورساً للآخرين، ومن افضل اليوميات للإنسان، ويشع نور قلبه وروحه في كل مكان، ومنبعاً للعلم والعمل والكرامة والفضيلة، سيماء العبادة في وجهه، وهو سيفٌ قاطعٌ بوجه اعداء الحق والحقيقة، واعماق روحه خزينة لودائع الله سبحانه وتعالى، لم يأكل لقمة حرام في عمره، وللفقراء انساناً نافعاً، ومبعد لوسوسة الشيطان وأهل الباطل من قلب كل إنسان، ولا يأمل الخير سوى من الله جل وعلا، ولا تمنعه عن أداء طلبات المحبوب شيء، شفيعاً بين الناس وبين الله سبحانه وتعالى، رافعاً لمقامه الإنساني بوسيلة العبادة الخالصة.

قلبه العالم مثل الشعاع المضيء، المطيع لاوامر الله سبحانه وتعالى والأنبياء والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، والمنبع الكامل للعلم والعمل والأخلاق.

العارف: هو الإنسان الذي يسحر القلوب، وعبادته هي عين خلوصه وتقواه، لا يعرف أحداً قدره، مشتاق إلى وصال المحبوب، جميع أمور حياته واضحه، مطهرٌ من خزي الدنيا، مصونٌ من عقاب الآخرة، يمتلك قلباً صافياً، وفياً لعهده لله سبحانه وتعالى، لطيفاً مع عباد الله، شفاءاً لداء المرضى، يعيش في الخفاء حفظاً من الرياء، ومُلهم للغيب.

 

نحن كالمزمار وألحاننا منك، نحن كالجبل وصوتنا منك.

نحن كالعدم ووجودنا الفاني، إنما هو من وجودك الباقي.

كلنا أسود، ولكن سيدهم، يكون هجومهه أسرع من الريح.

هجومهم ظاهر، عكس الريح، والذي لا يظهر لا يضيع أبداً([20]).

العارف: هو الإنسان الذي لا ليس له حاجة إلى خلق الله، ولا ينفك لحظة عن ذكر المحبوب، ولا يرفض البلاء أبداً، ولحنه مناجات الله، عشق الحضرة القدسية، فلا يهتم بالدنيا والآخرة، رفيق دربه هم أهل الولاء، مدرسته مدرسة الأنبياء، مشكاة مجلسه هم اولياء الله، ليس كمثله في معرفة أسرار هذا السبيل، لا يقرأ سوى كتاب الحق والحقيقة، على الرغم من أنه لا يرى إلا الله، ولا يريد إلا الله؛ لكنّه جليس الكبار والصغار من أجل تنوير حياتهم، قبلة روحه؛ الله سبحانه وتعالى، وهمّته الوصول إلى المقام الأعلى، لا ينفك عن ربطة عشق الحبيب، وذكره التسبيح لله سبحانه وتعالى، اذناه لا تسمع إلا صوت المعشوق، لا يسبح إلا في بحر المحبّة، لا يعرف أحداً إلا محبوبه، لا يخاصم احداً على الدنيا وزينتها، ليس في باطنه إلا العشق الشديد لمولاه، وهمه في الدنيا مواساة الاصدقاء، لا يعرف احداً منزلته في الدنيا، في طينة ذاته لا توجد ذرة من الهوى والنزوة، ولا يطلب إلا رضا الحبيب، ونطقه الحمد، والتسبيح والتهليل والكلام الحسن والثناء على الله عزّ وجلّ.

العارف: في اصطلاح أهل معرفة الطريق، وفقراء حضرته، وعشاقه العارفين، هو الإنسان الذي أكمل نفسه بالاعتماد على القوة النظرية، وبذل كل جهده من أجل كسب حقائق العلوم، وطهّر نفسه من الصفات الرذيلة، والعقائد الخبيثة، وتحلّى بالعقائد الحقيقة والكمالات الإلهية.

العارف: هو الإنسان الذي ملك العلم مع العمل، وأطاع الله في أوامره، واجتنبه في معاصيه، ومن أجل ترويضه للنفس، أصبحت له القوّة والقدرة على العمل.

العارف: بلسان أهل الذوق والشوق، وسكارى حانة العشق، هو انسان ذو كمالات معرفية وعملية، وجميع جوارحه واعضاءه وقواه، أصبحت لله، وفي الحقيقة نال مقام الفناء في الله، والخلاصة؛ أنه لا يريد ألا واحداً، ولا يعلم إلا واحداً.

فقد قيل أنّه اختلف رجلان في مال تجارة لهم. فاحتاجوا إلى شخص آخر لكي يسوي بينهم، فمرّ عليهم عارف وطلبوا منه ذلك، فعرضوا عليه دفاتر حساباتهم، فكلما قالوا عدداً له، قال واحد، فتعجبوا من ذلك وقالوا له: ما بالك تقول واحد، كلّما ذكرنا عدداً؟ وقد اردنا منك ان تحل مشكلتنا؟ فقال: ماذا افعل وانا لا اعرف غير واحد ولا اعلم غير واحد.

العارف: هو الإنسان الذي علاوة على ما لديه من قوة العلم والعمل، فإن جميع وجوده متوجهة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يتهاون في أداء أوامر الله سبحانه وتعالى واجتنباب محرماته، وكذا اداء النوافل، كل هذه الاشياء هي عن طريق ا لارتباط بثقافة الأنبياء والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) والتي هي في الأصل ثقافة الوحي، وبما أن العارف واصل هذا السير والسفر في الطريق الله، فإنه سيصل إلى مقام الفناء في الله، بعدها مقام البقاء بالله.

 

في هذا الجانب لا يشتعل نارٌ، إذا كنت قريباً من الحبيب أو بعيداً.

الصورة ليس لها عمود لكي ثتبت، وماذا لو اخذتها باليد ولم تظهر.

العالم مصيدة والخلائق فيها فريسة، ولا توجد علامة من أمير الصيد.

أينما تنظر ترى الأمير والعظماء، ولا يوجد عندما تنظر إلى حرم الأمير.

 يا أيتها الروح تخلّيْ عن الأنانية وأظهري لونك الجميل، كل هذا هو يد ورسم.

عندما نشاهد غبار من بعيد فإنه يدل على الجيش، لا يوجد دخان دون نار.

 

أوصاف العرفان من لسان امام العارفين (عليه السلام):

 ذكرنا في السطور السابقة بأن العارف لديه قوتين هما القوة العلمية والعملية. ولا تفوته أداء جميع الواجبات والنوافل، ويجتنب عن جميع المحرّمات الإلهية بكامل إرادته.

خطبة همام:

يخبرنا امام العرفاء، ومشكاة قلوب العشاق، ونور طريق العرفاء، مولى الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأوصاف العارفين؛ تحت عنوان صفات المتقين في(نهج البلاغة) ـ الذي هو دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ـ .

العارف الكبير، عندليب العرفان؛ السيد قمشه اي، نظّم خطبة الإمام علي (عليه السلام) مع مافيها من أحوال معنوية وملكوتية، على شكل شعر، حتى يستلذّ القرّاء أكثر من قراءة الخطبة، فقد زينّا بعض جملات خطبة الإمام علي (عليه السلام) في هذا الكتاب، بتلك الأشعار العرفانية.

رُوِيَ أنَّ صاحِباً لأميرالْمُؤمِنينَ (عليه السلام) يُقالُ لَهُ: هَمّامُ كانَ رَجُلاً عابِداً، فَقالَ لَهُ: يا أميرَالْمُؤْمِنينَ صِفْ لِىَ الْمُتَّقينَ حَتّى كَأنّي أنْظُرُ إِلَيْهِمْ([21]).

 

سمعت أن هناك عاشقاً شمائله مث الفراشة، وفي الحب هو صادق.

وهو رفيق الوحدة، سلطان الدين، وهو طريق كلام العشق.

جاء أحد العشاق إلا ملك العشق، علي هو مخزن سرّ الله العشق.

جاء إلى ذلك الملك مع قلب صادق، وقلبه مثل الورد مقطعٌ من فراق العشق.

جاء ليسئل عن علامة الحبيب، ويستشم طريق وصال الحبيب.

جاء لكي يقوي الملك قلبه، ويتحرق من لمعان العشق.

جاء ليسكر من شراب العشق، ويصرخ من صرخات العشق.

كان يقول: يا علي يا سرّ الأسرار، افش سرّ العاشقين.

صف لنا حمامات البستان، الذين قطعوا اسارة الروح.

عندما طاروا من عشّ الروح، واستقرّوا في عشّ الحبيب.

عندما وصلوا للقاء المحبوب، ودخلوا حريم الملك.

عندما كانوا هؤلاء العطاشى يبحثون عن الماء، في ظلام الليل الدامس.

ملئوا كؤوس عشقهم من الحبيب، وابتعدوا عن كلّ شيء.

رُفع الحجاب عنهم، ونظروا بأعينهم إلى الحق.

تحرّروا من النفس الحيوانية، ووصلوا إلى قمّة الإنسانية.

فتحوا الطريق لهم تجاه وادي العشق، وافسحوا المجال لهم في الخلوة المقدسة.

شاهدوا جمال الحبيب، ورفع من ذلك الجمال ألف غطاء.

هؤلاء قلوبهم مليئة بعشق الحبيب، ولا يرضون إلا بكلام المحبوب.

هؤلاء العنادل في حدائقهم، طيبي الفكر والذكر والعمل.

هذه هي أوصاف الطيبين، وحرّروا ارواحهم وأجسادهم من اسارة الدنيا.

وانت كاشق سرّ ما خفي، وتجلب قصة من العشاق.

ويخرج من كنز الفكر جوهرةٌ، ولا حديث ألذُّ من حديث العشق([22]).

 

فَتَثاقَلَ (عليه السلام) عَنْ جَوابِهِ ثُمَّ قالَ (عليه السلام): يا هَمّام اتَّقِ اللّهَ وَأَحْسِنْ فَـ {إنَّ اللّهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}([23]) .

فَلَمْ يَقْنَعْ هَمّامُ بِهذا القَوْلِ حَتّى عَزَمَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللّهَ وَأثْنى عَلَيْهِ وَصَلّى عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثُمَّ قال:

أمّا بَعْدُ فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ حينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طاعَتِهِمْ وَأَمِناً مَعْصِيَتَهُمْ لأنَّهُ لاتَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصاهُ وَلا تَنْفَعُهُ طاعَةُ مَنْ أطاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعايِشَهُمْ وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيا مَواضِعَهُمْ.

 

روح المتقين معتدلة، وهدفهم هو الحب.

فمجموعة قلوبهم من أثرنا ممحية، وفي بستان العشق قلوبهم مقطّعة.

إنّ الله أعطى أولئك المحسنين فضيلة القيادة، وميّزهم بأنواع الفضائل.

* *   *

ووهبهم فضائل كثيرة، لأنّهم دائماً صادقين في كلامهم.

أوّل صفة الطيبين هي الصدق في كلامهم، اسمع جيداً فهذا وصف حسن.

وليس الصدق هو في كلامهم فقط، بل الصدق في جميع أفعالهم.

وكل شخص لديه صدق في الكلام، فإنّك تجد فيه صفات حسنة كثيرة.

والقلب الذي هو منوّر بالعشق فإنّه شمس، وشعاعه يبان على ألسنة الصدق والصواب.

 

مَنْطِقُهُمُ الصَّوابُ، وَمَلْبَسُهُمْ الإقْتِصادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّواضُعُ، غَضُّوا أبْصارَهُمْ عَمّا حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أسْماعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النّافِعِ لَهُمْ، نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ في الْبَلاءِ كَالّتي نَزَلَتْ في الرّخاءِ، وَلَوْلاَ الأجَلُ الّذي كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أرْواحُهُمْ في  أجْسادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْن شَوقاً إلَى الثَّوابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقابِ.

 

إذا هؤلاء لم يصلوا إلى وصال المحبوب، فإنّه لم يكتب لهم العشق.

لم يسع أولئك الملوك السجن، فالسجن ليس مئواهم.

وليس كطائر العنقاء من ضيق جو الكونين، خرجوا باحثين في طرفة عين.

وضاق على هذا العنقاء القفص الترابي، فيرى بستان الورود بعيدا عنه.

ولمّا ترى تلك الطيور الأحباب، يأتون آلافاً إلى بساتين الجنان.

ما أجمل بستان الجنة والأنس مع المحبوب، وهنالك لا رقيب ولا حسّاد.

الكل مشتاق للفرار من هذا الفخ، فكيف تستقر الروح في هذا الفخ.

ناظرين بشوق إلى الحبيب، وينتظرون بعيون باكية.

والكل حزين بسبب رحيل الحبيب، والكل في عجله من وصاله.

الكل يحسب الأيام والسنين، ليوم اللقاء فيفدون أرواحهم.

 

عَظُمَ الْخالِقُ في أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مادونَهُ في أعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآها فَهُمْ مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنّارُ كَمَنْ قَدْ رَآها فَهُمْ فيها مُعَذَّبُونَ.

قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأمُونَةٌ، وَأجْسادُهُمْ نَحيفَةٌ، وَحاجاتُهُمْ خَفيفَةٌ، وَأنْفُسُهُمْ عَفيفَةٌ، صَبَرُوا أيّاماً قَصيرَةً أعْقَبَتْهُمْ راحَةً طَويلَةً، تِجارَةً مُريحَةً يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ، أرادَتْهُمُ الدُّنْيا فَلَمْ يُريدُوها، وَأسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أنْفُسَهُمْ مِنْها، أَمّا اللَّيْلُ مَضافّونَ أقْدامَهُمْ تالينَ لاَِجْزاءِ القُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتيلاً.

 

جاء الليل، تلك اليلة التي صاحبت المتألمين، جاء الليل، تلك الليلة التي هي خصمٌ للمساكين.

جاء الليل، تلك اليلة التي يشكو فيها العشاق، مرة من الحبيب، وأخرى من القلب.

جاء الليل، تلك اليلة التي اصبحت محفلاً لي، أسوداً مرة من قرب الحبيب، ومن القلب.

ليلة فيها ضجيج للعشاق، ليلة فيها ألحان فرحة العشق.

ليلة فيها الأنجم زاهرة في أروقة القصر التسعة، ليلة تحرق فيها قلوب المشتاقين.

ليلة يسكر من صيحة طائر الحق، وتصل فيه إلى لمس الروح.

ليلة فيها المنجمون يحرقون القلب، ليلة تحرق فيها النار القلوب.

ليلة تضيق فيها الدنيا، تصيح فيها العنقاء الليلة.

بليلة الرجال الذين هم في طريقهم للحرب، بالشمع المحترق في قيامهم.

بليلة طيور الحق التي هي في احتراق، بتراب عشق الليل المحتاج.

ليلة فيها معراج العرش عشٌ، فسبحان الذي أسرى ألحانه.

جلس فوق قمة العرش، وشرب من الكأس واصبح ثملاً.

 

يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَواءَ دائِهِمْ، فَإِذا مَرُّوا بِآياتِهِ فيها تَشْويقٌ رَكَنُوا إِلَيْها طَمَعاً، وَتَطَّلَعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْها شَوْقاً، وَظَنّوا أَنَّها نَصْبُ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذا مَرُّوا بِآيَة فيها تَخْويفٌ أَصْغَوْا إِلَيْها مَسامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفيرَ جَهَنَّمَ وَشَهيقَها في أُصُولِ آذانِهِمْ، فَهُمْ حانُونَ عَلى أَوْساطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجِباهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ وَأَطْرافِ أَقْدامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللّهِ تَعالى في فَكاكَ رِقابِهِمْ، وَأَمَّا النَّهارُ فَحُلَماءٌ عُلَماءٌ أَبْرارٌ أَتْقِياءٌ.

 

حينما يحين الصباح فهم كالعلم أذكياء، ويتحمّلون تغيّرات الدنيا.

الدنيا وما فيها هي تحوّل وتغيّر، فجيش النجوم في حالة صياح.

إذا ملئ الشرق والغرب بالفتن، وإذا غرقت الدنيا بالطوفان.

فلا أشوّقهم ولا اخاف منهم، فقلبهم وروحهم مسلّم لحكم المحبوب.

إذا القلب امتلأ من نور المعرفة وأصبح صافياً، فإنّه يلقى نظام العالم من حكم القضاء.

فكل وجودي هو ذائب في طاعته، وأصبح كالمشكاة لهداية ظلام الدنيا.

وأشرقت في روحه نور العلم والحلم، وأسرع نحو الخير والورع.

وبالعلم يُضاء كل روح، جسور، حليم، ورحيم.

العلم يزيد الحلم، وأعماله و ورعه يصبحان أفضل([24]).

 

قَدْ بَراهُمُ الْخَوْفُ بَرىءَ القِداحِ ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ النّاظِرُ فَيَحْسِبُهُمْ مَرْضى وَما بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض ، وَيَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظيمٌ، لا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمالِهِمْ الْقَليلَ، وَلا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثيرَ، فَهُمْ لاَِنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمالِهِمْ مُشْفِقُونَ، إِذا زُكّي أَحَدٌ مِنْهُمْ خافَ مِمّا يُقالُ لَهُ ! فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسي مِنْ غَيْري، وَرَبّى أَعْلَمُ بي مِنّي بِنَفْسي، اللَّهُمَّ لا تُؤاخِذْني بِما يَقُولُونَ، وَاجْعَلْني أَفْضَلَ مِمّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لي ما لا يَعْلَمُونَ .

 

حينما نصف هؤلاء بالمحسنين، فكلّما يتفكّرون يزدادون حسناً.

وهذا جوابهم لنا حين نسألهم: نحن ظاهرنا وباطنا واحد.

نفتخر بأننا أعلم من غيرنا، والدّهر كفيل ببرهنة ذلك.

ولأننا أصبحنا وذبنا بالعشق، فكلّ واحد ينعتنا بصاحب السرّ.

أنت تمدحنا ونحن في الحقيقة لاشيء، فكأنّما مدحت العدم بلا شيء.

وهكذا هو حال لسان القلب مع الله، قائلاً >اجعلني للمتقين إماماً<.

واغفر لي ما لا يعلمون، من أعمالي السيئة وأفكاري المضطربة.

 

فَمِنْ عَلامَةِ أَحَدِهِمْ: أَنَّكَ تَرى لَهُ قُوَّةً في دين، وَحَزْماً في لين، وَإيماناً في يَقين، وَحِرْصاً في  عِلْم، وَعِلْماً في حِلْم، وَقَصْداً في غِنىً، وَخُشُوعاً في عِبادَة، وَتَجَمُّلاً في  فاقَة، وَصَبْراً في شِدَّة، وَطَلَباً في حَلال، وَنَشاطاً في هُدىً وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَع، يَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلى وَجَل، يُمْسي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ، يَبيتُ حَذِراً، وَيُصْبِحُ فَرِحاً، حَذِراً لِما حَذِرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَفَرِحاً بِما أَصابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فيما تَكْرَهُ، لَمْ يُعْطِها سُؤْلَها فيما تُحِبُّ ، قُرَّةُ عَيْنِهِ فيما لا يَزولُ، وَزَهادَتُهُ فيما لا يَبْقى، يَمْزُجُ الحِلْمَ بِالْعِلْمِ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ، تَراهُ قَريباً أَمَلُهُ ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خاشِعاً قَلْبُهُ، قانِعَةً نَفْسُهُ، مَنزُوراً أُكُلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهْ، حَرِيزاً دينُهْ، مَيِّتةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غَيْظُهُ، الْخَيْرُ مِنْهُ مَأمُول، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأمُون، إِنْ كانَ في الْغافِلينَ كُتِبَ في الذّاكِرِينَ، وَإِنْ كانَ في الذّاكِرينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغافِلينَ.

 

إذا ما جالست الجهلاء عمراً، فذاكرتي دائماً عند الأحباب.

إذا مزج روحه مع الطاهرين، لم الله الرحيم ليغفر لصاحبه.

إذا كتب اسمه من الأوفياء، فقد كتب من الذاكرين.

 

يَعْفُوا عَمَّنْ ظَلَمَه، وَيُعْطي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعيداً فُحْشُهُ، لَيِّناً قَوْلُهُ، غائِباً مُنْكَرُهُ، حاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ، في الزَّلازِلِ وَقُور، وُفي المَكارِهِ صَبُور، وَفي الرَّخاءِ شَكُور، لا يَحيفُ عَلى مَنْ يُبْغِضُ، وَلا يَأثَمُ فيمَنْ يُحِبُّ، يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ، لا يُضَيِّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلا يَنْسى ما ذُكِّرَ وَلا يُنابِزُ بِالاَلْقابِ وَلا يُضارُّ بِالْجارِ وَلا يَشْمَتُ بِالْمَصائِبِ وَلا يَدْخُلُ فى الْباطِلِ وَلا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ.

 

المحسن لا يسير على طريق الباطل، ولا تزلّ قدماه خطوة عن الحق.

هكذا قال أصحاب الحقائق، حينما يفتحوا أبواب حدائق الشقائق.

فإنهم يشاهدون حقيقة الباطل والحق، فإمّا يرون غنيّاً وإمّا فقيراً مدقعاً.

إذا أردت الاستحواذ على الدنيا بالباطل فإنّك فقير، وإن اتبعت الحق فإنّك تملك العالم كله.

الحق ذلك الموجود المطلق الذي كان، هنالك ولا يجلب الفناء لمن دخل الحق.

واتصل بالحق يا قلب إن كنت فطناً، واقطع مسالك الباطل على نفسك.

 

إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتّى يَكُونَ اللّهُ هُوَ الَّذي يَنْتَقِمُ لَهُ، نَفْسُهُ مِنْهُ في عَناء، وَالنّاسُ مِنْهُ في راحَة، أتْعَبَ نَفْسَهُ لآخِرَتِهِ، وَأَراحَ النّاسَ مِنْ نَفْسِهِ ، بُعْدُهُ عَمَّنْ تَباعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزاهَةٌ، وَدُنُّوهُ مِمَّنْ دَنا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ ، لَيْسَ تَباعُدُهُ بِكِبر وَعَظَمَة، وَ لا دُنُوُّهُ بِمَكْر وَخَديعَة.

 

حينما يعتزل الإنسان عن الخلق، ويعيش حالة التفرّد والعزلة، فإنّه ستأتيه حال من الزهد والتجرد.

وتفرده عن الناس ليس لغرض التكبر والغرور، لأنّهما من طبائع الملوك الجبابرة.

وإذا اقتربت من الإنسان المؤمن الوفي، فإنّك لا ترى سوى الرأفة والرحمة.

وعندما يخالط ويعاشر الناس، فإنّه ربّما يفتح عليهم باباً إلى الله.

وليست معاشرته للناس من أجل الخداع والمكر، و وصل حديثنا إلى هنا أيها العقل.

فرّ يا عقل فغن العشق الدموي أتاك، أو تحول إلى فراشة لا تستطيع مفارقة النار.

ضحّي بنفسك وجسدك، فالقلب اشتعل ناراً من أجل رؤية جمال المحبوب.

وأرمِ نفسك في النار لأنها شمع فرحة الملكوت، فيتنوّر الروح ويحترق الجسم المادي.

فيفتح جناحيه متّجهاً نحو الصيّاد، فيأخذ الجسم منه ويحرّر الروح([25]).

 

وحينما وصل حديث امام العارفين (عليه السلام) إلى هنا، قَالَ: فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام):

أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: َهَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ (عليه السلام): وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ وَسَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ.

 

حديث مهم ورواية عجيبة:

ينقل العارف الكبير، السيد حيدر آملي في كتاب >جامع الاسرار ومنبع الانوار< وفي رسالة >نقد النقود<، كما ينقل العارف المعارف الإلهية الفيض الكاشاني في كتاب >قرة العيون< وفي كتاب >كلمات مكنونة< حديثاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، حتى تتعرف على حال واحوال العارفين،  وتصل إلى هذا المقام وتعيش بجانب بحر الرحمة وساحل الامن والأمان.

إِنَّ للّهِِ تَعالى شَراباً لاَِوْلِيائِهِ، إِذا شَرِبُوا سَكِرُوا، وَإِذا سَكِرُوا طَرِبُوا، وَإِذا طَرِبُوا طابُوا، وَإِذا طابُوا ذابُوا، وَإِذا ذابُوا خَلَصُوا، وَإِذا خَلَصُوا طَلَبُوا، وَإِذا طَلَبُوا وَجَدُوا، وَإِذا وَجَدُوا وَصَلُوا، وَإِذا وَصَلُوا اتَّصَلُوا، وَإِذا اتَّصَلُوا لا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حَبِيبِهِمْ([26]).

هذا هو حال العارفين، الذين استطاعوا ان يصلوا إلى هذا المقام؛ بالعلم والمعرفة والإحسان والعمل والتقوى والزهد والورع والكرامة والشرف.

انصفوا بالله عليكم! هل يستطيع الإنسان؛ أن ينال حظاً من عناية الله سبحانه وتعالى، أو يصل إلى المطلوب، وهو المحبوب؛ إذا غلبت عليه الشهوة؛ وهوى النفوس، وسيطرت عليه حياة الشيطان، وابتلى روحه وجسده بالمرض والكسل، وكان كلّ همّه الأكل والنوم والغفلة!.

 

جمال القلب:

روي أن شخصاً مبتلى بالضيق، كان يمشي في الطريق، فرأى فتاة جميلة، فأمعن نظره في حسن جمالها، فوقع قلبه اسير هذا الجمال، فتابعها؛ وعندما وصلت تلك الفتاة إلى دارها نظرت إلى ورائها فرأت ذلك الرجل المتيّم بجمالها ، فقالت: ماذا تريد؟ فقال: ان جمالك قد أسرني وسيطر على جسدي النحيف،  فأحببت واريدك.

فبالإضافة إلى ان تلك الفتاة كانت على قدر واسع من الجمال؛ فإنها ايضاً كانت عاقلة؛ فقالت: غداً سوف اجيب على سؤالك.

وفي اليوم التالي، كان الرجل ينتظرها؛ حتى يستطيع ان يرى ذلك الجمال ويصل إلى غايته، فجاءت تلك الفتاة ومعها جاريتها وبيدها مرآة، فقالت: يا جارية، اعكسي المرآة حتى يستطيع ذلك الرجل ان يراني ويصل إلى مراده([27]).

فالقلب مشتاق لجمال قلب آخر، وروحه يختلف عن بقية الارواح.فالمشتاق في سلطة عشق الحق، والمشتاق يعشق العبادة ويتجنب الذنوب، والعارف المنهمك في حب الله؛ يضحي بروحه وجسمه، فقد أهل العرفان:

قُلُوبُ الْمُشْتاقينَ مُنَوَّرَة بِنُورِ اللّه فَإِذا تَحَرَّكَ اشْتِياقَهُمْ أَضاءَ النُّورُ مابَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ، فَيَعْرِضَهُمُ اللّه عَلَى الْمَلائِكَةِ وَيَقُولُ: هؤلاءِ المُشْتاقُونَ إِلَيَّ، أُشْهِدُكُمْ أَنّى إِلَيْهِمْ أَشْوَق([28]).

 

سيماء العارفين:

يقول أحد تلاميد هذه المدرسة:

في احدى أسفاري، التقيت بإنسان فاضل وعظيم، وكان سيماه يشبه سيماء العارفين، فرافقته في الطريق. ثم سألته: >كَيْفَ الطّريقُ إِلى اللّه؟< فقال: >لَوْ عَرَفْتَ اللّهَ لَعَرَفْتَ الطَّريقَ<.

ثم بعد ذلك قال: أيها الرجل المؤمن، ابعد نفسك عن الخلاف والاختلاف.

فقلت: فكيف انه يحدث الخلاف والاختلاف بين العلماء؟ فإنّهم مؤيدين من قبل الله سبحانه وتعالى.

فقال: وهو كذلك اللهم إلا في تجريد التوحيد.

فقلت: وماذا تعني هذه الجملة؟

فقال: «فِقْدانُ رُؤْيَةِ ما سواهُ لِوِجْدانه».

ويقصد بهذه الجملة، نفي كل معبود باطل، والالتزام بالطاعة والعبادة للحق.

فقلت: «هَلْ يَكُونُ الْعارِفُ مَسْروراً؟».

فقال: وهل يحزن العارف في ارتباطه مع الله؟

فقلت: «أَلَيْسَ مَنْ عَرَفَ اللّهَ طالَ هَمُّهُ؟».

فقال: «مَنْ عَرَفَ زالَ هَمُّهُ». فأهل المعرفة: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}([29]).

فقلت: «هَلْ تُغَيِّرُ الدُّنْيا قُلُوبَ الْعارِفينَ؟».

فقال: «هَلْ تُغَيِّرُ العُقْبى قُلُوبَ الْعارِفينَ حَتّى تُغَيِّرَها الدُّنْيا؟».

فقلت: «أَلَيْسَ مَنْ عَرَفَ اللّهَ صارَ مُسْتَوْحِشاً؟».

فقال: «مَعاذَ اللّه أَنْ يَكُونَ الْعارِفُ مُسْتَوْحِشاً وَلكِنْ يَكُونُ مُهاجِراً مُتَجَرّداً<.

فقلت: «هَلْ يَتَأَسَّفُ الْعارِفُ عَلى شَىْء غَيْرَ اللّه؟».

فأجاب: «هَلْ يَعْرِفُ العارِفُ غَيْرَ اللّهِ فَيَتَأَسَّفُ عَلَيْهِ؟».

فقلت: «هَلْ يَشْتاقُ الْعارِفُ إِلى رَبِّهِ؟».

فقال: «هَلْ يَكُونُ الْعارِفُ غائِباً طَرْفَةً حَتّى يَشْتاقَ إِلَيْهِ؟».

فقلت: «مَا اسْمُ اللّهِ الأَعْظَمُ؟».

فقال: «أَنْ تَقُولَ اللّهَ وَأَنْتَ تَهابَهُ».

فقلت: «كَثيراً ما أَقُولُ وَلا تُداخِلُني الْهِيْبَةَ».

فقال: «لاَِنَّكَ تَقُولُ مِنْ حَيْثُ أَنْتَ لا مِنْ حَيْثُ هُوَ».

فقلت له: أيها الفاضل، انصحني أكثر: كي أستفيد أكثر منك.

فقال: يكفيك من الوعظ والنصحية، ما ترى من التغييرات في حوادث الأيام، انظر إليها بنظرة حسنة واستفد منها كموعظة ونصيحة كبيرة([30]).

 

الخوف والحب عند العارفين:

يقول احد العارفين ـ واحد باحثي مسلك الحق والحقيقة ـ :

سمعت عن أحد العظماء الذي كان يسكن اليمن، ومشهوراً بالتواضع، والعقل، والحكمة، والفضل والمعروف.  فلباس ظاهره كأهل الجهاد وباطنه، كأهل العرفان والصلاح.

وحينما اقترب موسم الحج، وبعد أداء مناسكها، اتاحت لي فرصة من الوقت، فعندئذ قصدت زيارته حتى اسمع كلامه ومواعظه واستفيد منها.

فعندما علم جماعة من اصحابي عزمي على السفر رافقوني، وكان بين تلك الجماعة شاب؛ سيماه سيماء الصالحين وهيئته هيئة الخائفين ووجهه مصفر، دون ان يعاني من مرض، وعيناه محمرتان وتدمع، كأن مصيبة قد نزلت عليه، فذهبت إليه وتحدثت معه بكلام حسن، أن يرافقني، لكنه رفض وكلما عاتبته وأنا في تلك الحالة التي فيها ونصحته بالصبر، لكن دون نفع أو جدوى، وكانت عيناه في كل لحظة تدمعان وكان يترنم بأشعار معناها:

يا أيها الناس الذين أنتم ما تفتؤا تلومونني! اعلموا بأني لن اتخلى عن عشقي له ولن يروى عطشي منه، كيف اصبر وكل لحظة يزداد حزني ويتبدل عزي فيه إلى ذلة؟ فيقولون: سوف تنخر عظام الإنسان واقول: حتى إذا نخر عظامي في البر فإن حبي يزداد لك منذ زمن بعيد وقلبي شرب من كأس حبك حتى منذ أيام الصبا والطفولة.

 

تجول في ذاكرتي فتن وأهداف سامية، وتدور في مخيّلتي ثورة عارمة.

كلّما أنظر إلى عيون الحبيب، ينتاب قلبي بركان من الثورة.

لذا فهذا حجاب جذاب للقلوب، فقلبي هاربٌ من مكان لآخر.

فالساقي موجود تحت حجاب الغيب، ويوجد في كلّ ناحية طرب وسكر.

ويوجد في الداخل خمّار وخمر، وفي الخارج حالة سكر وغوغاء.

يا أمل القلوب، انت أمنية لكل قلب.

 

وفي تلك الحالة رافقنا ذلك الشاب، حتى وصلنا إلى تلك المدينة في اليمن التي كان يعيش فيها ذلك الرجل العظيم.

فسألنا عنه، وذهبنا إلى بيته، وطرق بابه، فأتى شخص بسرعة وفتح الباب لنا، على هيئة شخص من أهل القبور، ودعانا إلى الدخول. فسبقنا ذلك الشاب بالسلام عليه وصافحه. فرد السلام عليه وصافحه.

وتحدث معه بطريقة غريبة، وبشره بلسان أهل العرفان؛ بخبر سارٍ سيحدث له في المستقبل.

ثم بعد ذلك اسرع الشاب في الكلام وقال: سيدي، ان الله سبحانه وتعالى جعلك وامثالك معالجاً لمرضى القلوب ودواء لداء الذنوب.

يا سيدي إني أعاني من جرح اصابني وتسبب ذلك الجرح في تآكل اللحم والجلد في ذلك الموضع، وأعاني أيضاً، من ألم مزمن، فإذا كنت قد عرفت دائي؛ أرجوا منك بأن تعطيني الدواء لذلك الداء.

فقال ذلك الرجل العظيم: سلني عن كل ما في علاج هذا المرض، حتى أجيبك واحدة بواحدة عن ذلك؟

فسئل: «ما عَلامَةُ الْخُوفِ مِنَ اللّهِ تعالى؟»

فأجاب: «أَنْ يُؤمِنَكَ خَوْفُ اللّهِ تَعالى مِنْ كُلِّ خَوْف عَنْ غَيْرِ خَوْفِهِ»، وحينما سمع ذلك الشاب هذا الحديث تغير حاله، فصرخ واغمي عليه واستيقظ بعد ساعة، فسئل ذلك من العارف: كيف يظهر خوف الله في قلب عبده؟

فقال: إن الإنسان جاء من العوالم الأخرى لهذا العالم فلذلك لن يظل سالماً، ويكون عليلاً وسقيماً، ولكي يدفع عن نفسه المرض، فإنه يلجأ إلى تناول الأغذية والأدوية، خوفاً من لدغة الفناء.

فحينما سمع هذا الكلام من ذلك الشيخ، صرخ صرخة حتى ان جميع الجالسين ظنوا أنه فارق الحياة. وبعد لحظة رفع رأسه سائلاً:

«ما عَلامَةُ الُْمحَبَّةِ لِلّهِ تَعالى؟»

 فقال: «يا حَبيبي إِنَّ دَرَجَةَ الَْمحَبَّةِ لِلّهِ رَفيعَة».

فألح الشاب على الشيخ بأن يوضح ما قاله. فقال:

«يا حَبيبي إِنَّ الُْمحِبِّينَ لِلّهِ تَعالى شَقَّ لَهُمْ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَأَبْصَرُوا بِنُورِ الْقُلُوبِ إِلى جَلالِ عَظَمَةِ الإِلهِ الَْمحْبُوبِ، فَصارَتْ أَرْواحُهُمْ رُوحانِيَّةً، وَقُلُوبُهُمْ حُجُبِيّةً، وَعُقُولُهُمْ سَماويّةً تَشَرَّحُ بَيْنَ صُفُوفِ الْملائِكَةِ الْكِرامِ، وَتُشاهِدُ تِلْكَ الأُمُورِ بِالْيَقينِ وَالْعَيانِ فَعَبَدُوهُ بِمَبْلَغِ اسْتِطاعَتِهِمْ لَهُ طَمَعاً في جَنَّتِهِ وَلا خَوْفاً مِنْ نارِهِ».

عندما سمع الشاب هذه الحقائق، صرخ واخذته العبرة مختنقاً ببكائه، وفارق الحياة، فعندئذ حضن ذلك الشيخ الفاضل رأس الشاب العاشق واضعاً إياها على ركبته، ومقبلاً وجهه، قائلاً: هذا هو حال الذين يخافون الله سبحانه وتعالى وهذه مرتبة العشاق ومحبيه([31]).

 

هنيئاً وطوبى لقلب أنت فيه، وعزيز من كان في طاعتك.

ولا يذل إنسان في الدارين، ما دام قلبه متجه نحوك ويريدك.

فوجودي كله يتمنّى أن، يصبح مطيعاً لك.

القلب يزول غباره عندما يراك، وأطهّر نفسي ما استطعت للقائك.

طوبى لعاشق هائم قد نسي قلبه، وأصبح حيراناً ومندهشاً لرؤيتك.

متى اطمئن قلبي بغيرك، إلا أن يكون سكراناً لا نجذابك.

فقلبي لا يرد زهور الصحراء، إلا زهور صحراءك يا ربّي.

فلم أر سعادة في عالم الوجود، إلا في ركب تكون أنت فيه.

فقلبي يكاد يزهق من فراقك، إلا أن تمنّ علينا برضاك([32]).



([1]) الخصال: 31؛ روضة الواعظين: 413؛ بحار الأنوار: 67/50، حديث 4، باب 44، القلب وصلاحه وفساده.

([2]) الخصال: 18؛ بحار الأنوار: 67/51؛ الميزان: 15/107.

([3]) الشعراء (26): 89.

([4]) بحار الأنوار: 70/59؛ مستدرك سفينة البحار: 8/568.

([5]) بحار الأنوار: 77/280؛ مستدرك سفينة البحار: 10/285.

([6]) الخصال: 87.

([7]) شمس التبريزي.

([8]) الزمر (39): 22.

([9]) طه (20): 25.

([10]) الانشراح (94): 1.

([11]) >تفسير نوين: 230<.

([12]) الأنعام (6): 125.

([13]) >تفسير برتوي از قرآن، جزء سي ام، 151<.

([14]) في بعض نسخ >مصباح الشريعة< : (وأنطقهم بثنائه).

([15]) مجموعة ورام: 1/183؛ عوالي اللآلي: 1/267، حديث 66.

([16]) الشورى (42): 20.

([17]) شمس التبريزي.

([18]) >بابا طاهر<.

([19])>بابا طاهر<.

([20]) >مثنوى معنوى، مولوى<.

([21]) نهج البلاغة: الخطبة 184.

([22]) >الهي قمشه اي<.

([23]) النحل (16): 128.

([24]) >الهي قمشه اي<.

([25]) >الهي قمشه اي<.

([26]) جامع الأسرار ومنبع الأنوار: 205؛ نقد النقود: 676؛ قرّة العيون، المادّة (نور)؛ كلمات مكنونة: 35.

([27]) روح الأرواح: 18.

([28]) روح الأرواح: 22.

([29]) البقرة (2): 262.

([30]) >نامه دانشوران<.

([31]) >نامه دانشوران: 9/21<.

([32]) الفيض الكاشاني.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الخوف من سوء العاقبة
النفس ومراحلها السبعة:
حديث من العرفاء:
أهل البيت^ والعبودية-2
وَالْحُبُّ فَرْعُ الْمَعْرِفَةِ
أهل البيت النور المطلق
التوسل بأهل البيت -2
10. علل اختفاء النعم
11.استكمال البركة
مراحل عبادة العارفين:

 
user comment