النفس ومراحلها السبعة:
تعتبر مسئلة النفس في المباحث العرفانية من المباحث المحورية، لأن العرفان في جميع المسائل التي يطرحها يركز حول تزكية وتصفية النفس.
والذي لا يستطع ان يروض نفسه الامارة بالسوء ولم يقيّد غرائزه وشهواته مع الضوابط الإلهية، ولم يتجاوز نفسه، ولم يتوجه بقلبه إلى القبلة الحقيقية، لا يستطيع ان يكون عارفاً، فتهذيب وتزكية النفس هي من الأهداف الأساسية والرئيسية لأنبياء الله (عليهم السلام).
ان جميع المصائب التي عانى منها البشر في حياتهم كان سببها ومنشأها هو هوى النفس، فلا نستطيع ان نتوقّع الخير وفعله من صاحب النفس الشريرة وإذا ما صدر خير منه فإنه يحبط.
ان النفس المهذبة والزكية تتحلى في الآخرة بأربع خصال عظيمة وابدية.
1 ـ علم بلا جهل.
2 ـ ثروة وغنى بدون فقر.
3 ـ عزة بدون ذل.
4 ـ حياة بلا موت.
فتزيين النفس بهذه الخصال الاربع الاخروية متسفيظ من مادة الفلاح التي ذكرها القرآن الكريم من اجل تزكية النفس، كما ذكرها الراغب الأصفهاني في(المفردات) :
Pوَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهاO([1]).
ان من أهم الوظائف التي يجب أن نقول أنها من أولى مهماته ووظائفه هي مخالفة طلبات النفس الغير مشروعة لها، والتي عُبر عنها في الآثار الإسلامية بالجهاد الاكبر.
فعشاق الله ومريديه وسالكي طريق العشق، كانوا في رهبة حتى آخر لحظة من حياتهم من شر هذه النفس؛ لدرجة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول في دعائه:
>نَعُوذُ بِاللّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا<([2]).
فحقاً؛ هل نستطيع ان ندعي محبة الله سبحانه وتعالى في الوقت الذي تكون فيه أنفسنا ملوثة بالرذائل وأسيرة لشتى أنواع المعاصي والذنوب؟! وهل نستطيع ان نطلق على أنفسنا عبّاداً مؤمنين بالله سبحانه وتعالى؟
فالعارفين العشاق احصوا لهذه النفس سبع منازل، يجب على من يريد أن يصل إلى المقصود والمنى ان يجتازها ويصل إلى المرحلة الأخيرة وهي الحالة المرضيّة:
1 ـ النفس الأمّارة:
في هذه المرحلة وكما أشار القرآن إليها في سورة يوسف الآية (53) بالنفس الحيوانية التي تسيطر على حياة الإنسان بالكامل، فمع وجود هذه النفس الأمّارة بالسوء فإن النفس الناطقة لا تستطيع ان تكشف عن وجهها الملكوتي لنا على الإطلاق، وهذا النوع من الناس لا يصدر منهم شيء سوى الآثار الحيوانية والبهيمية، فجميع اعمال وحركات وسكنات الإنسان في هذه المرحلة هي تدل على طبيعته الحيوانية ونفسه التي تأمره بالشر والسوء.
والإنسان الملوّث بالذنوب مازال متورطاً بالنفس الامارة بالسوء، وتغذيتها بارتكاب المعاصي وهذا يؤدي إلى الخسران الأبدي، فالإنسان في هذه المرتبة السافلة لا يفرق كثيراً عن الحيوان، بل في بعض الأحيان يكون أضل سبيلاً منها.
فهذه النفس الامّارة الخطيرة، لديها النفوذ والسيطرة والغلبة ـ في هذه الأيام ـ على أكثر الناس الموجودين على الكرة الأرضية، بل حتى على تلك الأمم المتحضرة الغارقة في الشهوات والماديات.
فالانسان السالك في هذه المرحلة يكون مشغولاً أكثر في التغلب على القوى الحيوانية والمادية للجسم، ويجب عليه ان يربيها على اساس القواعد الإلهية.
2 ـ النفس اللوامة:
في هذه المرحلة ـ التي تشير إليها الآية الثانية من سورة القيامة ـ تبدأ القوى العقلية بالنمو والبلوغ شيئا فشيئا ويستقيظ الإنسان من غفلته، فيميز بين الاعمال الحسنة والسيئة، ويظهر فيه شعور داخلي في القلب ينبّهه ويخوّفه من ارتكاب الاعمال السيئة، ولكن هذا الشعور الداخلي مازال ضعيفاً وليس له تأثير كبير، كل ما هنالك هو انه بعد ارتكاب أي عمل سيء، ينتاب الإنسان شعور بالندم.
ولكنّ أولئك الذين هم في مراقبة أنفهسم ويعلمون السبب الحقيقي لاضطراب قلوبهم، ينتابهم شعور من مذمّةٍ للنفس، وهذا النوع من التوبيح واللوم لا يصدر عن النفس الحيوانية، بل هو صوت النفس الناطقة أو الروح الملكوتية التي تدعوا الإنسان إلى كسب الفضائل.
فوصية اغلب عظماء الدين واولياء الله سبحانه وتعالى والعارفين وأهل المعرفة والبصيرة لنا بالعزلة والاشتغال بالمناجاة والصلاة والصوم، والابتعاد عن الحياة اليومية لساعات، إنّما كانت ليستيقظ الإنسان من الغفلة، ويتحرر من وساوس النفس الحيوانية، وينسى الدوافع الخارجية، ويسكت شهواته، ويطفيء نار حرصه، لفترة وجيزة ويتمكن من سماع ذلك النداء السماوي من داخله.
والعارف في هذه المرحلة يجب ان يشتغل بترويض تلك الأحاسيس والقوى النفسية وجعلها مطيعة له.
3 ـ النفس الناطقة أو المتفكرة:
في هذه المرحلة فإن قوة التفكير والتمييز في النفس تبدأ بالظهور والنمو بصورة جيدة ويشاهد فيه البلوغ المحسوس، وبالطبع فإن قدرة النفس في هذه المرحلة هي نتيجة وثمرة الاجتهاد الذي بذله الإنسان في تربية وتهذيب نفسه، قال تعالى: Pوَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَO([3]).
وهذه المراحل الثلاث هي البداية للعارف لكي يتغلب ويتحكم في نفسه ووظيفته المراقبة والارشاد وربما في بعض الأحيان محاربة النفس، في هذه المراحل يجب على الإنسان ان يجعل صدره درعاً للصعوبات والمشاكل والعذاب الكثير الذي يتحمله، وأن يصل إلى يقين بأن كل مشقة وألم سوف لا تكون دون فائدة أو مكافأة.
ليس المقصود من هذا العذاب والاجتهاد هو قتل النفس، بل ترويضها ووضع قواها في مجراها الجديد الصحيح العلوي، بشكل تكون جميع الرغبات والاحساسات ـ بالإلهام من الوحي ـ خادمة للقلب الطاهر، والإرادة العقلية والنفس الناطقة.
النفس العاقلة أو الملهمة:
في هذه المرحلة تنمو وتنضج قوة التعقل تماماً وتتجلى وتظهر مع قوة الإرادة العقلية، وفي هذه المرحلة يتفرد العقل بالسيادة وتسري بالإرادة العقلية أيضاً أحكام وأوامر العقل في جميع شؤون الحياة.
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ([4]).
وهذه المرحلة انطلاقاً من الآيات السابقة يمكن تسميتها مرحلة النفس الملهمة؛ بلحاظ أن نفس السالك تستضيء لأول مرة بنور الإلهام الرباني.
هذه المرحلة الرابعة بما أنها برزخ بين المراحل الثلاث الاولى والمراحل الثلاثة اللاحقة، لذا فوفق قانون التكافل والبرزخية لها اشكال وصور وقوى طرفي الاعلى والاسفل.
في هذه المرحلة ستستخدم القوى العقلية والحيوانية آخر درجات قوتها ودفعها لكي تحافظ على موقعيتها ولذا يشهد قلب السالك وهو منشغل بتزكية النفس عصيانات وانقلابات وطوفانات قوية جداً، بل ودموية، ولكن في الختام تكون القوى الدنية والسفلية الحيوانية والآجال والرغبات الأنانية النفسانية مغلوبة للانوار القاهرة العلوية المعنوية، وتصبح الجهالة والغفلة مغلوبة لنور المعرفة والفضيلة.
فلمّا تظهر هذه الحقيقة في قلب العارف، ستنعم مشام روحه بفيض الراحة الباطنية والاستراحة الوجدانية مما ينشأ عن الانتصار على النفس الحيوانية وستذوق لذة الغلبة على النفس.
يبتدي الإنسان السالك في هذه المرحلة من التزكية تدريجياً بتذوق الثمرة الحلوة لأتعابه ومساعيه ومحرومياته ورياضاته ومقاوماتها مما تحمله بمتانة وتوكل وإيمان.
{وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}([5]).
ومن هذا التاريخ يلج عملياً في المراحل الاعلى، فواقع كل تلك الحقائق التي هي في مقام وحالات مختلفة لتزكية النفس والتي سمع عنها، كالمكاشفة والإلهام والانجذاب والذوق والاشتياق؛ وهو الآن يوقن ويشعر بها عملياً، وتقوى يوماً بعد يوم قواه القلبية والايمانية ويقوى أيضاً اعتماده وتوكله على فيوضات وهداية حضرة الرب جلا وعلا.
5 ـ النفس المطمئنة:
في المرحلة الرابعة، مع تكامل قوة التعقل والإرادة العقلية، لاتخلو حياة الإنسان شخصية كانت ام اجتماعية لا تخلو أيضاً من الذنوب؛ لأن القوى النفسانية والحيوانية لم تقلع من جذورها بعد، وبعبارة أصح وأدق لم تتبدل إلى قوى روحانية وهي إلى الآن في مرحلة غير ناضجة.
لذلك، فإنه في أغلب الاوقات، نرى أن تلك القوى الحيوانية ترفع رأسها وتظهر حياتها وقوتها، وهذه الوضعية قد تكرر مراراً في حياة السالك، وفي بعض الأوقات قد تجعله وتورطه في الوحشة والحيرة واليأس.
فأولئك بصيري القلب قد مرّوا بهذه التجارب، وأخبرونا عن ظهور هذه الحالات. ففي هذه الحالة والوضعية من الرجوع والنزوع، لا ينبغي ان نفقد القلب ونيأس ونضطرب، بل يجب ان نزيد من المراقبة وان نتقبل تلك الحوادث المرة بكل وجودنا وبنفس عالية، وان نسعى لحلها؛ لانه أحد شروط تزكية النفس والدخول في هذا السلوك.
والنفس في هذه المرحلة تأخذ صفة النفس المطمئنّة، وتثبت وتصمد بشكل لا يخاف عليها من خطر أن تزل وتسقط، وتكون مغلوبة لمكر النفس والهوى ووساوس الشيطان.
فسماء حياته قد أصبحت خالية من غيوم القوى المضادة، وتراها تتجلى بكل عظمة وجلال كالشمس واشعتها في قلب السماء الصافية، ومرآة قلب العارف الغيبية قد طهرت كلياً من جميع صدأ هوى النفس، وتصبح مظهراً رائعاً للروح السبحانية.
وفي هذا المقام تنتهي محاربة النفس وتصبح النفس الحيوانية طيعة مؤتمرة، ويتحرر العارف من أغلال الرغبات والاثارات والاعاصير النفسانية الشديدة وحتى البدن أيضاً يتبع الإرادة الإلهية ولا يستثقل ذلك، بل يصبح متحملاً.
6 ـ النفس الراضية:
هذه المرحلة هي مقام العشق والوادي الرهيب للرضا والتسليم، ففي هذه المرحلة سيتم امتحان النفس الإنسانية مرة أخرى، وببوتقة المصائب الباطنية والروحية ستحمى بنار الشك والشبهة والتزلزل والخشية والأمل مما كانت قد تغلبت عليه كي تسجل كلياً صفاءها وخلوصها وتثبت ذلك.
إذن، هذه المرحلة مقام تغذية النفس وميدان التضحية، على النفس الناطقة، والناطقة الإنسانية ان تثبت كفاءتها للطف ومحبة الروح الملكوتية وتأهلها للعناية والفيض الجبروتي واللاهوتي وأنها جاهزة للتغذية بكل شيء وحتى حياتها أيضاً وبل مشتاقة، فهذا المقام ليس ساحة التعاشقات المجازية بل ينبغي هنا اللعب بنحو الحقيقة، وحتى التضحية بآلاف الأرواح لأجل اسم وعشق المحبوب وينبغي السعي بطرب راقصاً نحو عمود المشنقة.
هنا حيث لا يبقى فرق بين مشيئة الخالق وإرادة عبده ويكون الإنسان عن معرفة حقيقية عاملاً حقيقياً بارادة الحق بل معيناً على تفصيل خطة الخلقة وتكامل العالم.
هذه المرحلة هي مقام تغذية النفس والتسليم والرضا المحض من جانب، ومن جانب آخر أيضاً موقع تجلي أنوار الكشف والإلهام والوصال، وفي هذا المقام لم يعد ظل الانفصال وستار الضعف موجوداً، ذلك ان نور عشق المعرفة يستوعب كل حياة العارف الباطنية والظاهرية وهو يرى ولا يعرف خطا سوى ما في رضا الحق والاستسلام له واوامره وإرادته.
في مقام الوصل هذا وتحت شعلة العشق الإلهية المحرقة تحمى كل القوى الممانعة واضداد الطبيعة وتمتزج ببعضها وتتحول إلى قوة تبعث على الحياة.
7 ـ النفس المرضية:
هذه المرتبة أسمى وآخر مقام لكمال النفس الإنسانية، فهذه المرتبة مقام لوصل وتودد النفس الناطقة بالروح الملكوتية.
ففي المرحلة السادسة كان الرضا والاستحسان من قبل العاشق، بيْد أن العاشق لم يكن مطمئناً تماماً من رضا المعشوق، وإنما كان يستشعر احياناً آثاراً لرضا المحبوب، ولكن في هذا المقام السابع تحصل النفس الناطقة على الاطمئنان القلبي، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى أيضاً يظهر له رضاه عن النفس الناسوتية ويثبت ويعلن له عشقه سبحانه له.
في هذا المقام تعلم النفس الناطقة باليقين العيني، بل وبحق اليقين تدرك أن العشق من الجانبين، أي ان المحبوب أيضاً مشدود إلى حبه بل هو أكثر شغفاً من هذا المجنون الناسوتي، كما ورد في الحديث القدسي ما مضمونه >يا ابن آدم أنا احبك وهذا خفي عليك، فأحبني أنت أيضاً<.
نعم، في هذا المقام يزال الستار عن السر الخفي بأن الخالق هائم بمخلوقه أمام عين العارف.
نقل عن عارف عاشق انه قال: طلبت الله ثلاثين عاماً، فلمّا نظرت، كان هو يطلبني وأنا المطلوب!!
كل ساعة، بل وكل لحظة، هو بحد ذاته أكبر حظ روحاني وفيض سماوي وسرور أبدي.
في هذا المقام حيث تسمع النفس الناسوتية نداء >أنت الحبيب وانت المحبوب< بل وتشارك في صفات المحبوب، بل قد توحدت في هذا المقام ارادة وأمل العاشقين، والعاشق والمعشوق كليهما أي النفس الناطقة والحق تعالى.
طبعاً لاجل الوصول إلى المرحلة النهائية وهي المرتبة السابعة، ينبغي أن نتزود بأمرين:
أولاً: الإرادة. وثانياً: العمل، وهو العمل بالقواعد التي وصلتنا فقط عن طريق الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
في هذه المرحلة والسفر يكون اتباع اوامر غير الله والاخذ بالمسائل العرفانية التي هي من صنع البشر هو عين الضلالة، وليس فقط ان ذلك لا يوصل الإنسان إلى شيء، بل يضيع عمره ويلقيه بوادي التهلكة.
العرفان من لسان الإمام علي (عليه السلام):
سَأَلَ كُمَيْلُ بْنُ الزِّياد النَّخَعي مَولَى الْعارِفينَ وسَيِّدِ الْمُوَحِّدينَ أَميرِالْمُؤْمِنينَ (عليه السلام): يا عَلِيّ مَا الْحَقيقَةُ؟ قالَ (عليه السلام): مالَكَ وَالْحَقيقَةُ؟ قالَ: أَوَلَسْتُ صاحِبَ سِرِّكَ ؟ قالَ: بَلى وَلكِنْ يَرْشَحُ عَلَيْكَ ما يَطْفَحُ مِنّي، قالَ: أَوَمِثْلُكَ تُخَيِّبُ سائِلاً; فَقالَ أَميرُالْمُؤْمِنينَ: الحَقيقَةُ كَشْفُ سَبَحاتِ الْجَلالِ مِنْ غَيْرِ إِشارَة، فَقالَ: زِدْني بَياناً، فَقالَ (عليه السلام): مَحْوُ الْمُوْهُومِ مَعَ صَحْوِ الْمَعْلُومِ، فَقالَ: زِدْني بَياناً، فَقالَ (عليه السلام): هَتْكُ السِّتْرِ لِغَلَبَةِ السِرِّ، فَقالَ: زِدْني بَياناً، فَقالَ (عليه السلام): جَذْبُ الأَحَدِيَّةِ لِصِفَةِ الْتَوْحيدِ، فَقالَ: زِدْني بَياناً، فَقالَ (عليه السلام): نُورٌ يَشْرُقُ مِنْ صُبْحِ الأَزَلِ فَيَلُوحُ عَلى هَياكِلِ التَّوْحِيد آثارُهُ، فَقالَ: زِدْني بَياناً، فقال (عليه السلام): أَطْفِ السِّراجَ فَقَدْ طَلَعَ الصُّبْحُ.
نقل هذا الحديث الشريف عن كميل عن أمير المؤمنين (عليه السلام)([6]).
اغتنم كميل يوماً الفرصة، وسأل مولى العارفين ما الحقيقة؟
ما الحقيقة؟
قال جماعة: المراد من الحقيقة مقام حقيقة الحقائق والهوهوية وسرّ السرّ وغيب الغيوب مما قد اشير إليه في سورة الاخلاص >قل هو<، >هو< مقام الربوبية والهوهوية المستور والغيب المطلق وهذا الاسم يعتبره العارفين الاسم الاعظم، كما نقل في الفصول المهمة للشيخ الحر العاملي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بأني رأيت الخضر في الرؤيا في الليلة التي هي قبل ليلة بدر، فقلت له: علمني شيء أظفر به على الاعداء، قال: قل: Sيا من هو يا من لا هو إلا هوR، فعرضت صباحاً رؤياي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: عرفت الاسم الاعظم لذا فان أهل الله يقومون بتعليم ذلك للاذكار القلبية واللسانية لأهل السير والسلوك بوصفه الاسم الاعظم. اعتبر البعض الحقيقة مقام ظهور ذلك، أي مرتبة الإلوهية وما عبر عنه في سورة التوحيد بالله الاحد وفسر الحقيقة آخرون بالحقيقة المحمدية.
لعل مراد كميل سؤاله هذا حقيقة كل شيء، حقيقة المبدأ والمعاد، والنبوة، والولاية، حقيقة حال المؤمن والكافر، حقيقة مقام الخلافة وأنه لماذا بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ يصبح باب علمه جليس بيته ويستشهد آبناؤه وتخفى الحقائق القرآنية وأسرار ولطائف العلوم السماوية على الناس.
ولعل المراد من الحقيقة، الحقيقة الولوية للغائب القائم وسر سر العالم، والآدمي وهو مظهر حقيقة وحقائق الشريعة والقدرة والعدالة.
ولعل مقصود كميل حقيقة حال النفس الناطقة في السير والسلوك إلى المقامات العالية لمعرفة الله وكان يريد في الحقيقة ان يقول: يا علي! حقيقة حال الإنسان في تزكية النفس وصفاء الباطن وما مقامه النهائي في السلوك إلى الله ومتى يتخلص من عالم المجاز والأغراض الجسمانية والاوهام الباطلة ويسقط عن عين عين باطنه الحجاب النوراني والظلماني وسيصل من الدنيا والاخرة وكل الغايات الوسطى المجازية، ليبلغ غاية الغايات ويتمكن من الوصول إلى مقام شهود الحق وذلك غاية آمال العارفين، وما هو سبيل بلوغ ذلك المقام؟
ولعل المراد سير الروح والنفس الكلية الإلهية وهو المعنى السابق، لكن من جهة وحيثية أخرى، أي من السير التجردي ونيل الفناء وهو بعد طي الاسفار الاربعة: 1 ـ من الخلق إلى الخلق. 2 ـ من الحق إلى الحق. 3 ـ من الحق في الحق. 4 ـ من الحق إلى الخلق.
على كل حال لعل المراد من الحقيقة مفهومها مما يشمل هذه المعاني كلها، وينبغي معرفة ان ليس لحضرته تعالى حجاب عنه وان الوجود كله من مقام (هو) أي هوية الذات المتفردة ما يعبر عنه بمقام غيب الغيوب، ومقام التجلي وهو مقام الإلوهية والذات المستجمعة لجميع الاسماء والصفات الكمالية ومقام التجليات الاسمائية مما لدى الحكيم، عالم الربوبية وعالم العناية والنظام الرباني ولدى العارف، عالم تجلي الفيض الاقدس وظهور الماهيات الامكانية العلمي في الحضرة العلمية أو نشأة الاعيان الثابتة، والى مقامات التجليات الفيض المقدس الافعالية وذلك حقائق الخلقة والظهور الخلقي العيني، أي جميع عوالم اللاهوت والجبروت والملكوت والناسوت والكرات اللامحدودة ولهذا الفضاء اللامتناهي تتضح لذاته كلاً وجزء ولن يكون أي خفاء وغيبة في سماوات عوالم الارواح المجردة وارا في الاشباح المادية، لتلك الحقيقة المحيطة على الكل، لكن لتلك الذات المتفردة الوحيدة عن خلقها حجب كثيرة، بل وغير متناهية؛ اذ كل واحد من الوجودات غير المتناهية مما هو تجليات الحق وكل من الماهيات اللامتناهية التي هي مظهر تعينات الاسماء الإلهية، ستكون حجاباً على وجه ذلك الوجود الصرف والحقيقة المطلقة والوجود المحض ولن تستطيع أي من المراتب الخلقية من مقام العقل الأول والحقيقة المحمدية حتى سائر القوى الادراكية النظر إلى ذلك الشاهد كل الجمال، دون حجاب وغيره، فلن يقدر احد غيره مشاهدة ذلك الحسن الكلي منكشفاً دون ستار وفي كنهه وبشكل عام فإن تلك الحجب اللامتناهية على قسمين: نوراني وظلماني.
الحجاب النوراني والحجاب الظلماني
حجاب الظلمة: هو التوجه إلى اللذات والشهوات الحيوانية والآمال والميول النفسانية والنظر إلى الماهيات الامكانية والتوجه إلى الذات والخلق من الجهة الخلقية، بينما الحجاب النوراني نوعان: احدهما سبحات وانوار الجلال مما اشير إليها في هذا الحديث وباقي أنوار الجمال.
لكن أنواع ذلك الجلال هو اشراقاتي والتي لفرط العظمة والنورانية واللانهائية، تبعد عنها العاشق بعتاب >لن تراني< ويدع المعشوق بقهر >يحذركم الله نفسه<، فالعاشق في حمى الحيرات ومن تلك الاشواق، يرى العارف نفسه أبداً في بُعد وفراق ويعتبر مقام الوصال ممتنعاً عليه.
وأنوار الجمال لتلك الاشراقات التي تؤمل العاشق بالوصال وتجعل العارف يترنم بـ >وصلك مني نفسي ولقاؤك قرة عيني< ويدعو بنداء {فاني قريب اجيب دعوة الداع}([7])، ثم يدعوه إلى مشاهدة جماله في مرآة الآفاق والأنفس قائلاً >لا يسعني ارضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن<، ويجعل مرآة قلب العارف العاشق مظهراً للجمال المتوحد.
الحاصل ان العارف يصاب باشراق الجلال حال اليأس من الوصال وحال الدهشة والخوف والحيرة والبعد عن الحضرة، أي الجلال ويحصل باشراق الجمال مقام وصل وانس وقرب وشهود، ذاك الحسن الذي ليس له مثال آخراً، ماسكاً يد العاشق مستقدماً اياه من بيداء الحيرة إلى محل خلوة الوصال، لكن مقتضى أن لكل جلال جمال؛ فلا يزال لكل هجر لطف لذلك المعشوق وسبحات الجلال تلك واشراق العظمة التي تطرد العاشق عن المعشوق وتقيمه على نار الفراق، في ذلك الاحراق أيضاً يأخذ لطفه بيد العاشق لسحبه إلى جنة اللقاء وفردوس الشهود، اذ العارف السالك انما يرى نفسه بمنتهى البعد والتقلي عن المعشوق الحقيقي حين يكون قد حصل على كمال القرب، لذا ففي كل هجر لطف وفي كل جلال جمال ومع كل منع عطاء وان منعه، وتحذيره وردعه هو في حقيقته وباطنه عطاء ورأفة ودعوة من قبله.
ومقصود سلطان الحقيقة من ذلك هو لعله ان من يشتاق إلى سر سر العالم ويعشق شهود حقيقة حقائق الوجود، فإنما يتمكن من نيل هذا المراد حينما تدفع سبحات جلال وانوار واشراقات الجمال الإلهي، الستار عن قلبه، كي يلقي العاشق عن نفسه حجة الآنية ويرفع ستار الاغيار والانانية والتظاهر وهو ما يستر عين النظر إلى الحقيقة، كي تتضح الحقيقة، نظر إلى وجه الشاهد المقصود بعين القلب غير المحجوب بالظلمة، لكن دون اشارة حسية أو عقلية، اذ ان تلك الذات التي لا محل لها بسيطة متفردة فوق لا تناهي الوجود ومنزهة عن الجسم والجسمانيات، فالاشارة الحسية الخاصة بالاجسام تستحيل بالنسبة إليه واذ لا ماهية له بل صرف الوجود، لذا تمتنع بالنسبة له الاشارة العقلية المختصة بالمعاني والمهايات الكلية، وبما أن تعينه وتشخصه عن ذاته المقدسة وبينونته على الخلق بينونة وصفية لا عزلية، فلا تميز وتعين له وليس مقدوراً اطلاقاً الاشارة إلى ذات غيب الغيوب الروحية والمعنوية ايضاً في مقام روح السر الخفي وأخفى؛ اذ كل ما أشار إليه بالحس أو العقل أو الروح يكون متميزاً محدوداً وتحيطه في تلك الاشارة الحسية والعقلية، بيد أن الله محيط بكل شيء، إذن فحيث تنكشف للعارف السالك إلى الله الانوار والاشراقات الإلهية ونظر إلى الله سبحانه وتعالى من باطن؛ من مطاوي جلال وجمال حجب القهر واللطف بعين القلب، هذا الشهود هو عين الوصال وعين الفراق وهو مع انه عين المعرفة عجز عن المعرفة، اذ المشاهدة بنحو لا يمكن معها مع تحقق الشهود أي اشارة حسية وعقلية وروحية وغير ذلك وفي الحقيقة ان العارف يدرك بالشهود فناء في المدارك ويتجلى عن نفسه بالكلية ويوجد بالحق، كي يرى الرفيق بعين الرفيق هنا طلب كميل من بحر العرفان وموج الفناء ذلك ان يوضح أكثر.
قال (عليه السلام): الحقيقة محو الموهوم مع صحو المعلوم.
المحو يعني افناء الشيء أو اعدام اثار شيء، الموهوم في المصطلح يعني ما تدركه قوة الوهم ولعل المراد هنا مطلق ادراك القوى الباطنة من خيال ووهم وعقل.
والصحو بمعنى التنبه والخروج من السكر إلى الوعي، والعلوم هنا بمعنى الواقع والمتحقق واليقين وثابت الهوية والحاصل الذات؛ ومقصوده (عليه السلام) من هذه العبارة ان العارفين والعشاق الإلهيين الذين هم سالكي ديار الحقيقة ومسافري اقليم القدس، عليهم اغلاق عين وهم النظر إلى الكثرة وان يفتحوا عين القلب الناظرة إلى الله؛ اذ ان طالب وصال المعشوق الحقيقي ومشتاق جمال الشاهد الازلي، انما يصل إلى شهود حسن الكل ذاك عندما يلقى ستار وهم العالم عن عين البصيرة ويحرق شهود معشوقه العالم والعالميين بنار العشق ويرى الجميع وهماً فانين في الحق، كي يسفر المعلوم والمشهود وهو الحقيقة، عن وجهه، فيشاهد جمال الحق الآخذ بالقلب؛ بعد محو حجب الموهوم؛ اذ ما دام ستار الموهوم حجاب عين القلب، فبصر البصيرة محروم والسالك متوقف في محل الاوهام وهو حمى عتبة الحقيقة أو محضر سلطان العزة وينشغل بمشاهدة مظاهره ويفتتن بشؤون تجلياته، لذا لا يبتدى له الحسن الاعظم الأتم الإلهي الذي هو خارج عن حجب الجسم والروح وستار الصورة والمعنى، وان طالب اللقاء بدون محو الموهوم وبالانشغال بالنعمة، لن يوفق للقاء المنعم.
هنا حيث على الجميع ان يعلم، ان المقصود من بعثة رسل الحق (عليهم السلام) ومن بسط السياسات الإلهية، وحكمة وضع الاحكام وأنواع العبادات، تزكية وتصفية النفس وتهذيب الروح وإيجاد والإنس والحب للنوع الانساني، وايضاً ان المقصود من رسالة الأنبياء باقامة اثار الروح المعنوية والصفاء والوفاء والحقيقة وكذلك ان مراد اولئك الاجلاء تعلم الاخلاق والاداب ونشر العلوم والمعارف الربانية، كما وان هذه البرامج لاستكمال الروح وان الفرض النهائي أيضاً الوصول إلى هذا المقام وهو ان يصبح خلق الله عارفين به اولاً، وثم وبالسير والسلوك العلمي والعملي ان يصلوا إلى مراتب معرفة الله العليا، إلى حيث محو الموهوم وهو عبارة عن ما سوى الله ويوفقوا إلى كشف شهود كل الجمال، الحق والحقيقة، تلك الحقيقة التي هي منتهى آمال العارفين.
ازداد مع ذلك عطش شوق >كميل< وطلب شرح المقصود، فقال (عليه السلام): هتك الستر الغلبة السر، أي تمزيق الستار والقاؤه واظهار المخفي بالحجاب، الستر بمعنى الحجاب وكل ساتر، السر بمعنى الامر المخفي والمغطى وما هو يخفى على الافكار والادراك.
لعل مقصوده (عليه السلام) ان طالب مقام الحقيقة ووصل وشهود حضرة الاحدية، يزيح اولاً بغلبة العشق كل ستار واي مانع من امام نظر العقل الوهمي ويمزق حجب العقل النورانية فضلاً عن ظلمانية الوهم يمزق ذلك كله ولا يتوقف في أي مرحلة عن السير إلى الله ويتجاوز كل حجاب نور وظلمة خلفي ووصفي، كي يتسلط سير الاحدية روحه ويقهر ويغلب كل مشاعره وقواه الادراكية.
ويوفق عبر غلبة سر الحق على باطن العارف، إلى شهود الحقيقة، بينما العارف تتعطل في الفناء الشهودي جميع مداركه الحسية والعقلية بسبب مشاهدة نور تجلي وجه الله ويفرع عن نفسه ويرتفع عن وسوسة المشاعر الحسية وبصحبة القلب وكل القوى الادراكية، يطلب الصعق([8]) كي ينال اشراق انوار الجمال والجلال الإلهي بدون جهة واشارة وكيفية فذلك وهو حال غلبة سر الله على قلب العارف وعلى جميع قواه الادراكية حال ادراك الحقيقة وفي هذا الحال حيث الشاهد الحقيقي فإذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الّذي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الّذي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسانَهُ الّذي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ التي يَبْطِشُ بها([9]) يسفر عن وجهه، وحيث أن القهر والغلبة والاستيلاء الكامل هو للسر الإلهي على باطن وظاهر العارف، فيفنى على نفسه ويشاهد وجه الحقيقة عياناً بعين الحق تعالى.
إذن فما لم تغادر كل فكرة وصورة القلب بغلبة سر الله وتتعطل جميع المدارك والحواس البشرية وما لم يندك حبل انية العارف وتله يحترق، لم يطلع السالك بعد على صرف الحقيقة والحقيقة الصرفة تلك ولم يستقدم بعد إلى محل الوحدة ذاك.
ما دامت باقية بقايا الوجود، كيف يصفى من الكدر قدح الشهود.
ما دامت علاقة النفس والبدن قائمة، كيف يزيح البرقع عن وجهه مقصود الكل.
ما دام غالباً غبار عين الروح، كيف يمكن النظر الى وجه الحبيب عياناً.
مرة أخرى كميل ظمآن الحقيقة يطلب من ذلك العظيم شرحاً، فيقول (عليه السلام): >جذب الاحدية لصفة التوحيد< الحقيقة: جذب عشق الاحدية قلب العارف ونحو جانب اقليم التوحيد.
الجذب في اللغة يعني السحب و النقل من مكان إلى آخر والسير السريع وغير ذلك.
وصفة التوحيد تعني تطهر العارفين السالكين من أي شائبة شرك خفي وجلي؛ ومن أي التفاتة غير التوجه إلى الله، وفراغ القلب تماماً من كل ما عدا عشق وشهود الحق تعالى ومشاهدة ذلك الحسن المطلق.
إذن فمعنى الكلام المتلألئ لبحر العرفان اللامحدود؛ ذاك ان الحقيقة إنما سيدركها من قد اجتذبه عشق الاحدية إلى عالمه وجرده عن أي توجه إلى عالم كثرته وسحبه وحداني الجهة شطر كعبة المقصود.
وفي العبارة إشارة إلى أنّ المحبة والعشق وجذبة مقام الاحدية باللطف الخاص الازلي، ما لم تشمل أهل السلوك، فلن يسر بلوغ هذا المقام بمجرد السعي والجد والاجتهاد، بل ليس في المقدور في أي مرحلة بلوغ شيء بمجرد الجد والاجتهاد، دون لطف وعناية الحق تعالى.
إذن فقد اطلع ذلك العظيم كميل بالسر الإلهي بأن الوصول إلى مقام الحقيقة وهو منتهى مقصد السالكين بطريق الله، انما يتسر بجذب الاحدية العارف وما لم تدع جذبة المعشوق الخفية تلك، العاشق، فلن يضع العاشق قدماً بحادة الوصال وعشق المعشوق اذ يجيز للعاشق اللقاء، بحدث في المرحلة الثانية عشق العاشق، والعاشق ما لم يمر بمراتب العشق وما لم يخلف مقامات العاشق، فلن يبلغ اطلاقاً مقام الوصال ولن يسمح له ان يطرق مقر خلوة الشهود والحاصل حب الحق للخلق وجذبة عشقه التي هي اثر شقة لذاته، المبدأ الأول لعشق العاشق، ثم العشق والشوق يتسبب في سيره وسعوده إلى حيث الشهود.
مرة أخرى أراد كميل وقد أهاجه الشوق والحماس؛ وطلب منه (عليه السلام) ايضاحاً اكثر، فقال (عليه السلام): نور يشرق من صبح الازل فيلوح على هياكل التوحيد آثاره. أي أن تلك الحقيقة التي تسأل عنها، النور الإلهي الذي أشرق في صبح الازل على هياكل التوحيد، أي على الماهيات التي لا وجود لها، هي ووجودها آية وحدة الحق.
والمراد من صبح الازل، لعله عالم العناية الازلية وعالم الربوبية والنظام الرباني المقصود، إذن فالمراد من ان يشرق نور الحق وشمس خفيفة الوجود واشراق المعشوق المطلق على هياكل التوحيد، ظهور آثار التجلي في مظاهره ومجالبه وبعبارة أخرى، المراد من تجلي نور الحق في الماهيات الامكانية، ظهور الاشياء، وجميع المراتب من ذات وذاتيات الماهيات والجواهر والاعراض ومجرد ومادي وبسيط ومركب وملك وملكوت من صبح ازل وجه الله .
ولذلك الوجود التام فوق التمام؛ العالم بمنزلة المرآة؛ والانسان الذي انطوت في وجوده كل عالم الخلقة بالوحدة والبساطة، مرآة أخرى في مقابل وجه الله الذي قال هو في القرآن:
{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآْفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}([10]).
اذن فالعالم والإنسان نور ظهور الحقيقة العينية، وهو شاهد حضرة الربوبية بعين الشهود.
والمراد من هياكل التوحيد الحقائق العقلية والارواح الكلية والنفوس القدسية الذين هم وحدهم المطلعون على هذا المعنى بالعلم والشهود ولعل المراد من جميع ا لاشياء باعتبار الربوبية وتدلي الاشياء ارتباطاً بالحق تعالى، اذ:
وفي كل شيء له آية، تدل على أنه واحد([11]).
ومن الممكن ان المراد هم الافراد الكاملين من نفوس الأنبياء والاولياء القدسية، وهم مظهر وجه الله، نعم، انهم هياكل التوحيد ومظهر الاثار ومظهر التوحيد وخليفة الله والرحمة للعالمين.
كلامه (عليه السلام) قد بلغ هذا الموضع، إذ طلب كميل ـ عاشق مظهر الرب ـ منه اشراقاً آخر، حيث سمع جواباً: >اطف السراج فقد طلع الصبح<. اطفأ تماماً مصباح أنيتك والشهود، والتوجه والطلب والإرادة والاشتياق، وانسى كل ما عدا الله حينما تطلع عليك شمس المعرفة وصبح الحقيقة وينور قلب العارف بنورها.
نعم، عند ما يرى العارف ببصيرة الباطن، شمس وجود الحق والاشراق الإلهي الاعظم التام فوق التمام، وشاهد ذلك النور الابهر الانور الاشد فوق اللامتناهي، بعين القلب، تختفي سائر الانوار الضعيفة، وجوده هو وجودات العالم الظلية الفقرية، يختفي كل ذلك عن نظره تماماً وفي مقابل تلك الشمس الاعظم الانور يطفيء شمع وجوده المحدود المخلوق وأنيته.
النظر الذي رأى فيه هو بصفاء القلب، الله، فوالله، لن نرى بعد ذلك نفسه ولا حاكمه.
افتح عين الحيرة لترى جمال الرفيق، اذ قد احرق برق الغيرة جناح عقلنا ووعينا.
قلل البحث بمصباح العقل عن اللا اثرية، بشأن الشمس المشرقة اين تكون السهى.
وجه الرفيق لن تراني تراه من الف ستار، إن ازحت أنت عن مرآة القلب الماسوي.
نعم، إنطفأ كميل إلى الابد، حيث كان مؤهلاً لأن يطلع على الحقيقة وينال المعشوق([12]).
إلى هنا تم بحد الامكان ايضاح كلمة العارف ـ التي وردت في متن رواية الإمام الصادق (عليه السلام) ـ والعرفان ومقامات سير وسلوك العارفين وقواعد السير والسلوك إلى الله والآن نقوم بإيضاح أصل الرواية واول اجزائها هو الخوف وهو من اصول حال العارفين، طالباً من الله تعالى المدد بهذا الخصوص اذ بغير مدده لن يتحقق أي برنامج ايجابي.
ازمة الامور طراً بيده، والكل مستمدة من مدده([13]).
>نَجْوَى الْعارِفينَ تَدُورُ عَلى ثَلاثَةِ أُصُول : الخَوْفُ وَالرّجاءُ وَالْحُبُّ<
([6]) >گلشن راز: 202<؛ مجالس المؤمنين (المرحوم القاضي) 2/10؛ شرح الاسماء الحسنى(المولى هادي السبزواري) 1/133.
[13] ـ المولى هادي السبزواري.