الخوف:
يعتقد أهل السبيل وعشاق الله ان الخوف على ثلاثة أنواع:
1 ـ الخوف الطبيعي.
2 ـ الخوف المذموم.
3 ـ الخوف الممدوح.
الخوف الطبيعي:
الخوف الطبيعي أيضاً وكسائر الحالات الواقعية الاخرى، من الخطوط الاصلية للنفس ويستفاد من هذه الحالة لحفظ النفس من حوادث كالمرض، وحوادث السير، والابتعاد عن منطقة الخطر، وكيفية مواجهة الحيوانات المفترسة، والزلزلة، والرعد والبرق، والسيل والرياح العاتية.
إن لم توهب هذه الحالة النفسانية الرفيعة إلى الإنسان، ولم يخف الإنسان على نفسه من كل تلك الحوادث والوقائع، لم يكن بصدد حفظ نفسه وعندئذ لم يكن ليأمن من أي حادثة وكانت حياة الإنسان على الكرة الارضية في معرض الفناء.
الإنسان الذي يخشى من وقوع المرض، أو لدى الاصابة بالمرض، يخشى هلاكه، فيتوقى وقوع المرض، أو ينهض عند الالم والتوجع للعلاج والخشية، وهذا الخوف يكون سبباً لمراعاة الإنسان مبادئ الصحة في كل المجالات.
الذي يتنبأ بوقوع الزلزلة، والعاصفة والسيل أو هجمة الحيوانات عليه وعلى برامج حياته سوف تعينه حالة خشيته وخوفه منها، كي ينهض لصد ومكافحة الخطر المحتمل من أي نوع. ولا ينبغي معاتبة أي انسان لاجل هذا الخوف؛ اذ إن هذا الخوف هو احد افضل ادوات مكافحة الحوادث.
الخوف المذموم:
الخوف المذموم خوف لا علاقة له بالمسائل ذات المخاطر وكما لا ربط له بالمسائل الإلهية العليا مثل الخوف من عذاب اليوم الاخر، أو الخوف من مقام وهيبة الحق تعالى، بل سبب ذلك التصورات الباطلة والوهم والخيالات الباطلة بشأن بعض الأمور، مما ينشأ عن التخيلات والاوهام التي وبأدنى تأمل يدرك الإنسان ان خوفه مما لا طائل تحته وهو حالة غير منطقية.
معلم الاخلاق الكبير، المرحوم المولى مهدي النراقي، قد شرح الخوف المذموم بشكل مفصل، وتقرؤون أدناه خلاصة ذلك:
1 ـ الخوف هو أمرٌ وقوعه حتمي، ولا يتمكن الإنسان اطلاقاً منع ذلك، مثل الأجل الطبيعي وهو محتم بالنسبة إلى الإنسان وأبيه وامه وذويه وباقي البشر، واولاده ورفاقه واصدقائه، فالإنسان الخائف من الآن؛ أي نفع يعود عليه هذا الخوف، أو أي ضرر يبعده ذلك عنه.
كيف يمكن لهذا الخوف ان يعينه بعد حادثة حتمية الوقوع، لا ثمرة للإنسان من هكذا خوف سوى الأسى والمشقة للبدن وعذاب الروح والاضطراب في الفكر والتعقل. وينبغي القول: لا سبب لهذا الخوف في وجود الإنسان سوى الغفلة والجهل.
2 ـ الخوف هو أمر وقوعه وعدم وقوعه متكافئ الطرفين، كأن يغرس نبتة ويتخوف من أنها هل تثمر ام لا؟
حقاً، فأي معنى للخوف في هذا الخصوص وامثاله؟ في هذه المرحلة؛ الإنسان موظّف أن يزرع النواة ويراعي إلى جانب ذلك قواعد الزراعة، إن أثمرت فمن عنايته تعالى وفضله، وان بقيت دون ثمر، فينبغي البحث عن سبب ذلك، وابعاد ما من شأنه منع إثمار الغرس، إضافة لذلك ينبغي معرفة ان كائنات هذا العالم المادي، معرضة للحوادث وقد تتوجه الحادثة احياناً إلى زراعة الإنسان ومحاصيله وهذه الحادثة هي باب من أبواب الابتلاء من قبل الحق تعالى لتنمية العباد، هنا بدل الخوف ينبغي السرور بانتخاب الله جل وعلا الإنسان للاختيار. واحياناً ايضاً تكون الحادثة غرامة لما صدر عن الإنسان من ذنوب، فإن العاقل هو الذي يعتبر بالحادثة ويجعل نفسه في ساحة التنامي والكمال وتدارك النواقص.
فالخوف في هكذا أمور إذن، عمل عبثي ولا يتوجه ضرره إلا إلى اعصاب الإنسان ذاته.
3 ـ الخوف ـ دون برهان ودليل منطقي ـ من أمور كانت منذ القدم ، قد هيأت أرضية الخوف والرهبة؛ كالخوف من جنازة الميت، أو الجن، أو من البقاء وحيداً في البيت ليلاً. وسبب هذا الخوف مغلوبية العقل امام قوة الوهم، وسبيل علاج هذا الخوف هو التمرين والرياضة.
4 ـ الخوف من حلول الموت ولها أسبابها، فبمعرفة تلك الاسباب وعلاجها، ينجو الإنسان من مسألة الوحشة من الموت ويحصل له الشوق تجاه سفر الاخرة.
اسباب الخوف من الموت:
اما اسباب الخوف من الموت فهي:
أولاً: الوحشة من ان الموت ينهي كل شيء، طبعاً هذه الوحشة تخص الماديين الذين هم عبدة الدنيا، الغارقين في لذات البطن والشهوة، اولئك المتمسكين بهذه الدنيا الفانية بكل وجودهم، ولا يعرفون غير ذلك شيء؛ ولا يحبون سوى ذلك؛ وكل طلباتهم هو لهذا اليوم. هؤلاء في وحشة شديدة من الموت، اذ ان الموت في خيالهم الفاسد، هو سقوط في بئر العدم. ويخيل إليهم ان الموت ختام كل العلائق وسبب انفصام كل الصلات وتبعثر خطوط الانس!!
لكن علاج هذا الخوف ومداواة هذه الخشية ليس امراً صعباً على اولئك، عليهم ان يتفكروا قليلاً في ثقافة الأنبياء وحياة الاولياء (عليهم السلام)، كي يتضح لهم من مجموع هذه الحقائق انه ودون شك أن بعد هذا العالم، هنالك عالم آخر يقال له عالم الآخرة وان خط العدل الذي امتد إلى كل اجزاء الخلقة، يقتضي حتمية وقوع ذلك العالم ولولا ذلك لم يكن ليصر الله العظيم في القرآن الكريم ومائة واربعة وعشرون الف نبي صادق القول واثنا عشر اماماً على وجود عالم الآخرة، فعلى هؤلاء ان يتفكروا ان المعاد وامور ما بعد الموت، هي احد أهم اسس الدين وأنه من تجليات العدل الإلهي في ميدان الخلقة.
والاعتقاد بعالم الآخرة من أكثر العوامل المؤثّرة في اصلاح الاخلاق والعمل، ولا يتصور ان المؤمن بعالم الآخرة الذي هو مستفيد من ايمانه في سبيل تهذيب وتزكية النفس، ان يكون خائفاً من الموت ومستوحشاً من حلوله.
إذن فالخوف من الموت على أنه ختام كل شيء، لا سبب له سوى الجهل بالحقائق، وهو خوف مذموم غاية الذم ومستقبح قد رفضته آيات الكتاب والسنة.
ثانياً: الخوف من أن مع الخروج عن هذا العالم يصاب بألم ووجع لا مثيل له في الدنيا، هذا الخوف أيضاً عبثي وفي غير محله؛ اذ لا يصح الخوف اليوم لتوجع غد، بما ان الالم من عوارض الجسم، فسواء خاف الإنسان أو لم يخف فالبدن عرضة للالم والوجع، سواء كان السبب الم المرض أو كان السبب في التوجع من خروج الروح من البدن، إضافة لهذا، على الإنسان ان يتحلى بحقائق الإيمان والعمل الصالح، فافضل ساعاته هي حين خروج روحه عن هذا العالم؛ ودخول العالم الاخر، فهل تبقي لذة مواجهة ألطاف الحبيب وشوق لقاء حضرة المعشوق مجالاً لاستشعار الألم؟
فإلإنسان المؤمن يُخاطَب لدى الموت بخطاب:
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}([1]).
فهل يبقى له مع ذلك ألم وتألم؟
هذا الألم هو عين اللذة والسرور، لا تخف في هذا الخصوص اطلاقاً؛ اذ ان عاشق الحق تعالى لا يفكر بغير الحق، وتحمل ذلك القدر من الالم حين التحليق نحو الحبيب سهل جداً، ولا داعي لخوف المؤمن من هكذا آلام.
لا تئنوا من الالم فرجال درب الحبيب، يعايشون الالم ولا يطلبون الدواء([2]).
ثالثاً: الوحشة من ان الموت يكون سبباً لنقصان و بطلان خط الحركة نحو الكمال.
فهكذا خوف ينشأ أيضاً من الجهل بحقيقة الموت والواقع الوجودي للإنسان، الذي قد تحلى بمعرفة حقيقة الموت ومعرفة واقع الإنسان، فهو يعلم أن الموت متمم الإنسان ومكمل اثاره الايجابية، لدرجة ان جماعة من عشاق الحبيب قد أخذوا الموت في الحد المنطقي للانسان وقالوا:
>الإنسان حي ناطق مائت<([3])، وحد الشيء هو من علل كماله لا النقص والسفالة، ألم نقرأ في زيارة سيد الاحرار والشهداء:
>أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَلاةَ وَآتَيْتَ الزَّكاةَ وَأَمَرْتَ بِالمَعْروفِ وَنَهَيْتَ عَنِ المُنْكَرِ وَأَطَعْتَ الله وَرَسُولَهُ حَتّى أَتاكَ اليَقِينُ< ([4]).
ألم تسمع نداء عشق امام العارفين من زاوية محراب العبادة، حين حلول الموت اذ يقول بكل اشتياق >فزت ورب الكعبة<([5]).
ألا تعلم ان علياً الاكبر قال حينما سمع خبر استشهاده من أبيه الرؤوف: >لا نبالي بالموت<([6]).
الم يكن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) مشتاقين جداً للوصول إلى لقاء الله؟ الم تسمع قولهم أن كل من مات قد انتهى؟
فسالك طريق الحبيب لا يرى الموت سبب نقصان، بل يعتبره سبب كمال ويعشق نيله.
فإن حلول الموت للأطهار والطيبين، والصلحاء والعشاق هو كالخروج من دار الظلمة والانفصال عن الشرور، والدخول إلى عالم النور والاتصال بحصيلة الخيرات والمحاسن.
فوقت الموت يكون الكون مع الارواح الطيبة ومتصلاً بالعقول القدسية والنفوس الطاهرة.
أي عاقل يتاجر بتلك الحياة الرفيعة مقابل دنيا؛ أيامها معدودة، أي حكيم يستبدل هذه الأيام المعدودة التي ملؤها الالم والاسى ومزاجها الضرر والمشقة؛ ذات النقصان والعيب، بحياة الخلد والكمال الانساني تلك؟!
أي مآسٍ ينبغي تجرعها في محل الظلام هذا، لأجل المحافظة على نور لطف الحق في كل أمور الحياة، أي آلام يجب تحملها كي لا تجتاح ضربة المخاطر شخصية الإنسان، أي مراقبات تنبغي، كي لا يسقط الإنسان من خطر العبودية لله إلى ميدان عبودية الشيطان؟ كل هذه البليات تنتهي بحلول الموت ومع نهاية هذا السير والسلوك مع كل ما كان فيه من صعوبة وعسر، يصل الإنسان إلى الله وفي الحقيقة ينبغي القول: ان الموت نقطة الوصل وانقضاء مدة الفراق.
أجل، يا عزيزي! انهض من نوم الغفلة واخرج عن سكر الطبيعة وبادر إلى تقوية اشتياقك إلى الواقع وما يتضمنه من تأصيل ذاتك، كي تغدو عاشق العالم الحقيقي والمقر الاصلي.
اخرج عن هذا الجلد اللاثمين الحيواني واغسل النفس التي ملؤها القبح من غبار الكدر المادي، وطهر نفسك الإلهية من قذارات التراب والغرور الدنيوي.
اكسر قفص تراب هذا البدن، وتحرك نحو عالم الرحمة بجناح الهمّة، تحرر من سفالة الجهل، وسافر إلى علو العزة والمعرفة. اخرج عن ضيق السجن الناسوتي واخطوا في فضاء القدس اللامتناهي، آه! ماذا حصل لك، فنسيت عهدك وكسرت وعدك مع حضرة الرب، ورضيت بمعاشرة ما لا بقاء ولا دوام له؟!
رافق خضر العلم يا موسى القلب، لعلك ان تطوي من هذه الحصراء المنازل.
في بئر البدن حتى متى، اخرج أنت يا يوسف الروح، لمصر التجرد وسلطان عادل.
يا حبيبي ينبغي الرحيل عن مدينة البدن، اطلب زاداً ما دمت ذا فرصة في المنزل.
ليس زاد هذا السبيل سوى الطاعة والخدمة، اجتهد لاجل الدين والعلم ولا تقعد ابداً غافلا.
اللذات الجسمانية الفانية الحبات التي تقدم لك، القدرة والمال والجاه مصيدة يا أيها الطائر العاقل.
عدا ذكر الله فكل ذكر من الشيطان، عدا عشق الحق كل ربح وامل هو باطل.
بعشق ذاك الذي بلا شريك، أي الهي، ابغ همة انقطع عن كلي العالمين[7].
رابعاً: الخشية بعد موته من ضياع اولاده وعياله وان يبتلوا بورطة ومشقة.
هكذا خوف هو وبلا شك من الوساوس الشيطانية ومن امواج الهوس النفسانية.
حقاً؛ هل اننا مصدر عزة وكمال غيرنا واننا سبب عظمة وشخصية الآخرين؟
هل ان الإنسان علة تامة في ايجاد قدرة وقدوة ومروة ومكنة وعزة وذلة الآخرين؟
منشأ هذا الخوف هو الجهل بالقضاء والقدر الإلهي والجهل بلطف وعناية ورحمة الله على العباد.
ان الله تعالى فيما يتعلق بكل شؤون الكائنات وخاصة الإنسان، إله كريم اقتضى فيضه الاقدس ولطفه المقدس ايصال أي ذرة من ذرات العالم إلى كماله اللائق؛ وان يوصلها إلى الهدف الذي خلقت من اجله، وفي هذا الخصوص اغمر كل كائنات العالم وخاصة بني آدم بالقوانين اللازمة سواء في التكوين أو التشريع، وهو تعالى يعين كلاً حسب اتصاله بتلك القوانين للوصول إلى كماله المطلوب، ولا يقدر احد على تغير وتبديل السنن الإلهية الحتمية.
فكم من الناس تحملوا، لاجل تربية اولادهم اسى كثيراً، لكنهم بسوء اختيارهم لم يستقبلوا السعادة، ما أكثر الاغنياء الذين لاجل راحة اهليهم وعيالهم خلفوا بعدهم ثروة بلا حدود، بيد ان الثروة تلك تبددت في فترة قصيرة بأيدي الورثة وأدت بالجميع إلى الاستجداء في الطريق؟!
ما أكثر الابناء الذين حرموا من الاستظلال بلطف الوالدين ولم يخلفوا لهم اقل مال، مع ذلك ومن أجل حسن الاختيار واستعمال العقل والاتصال بالمقررات الإلهية النقية، بلغوا من حيث التربية إلى افضل مدارج الآدمية واكتسبوا بظل سعيهم وجهدهم ثروة تاجروا بها مع الله الرؤوف.
ما أكثر اليتامى الذين لا يقاس برقيهم المادي والمعنوي، اطفال ترعرعوا في حضن محبة آبائهم وامهاتهم وبجانب ثورة كبيرة.
تاريخ البشرية يبيّن حقيقة وهي أن انتقال المال والقدرة إلى الابناء من أجل التأكد من أن أهل الإنسان وعياله سيبقون بعده مرتاحين، هو امر عبث والأفضل ان يوكل الإنسان أولاده وعياله إلى رب الأرباب مع توفير الأرضية ويوكل تربيتهم إلى الله، اذ ان الله الرؤوف هو أفضل وكيل واعلى حافظ. فكم من الثروات تركها الآباء وأدت إلى اسوداد حياة الأبناء، وكم من القدرات انتقلت إلى الجيل اللاحق وتسببت في ذلته!!
حكم من نهج البلاغة:
يلزمنا في خاتمة هذا القسم ان نشير إلى جزء من حكم مولى العارفين الإمام علي (عليه السلام) التي جاءت في هذا المجال، حتى نعالج هذا الخوف المذموم ويتخلص الإنسان من قيوده.
حكمة 344:
قَالَ (عليه السلام) لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: >لَا تَجْعَلَنَّ أَكْثَرَ شُغُلِكَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ فَإِنْ يَكُنْ أَهْلُكَ وَوَلَدُكَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَوْلِيَاءَهُ وَإِنْ يَكُونُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فَمَا هَمُّكَ وَشُغُلُكَ بِأَعْدَاءِ اللَّهِ؟!<.
هذا الجهد والعمل على أي قياس ومعيار؟ اليس مساعدة اعداء الله يؤدي إلى معاقبة الإنسان بأشد العذاب.
حكمة 408:
وَقَالَ لِابْنِهِ الْحَسَنِ (عليه السلام): >لَا تُخَلِّفَنَّ وَرَاءَكَ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ تَخَلِّفُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ وَإِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ فَكُنْتَ عَوْناً لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَلَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ حَقِيقاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ<.
وما أجمل ان تترك الوارث لله سبحانه وتعالى، ويستفاد الإنسان من ماله الذي كسبه لبناء آخرته.
حكمة 421:
قال (عليه السلام): >إِنَّ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَسْرَةُ رَجُلٍ كَسَبَ مَالًا فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَوَرِثَهُ رَجُلٌ فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ وَدَخَلَ الْأَوَّلُ بِهِ النَّارَ<.
فمن العجيب حقاً، انه عندما يورث الإنسان مالاً ـ كان قد كُسب بطريقة شرعية ـ من شخص، يكون ذلك الشخص المورّث مسائلاً عنه يوم القيامة. واما عندما يورث الإنسان مالاً حراماً من شخص، ويطهّرها وفق المعايير الإلهية، وينفقها في سبيل الله، فيدخل الوارث به الجنة ويدخل الموروث به النار.
لذا فإن الخوف على الاهل والولد بعد الممات يعتبر خوف لا معنى له، و لا يجب ان يُعالج هذا الخوف عن طريق انتقال الارث والقدرة للزوجة والأولاد.
وأساساً على الإنسان ان لا يفتح الباب على نفسه لمثل هذه المخاوف، انما يجب على الإنسان ان يخاف بعد موته من أن يخرج أهله واولاده عن دائرة عبادة الحق ويحرموا من التربية الإلهية.
على كل، ان هذه المخاوف وغيرها مما يشبهها مذموم على لسان أهل العرفان، ويرجع جذورها إلى جهل الواقعيات والبعد عن الحقائق.
الخوف الممدوح:
الخوف الممدوح، هو خوف مثل الحالات السامية الروحية التي تعتبر من ضروريات الإنسان.
بدون هذا الخوف لا يوجد طريق للترقي والعلو، وبدونه ايضا لا يوجد مكان لقرب الإنسان من الله سبحانه وتعالى.
ان هذا الخوف يعتبر من الأوصاف السامية للموقنين ومن الآثار البارزة للمتقين ومن علائم اتّصال المحبين بالله سبحانه وتعالى.
فعشاق الله سبحانه وتعالى ماكانوا منفصلين عن هذا الخوف ابداً ولم يعيشوا بدونه.
قال خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم):
>أَنَا أَخْوَفُكُمْ مِنَ اللّهِ<([8]).
فما أكثر المسائل المهمة المنقولة حول خوف الأنبياء في القرآن الكريم والكتب الإسلامية وما أكثر البرامج المهمة التي جاءتنا في هذا المجال من أولياء الله وأئمة الهدى (عليهم السلام) والعارفين.
ألم تسمعوا بان رأس دائرة العارفين وروح العشاق، الإمام علي (عليه السلام) كان يغمى عليه عدة مرات في الليلة، من خوف عظمة الله ومن اوضاع العالم للذين خرجوا من رحمة الله.
يقول سالكي هذا الطريق:
إنّ اقل درجة للخوف هو تجليه في الاعمال والأطوار، هنالك عندما يتجنب المرء من كل ذنب، يتبين أنه من الخوف المفيد، والجدير بالذكر أن الاجتناب من الذنوب هذا يسمى الورع في الثقافة الإلهية، أما إذا اجتنب الإنسان من الشبهات فإنّه امتلك التقوى، وعندما لا ينظر إلا إلى الله ولا يتنفس إلا بذكر الله، فإنّه امتلك الصدق، ودخل في زمرة الصديقين.
الخوف هو بمثابة الجناحين يستطيع بواسطتها عباد الله ان يحلقوا به إلى أي مقام لائق، وبها يجتازون أهوال يوم القيامة.
كيف للإنسان ان يأمن من عذاب القيامة غداً وهو غارق في الشهوات وغارق في كل اللذات المحرمة ولا يملك خوفاً يحفظه من يسقط في مستنقع الذنوب؟
نقرأ في خبر هامّ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه يقول:
>لا يَكُونُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِناً حَتّى يَكُونَ خائِفاً راجِياً ، وَلا يَكُونُ خائِفاً راجِياً حَتّى يَكُونُ عامِلاً لِما يَخافُ وَيَرْجُو<([9]).
حقاً الإنسان الذي يملك الخوف يبتعد عن الذنب، ولديه الأمل في الاستفادة من الدنيا والآخرة بإطاعة اوامر الله سبحانه وتعالى.
وقد نُقلت جملة من بعض الحكماء حول هذا الموضوع وهي:
>من خافَ شَيْئاً هَرَبَ مِنْهُ وَمَنْ خافَ اللّهَ هَرَبَ إِلَيْه<.
نعم، فالإنسان الذي يخاف الذنب وعواقبه يهرب منه، والذي يخاف الله يلجأ إليه لكي يبدل خوفه امناً.
فالخوف الممدوح هو الخوف الذي يجلب الامن والاستقرار للباطن، واستقرار الفكر والروح؛ في الدنيا والآخرة، كما ورد في القرآن المجيد: P...وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً...O([10]).
وعلة الأمان في الدنيا والآخرة هو الإيمان والعمل الصالح والخشية من الله، والخوف من ارتكاب الذنب، وعذاب الغد.
فأصحاب هذا الخوف قد تم مدحهم في القرآن المجيد والروايات الشريفة والأخبار وقد تم ذكرهم بعباده الصالحين.
إذا لم يكن هذا الخوف في أحد، فإنّه يعتبر ناقصاً وبناء على قول نبي الإسلام العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم): الناقص معلون.
إذا لم يكن هذا الخوف، يعني الخوف من عظمة الله وصغر الإنسان، الخوف من مقام الله، الخوف من الذنب، الخوف من سوء العاقبة غير موجودة بسبب انعدام التربية الصحيحة للإنسان، فما هي العلّة لرشد وتكامل الإنسان وحفظه وصونه من الأخطار الداخلية والخارجية؟
إذا لم يكن هذا الخوف، فكيف للإنسان ان يكون عبداً لله، وما الذي يجعله يجتنب الذنب، ويبعد نفسه عن عذاب الاخرة؟
فبدون هذا الخوف، كيف للإنسان ان يكون انساناً، وكيف له ان يحارب أعداء شرفه وفضيلته؟
الحكمة في القرآن:
القرآن المجيد في آيات مختلفة قد عبّر عن الحكمة ـ وهي مجموعة من الواقعيات الملهمة والعقائد الحقيقية والاعمال الحسنة والنور الإلهي والحالات العرفانية الباطنية ـ بأعظم النعم وافضل الإحسان وقد مدح القرآن أصل الحكمة والمتحلين بها.
فيقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة:
Pيُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً...O([11]).
وفي سورة لقمان، مدح الباري سبحانه وتعالى لقمان الحكيم([12]) بالحكمة، حيث قال:
Pوَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ...O([13]).
ويقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة:
P...وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَO([14]).
وقد مدح الله سبحانه وتعالى آل ابراهيم في سورة النساء بتحليهم بالحكمة، حيث قال سبحانه وتعالى:
P...فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَO([15]).
P...وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالإِْنْجِيلَO([16]).
وذكر في سورة البقرة الآية (129) وسورة آل عمران الآية (164) وسورة الجمعة آية (2) بان إحدى الأهداف العظيمة لرسالة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو تعليم الحكمة.
فالحكيم هو الشخص الذي وجوده قويٌ بجذور القوانين والأصول الإلهية، ووجوده منبع خير وفيض للآخرين، والمجتمع الحكيم هو المجتمع الذي يعيش بناءاً على الضوابط والموازين الإسلامية.
رأس الحكمة مخافة الله:
نظراً للأهمية التي خصّ القرآن الكريم بها الحكمة، وايضاً للمحدح الذي جاء في القرآن والروايات للحكماء، نرى ان الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
>رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخافَةُ اللّهِ<([17]).
ومن هذه الجملة وتلك الامثال نفهم مكانة الخشية والخوف من الله وانها من ضروريات حياة عباده الصالحين.
وجاء في الحديث القدسي:
>رأْسُ الْحِكْمَةِ خَشْيَةُ اللّهِ<([18]).
انواع الخوف الممدوح:
1 ـ الخوف من وقوع الخطر للناس وإعلان ذلك لنجاتهم.
2 ـ الخوف من سوء العاقبة.
3 ـ الخوف من مقام الله سبحانه وتعالى.
4 ـ الخوف من عذاب الذنوب المرتكبة، ويعتبر هذا الخوف من أفضل أسباب التوبة.
5 ـ الخوف من نقصان أو قلة العبادة أمام عظمة الله سبحانه وتعالى.
6 ـ الخوف من صغره امام عظمة الله الذي ليس لها حد.
1 ـ الخوف من وقوع الخطر للناس:
الخوف من وقوع الخطر للمجتمع واعلانه للناس لكي ينتبهوا مختص بالانبياء والاولياء والأئمة والحكماء وعباده المشفقين البصيرين.
هذا الخوف الذي ينشأ من من شفقتهم لعباد الله، يجعلهم أن ينهضوا بكل وجودهم من اجل سعادة الدنيا والآخرة، ويحفظهم من الوقوع في أسر وادي الانحراف.
يقول الله سبحانه في قرآنه الكريم حول خوف نوح (عليه السلام) لقومه:
{لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍO([19]).
ويقول أيضاً سبحانه وتعالى:
{وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍO([20]).
ويقول القرآن المجيد حول خوف شعيب (عليه السلام) من مستقبل قومه، ومن الأخطار التي كانت تهددهم:
{وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍO([21]).
وحول هود (عليه السلام) الذي يخاطب قومه:
{إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍO([22]).
وينقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عن خوف من مستقبل أمّته:
>إِنَّ أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلى أُمَّتي : اَلْهَوى وَطُولُ الأَمَلِ ، أَمّا الْهَوى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الحَقِّ وَأَمّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسي الآخِرَةَ وَهذِهِ الدُّنْيا قَد ارْتَحَلَتْ مُدْبَرَةً وَهذِهِ الآخِرَةُ قَدْ ارْتَحَلَتْ مُقْبَلَةً وَلِكُلِّ واحِدَة مِنْهُما بَنُونٌ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ أَبْناءِ الآخِرَةِ وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْناءِ الدُّنْيا فَافْعَلُوا فَاِنَّكُمُ الْيَوْمَ في دارِ عَمَل وَلا حِساب وَأَنْتُمْ غَداً في دارِ حِساب وَلا عَمَل<([23]).
وينقل عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال في إحدى خطبه:
>وَإِنَّ أَخْوَفُ ما أَخافُ عَلَيْكُم اِثْنَتانِ اتّباعُ الهَوى وَطُولُ الأَمَلِ فَتَزَوَّدُوا في الدُّنْيا مِنَ الدُّنْيا ما تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَدا<([24]).
ويحذر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ثلاث أشياء خطيرة على أمّته فيقول:
>إِنَّما أَخافُ عَلى أُمَّتى ثَلاثاً : شُحّاً مُطاعاً ، وَهَوىً مُتَّبَعاً وَإِماماً ضالاًّ<([25]).
وسُئل سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) حول الذين لا يؤدون وظائفهم امام الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمظلومين والمستضعفين فقال:
يا أيها الذين تأملون جميع أنواع اللطف والعناية من الله، أخاف عليكم أن تبتلوا بانتقام شديد من جانب الله، ويأخذكم بلاء إلهي، فأنتم وصلتم إلى مقام من كرامة الله سبحانه وتعالى فضّلتم به على كثير من خلقه وعباده.
فالله الكبير لديه كثير من العباد المؤمنين، لكنهم ليسوا معروفين. فلهذا هم غير محترمين كثيراً بين الناس. ولكنهم يحترمونكم لانهم يرونكم مرتبطين بالله بقوة، ولكنكم في مقابل هذا اللطف، لم تؤدوا الحقوق الإلهية، لأنكم ترون العهود في المجتمع قد ذهبت أدراج الرياح، ولا تخافون ولا تنهون عنه، بينما تجزعون وتفزعون لنقض عهد من عهود آبائكم، فهل أن عهد الله ليس له قيمة مقابل عهد آبائكم؟
فما أقل قيمة عهود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الناس، وافضى الاعمى والاصم والمشلول في جميع البلدان دون ولي واصابه الفقر، ولا أحد يرحمه.
فأنتم لا تعملون بمقدار مسؤولية مقامكم وتكليفك ، ولا تتواضعون أمام الأناس السامين الذين يؤدون مسؤولياتهم، وتريحون أنفسكم بالمسامحة والتكيف مع الظالمين.
فهذه هي الأمور السماوية السامية التي أمركم بها خالق الكون، ونهاكم جميعاً عن المسائل والأمور الخطيرة، ولكنكم غافلين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواضحين.
فلمّا يد العذاب والنقمة، فمصيبتكم وتعاستكم أكثر من كل وقت، لأنكم لم تحفظوا مقام العلم والعلماء في المجتمع، وإذا لم تكونوا قد تقاعستم عن السعي والجهاد في هذا الطريق، لم يكن الظالمين أن يحتلوا هذا المنزل الإلهي الرفيع الذي هو يضمن حقوق الناس([26]).
ويقول الامام علي (عليه السلام) لإبنه محمد بن الحنفية:
>يَا بُنَيَّ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ فَإِنَّ الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدِّينِ مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ دَاعِيَةٌ لِلْمَقْتِ<([27]).
ويقول الإمام علي (عليه السلام):
>فَإِنَّهُ لا سِواءٌ إِمامُ الْهُدى وَإِمامُ الرَّدى وَوَلِىُّ النَّبِيّ وَعَدُوُّ النَّبِيِ وَلَقَدْ قَالَ لي رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنّي لا أَخافُ عَلى أُمّتي مُؤمِناً وَلا مُشْرِكاً أَمّا الْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللّهُ بِإِيمانِهِ، وَأَمّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللّهُ بِشِرْكِهِ وَلكِنّي أَخافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنافِقِ الْجَنانِ عالِمِ اللِّسانِ يَقُولُ ما تَعْرِفُونَ وَيَفْعَلُ ما تُنْكِرُونَ<([28]).
نعم، فإن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عظمته، كان يخاف من شر من المنافقين على أمّته.
ويقول الإمام علي (عليه السلام) في >نهج البلاغة<:
>أَخافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقابِهِ<([29]).