عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

الخوف من النقصان في العبادة:

5 ـ الخوف من النقصان في العبادة:

هذا الخوف هو من أعلى مراحل الكمال الانساني ومن افضل العوامل المشجعة للوصول إلى مقام أفضل.

فبمساعدة هذا الخوف، سوف يسعى الإنسان أكثر في عبادة وطاعة مولاه، وأن تكون عبادته جامعة لكل الشرائط المطلوبة.

فالذي ينوّر قلبه بضياء معرفة الله، ويعرف ربّه حقاً، ويعلم عظمته، بكل تأكيد؛ فإنّه سوف يرى عبادته مع كثرتها وإخلاصها؛ قليلة ولا شيء أمام عظمة الله وكبريائه.

فالإنسان في وحشة حقاً أمام عظمته اللامتناهية، ولأجل رفع تلك الوحشة فهو مضطر لأجل يبذل جميع ما في وسعه.

فالإنسان على أساس علمه بالقرآن الكريم والمعارف الإليهية، يصل إلى نتيجة بأن علم حضرة المحبوب محيط بكل شيء، ولا يخفى عليه ذرّة في عالم الوجود. فالإنسان بهذه المعرفة والتوجّة، ينتبه إلى نفسه صدفة ويصيح: لربّما هنالك نقص وقصور في عبادتي واطاعتي لرب العالمين، وأنا لا أعلم بسبب علمي ومعرفتي المحدودة، الذي قد يؤدي هذا القصور إلى عدم قبول أعمالي عند حضرة المحبوب، أو لربما لم يكن فيها نقص أو قصور، ولكن أعمالي أمام عظمته سبحانه وتعالى قليل او بالاحرى هي لاشيء. فعندما يحاسب الإنسان نفسه هكذا، يؤدي به إلى الخوف الشديد، وبالنتيجة إلى تحسين عبادته وطاعته لله سبحانه وتعالى دائماً.

يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ أنّه حينما كان في يقف في محراب العبادة امام الله عز وجل، يقول:

>ما عَرَفْناكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ وَما عَبَدْناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ<([1]).

فالذي يعشق الله كلما يقترب إليه، يعرف عظمة وجلالة الله أكثر، وتنتابه حالة خوف عظيم ويرى عبادته لا شيء؛ أمامه وإن كانت كثيرة، ويعقب هذا الخوف، العبادة  الكثيرة، إلى ان يصل السالك إلى مقام القرب من الله وإلى صال ولقاء المحبوب، عند ذلك؛ يتحول هذا الخوف إلى أمْن، ويرتقي إلى أسمى المراتب الإنسانية.

ويمكننا ان نجد مثل هكذا سير ووسلوك تجاه المحبوب،  وهذا الشكل من الهيجان والشوق، والخوف منه، وكثرة العبادة، في وجود إمام العارفين، ومولى الموحدين، وقائد العشاق، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

في هذا المجال، من الأفضل لنا ان نرجع إلى كلام >ضرار بن ضمرة< المحب والعاشق للإمام علي (عليه السلام)، عندما سأله معاوية أن يصف له أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد روى المجلسي في البحار أنّه:

>دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية بن أبي سفيان يوما فقال له: يا ضرار صف لي عليا فقال: أو تعفيني من ذلك؟ قال: لا أعفوك قال: أما إذا لابد: فإنه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة على لسانه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل وظلمته. كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفه ويخاطب نفسه يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما جشب. كان والله معنا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه وكان مع دنوه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة له فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ النظيم. يعظم أهل الدين ويحب المساكين لا يطمع القوي في باطله ولا يياس الضعيف عن عدله. أشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه مماثلا في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ هيهات هيهات غري غيري لا حان حينك قد أبتك ثلاثا عمرك قصير وخيرك حقير وخطرك غير كبير آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. فوكفت دموع معاوية على لحيته وجعل يستقبلها بكمه واختنق القوم جميعا بالبكاء وقال: هكذا [كان] أبو الحسن يرحمه الله فكيف وجدك عليه يا ضرار؟ فقال: وجد أم واحد ذبح واحدها في حجرها فهي لا يرقى دمعها ولا يسكن حزنها<([2]).

 

حديث السجّاد (عليه السلام) مع جابر بن عبد الله حول العبادة:

فقد روي سكنية لما نظرت إلى ما يفعل أخيها علي بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة، أتت جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الانصاري فقالت له: >يا صاحب رسول الله إن لنا عليكم حقوقا، من حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهادا أن تذكروه الله وتدعوه إلى البقاء على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين قد انخرم أنفه، وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه، إدءاباً منه لنفسه في العبادة، فأتى جابر بن عبد الله باب علي بن الحسين (عليه السلام)، وبالباب أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام) في اغيلمة من بني هاشم قد اجتمعوا هناك، فنظر جابر إليه مقبلا فقال: هذه مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسجيته، فمن أنت يا غلام؟ قال: فقال: أنا محمد بن علي بن الحسين، فبكى جابر رضي الله عنه، ثم قال: أنت والله الباقر عن العلم حقا ادن مني بأبي أنت، فدنا منه فحل جابر أزراره، ووضع يده على صدره فقبله، وجعل عليه خده ووجهه وقال له: اقرئك عن جدك رسول الله صلى الله عليه وآله السلام وقد أمرني أن أفعل بك ما فعلت وقال لي: يوشك أن تعيش وتبقى حتى تلقى من ولدي من اسمه محمد يبقر العلم بقرا، وقال لي: إنك تبقى حتى تعمى ثم يكشف لك عن بصرك، ثم قال لي: ائذن لي على أبيك، فدخل أبو جعفر على أبيه فأخبره الخبر، وقال: إن شيخا بالباب وقد فعل بي كيت وكيت، فقال: يا بني ذلك جابر بن عبد الله، ثم قال: أمن بين ولدان أهلك قال لك ما قال، وفعل بك ما فعل ؟ قال: نعم، قال: إنا لله إنه لم يقصدك فيه بسوء، ولقد أشاط بدمك، ثم أذن لجابر فدخل عليه، فوجده في محرابه قد أنضته العبادة، فنهض علي عليه السلام فسأله عن حاله سؤالا حفياثم أجلسه بجنبه، فأقبل جابر عليه يقول: يا ابن رسول الله أما علمت أن الله تعالى إنما خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك ؟ قال له علي بن الحسين عليه السلام: يا صاحب رسول الله أما علمت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يدع الاجتهاد وتعبد - بأبي هو وامي - حتى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أفلا أكون عبدا شكورا ؟ فلما نظر جابر إلى علي بن الحسين عليه السلام وليس يغني فيه قول من يستميله من الجهد والتعب إلى القصد، قال له: يا ابن رسول الله البقيا على نفسك فإنك من اسرة بهم يستدفع البلاء، ويستكشف اللاواء، وبهم يستمطر السماء، فقال له: يا جابر لا أزال على منهاج أبوي مؤتسيا بهما صلوات الله عليهما حتى ألقاهما، فأقبل جابر على من حضر فقال لهم: والله ما أرى في أولاد الانبياء بمثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب عليهم السلام، والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب إن منهم لمن يملا الارض عدلا كما ملئت جوراً<([3]).

 

في الحقيقة، ما اعجب هذا الرجل الذي كان كله عبادة، الإمام الذي يسجد بعد صلاة الصبح ويقول في سجدته ألف مرة:

>لا إله إلاّ اللّه حقّاً حقّاً ، لا إله إلاّ اللّه عبوديّتاً ورقّاً لا إله إلاّ اللّه إيماناً وتصديقاً<.

الإنسان الذي كان يحمل جراب الطعام على كتيفيه بعد أربعين عاماً من حادثة عاشوراء الأليمة، ويوصلها إلى الفقراء والمحتاجين. السيد الذي كانوا يقطعوا أنسجة جبهته وركبته مرّتين في السنة من كثرة ركوعه وسجوده. العظيم الذي سعى بكل ما أوتي، من أجل تربتة الناس. ومع كل هذا فإنه يرى عبادته أمام الله لا شيء، وهذه الرؤية أنه عبادته قليلة أمام عظمة الحق سبحانه وتعالى، تجعله في وحشة من لقائه؟

بكل تأكيد، فإن هذا الخوف، هو أفضل سبب للرشد والكمال، ورؤية الإنسان لأعماله أنها لاشيء امام الله، هي أسمى واعلى درجات التواضع أمام الحق سبحانه وتعالى والخلق.

فقد سُئل من الفضيل ليلة عرفة: كيف ترى أحوال هؤلاء الناس؟ فأجاب: الكل مغفور له، إن لم أكن معهم([4]).

يقول استاذ الاخلاق المرحوم الحاج الشيخ محمود الياسري:

قال رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) لجبرائيل: قل لي عن عجائب ما رأيت؟

فأجاب أمين الوحي: في الأزمنة السابقة، بينما كنت أريد النزول إلى أحد الأنبياء، رأيت عابداً في أحد الجزر يعبد الله بكل شوق، ويدعوا الله أن يجعل منيته وهو ساجدٌ له.

فما احسن عبادته، وقد عبد ربه اربعمائة عام، وكان دعائه مستجاباً، فأحببت أن أرى حاله في يوم القيامة.

فكانت أعماله يوم القيامة مقبولة، وجاء الخطاب إليه:

>أُدْخُلْ جَنَّتي بِرَحْمَتي<.

فقال ذلك العابد:

>أَدْخُلُ جَنَّتَكَ بِعَمَلي<.

فجاء الخطاب: أيها القضاة، أنه يريد ان اعامله بعدلي، احصوا جميع نعمي عليه، أمام عبادة هذا العابد، فإن رجحت كفة عبادته، فهو إلى الجنة، وإلا فهو إلى النار.

فبدوأ بإحصاء النعم، بدءاً من نعمة البصر، فكانت هذه النعمة كافية لان ترجح كفتها على جميع عبادة ذلك العابد، فأرادوا به إلى النار، فقال العابد: ياربّ، إنّك لم تحصي شيئاً آخر لي، فجاء الخطاب: وماهو؟ فقال: كنت آمل بكرمك، وحسن ظنّي بك، والأكثر من ذلك فقري وحاجتي. فيأتي النداء مرة أخرى: أن زحزحوا بعبدي من النار إلى الجنة بحسن ظنه بي، فلمّا أراد الدخول إلى الجنة، قال:

>أَدْخُلُ جَنَّتَكَ بِرَحْمَتِكَ<.

نعم، فهما كانت عبادتنا كثيرة، فإنها من لطفه وعنايته، وماهي عبادتنا قياساً بعظمته وجلاله سبحانه وتعالى؟!

تعالوا نقول مثلما قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):

>ما عَبَدْناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ<([5]).

وكذلك كأمير المؤمنين (عليه السلام) في آهاته المحرقة:

>آه مِنْ قِلَّةِ الزّادِ وَبُعْدِ السَّفَرِ<([6]).

 

الخوف من صغر النفس امام عظمة الخالق:

الإنسان هو محدود من ناحية الجسم والروح والعقل، وليس جميلاً للموجود المحدود ادّعاء العظمة والتكبّر. سبب ادّعاء العظمة هو النسيان، فعزة الإنسان وعظمته تكون فقط باتصاله بمقام الحق الذي هو الارتباط بأوامر الله عز وجل، بالاخص التقوى. فهذه العزة والعظمة ليست من ذات الإنسان، بل هو مقام يحصل عليه بواسطة السير على طريق الله. فبدون هذا الارتباط والاتصال فإن الإنسان حاله كحال ذرة من ذرات الأرض المادية. الأرض التي هي لا شيء أمام المنظومة الشمسية والمنظومة امام هذه المجرات الكونية العظيمة هي لا شيء، والمجرات امام السماء الاولى ليست أكثر من ذرة من الذرات، والسماء الاولى بالنسبة إلى السماء الثانية فإنها أصغر، وهكذا فالسماوات السبع امام العرش لا شيء.

 

سمعت أن لكل كوكب عالم، فيه أرض وسماء مستقلة.

والأرض في مقابل هذه الأملاك، كنبتة في عمق البحار.

فانظر ما قيمة نفسك أمام هذه النبتة، ثم بعد ستضحك على غرورك.([7])

 

فالإنسان مع صغره جرمه، إذا لم يكن ارتباطه بالحق سبحانه وتعالى، فهو ليس إلا عبارة عن لحم وجلد وعظام نخرة، فهل من المناسب له أن يدّعي العظمة؟ فالإنسان البصير، عندما ينظر إلى صغره امام عظمة الله، ينتابه خوف و وحشة شديدة، فلا يرى علاج لهذا الخوف؛ غير التمسك بحبل الله المتين.

نعم، كما قال الإمام الحسين في مناجاته ربّه يوم  عرفة:

>ابْتَدَعْتَ خَلْقِي مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى وَأَسْكَنْتَنِي فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ بَيْنَ لَحْمٍ وَدَمٍ وَجِلْدٍ لَمْ تُشْهِدْنِي خَلْقِي، وَلَمْ تَجْعَلْ إِلَيَّ شَيْئاً مِنْ أَمْرِي ثُمَّ أَخْرَجْتَنِي لِلَّذِي سَبَقَ لِي مِنَ الهُدى إِلى الدُّنْيا تامّاًَ سَوِيّاً وَحَفَظْتَنِي فِي المَهْدِ طِفْلاً صَبِيّاً<.

نعم، تعالوا نطالع بدقة الآيات الموجودة في القرآن الكريم حول صفات الله سبحانه وتعالى التي لا نهاية لها مثل الإرادة، العلم، القدرة، العليم، الامر والخلق...، تعالوا إلى البيت، لنشاهد عظمة الخلق التي هي نموذج صغير من اشعة نور عظمة الخالق. تعالوا ننظر إلى صغر أنفسنا حتى نرى كيف ينتابنا الخوف والوحشة، ولكي نعوّض هذا صغرنا المخوف، فإننا نتحرك لكي نتّصل بالله ونحرر أنفسنا من هذا الخوف، ويصبح حالنا من الذلة إلى العظمة ومن الخوف إلى الأنس.

وبالطبع فإن هذا الخوف، أو بتعبير ألطف؛ >الخشية< إنما تحصل للإنسان عن طريق المعرفة؛ بجلال وجمال وكبرياء وعظمة الله سبحانه وتعالى التي لا حدود لها.

لاحظوا تاريخ الأنبياء والأولياء وعباد الله المؤقنين، اولئك الاعزاء الذين لم يخطر على بالهم ـ في حياتهم ـ لحظةً لارتكاب ذنب، كيف أنهم امام عظمة الله يبكون ويستغيثون؛ مع كل تلك العبادة فإنهم لا يعتبرون أنفسهم شيئاً.

يقولون: بعد هبط آدم إلى الأرض وخروجه من الجنة؛ بكى كثيراً، ونوح ـ الذي اسمه يدل على معناه ـ كان يبكي كثيراً وطويلاً([8]).

تصوّروا أن ابراهيم النبي (عليه السلام) مع ماله من مقام سامي؛ وما وصفه الله في قرآنه المجيد، ماذا كان يخاطب الله سبحانه وتعالى في دعائه، حتى جاءه الخطاب عن طريق امين الوحي قائلاً له: هل رأيت الصديق يورّط محبوبه بالعذاب والتعب؟ فقال لجبرائيل: لا ولكني كلما تذكرت ذنوبي، انسى الصداقة. هذا في وقت دل القرآن الكريم على عصمة وطهارة الانبياء (عليهم السلام)، فماذا يعني هذا الخطاب في كلام ابراهيم (عليه السلام)؟ انه ذلك الإحساس بصغر النفس امام عظمة وجلالة الله سبحانه وتعالى.

انظروا إلى الادعية الواردة من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأئمة المعصومين، خصوصاً دعاء كميل، والمناجات الشعبانية، وكذلك المناجتات الخمسة عشر، ودعاء عرفة، ودعاء أبي حمزة الثمالي ـ الذي هو من إنشاء الإمام السجاد (عليه السلام) ـ حتى تروا أن الإنسان بمعرفة عظمة الخالق وصغر المخلوق، كيف ينتابه هذا الخوف الشديد، وكيف أنه من أجل أن يعوّض صغره نفسه، يقدم على العبادة الخالصة لله سبحانه وتعالى؟

 

الفرق بين الخوف والخشية:

من المناسب هنا، ان نذكر قول العلامة الخواجة نصير الدين الطوسي حول الفرق بين الخوف والخشية، حتى نعلم لماذا أن عشاق الله ينتابهم الخوف، وتفيض اعينهم من الدمع، كسحب الربيع.

يقول الخواجه:

الخوف والخشية وإن كان لها في اللغة نفس المعنى، لكنهما لدى أهل العرفان كل واحد منهما له معنى مختلف. فالخوف عندهم هو: اضطراب وقلق القلب من العقاب والجزاء جراء ارتكاب الذنب وترك الطاعة. وهو موجود عند أكثر الناس. وله مراتب سامية كثيرة، وقليل منهم يدرك المرتبة السامية لها. أما الخشية؛ فهي حالة في القلب من درك عظمة وهيبة الله، والخوف من الحرمان من لطفه. ولا تحصل هذه الحالة، إلا لمن عرف جلال كبريائه، وذاق طعم قربه سبحانه وتعالى([9]).

لذا، فإن البكاء والتضرع، والندبة، والعويل، وخشية عشاق الله، هو  لمعرفتهم بعظمة الله، وهذه الخشية والتضرع وتحمّل عبء هذه العبادة الشاقة، إنّما هو ليجبروا فقرهم واحتياجهم، بواسطة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

يقول المرحوم (ملا احمد النراقي) ـ ذلك العاشق الطاهر ـ في كتابه >طاقديس< في باب البكاء العجيب لنبي الله شعيب (عليه السلام):

 

لقد بكى نبي الله شعيب بجانب الجدار، بكى أياماً مضيئة وليال مظلمة.

وعميت عيناه ولم يستطع الرؤية، وأعطاه الله السلطان عينه.

والذي أنعم عليه بالعينين من بداية حياته، أعطاه مرّة أخرى عينيه عندما عُميت.

وهب له عينيه لكي ينظر بعين العبرة إلى الأشياء، ونراه هل اعتبر من الأشياء أم لا؟

في كل وقت وفي السحر والليل، بكى لدرجة أنه فقد عينيه.

عُميت عينيه الطاهرتين مرةً أخرى، وأعطاه الخالق عينيه مرة أخرى.

وبكى مرة ثالثة بكاء شديداً، في مكان وفي المدينة والصحراء والوديان.

وبكى ليل نهار، حتى عميت عيناه.

عُميت عيناه ولم يقلّ بكاءه، ولم تجده ساعة دون بكاء أو مأتم.

في الليالي يبكي كثيراً، وفي النهار يتحسّر الآهات.

وبكى لدرجة أن الوحوش، والطيور قد أتت من سماع صوت بكائه.

حتى نودي ذات ليلة، إلى متى تبكي يا شعيب؟

فبكائك قد أبكى الخلق، فاحتراق الروح يؤدي إلى احتراق الجسم.

وانت بمثابة الروح والرعية بمنزلة جسدك، وانت المعنى والخلائق أسمائك.

ولك شخص عندما يبكي فلديه غاية، يا شعيب ما غايتك من بكائك؟

فإن كان بكائك خوفاً من نار جهنم، فإنا قد أغلقناها عليك.

وحرّمنا عليك نار جهنم، مثلما حرّمنا الجنة على الكفّار اللئام.

وإن كان بكائك لأجل الجنة، والوصول إلى الحور العين.

فإنّا أعددنا الجنّة وما فيها لك، وزيّنتها الحور العين بأجمل زينة.

فغن الحور العين ينتظرنك ليل نهار، وقلوبهنّ مليئة بالشوق إليك.

فهذه الجنّة وهذه الحور وهذا انت يا شعيب، متى ما شئت إذهب.

فلمّا سمع شعيب هذا النداء من السماء، تأوّه من أعماق قلبه الحزين.

يا إلهي؛ يا راحة كل روح مستهام، مالي وللجنة والنار.

ماهي النار كي أخاف منها، أو أبكي من خوف حرارتها.

فأنا الذي وسط النار منذ سنين، وكبرت وشبت في النار.

وأنا الذي قضيت عمري وتلذذت بالنار، فمن يخوّفني من النار؟

 

فهؤلاء، ينظرون إلى العظمة الإلهية، ويرون كل شيء صغير وحقير ولا شيء، مثلما يصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة المتقين عندما يقول:

عَظُمَ الْخالِقُ فى أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مادونَهُ في أعْيُنِهِمْ.

من اجل هذا، فإنهم لا يأمّلون النفس بأي شيء، ولا يفرحون من نيل النعم الدنيوية، ولا يحزنون من ذهابها، وكل مصائب الدنيا تهون عليهم إلا فراق المحبوب، ولا يتخاصمون على الدنيا مع أحد، ويغضون ابصارهم عن اموالها، ولا يملكون الصفات الرذيلة، لان سببها هو حب الدنيا، ولا يهتمّون لهذه الدنيا، لذلك؛ فإنهم غير ملوّثين بها.

ويعشقون الله فقط، ولا يعرفون كعبة غير قبلته ولا يطيعون أمر أو نهي أحدٍ سواه، ولا يخافون إلا منه، ولا يبحثون عن الذنب أبداً،  حتى انهم لا يخطر ذلك على بالهم، أطهر الأعمال والأفكار هو عملهم. وجودهم للناس وللعالم بركة، ولا يُنتظر منهم إلا الخير والبركة. في وقت هم يتحلون بجميع المحاسن والأعمال الحسنة والطيبة، وبعيدين عن الرذائل، فإنهم يحسبون أنفسهم من أفقر الفقراء وأقل العاملين ومن المهجورين.

ولهذا فإنهم متفوقين على الناس، في إطاعة أوامر الحق، والبكاء من خشيته، والتوبة امامه من الفقر والقصور في أداء الطاعة.

فيقول الإمام علي (عليه السلام) في دعاء كميل مع ما هو عليه من العظمة والجلال ـ التي حصل عليها عن طريق العبادة:

فَكَيْفَ لِي وَأَنا عَبْدُكَ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ الحَقِيرُ المِسْكِينُ المُسْتَكِينُ.([10])

ويقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الصحيفة السجادية:

وَأَنَا أفْقَرُ الفُقَراءِ إلَيْكَ.([11])

ويقول الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة:

إِلهي كُلَّمَا أَخرَسَني لُؤْمي أَنْطَقَني كَرَمُكَ.

مع من اتكلم؟ مع نفسي! فالرذائل شوّهت وجهي لدرجة أني لا أريد أن أرى وجهي.

إلهي! مع من أتكلم؟ مع حضرتك! فإني أرى جميع طرق الوصول إليك موصودة بوجهي، وأسكتتني ذنوبي ومعاصيي.

إلهي! مع من أتكلم؟ مع الآخرين! فلا ريب أن النفس سوف تخفي حقيقتها، وسوف تظهر لهم محاسنها، في هذا الوقت، سيكون وجهي أقبح وأوسخ من قبل، لأنها سوف تضيف إلى سيئاتها، أنها تلوّث بدنس الريا.

إلهي! مع من أتكلم! مع عالم الطبيعة التي هي مطيعة لك دون أي اضطراب؟ ذلك الموجود الذي سلّم نفسه لواضع القوانين؛ الأزلي، وأي شبه فيه مني أنا الذي حتى لم أحارب ميول نفسي؟!

ياإلهي العزيز والرحيم! فلم يبقى موجود آخر لم يتكلم معه هذا التائه الحيران! فكيف يجد مفرّاً من هو ملوّث بالرذائل والسيئات؟ هنالك أمر واحد، وسفينة نجاة واحدة فقط، هو كرمك الذي لا نهاية له.

وما أحسن أنني لم أكن بحاجة إلى النطق بالألفاظ، حتى لا أكون خجلاً أكثر من مفاهيم تلك الألفاظ([12]).

نعم، هذا هو رأي العارفين وسالكي الطريق،  واهتمام أهل البصيرة والمعرفة بالله سبحانه وتعالى، مع ان آثار العبودية في سيماهم فإنهم لا يحسبون انفسهم شيئاً امام عظمة الخالق. ومن اجل هذه المعرفة والشعور الكثير، فكلما يتقدمون أكثر ويتقربون أكثر إلى مقام القرب منه، يصلوا إلى حقيقة أنهم لا شيء، وينتاب جميع وجودهم خشية أثقل، فأولئك بهذه الطريقة يستمرون على هذا النهج، إلى ان ينتقلوا إلى العالم الآخر، وعندما هذا النداء:

{...أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}([13]).

{يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً}([14]).

يصلهم، تتحول خشيتهم إلى أمْن تام، وباتصالهم بمقام حضرة المحبوب، يتخلصون من هذا النقص المحيط بهم من كل جانب.

حقاً، فأولياء الله ما هو رأيهم عن أنفسهم؟ نعم، ان الإنسان أشرف من كثير من المخلوقات، كلما اطلع هذا الإنسان على فقره واحتياجه وانه لا شيء، كلما تجلتعظمة وكبرياء، وجلال وجمال الحبيب في بيت قلبه، وكلما تجلّى جمال المعشوق في قلب العاشق، وكان على معرفة عظمة المعشوق، ومطلعٌ على ذلة وحقارة نفسه، فإنه ينتابه خشية أكثر. ومع هذا المركب المعنوي، فإنه يستمر أكثر في المسير، ومن أجل رفع هذه الذلة والحقارة، فإنه يتقرّب أكثر حضرة المحبوب ويسعى أكثر.



([1]) بحار الأنوار: 68/23، باب 61، حديث 1.

([2]) أمالي الشيخ الصدوق: 624، المجلس الحادي والتسعون، حديث2، بحار الانوار: 33/274، باب20، حديث538.

([3]) أمالي الشيخ الصدوق: 636، حديث 1314؛ بحار الأنوار: 46/60، باب 5، حديث 18.

([4]) >تصوّف وادبيات تصوّف: 282<.

([5]) بحار الأنوار: 68/23، باب 61، الشكر.

([6]) بحار الأنوار: 33/274، باب نوادر الاحتجاج، حديث 538؛ إرشاد القلوب: 2/218، الجزء الثاني، في فضائل ومناقب أمير المؤمنين (عليه السلام).

([7]) >نظامي<.

([8]) روى المرحوم المجلسي (رحمه الله): أن اسم النبي نوح كان «عبدالغفار»; لكنّه بسب بكائه الشديد والطويل اشتهر باسم «نوح». «عن ابي عبداللّه (عليه السلام) قال: كان اسمُ نوح (عليه السلام)عَبْدَ الْغَفّارِ وانَّما سُمِّىَ نُوْحاً لاَِنَّه كانَ يَنُوحُ عَلى نَفْسِهِ» .

([9]) الكافي: 3/115.

([10]) الاقبال: 708؛ مصباح المتهجد: 847.

([11]) الصحيفة السجادية: 71، الدعاء العاشر.

([12]) >نيايش حسين: 54<.

([13]) فصّلت (41): 30.

([14]) الفجر (89): 27-28.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الخوف من سوء العاقبة
النفس ومراحلها السبعة:
حديث من العرفاء:
أهل البيت^ والعبودية-2
وَالْحُبُّ فَرْعُ الْمَعْرِفَةِ
أهل البيت النور المطلق
التوسل بأهل البيت -2
10. علل اختفاء النعم
11.استكمال البركة
مراحل عبادة العارفين:

 
user comment