فَالْخَوْفُ فَرْعُ الْعِلْمِ
جذور الخوف:
يعتبر الإمام الصادق (عليه السلام)؛ العلم والمعرفة أنها جذور الخوف. وهذا الكلام هو عين الواقع والحقيقة، لأن الخوف من الأمور القلبية والحصول عليها خارجة عن نطاق ارادتنا وليست اختيارية، بل من الأمور الجبرية، وحصولها ممكن بمساعدة مقدّمات اختيارية وافضل مقدمة أو بالأحرى أكثر عامل مؤثر في تحصيل الخوف والخشية؛ هو العلم والمعرفة.
ان الإنسان المطلع بمقام الحق والعالم بذنبه فإنه بكل تأكيد يخاف الله سبحانه وتعالى ويتجه نحو طلب التوبة والانابة منه، والعالم بالجزاء والعقاب، يسعى أن يترك الذنب، والمطلع على تقصيره في عبادته أمام الله جل وعلا، يتحرك لكي يعوّض هذا النقص ويكفّر عن ذنوبه. والذي عن طريق تعاليم الانبياء (عليهم السلام)، والاطلاع على القرآن الكريم وثقافة أهل البيت (عليهم السلام)، عرف الله وعظمته، يدرك كم هو حقير وصغير، وينتابه الخوف والخشية بكل تأكيد؛ وكما يقول الله عزوجل:
{إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ }([1]).
بالنظر إلى أن العلم والمعرفة، ـ العلم والمعرفة بالله سبحانه وتعالى وشوؤنه ـ هو أساس الخوف، سوف نشير إلى بعض الآيات والروايات التي جاءت في باب العلم. وقبل ان ندخل في هذا البحث، يجب علينا ان نعلم ان فضيلة العلم يعتمد على فضيلة نوعها، وبما ان الله سبحانه وتعالى وشوؤنه هو أشرف من كل شيء، لذا العلم بالله وشؤونه هو من أفضل العلوم، ومصداق الآيات والرواياتالكامل للعلم، هو العلم بالله وشؤونه، والتي هي أساس الخوف والخشية، وافضل سبب لطهارة وتربية الإنسان.
العلم في القرآن:
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}([2]).
{أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الآْخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَْلْبابِ}([3]).
في هذه الآية، فإن جميع آثار العبودية الحقيقية، ناتجة من معرفة وفهم العبد لله سبحانه وتعالى وشوؤونه.
{وَما يَسْتَوِي الأَْعْمى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُماتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَما يَسْتَوِي الأَْحْياءُ وَلاَ الأَْمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}([4]).
الأئمة الأطهار (عليهم السلام) فسّروا هذه الآية هكذا:
لايستوي الكافر المليء بظلمة الروح، وعمى القلب، مع المؤمن الذي ملئه النور والضياء، ولا تستوي الحياة المضيئة بنور الهداية، مع الحياة المليئة بالكفر والشيطان، ولا يستوي من هو في ظل لطف الله وظل الإيمان، مع الذي هو غارق في نار العصيان والشقاوة. ولا تستوي الحياة المليئة بالعلم والإيمان والمزينة بالمعرفة والبصيرة، مع الحياة الملوّثة بالجهل والحماقة.
وهل يستوي الذي وصل إلى معرفة الله وانبيائه والأئمة (عليهم السلام) واليوم الآخر، ووصل بفضلها إلى أسمى الدرجات الإنسانية، مع من يشبه الحيوانات؛ وهمه الوحيد هو الماء والعلف؟
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}([5]).
العلم في الروايات:
عَنِ الصّادِقِ (عليه السلام): إِنَّ رَسُولَ اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: أَعْلَمُ النّاسِ مَنْ جَمَعَ عِلْمَ النّاسِ إِلى عِلْمِهِ، وَأَكْثَرُ النّاسِ قِيمةً أَكْثَرُهُمْ عِلْماً، وَأَقَلَّ النّاسِ قيمَةً أَقَلُّهُمْ عِلْماً([6]).
في خُطْبَة خَطَبَها أَمِيرُالمُؤْمِنينَ (عليه السلام) بَعْدَ فَوْتِ النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم): وَلا كَنْزَ أَنْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ([7]).
قالَ أَميرُالْمُؤْمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالب (عليه السلام): تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَاِنَّ تَعَلُّمَهُ حَسَنَةٌ، وَمُدارَسَتَهُ تَسْبيحٌ، وَالْبَحْثُ عَنْهُ جِهادٌ، وَتَعْليمُهُ لِمَنْ لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَهُوَ أَنيسٌ في الْوَحْشَةِ، وَصاحِبٌ في الْوَحْدَةِ، وَسَلاحٌ عَلَى الأَعْداءِ، وَزَيْنُ الأَخِلاّءِ، يَرْفَعُ اللّهُ بِهِ قوماً يَجْعَلُهُمْ في الخَيْرِ أَئِمَّةً يَقْتَدى بِهِمْ، تَرْمَقُ أَعْمالُهُمْ، وَتُقْتَبَسُ آثارُهُمْ تَرْغَبُ الْمَلائِكَةُ في خُلَّتِهِمْ، تَمْسَحُونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ في صَلاتِهِمْ لاَِنَّ الْعِلْمَ حَياةُ القُلُوبِ وَنُورُ الأَبْصارِ مِنَ العَمى، وَقُوَّةُ الأَبْدانِ مِنَ الضَّعْفِ، وَيُنَزِّلُ اللّهُ حامِلَهُ مَنازِلَ الأَبْرارِ، وَتَمْنَحُهُ مُجالِسَةَ الأَخْيارِ في الدُّنْيا وَالاْخِرَةِ، بِالْعِلْمِ يُطاعُ اللّهُ وَيُعْبَدُ، وَبِالْعِلْمِ يُعْرَفُ اللّهُ وَيُوَحِّدُ، وَبِالْعِلْمِ تُوصَلُ الأَرْحامُ وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَلالُ وَالْحَرامُ، وَالْعِلْمُ أَمامُ الْعَقْلِ، وَالْعَقْلُ تابِعُهُ، يُلْهِمُهُ اللّهُ السُّعَداءَ وَيُحَرِّمُهُ الأَشْقِياءَ([8]).
هذه الرواية من أفضل الروايات في باب العلم، فقد بُيّن في هذه الرواية أن درجات المعنوية والعملية للإنسان ترتبط بمقدار علمه. فأشرف العلوم هو العلم بالله، العلم بالآخرة، العلم بالحلال والحرام. علم يعرّف الإنسان مع خصائص العالم، ويكون كسلّم له يرتقي بها جميع الكمالات.
عَنْ رَسُولِ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: أَفْضَلُ الْعِبادَةِ الفِقْهُ وَأَفْضلُ الدِّينِ الوَرَعُ([9]).
عَنْ أَبي جَعْفَر (عليه السلام) قالَ: ما مِنْ عَبْد يَغْدُو فى طَلَبِ الْعِلْمِ وَيَرُوحُ إِلاّ خاضَ الرَّحْمَةُ خَوْضاً([10]).
قالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): فَقيهٌ واحِدٌ أَشَدُّ عَلى إِبْلِيسَ مِنْ أَلْفِ عابِد([11]).
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ يُرِدِ اللّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدّينِ([12]).
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلى ذُلِّ التَعلُّمِ ساعَةً بَقِىَ فى ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَداً([13]).
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الشاخِصُ فى طَلَبِ الْعِلْمِ كَالْمُجاهِدِ فى سَبيلِ اللّهِ، إِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَريضَةٌ عَلى كُلِّ مُسْلِم وَكَمْ مِنْ مُؤمِن يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ في طَلَبِ الْعِلْمِ فَلا يَرْجِعُ إِلاّ مَغْفُوراً([14]).
وَقالَ (عليه السلام): لا عِلْمَ كَالتَفَكُّرِ وَلا شَرَفَ كَالْعِلْمِ([15]).
قالَ أَميرُالْمُؤْمِنينَ (عليه السلام): يا مُؤْمِنُ إِنَّ هذَا الْعِلْمِ وَالأَدَبِ ثَمَنُ نَفْسِكَ، فَاجْتَهِدْ في تَعَلُّمِهَا فَما يَزيدُ مِنْ عِلْمِكَ وَأَدَبِكَ يَزيدُ في ثَمَنِكَ وَقَدْرِكَ، فَإِنَّ بِالْعِلْمِ تَهْتَدي إِلى رَبِّكَ وَبِالاَْدَبِ تَحْسُنُ خِدْمَةَ رَبِّكَ وَبِأَدَبِ الْخِدْمَةِ يَسْتَوْجِبُ الْعَبْدُ وِلايَتَهُ وَقُرْبَهُ، فَأَقْبَلِ النَّصيحَةَ كَيْ تَنْجُوَ مِنَ الْعَذابِ([16]).
عَنْ أَبي عَبْدِاللّهِ عَنْ آبائِهِ (عليهم السلام) قالَ: قالَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): طالِبُ الْعِلْمِ بَيْنَ الجُهّالِ كَالْحَيِّ بَيْنَ الأَمْواتِ([17]).
قالَ أَميرُالْمُؤْمِنينَ (عليه السلام): إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالاَْنْبِياءِ أَعْلَمُهُمْ بِما جاؤُوا بِهِ ثُمَّ تَلا (عليه السلام): {اِنَّ اَوْلَى النّاسِ بِاِبْراهيمَ لَلَّذينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذينَ آَمَنُوا}، ثُمَّ قالَ: إِنَّ وَلِيَّ مُحَمَّد مَنْ أَطاعَ اللّهَ وَإِنْ بَعُدَتْ لُحْمَتُهُ، وانَّ عَدُوَّ مُحَمَّد مَنْ عَصَى اللّهَ وَإِنْ قَرُبَتْ قَرابَتُهُ([18]).
قالَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ فَهُوَ كَالصَّائِمِ نَهارَهُ الْقائِمَ لَيْلَهُ وَإِنَّ باباً مِنَ الْعِلْمِ يَتَعَلَّمَهُ الرَّجُلُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبُو قُبَيْسُ ذَهَباً فَأَنْفَقَهُ فى سَبيلِ اللّهِ.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ جاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِىَ بِهِ الاْسْلامَ كانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَنْبِياءِ دَرَجَةٌ واحِدَةٌ في الْجَنَّةِ([19]).
حينما ندقق في الآيات والروايات الواردة في باب العلم؛ نلاحظ ان المقصود بالعلم في الدرجة الأولى، هو العلم بالدين، كما أشارت الآيات والروايات بصراحة إليها، وهذا العلم هو الذي يجعل الإنسان في درجة العارفين، والعاملين، والمتقين، والخاشعين والخائفين، اضافة إلى هذا، فإن هذا العلم ـ الذي يعلّم الإنسان الحلال والحرام والقوانين والمقررات الإلهية ـ يعرّفه الحق، وعظمته وجلاله، ويطّلع كم هو صغير ولا شيء امام عظمته؛ ولكي يعوّض هذا الشعور، الذي أوحشه بشدة، فإنّه يؤدّي أفضل العبادة، ويصل إلى مقام القرب الإلهي، ويعوّض نقصه واحتياجه وذلته وحقارته.
وأيضاً، بسبب هذا العلم، فإنّه يطّلع على عاقبة الاعمال الحسنة، ويجتهد لأن يؤدي أي عمل خير، وكذلك يطّلع على عاقبة الاعمال السيئة، ويجتنب ارتكاب المعاصي، أو انه يسعى بأن يكفّر ماضيه من الذنوب ويتجه إلى طلب التوبة من الله سبحانه وتعالى. مثل هكذا إنسان ـ الذي وصل إلى هذه المرتبة من العلم ـ يعيش دائماً حالة من البكاء والقلق من خوف الذنب وعاقبته، ومن أجل وحشته من صغره امام عظمة الله سبحانه وتعالى، فإنّه يتوسّل بعبادة الله والجهاد وأي شيء في سبيل الله، ومن هذا الطريق، فإن وجوده يصبح منبع للخير والبركة كوجود الانبياء (عليهم السلام)، فلذلك فإن الإمام الصادق (عليه السلام) يرى كل خوف صحيح هو نتيجة العلم ويقول: فَالْخَوْفُ فَرْعُ الْعِلْمِ .
([8]) بحار الانوار: 1/166، باب1، حديث7، تحف العقول: 28، ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) العلم والعقل والجهل.
([9]) بحار الأنوار: 1/167، باب 1، حديث 11؛ وسائل الشيعة: 20/358، باب 31 ـ وجوب العفة والورع، حديث 25826.