وَالرَّجاءُ فَرْعُ الْيَقينِ
الأمل بالله سبحانه وتعالى:
الأصل الثاني الذي تدور عليه حياة العارفين؛ هو الأمل، الأمل بلطف الله، الأمل برحمة الله، الأمل بعناية الله، الأمل بالله الذي دون أن يسأله الإنسان، أفاض عليه من رحمته منذ تكوين نطفته إلى خروجه من الدنيا، وأساغ عليه النعم، في جميع شؤونه، وأغدق عليه لطفه وعنايته.
ان أمل الإنسان بالله هي ثمرة اليقين بالوقائع التي صدرت من الله سبحانه وتعالى للإنسان، وهذا الأمل هو من أفضل الثروات الروحية، التي بمساعدتها يستطيع الإنسان ان يصل إلى كمالات هي فوق تصوّر البشر.
الأمل، أحلى ثمرة يتذوقها قلب الإنسان، وافضل ثروة يستطيع الإنسان من خلالها أن يغنم أربح تجارة.
لكي نحصل على اليقين الذي يصنع لنا الأمل؛ يجب علينا ان نأخذ ثلاث حقائق بعين الاعتبار:
1 ـ سلوك الله سبحانه وتعالى مع الإنسان.
2 ـ معاملة الله سبحانه وتعالى للمذنبين التائبين.
3 ـ التوجّه إلى الآيات والروايات التي جاءت حول الامل.
حول مسئلة سلوك الله مع الإنسان وكيف ان الله سبحانه وتعالى من باب لطفه وحبه خلق الإنسان وماهي الاسرار التي أودعها في خلقه، وما أسبغ عليه من نعم لا تحصى، فقد أُلفت آلاف الكتب حول هذا الموضوع.
في الوقت الذي لم تستطع كل الكتب ان توضح حتى جزءاً بسيطاً من حب الله لعباده، فكيف استطيع أنا في الصفحات القليلة ومع هذا الفكر الناقص ان ابين نعم الله سبحانه وتعالى على عباده؟!
وصايا الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضل:
نذكر هنا خلاصة وصايا الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) التي تبين لطف الله سبحانه وتعالى لعباده، ويوضحها (عليه السلام) للمفضل حتى نستيقظ من نوم الغفلة بعد مطالعة هذه السطور، ونزيل تلك الغيوم السوداء عن جميع تلك المحبة للمحبوب، ويضيء نور الامل في قلوبنا. وهذا الامل يؤدّي بنا إلى التمسك برحمته، والتحليق نحو مقام القرب الإلهي.
يا مفضل: أول العبر والادلة على الباري جل قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ماهي عليه ، فإنك إذا تأملت العالم بفكرك وميزته بعقلك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف، والارضممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكل شئ فيها لشأنه معد، والانسان كالمملك ذلك البيت، والمخول جميع ما فيه، وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه، ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة، نظام وملائمة، وأن الخالق له واحد هو الذي ألفه ونظمه بعضا إلى بعض، جل قدسه، وتعالى جده، وكرم وجهه، ولا إله غيره، تعالى عما يقول الجاحدون، وجل وعظم عما ينتحله الملحدون.
نبتدئ يا مفضل بذكر خلق الانسان فاعتبر به، فأول ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم، هو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى، ولا استجلاب منفعة ولا دفع منصرة، فإنه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذوا الماء النبات فلا يزال ذلك غذاؤه حتى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه، وقوي أديمه على مباشرة الهواء، وبصره على ملاقات الضياء هاج الطلق بامه فأزعجه أشد إزعاج ، وأعنفه حتى يولد، إذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم امه إلى ثدييها فانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء، وهو كأشد موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمظ وحرك شفتيه طلبا للرضاع فهو يجد ثديي امه كالاداوتين المعلقتين لحاجته إليه، فلا يزال يغتذي باللبن مادام رطب البدن، رقيق الامعاء، لين الاعضاء، حتى إذا تحرك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوي بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والاضراس، ليمضغ به الطعام فيلين عليه، ويسهل له إساغته فلا يزال كذلك حتى يدرك فإذا أدرك وكان ذكراً طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعز الرجل الذي يخرج به من حد الصبا وشبه النساء، وإن كانت انثى يبقى وجهها نقيا من الشعر، لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرّك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه.
اعتبر يا مفضّل فيما يدبر به الانسان في هذه الاحوال المختلفة ، هل ترى يمكن أن يكون بالاهمال؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ألم يكن سيذوي ويجف كما يجف النبات إذا فقد الماء؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤود في الارض؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته ألم يكن سيموت جوعاً، أو يغتذي بغذاء لا يلائمه ولا يصلح عليه بدنه؟ ولو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام وإساغته، أو يقيمه على الرضاع فلا يشد بدنه ولا يصلح لعمل؟ ثم كان تشتغل امه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته ألم يكن سيبقى في هيئة الصبيان والنساء فلاترى له جلالة ولاوقاراً؟
فقال المفضل: فقلت: يا مولاي فقد رأيت من يبقى على حالته ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ حال الكبر، فقال: ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد([1]).
ثم يشير الامام (عليه السلام) إلى كثير النعم المادية والمعنوية التي اعطاها الله للإنسان ويحظه يطيعه سبحانه وتعالى مقابل هذه النعم.
كل هذه النعم التي نراها أمام اعيننا في الليل والنهار، إذا لم تكن احدى هذه النعم فإننا سوف نواجه مشاكل غير قابلة للحل؛ في الوقت الذي انعمها الله سبحانه وتعالى بلطفه وحبه لعباده ودون طلب عباده، أو تضرعهم لله سبحانه وتعالى. وكل هذه الاشياء الأ توجد اليقين في قلب وروح الإنسان نسبتاً لكرم وعناية الله لعباده؟!
منذ أن كان هذا الإنسان نطفة في صلب أبيه وإلى الآن فهو غارق في انواع النعم التي لا تحصى ودائماً كان ويكون موضع إحسان الله سبحانه وتعالى، وهذا الإحسان قطعي وحسي وهو دليل ومرشد الإنسان إلى الامل. فلذا علينا أن نكون في حالة أمل ورجاء مع وجود رب كريم ورحيم في قبول التوبة والعذر وانه الوحيد الذي يعوض جميع الاحتياجات من باب لطفه وكرمه على عبده، ولا نيأس من روحه طبق الآيات الواردة في سورة يوسف الذي ذكرت بأن اليأس هو محض الكفر.
وبالطبع يجب ان اذكر هنا ملاحظة مهمة وضرورية ألا وهي ان الإنسان الذي يأمل برحمته سبحانه وتعالى يجب ان قد أطاع ويطيع اوامره، وأن يكون قد زرع لآخرته في دنياه، و ان يتسلح بسلاح التوبة ليكفر عن ذنوبه المتقدمة، وغير هكذا أمل يعتبر من وجهة نظر القرآن والسنة النبوية، املاً في غير محله؛ بأن يطمع الإنسان بثواب وعطاء الله بدون عمل.
فالفلاح الذي يملك ارض زراعية و في فصل الخريف لم يشرع بتنظيف الأرض من الحجارة والحصى، ولم يحرثها ولم يقم ببقية الاعمال ولم يزرع البذور في الأرض، فإذا كان هذا الفلاح يأمل ان يحصد محصولاً من ارضه، فهو عين الجهل والحمق، فهكذا أمل بالله، من وجهة نظر الإسلام لا يسمّى أملاً، إنّما هو أمْن من مكر الله سبحانه وتعالى، والتي تعتبر من الذنوب الكبيرة وسبباً للعذاب في يوم القيامة.
فعندما يعد الإنسان جميع المعدات لمجاهدة العدو الباطني والظاهري ويبرز إلى ميدان الحرب، عندها فيكن لديه أمل بالنصر، وليتيقن ان الله ينصره على أعدائه.
وعندما يؤدي الإنسان جميع واجباته ويجتنب ارتكاب الذنوب، عندئذ عليه أن يأمل بلطف ومحبة الله سبحانه وتعالى، وأن يتوقع الأجر والثواب العظيمين.
إذا لم يكن الأمل بعد العمل أو التوبة، فهو ليس بأمل، وبدون العمل وأداء أوامر الله، والابتعاد عن الحرمات، علينا ان لا نأمل برحمته. كما ان الآيات القرآنية والروايات والاخبار اشارت بصراحة تامة إلى هذه الحقيقة؛ التي سوف نبينها في الفصول القادمة.
نعم، فعندما نشاهد الطاف الله سبحانه وتعالى نتيقن بلطفه وعنايته، واليقين هو أيضاً عامل لبروز الأمل، فعندما كان الإنسان يوماً ما، لايستحق أي لطف ولم يطلب منه جل وعلا، وكان طفلاً ضعيفاً، أو انساناً فقيراً، ولكنّه كان موضع جميع هذه الألطاف الإلهية.
واليوم عندما يشقى في طاعته وعبادته، وعندما يرتكب معصية فإنه يسهر ليله في حالة إنابة وتوبة؛ فكيف لا يأمل بثواب العمل ومغفرة الذنب؟
في يوم الذي كان الله سبحانه وتعالى لم يكلف عبده بالعمل والتوبة، كانت رحمته تسبغ عليه النعم والاحسان، واليوم عندما يربط الله سبحانه وتعالى العمل والتوبة؛ بالثواب، والجنة والنجاة عن عذاب جهنم، كيف لا يجازيه بالثواب، في مقابل اطاعته، وكيف لا يغرقه في رحمته ومغفرته مقابل توبته؟!
لذا فإن الأمل الذي يرافقه العمل صحيح مثلما خاطب الله سبحانه وتعالى موسى:
ما أَقَلَّ حَياءً مَنْ يَطْمَعُ في جَنَّتي بِغَيْرِ عَمَل. يا مُوسى كَيْفَ أَجْوَدُ بِرَحْمَتي عَلى مَنْ يَبْخَلُ بِطاعَتي([2]).
الله سبحانه وتعالى والمذنبين التائبين:
في الحقيقة ما اعجب وألطف وأكرم الله سبحانه وتعالى، فالإنسان الذي قضى عمره في الكفر والمعصية ولم يذكر الله ولو لحظة، ولم يعمل عملاً مطابقاً لأوامر الله، عندما يواجه الهداية والإيمان ويقبل ذلك، فإن جميع ماضيه يغفره الله له، إحتراماً لهذا الإرتباط والرجوع إلى حضيرة الرب، في الوقت الذي إذا مات هذا الشخص وهو في حالة إيمان، كان من أهل الجنة، فحقاً، كيف لا يأمل الإنسان بهكذا رب؟
جاء في الآثار الإسلامية:
إنّ مجوسيّا استضاف إبراهيم الخليل (عليه السّلام) فقال: إن أسلمت أضفتك فمرّ المجوسيّ فأوحى اللّه تعالى إلى إبراهيم يا إبراهيم لم تطعمه إلا بتغيير دينه و نحن منذ سبعين سنة نطعمه على كفره فلو أضفته ليلة ما ذا كان عليك، فمرّ إبراهيم يسعى خلف المجوسيّ فردّه و أضافه فقال المجوسيّ: ما السبب فيما بدا لك؟ فذكر له، فقال المجوسيّ: أهكذا يعاملني، ثمّ قال: اعرض عليّ الإسلام فأسلم([3]).
يقول العارف الكبير المرحوم الشيخ النراقي في كتابه الثمين (طاقديس) وفيه يبيّن سلوك الساحة المقدسة تجاه احد عباده المذنبين التائبين في زمان نبي الله موسى (عليه السلام)، فيقول:
رأى موسى كافراً في طريقه، وكان كبيراً في السن وضال.
يا موسى إلى أين هذا الطريق يؤدي؟، فتذهب فيه أنت مع ادعائك.
فقال موسى إنما أذهب إلى طور سيناء، أذهب إلى عمق بحر النور.
أذهب لكي أناجي الله سبحانه، واطلب المغفرة لذنوبك.
يا موسى انت يمكنك حمل رسالة، واحدة إلى ربك وإيصالها إليه.
فقال موسى ما هي رسالتك؟ فقال له: قل له عن أحوالي وأوضاعي.
قل: إن فلاناً يعيش في مشاكل وإضطرابات، ويستحي من لقائك.
إن كان الرزق عليك فلا أريده، ولا أريد رزقك وأنت تمنّ علي.
فلا أنت ربي ولا أنا عبد لك، ولا أريد أن أكون ممتنناً لرزقك.
فغضب موسى من كلامه، وقال له: ماتقول يا رجل؟ مه!.
فاستمر موسى في طريقة لمناجاته، وناجى ربه الغني.
وفي تلك العزلة لم يكن أحد معه، فأراد الرجوع نحو المدينة.
واستحى إيصال رسالة ذلك الرجل العنيد، فلم يقل سوى المناجاة.
فقال له ربه: أين رسالة عبدي؟، فقال موسى: إني أستحي ان اقولها.
اذهب إلى ذلك الرجل العنيد، وبلغه سلاماً مني.
وقل له بأنك تقول إن الله يكسر القلوب، إن كنت تستحي منا، فاستح.
فنحن لا نستحي منك وكذلك، نحن لا نريد ان نغضب عليك أو نحاربك.
وإن لم تكن تريدنا فلا ، ولكننا نريدك عزيزاً.
وإن كنت لا تريد أن أرزقك، فرزقك يأتيك من مائدة الفضل والكرم.
وإذا لا تتحمل منه الرزق، فأرزقك دون منة.
ففيضي يعم الجميع وفضلي كذلك، ولطفي دون نهاية وجودي قديم.
فالخلق هم عيال الله وفيضه، كالمرضعة الحنون والحسنة الأخلاق.
فالاطفال يزعلون مرة وأخرى يتدلعون، ومرة لا يقبلون برضع الحيب من ثدي المرضعة.
فالمرضعة تضع ثديها في فمهم، وتقول لهم: لا تتدلعوا أكثر يا أنيس الروح.
فينحنون تجاه المرضعة ويضعون أفواههم في ثديها، وهي تقبلهم في أفواههم.
فلما رجع موسى من جبل الطور، فطريقه كان مليئاً بالنور.
فقال الكافر إن موسى قد رجع، فأين جواب رسالتي، إن كان لديك جواباً.
فبلّغ موسى رسالة ربه إلى الكافر، فذهب صدأ الكفر عن الكافر.
فكانت روحه مرآة للصدأ، وكان جواب الله له كالصيقل صقله.
وكان الكافر يسير في طريق الضلال، وكان جواب الله له كالجرس أيقظه من الغفلة.
كانت روحه كالليلة المظلمة الطويلة، فجواب الله كان له كبزوغ الفجر ونور الشمس.
فطأطأ رأسه منحنياً للأسفل، واضعاً يديه على عينيه للأسفل.
ثم رفع رأسه وعيونه مبتلة بدموعه، ولسان وباطن مفعم بالحرارة.
قال لموسى: قد أحرقتني، واشعلت النار في داخلي.
ويلي ماذا قلت ووجهي أسود، يا حيائي وخجلتي منك يا رب.
ياموسى، اعرض عليّ الإيمان، فإني الآن كالطفل لا أقدر على الكلام.
يا موسى علّمني الإيمان، ويا ربّ ارجعني إليك وخذ روحي.
فكلّمه موسى حديثاً واحداً، فقالها الرجل وفاضت روحه.
فيا لصفاء الروح، اصبر وتعلّم الإيمان من هذا الرجل الكبير.
حتى وإنك كان كلامك إيماني، مع ذلك فإن حديثك ألذّ وأطيب.
فكلامي كله إسلام، وحديثك تمامه سلام.
وحتى ولو ان اعمالك عار وذل، مثل الكافر الذي يعبد الأصنام.
الأثر السيء للتكبر:
أنّ لصّا كان يقطع الطريق في بني إسرائيل أربعين سنة فمرّ عليه عيسى عليه السّلام و خلفه عابد من عبّاد بني إسرائيل من الحواريّين فقال اللّصّ في نفسه:
هذا نبيّ اللّه يمرّ و إلى جنبه حواريه لو نزلت فكنت معهما ثالثا، قال: فنزل فجعل يريد أن يدنو من الحواريّ فيزدري نفسه تعظيما للحواريّ ويقول في نفسه:
مثلي لا يمشي إلى جنب هذا العابد قال: و أحسّ به الحواريّ فقال في نفسه: هذا يمشي إلى جانبي فضمّ منه نفسه و تقدّم إلى عيسى عليه السّلام فمشى إلى جانبه فبقي اللّصّ خلفه قال: فأوحى اللّه تعالى إلى عيسى قل لهما ليستأنفا العمل فقد أحبطت ما سلف من أعمالهما أمّا الحواري فقد أحبطت حسناته لعجبه بنفسه و أمّا الآخر فقد أحبطت سيّئاته بما ازدرى على نفسه فأخبرهما بذلك و ضمّ اللّصّ إليه في سياحته و جعله من حواريه([4]).