
الأذان في العيدين
1 - الأذان في العيدين
لا خلاف بين المذاهب الإسلامية في أن صلاة العيدين لا أذان فيها ولا إقامة.
قال الشوكاني: أحاديث الباب تدل على عدم شرعية الأذان والاقامة في صلاة العيدين، قال العراقي: وعليه عمل العلماء كافة، وقال ابن قدامة في
|
|
|
المغني: ولا نعلم في هذا خلافاً ممن يعتد بخلافه(1).
وقال الإمام مالك إنه سمع غير واحد من علمائهم يقول: لم يكن في عيد الفطر ولا في الاضحى نداء ولا إقامة منذ زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى اليوم. قال مالك: وتلك السنّة التي لا اختلاف فيها عندنا(2).
وقال النووي: ولا يؤذن لها ولا يُقام، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت العيد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم صلى قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة. والسنّة أن ينادى لها: الصلاة جامعة لما روي عن الزهري أنه كان ينادي بها(3).
وروى الشافعي عن الزهري قال: لم يؤذّن للنبي (صلى الله عليه وآله) ولأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان في العيدين، حتى أحدث ذلك معاوية بالشام، فأحدثه الحجاج بالمدينة حين اُمِر عليها!(4)
قال ابن حجر العسقلاني: اختلف في أول من أحدث الأذان فيها، فروى ابن أبي شيبة باسناد صحيح عن سعيد بن المسيب، أنه معاوية. وروى الشافعي عن الثقة عن الزهري مثله، وروى ابن المنذر عن حصين بن عبدالرحمان، قال: أوّل من أحدثه زياد بالبصرة، وقال الداودي: أول من أحدثه مروان، وكل هذا لا ينافي أن معاوية أحدثه كما تقدم في البداءة بالخطبة!(5).
فمعاوية كان مجتهداً ومشرعاً إذاً، وليس الأمر كما يدعي الخضري بك،
____________
1- نيل الأوطار 3: 336، المغني 2: 235.
2- الموطأ 1: 177.
3- المجموع، شرح المهذب 5: 18 كتاب الصلاة: باب صلاة العيدين.
4- الاُم 1: 235.
5- فتح الباري 2: 453، ارشاد الساري للقسطلاني 2: 737، المصنف لابن أبي شيبة 2: 169، شرح الموطأ للزرقاني 1: 362.
|
|
|
ولكن معاوية كان مجتهداً في تغيير السنّة النبوية الشريفة وابتداع شريعة جديدة لا تتماشى مع شريعة الإسلام، وكما سوف يتبين بشكل أوضح فيما يأتي.
أخرج الشافعي من طريق عبيد بن رفاعة قال: إن معاوية قدم المدينة فصلى بهم، فلم يقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم)، ولم يكبّر إذا خفض وإذا رفع، فناداه المهاجرون حين سلّم والأنصار: أن يا معاوية، سرقت صلاتك! أين بسم الله الرحمن الرحيم؟! وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟!
فصلى بهم صلاة اُخرى، فقال ذلك فيها الذي عابوا عليه(1).
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن المسيب أنه قال: أول من نقص التكبير معاوية.
كما وأخرج عن طريق ابراهيم، قال: أول من نقص التكبير زياد(2).
قال ابن حجر: هذا لا ينافي الذي قبله، لأن زياداً تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان!(3).
وقال الفخر الرازي: إن علياً (عليه السلام) كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة الى بني اُمية، بالغوا في المنع من الجهر، سعياً في إبطال آثار علي (عليه السلام)!(4).
فعدم جهر معاوية بالبسلمة، وتركه التكبير عند كل رفع وخفض، إنما كان
____________
1- الاُم 1: 108.
2- المصنف 1: 242.
3- فتح الباري 2: 270.
4- التفسير الكبير 1: 180 الجهر بالبسملة في الصلاة.
|
|
|
من بغض علي بن أبي طالب وسعياً الى هدم السنّة النبوية الشريفة التي كان علي بن أبي طالب حريصاً عليها.
ويبدو أن هذه البدعة قد استشرت حتى بعد زمان معاوية، الى أن أبطلها عمر بن عبدالعزيز الذي "كتب الى عماله يأمرهم أن يكبّروا كلما خفضوا ورفعوا في الركوع والسجود، إلاّ في القيام من التشهد بعد الركعتين، لا يكبّر حتى يستوي قائماً، مثل قول مالك"(1).
ولم يقتصر التغيير والتضييع على البسملة والتكبير، بل إن أيدي التغيير قد طالت الصلاة كلها، حتى شقّ ذلك على صحابي كبير بقي حياً حتى رأى ما أحدثه معاوية وبنو اُمية في الصلاة التي هي عماد الدين، ألا وهو الصحابي أنس بن مالك الذي قال: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)! قيل: الصلاة. قال: أليس ضيّعتم ما ضيعتم فيها!
وعن عثمان بن أبي روّاد أخي عبدالعزيز قال: سمعت الزهري يقول: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت ما يبكيك! فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلاّ هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعت!(2).
لم يقتصر بغض معاوية وبني اُمية لعلي على مخالفته في ترك البسملة والتكبير -والتي كانت تخفي في الحقيقة أهدافاً أبعد من ذلك- بل تعداه الى ترك شعيرة من شعائر الحج، وسنّة مؤكدة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو التلبية، والتي اتفق العلماء عليها ووردت بذلك الأخبار الصحيحة المتكاثرة. فقد جاء "عن
____________
1- المدونة الكبرى 1: 70.
2- صحيح البخاري 1: 141 باب تضييع الصلاة عن وقتها.
|
|
|
عبدالله بن عمر(رضي الله عنه) أن تلبية رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لبّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
وعن عائشة(رض) قالت: إني لأعلم كيف كان النبي (صلى الله عليه وآله) يلبي: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك..."(1).
وعن ابن عباس(رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وآله) أردف الفضل، فأخبر الفضل أنه لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة.
وعن عبدالله بن عباس أيضاً أن اُسامة بن زيد(رضي الله عنه) كان ردف النبي (صلى الله عليه وآله) من عرفة الى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة الى منى، قال: فكلاهما قال: لم يزل النبي (صلى الله عليه وآله) يلبي حتى رمى جمرة العقبة(2).
وعن عكرمة: أهلّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى رمى الجمرة، وأبو بكر وعمر(3).
وعن ابن عباس: حججت مع عمر إحدى عشرة حجة، وكان يلبي حتى يرمي الجمرة(4).
وعن علي بن أبي طالب أنه لبّى حتى رمى جمرة العقبة(5).
فهذه هي السنة المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وخلفائه من بعده، ولم يخالف هذه السنّة إلاّ معاوية، فعن سعيد بن جبير قال: كنا مع ابن عباس بعرفة، فقال: يا سعيد، مالي لا أسمع الناس يلبّون؟! فقلت: يخافون من معاوية; فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال: لبيك اللهم لبيك، وإن رغم أنف معاوية، اللهم العنهم
____________
1- صحيح البخاري 3: 170 كتاب الحج: باب التلبية.
2- صحيح البخاري 3: 204 كتاب الحج: باب التلبية.
3- المصنف لابن أبي شيبة 4: 342، المحلى لابن حزم 7: 136.
4- فتح الباري 3: 419.
5- المحلّى 7: 136.
|
|
|
فقد تركوا السنّة من بغض علي!(1).
وعن سعيد بن جبير أيضاً قال: أتيت ابن عباس بعرفة وهو يأكل رماناً، فقال: أفطر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعرفة وبعثت اليه اُم الفضل بلبن فشربه، وقال: لعن الله فلاناً، عمدوا الى أعظم أيام الحج فمحوا زينته، وإنما زينة الحج التلبية(2).
مرّ فيما سبق أن الحسن البصري عدَّ من موبقات معاوية الأربعة: قتل حجر بن عدي وأصحابه.
وحجر بن عدي من خيار الصحابة، "وهو المعروف بحجر الخير، وفد على النبي (صلى الله عليه وآله) هو وأخوه هانئ، وشهد القادسية، وكان من فضلاء الصحابة، وكان على كندة بصفين، وعلى الميسرة يوم النهروان، وشهد الجمل أيضاً مع علي، وكان من أعيان الصحابة، قال أحمد: قلت ليحيى بن سليمان: أبلغك أن حجراً كان مستجاب الدعوة؟ قال: نعم، وكان من أفاضل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) (3).
ورغم كل ذلك، نجد بعض المؤلفين ينبرون لتبرير عمل معاوية هذا، بل أنهم يوحون للقراء بأن معاوية هو المحق، وأن حجراً وأصحابه هم المذنبون، ومن هؤلاء المؤلفين، القاضي ابن العربي حيث يقول في معرض حديثه عن معاوية:
____________
1- السنن الكبرى للنسائي 2: 419، السنن الكبرى للبيهقي 5: 113، وقال السندي في شرحه لسنن النسائي: من بغض علي، أي لأجل بغضه، أي وهو كان يتقيّد بالسنن، فهؤلاء تركوها بغضاً له!
2- مسند احمد 1: 358، كنز العمال 5: 152.
3- الاستيعاب 1: 389، أسد الغابة 1: 697 الاصابة 2: 32.
|
|
|
فإن قيل: فقد قتل حجر بن عدي -وهو الصحابي المشهور بالخير- صبراً أسيراً بقول زياد، وبعثت اليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله. قلنا: قد علمنا قتل حجر كلنا، واختلفنا، فقائل يقول: قتله ظلماً، وقائل يقول: قتله حقاً.
فان قيل: الأصل قتله ظلماً إلاّ إذا ثبت عليه ما يوجب قتله. قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق! فمن ادعى أنه الظلم، فعليه الدليل! ولو كان ظلماً محضاً لما بقي بيت إلاّ لعن فيه معاوية، وهذه مدينة السلام دار خلافة بني العباس- وبينهم وبين بني اُمية ما لا يخفى على الناس -مكتوب على أبواب مساجدها: (خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله): أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم معاوية خال المؤمنين رضي الله عنهم)!.
ولكن حجراً -فيما يقال- رأى من زياد اُموراً منكرة فحصبه وخلعه وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فساداً. وقد كلمته عائشة في أمره حين حج فقال لها: دعيني وحجراً حتى نلتقي عند الله!.
وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين، وأنتم ودخولكم حيث لا تشعرون، فمالكم لا تسمعون!(1).
أما مسألة الاختلاف في قتل حجر، هل هو حق أم ظلم، فسنترك للقارئ أن يتخذ القرار في ذلك، بعد أن نضع بين يديه الأخبار التي ذكرت هذه القضية وملابساتها، ومحاولة تقديم الدليل الذي طلبه القاضي ابن العربي. أما فيما يتعلق بموقف المسلمين من معاوية وسبب عدم لعنه وما رأى القاضي ابن العربي من قرن اسمه مع اسماء الخلفاء الأربعة على مساجد مدينة بغداد، رغم
____________
1- العواصم من القواصم: 219.
|
|
|
العداوة بين بني العباس وبني اُمية، فسوف نقوم بمناقشته في المبحث القادم بالتفصيل.
لكن المهم أن القاضي ابن العربي -كعادته- لم يذكر الاُمور المنكرة التي رآها حجر من زياد حتى حصبه وخلعه، وكيفية خلعه! وكيف أراد أن يقيم الخلق للفتنة حتى صار في نظر معاوية من المفسدين في الأرض!
أما طلب القاضي منّا أن ندع موضوع حجر ومعاوية جانباً حتى يوم القيامة، فإن ذلك هو دأب الاتجاه المحافظ الذي يريد التغطية على كل الجرائم المشينة التي وقعت في تاريخنا في تلك الحقبة، والتحذير دائماً من محاولة نبش هذا التاريخ لئلا تظهر الحقائق، وهي على عكس المعلومات التي ظلت الأجيال تتلقاها عن طريق وسائل الإعلام الاُموي ومؤيديه على مرّ القرون، ولكن هل يجوز للمسلمين أن يتركوا هذه الاُمور دون بحث عن الحقيقة، ولمعرفة المحق من المبطل، والمظلوم من الظالم، حتى لا يتولى الظالمين كما أمر الله سبحانه وتعالى، فقال عزّ من قائل: (وَلا تَركنُوا إلى الذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُم النارُ وَمالَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَولياءَ ثُمَّ لا تُنصَرونَ)(1).
قال الفخر الرازي في تفسيرها:
قال المحققون: الركون المنهي عنه، هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم، وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم... واعلم أن الله تعالى حكم بأن من ركن الى الظلمة لابد وأن تمسه النار، وإذا كان كذلك، فكيف يكون حال الظالم نفسه!(2).
____________
1- هود: 113.
2- التفسير الكبير 6: 407.
|
|
|
أورد المؤرخون، والذين ترجموا للصحابة قصة مقتل حجر بن عدي، فمنهم من ذكرها بتفاصيلها ومنهم من اختصرها، وسوف اقتطف أهم ما أورده الطبري عن هذه القضية.
قال الطبري - بعد أن أورد قصة وصية معاوية للمغيرة بن شعبة حين توليته على الكوفة بمدح شيعة عثمان وذم علي وشيعته-:
أقام المغيرة على الكوفة عاملا لمعاوية سبع سنين وأشهراً، وهو من أحسن شيء سيرة وأشدّه حبّاً للعافية، غير أنه لا يدع ذم علي والوقوع فيه، والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له، والتزكية لأصحابه، فكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك قال: بل إيّاكم فذمّم الله ولعن، ثم قام فقال: إن الله عزّوجل يقول: (كُونوا قَوّامينَ بالقِسطِ شُهَداءَ للهِ) وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل، وأن من تزكون وتطرون أولى بالذم! فيقول المغيرة: يا حجر، لقد رُمي بسهمك إذ كنتُ أنا الوالي عليك، يا حجر ويحك! اتق السلطان، اتق غضبه وسطوته، فإن غضْبة السلطان احياناً مما يهلك أمثالك كثيراً، ثم يكف ويصفح.
فلم يزل حتى كان في آخر إمارته، قام المغيرة فقال في علي وعثمان كما كان يقول، وكانت مقالته: اللهم ارحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه، وأجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك واتبع سنّة نبيك (صلى الله عليه وآله)، وجمع كلمتنا، وحقن دماءنا، وقُتل مظلوماً! اللهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيّه والطالبين بدمه! ويدعو على قتلته! فقام حجر بن عدي فنعر نعرة بالمغيرة سمعها كل من كان
|
|
|
في المسجد وخارجاً منه وقال: إنك لا تدري بمن تولع من هرمك أيها الانسان، مُرلنا بأرزاقنا واُعطياتنا فإنك قد حبستها عنا، وليس ذلك لك، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك، وقد أصبحت مولعاً بذم أمير المؤمنين وتقريظ المجرمين!
قال: فقام معه أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق والله حجر وبر، مُر لنا بأرزاقنا واُعطياتنا فإنّا لا ننتفع بقولك هذا ولا يجدي علينا شيئاً، وأكثروا في مثل هذا القول ونحوه. فنزل المغيرة فدخل، واستأذن عليه قومه فأذن لهم، فقالوا: علام تترك هذا الرجل يقول هذه المقالة ويجترئ عليك في سلطانك هذه الجرأة! إنك تجمع على نفسك بهذا خصلتين: اما أولهما فتهوين سلطانك، وأما الاُخرى فإن ذلك إن بلغ معاوية كان أسخط له عليه -وكان أشدهم له قولا في أمر حجر والتعظيم عليه، عبدالله أبي عقيل الثقفي- فقال لهم المغيرة: إني قد قتلته، إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي، فيصنع شبيهاً بما ترونه يصنع بي، فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شرّ قتلة، إنه قد اقترب أجلي وضعف عملي، ولا أحب أن أبتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفك دمائهم، فيسعدوا بذلك وأشقى، ويعزّ في الدنيا معاوية ويذل يوم القيامة المغيرة!
ولكني قابل من محسنهم، وعاف عن مسيئهم، وحامد حليمهم، وواعظ سفيههم، حتى يفرق بيني وبينهم الموت، وسيذكرونني لو قد جرّبوا العمال بعدي...
ثم يروي الطبري خطبة زياد بعد توليه الكوفة عقباً للمغيرة الذي هلك سنة إحدى وخمسين، فيورد خطبته التي استهلها بالوعظ والتهديد والوعيد، "ثم ذكر عثمان وأصحابه فقرّظهم، وذكر قتلته ولعنهم، فقام حجر ففعل مثل
|
|
|
الذي كان يفعل بالمغيرة، وقد كان زياد قد رجع الى البصرة وولى الكوفة عمرو بن حريث، ورجع الى البصرة، فبلغه أن حجراً يجتمع إليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن الحريث، فشخص الى الكوفة حتى دخلها، فأتى القصر فدخله، ثم خرج فصعد المنبر وعليه قباء سندس ومطرف خزّ أخضر، قد فرق شعره -وحجر جالس في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن غبّ البغي والغي وخيم، إن هؤلاء حجّوا فأشروا، وأمّنوني فاجترأوأ علي، وأيم الله لئن لم يستقيموا لاُداوينكم بدوائكم. وقال: ما أنا بشيء إن لم امنع باحة الكوفة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده، ويل امك يا حجر! سقط العشاء بك على سرحان، ثم قال:
ابلغ نصيحة أن راعي إبلها |
سقط العشاء به على سرحان |
كما وأورد الطبري قصة اُخرى حول هذا الموضوع، عن علي بن حسن بسنده الى ابن سيرين قال: خطب زياد يوماً في الجمعة فأطال الخطبة وأخّر الصلاة، فمضى في خطبته، فلما خشي حجر فوت الصلاة، ضرب بيده الى كف من الحصا وثار الى الصلاة وثار الناس معه، فلما رأى ذلك زياد، نزل فصلى بالناس، فلما فرغ من صلاته كتب الى معاوية في أمره وكثّر عليه.
فكتب إليه معاوية أن شدّه في الحديد ثم احمله إلي.
فلما أن جاء كتاب معاوية، أراد قوم حجر أن يمنعوه، فقال: لا، ولكن سمع وطاعة، فشدّ في الحديد ثم حمل الى معاوية، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال له معاوية: أمير المؤمنين! أما والله لا أقيلك ولا استقيلك! أخرجوه فاضربوا عنقه. فاُخرج من عنده، فقال
حجر للذين يلون أمره: دعوني حتى اُصلي ركعتين. فقالوا: صلّ. فصلى ركعتين خفف فيهما ثم قال: لولا أن تظنوا بي غير الذي أنا عليه لأحببت أن تكون أطول مما كانتا، ولئن لم يكن فيما مضى من الصلاة خير فما في هاتين خير، ثم قال لمن حضره من أهله: لاتطلقوا عني حديداً ولا تغسلوا عني دماً فإني اُلاقي معاوية غداً على الجادة. ثم قُدّم فضربت عنقه.
قال مخلد: قال هشام: كان محمد إذا سئل عن الشهيد، يغسّل؟ حدثهم حديث حجر! قال محمد: فلقيت عائشة اُم المؤمنين معاوية - قال مخلد أظنه بمكة- فقالت: يا معاوية، أين كان حلمك عن حجر! فقال لها: يا اُم المؤمنين لم يحضرني رشيد! قال ابن سيرين: فبلغنا أنه لما حضرته الوفاة جعل يغرغر بالصوت ويقول: يومي منك يا حجر يوم طويل...(1).
ويورد الطبري عن أبي مخنف روايات طويلة حول مطاردة زياد لحجر وعدد من أصحابه واستشهاده شهداء زور على حجر وأصحابه، أعرضت عنها لطولها، وأجد أن ما نقلناه عن شيخ المؤرخين حول القضية يكفي لتوضيح الاُمور وبيان أن ادعاء ابن العربي ومن يجري مجراه - بأن معاوية لم يكن ظالماً بقتله حجراً، وأن حجراً كان يريد أن يقيم الخلق للفتنة- لا يقوم على أساس صحيح، فالذي أخرج رأس الفتنة هو معاوية وعمّاله، إذ أنهم بلعنهم علي بن أبي طالب -وهي السنّة السيئة التي ابتدعها معاوية بلعن علي على المنابر حتى أبطلها عمر بن عبدالعزيز- كانت هي السبب في استفزاز مشاعر الأخيار من أمثال حجر وغيره، لأنهم يعلمون أن معاوية وعمّاله يأتون باباً عظيماً من المنكر الذي ينبغي تغييره، فهؤلاء الصحابة قد سمعوا -كما قد سمع
____________
1- الطبري 5: 253، الكامل 3: 472 حوادث سنة 51.
|
|
|
المغيرة ومعاوية أيضاً- أقوال النبي (صلى الله عليه وآله) في من يسب علياً، كما أخرجها المحدثون:
فعن أبي عبدالله الجدلي، قال: دخلت على اُم سلمة فقالت: أيسبُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم؟! قلت: معاذ الله، أو سبحان الله، أو كلمة نحوها. قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "من سبّ عليّاً فقد سبّني!!"(1).
وفي لفظ الحاكم: "من سبَّ علياً فقد سبّني، ومن سبني فقد سبَّ الله تعالى"(2).
وعن أبي مليكة قال: جاء رجل من أهل الشام فسبّ علياً عند ابن عباس، فحصبه ابن عباس وقال: يا عدّو الله، آذيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إنَّ الذينَ يُؤذونَ اللهَ وَرَسولَهُ لَعَنَهُم اللهُ في الدُّنيا وَالآخرة وأعدَّ لَهُم عَذاباً مُهيناً)، لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حياً لآذيته!(3).
وليس ثمة شك بأن معاوية لم يكن جاهلا بما قاله النبي (صلى الله عليه وآله) فيمن يسب علياً، إلاّ أنه كان يتغافل عن ذلك ويتجاهل، استخفافاً منه بالشريعة وصاحبها الكريم، بل واستخفافاً بالله تعالى، "فعلى الرغم من أن اُم المؤمنين اُم سلمة كانت قد أرسلت الى معاوية تنهاه عن تلك البدعة البشعة وتقول له: إنكم تلعنون الله ورسوله إذ تلعنون علياً ابن أبي طالب ومن يحبه، وأشهد أن الله ورسوله يحبانه.
على الرغم من تلك النصيحة، فقد ظل الإمام علي يلعن على المنابر، وتلعن معه زوجه فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) "(4).
____________
1- مجمع الزوائد 9: 130 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير أبي عبدالله الجدلي وهو ثقة.
2- المستدرك على الصحيحين 3: 123.
3- المصدر السابق.
4- عبد الرحمان الشرقاوي. أئمة الفقه التسعة: 39.
|
|
|
فالاُمور المنكرة التي رآها حجر بن عدي وغيره من الأخيار، من عمال معاوية هي إصرارهم على لعن علي بن أبي طالب وسبّه من على المنابر، فلم يتمالكوا أن يقوموا بواجبهم المفروض عليهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأي منكر أكبر من أن يرى ويسمع المؤمن، الله ورسوله يُسبّان بسب علي كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، بل إن معاوية وعماله قد أصبحوا بعملهم هذا وقد حلّت دماؤهم ووجب قتالهم إن أمكن، لأنهم من المحاربين لله ورسوله، ليس بالسب واللعن فقط، بل إنهم محاربون لله ورسوله حقاً، بحربهم علي بن أبي طالب أيضاً، وكما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله)، فيما أخرج المحدثون:
فعن زيد بن أرقم، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة وعلي وحسن وحسين: "أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم".
وعن أبي هريرة قال: نظر النبي (صلى الله عليه وآله) الى علي والحسن والحسين وفاطمة فقال: "أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم"(1).
أما اعتراض حجر على زياد بسبب تأخيره الصلاة، فهو محق في ذلك أيضاً، لأن الصلاة لا ينبغي تأخيرها عن وقتها بدون عذر مشروع، والتهاون فيه قد يؤدي بالنهاية الى الاستخفاف بهذه الفريضة التي هي عمود الاسلام.
وقد أثبتت الوقائع ان حجراً كان محقاً في انكاره على زياد تأخير الصلاة، لأن ذلك صار ديدن بني اُمية، وعمالهم -كما مرّ في مباحث سابقة- حتى بكى أنس بن مالك عندما رأى بني اُمية قد ضيّعوا الصلاة.
فهذه هي الأسباب التي قتل معاوية حجراً وأصحابه من أجلها، بعد قول النبي (صلى الله عليه وآله):
____________
1- مسند أحمد 2: 442، المستدرك على الصحيحين 3: 149، المعجم الكبير للطبراني 3: 30، سنن الترمذي 5: 699، مجمع الزوائد 9: 169، تاريخ بغداد 7: 137، الكنى للدولابي 2: 160.
|
|
|
1 - " لقتل المؤمن عند الله أعظم من زوال الدنيا "(1).
2 - " من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله تعالى مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله "(2).
3 - " من عادى ولياً فقد بارزني بالحرب "(3).
فهذه هي الأدلة التي طلبها القاضي ابن العربي لاثبات أن معاوية كان ظالماً لحجر، نتركها بين يدي القارئ ليحكم على ضوئها.
لا شك وأن الكثير من القرّاء يعتقدون أن العباسيين قد ظلوا أعداء للاُمويين يحملون لهم الضغينة منذ بداية عهدهم وحتى انقراض ملكهم على أيدي التتار!
إلاّ أن من له إلمام بالتاريخ السياسي والظروف والملابسات التي اكتنفت قيام الدولة العباسية على أنقاض دولة بني اُمية، وما واجهته الدولة العباسية من مشاكل فيما بعد، وقيام الثورات المستمرة على العباسيين، يعلم أن موقف العباسيين من معاوية وبني اُمية لم يكن موقفاً ثابتاً، بل إنه تعرض للتغيّر حسب الظروف السياسية التي سادت في عهود الخلفاء العباسيين.
لقد شاد العباسيون ملكهم على أكتاف أبناء عمومتهم العلويين، وحيث إن الناس لم يكونوا يعرفون لبني العباس حقاً في الخلافة، وإنما كان معظمهم يعتقد بأحقية العلويين في الخلافة، لاعتقادهم أن الاُمويين قد غصبوهم إياها،
____________
1- السنن الكبرى للبيهقي 8: 12.
2- سنن ابن ماجة 2: 874 ح 2620.
3- السنن الكبرى للبيهقي 2: 346 وقريب منه في مجمع الزوائد: 2: 248، فتح الباري 11: 393.
|
|
|
وبسبب ميل الناس الى أبناء علي بن أبي طالب باعتبارهم سلالة الرسول (صلى الله عليه وآله)، لذا فقد كانت دعوة العباسيين "للرضا من أهل البيت"(1) دون تحديد، ويتبيّن هذا المنحى في أول خطبة خطبها أبو العباس السفاح ومن بعده عمه داود بن علي من على منبر الكوفة -وهي معقل العلويين- فيما يرويه ابن أبي الحديد، حيث يقول:
لما صعد أبو العباس منبر الكوفة، حُصر فلم يتكلم، فقام داود بن علي- وكان تحت منبره حتى قام بين يديه تحته بمرقاة- فاستقبل الناس وقال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله، ولأثر الفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال، وحسبكم كتاب الله تمثلا فيكم، وابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) خليفة عليكم، اُقسم بالله قسماً برّاً، ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحق به من علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين هذا! فليهمس هامسكم، ولينطق ناطقكم...(2).
كما وأن أعظم القوّاد الذي كان له اليد الطولى في تشييد ملك العباسيين، أبو مسلم الخراساني يعترف في كتاب بعثه الى أبي جعفر المنصور، بعدم أحقية العباسيين في الحكم على العلويين، قال فيه: أما بعد، فقد كنت اتخذت أخاك إماماً وجعلته على الدين دليلا لقرابته، والوصية التي زعم أنها صارت إليه، فأوطأ بي عشوة الضلالة، وأرهقني في ربقة الفتنة، وأمرني أن آخذ بالظنة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكتُ بأمره حرمات حتم الله صونها، وسفكتُ دماءً فرض الله حقنها، وزويت الأمر عن أهله، ووضعته
____________
1- الكامل 5: 380.
2- شرح نهج البلاغة 7: 155.
|
|
|
في غير محله!(1).
وقد استفتح العباسيون عهدهم بالانتقام من بني اُمية، أحيائهم وأمواتهم على السواء! وكانت دعواهم في ذلك، أنهم ينتقمون من الاُمويين لما فعلوه بأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) من أبناء علي بن أبي طالب، وروى المؤرخون أن أبا العباس لما اُتي برأس مروان بن محمد -آخر الخلفاء الاُمويين- سجد فأطال، ثم رفع رأسه وقال: الحمد لله الذي لم يُبق ثأرنا قبل رهطك، الحمد لله الذي أظفرنا بك وأظهرنا عليك، ما اُبالي متى طرقني الموت وقد قتلتُ بالحسين (عليه السلام) ألفاً من بني اُمية، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي... ثم قال: أما مروان، فقتلناه بأخي ابراهيم، وقتلنا سائر بني اُمية بحسين ومن قُتل معه وبعده من بني عمنا أبي طالب(2).
ولم يكتف العباسيون بالانتقام من الأحياء من بني اُمية، بل تعدّوهم الى الأموات أيضاً يشفون منهم غليلهم، حيث "أمر عبدالله بن علي بنبش قبور بني اُمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلاّ خيطاً مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد، ونبش قبر عبدالملك فوجدوا جمجمته، وكان لا يوجد في القبر إلاّ العضو بعد العضو، غير هشام بن عبدالملك فإنه وجد صحيحاً لم يَبلَ منه إلاّ أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وصلبه وحرّقه وذرّاه في الريح...(3).
هكذا كان موقف العباسيين من معاوية وبني اُمية في بداية عهد دولتهم، ولكن سرعان ما جدّت اُمور أدت الى أن يفكر العباسيون بتغيير موقفهم من معاوية خاصة بعد ذلك.
____________
1- تاريخ بغداد 10: 280.
2- الكامل 5: 427، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7: 131.
3- الكامل لابن الأثير 5: 430 حوادث سنة 132 هـ.
|
|
|
تغيّر موقف العباسيين من معاوية
كان الناس في معظم البلاد الإسلامية ينتظرون زوال ملك بني اُمية الذي فتّ في عضده كثرة الثورات التي قامت عليه من مختلف الفئات، وكان للعلويين نصيب كبير في تلك الثورات، ولما بدأت علامات الزوال تلوح على دولة الاُمويين بعد هزيمتهم في معركة الزاب أمام جيوش العباسيين، استبشر الناس خيراً، حتى إن مروان بن محمد، "لما هزمه عبدالله بن علي بالزاب، أتى مدينة الموصل وعليها هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة الأسدي، فقطعا الجسر! فناداهم أهل الشام: هذا أمير المؤمنين مروان! فقالوا: كذبتم، أمير المؤمنين لا يفر. وسبّه أهل الموصل وقالوا: يا جعدي، يا معطّل، الحمد لله الذي أزال سلطانكم وذهب بدولتكم، الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبيّنا...(1)
إلاّ أن الناس سرعان مامنوا بخيبة أمل كبيرة، حينما تبيّن لهم بأن العباسيين لم يكونوا أقلّ شراً من الاُمويين، إن لم يكونوا أكثر، خصوصاً بعد المذبحة الفظيعة التي ارتكبها العباسيون في مدينة الموصل وغيرها، ففي نفس السنة التي ابتدأ العباسيون بها عهدهم الجديد، استعمل السفاح أخاه يحيى بن محمد على الموصل بدلا من محمد بن صول، فارتكب فيها مذبحة رهيبة، "وكان سبب ذلك أن أهل الموصل امتنعوا من طاعة محمد بن صول وقالوا: يلي علينا مولى الخثعم! وأخرجوه عنهم، فكتب الى السفاح بذلك واستعمل عليهم أخاه يحيى بن محمد، وسيّره إليها في اثني عشر ألف رجل، فنزل قصر الامارة بجانب مسجد الجامع، ولم يُظهر لأهل الموصل شيئاً ينكرونه ولم
____________
1- الكامل 5: 424.
|
|
|
يعترضهم فيما يفعلونه، ثم دعاهم فقتل منهم اثني عشر رجلا، فنفر أهل الموصل وحملوا السلاح، فأعطاهم الأمان، وأمر فنودي: من دخل الجامع فهو آمن، فأتاه الناس يهرعون إليه، فأقام يحيى الرجال على أبواب الجامع، فقتلوا الناس قتلا ذريعاً أسرفوا فيه، فقيل إنه قتل فيه أحد عشر ألفاً ممّن له خاتم، وممن ليس له خاتم خلقاً كثيراً. فلما كان الليل سمع يحيى صراخ النساء اللاتي قتل رجالهن، فسأل عن ذلك الصوت فأخبر به فقال: إذا كان الغد، فاقتلوا النساء والصبيان. ففعلوا ذلك، وقتل منهم ثلاثة أيام، وكان في عساكره قائد معه أربعة آلاف زنجي، فأخذوا النساء قهراً...!(1)
أمام هذه التصرفات الشنيعة للعباسيين، بدأ الناس يتململون، وتحركت عوامل النقمة، ثم الثورة على العباسيين، ففي سنة (133 هـ) "خرج شريك بن شيخ المهري ببخارا على أبي مسلم ونقم عليه وقال: ما على هذا اتبعنا آل محمد، أن تسفك الدماء، وأن يعمل بغير الحق!
وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفاً، فوجّه إليهم أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله...(2).
كانت الأخطار التي تتهدد الدولة العباسية تتمثل في ثورات الخوارج والعلويين بالدرجة الاُولى، وبما أن الخوارج -رغم تعدد فرقهم وكثرة ثوراتهم وشدة بأسهم- لم يستطيعوا أن يكوّنوا قاعدة شعبية عريضة تدين لهم بالولاء والانتماء، وذلك بسبب غرابة آرائهم وتطرفهم، وتكفيرهم جميع
____________
1- الكامل في التاريخ 5: 443.
2- الطبري 7: 459، الكامل 5: 448، البداية والنهاية 10: 56.
|
|
|
مخالفيهم، فبقي الخطر الذي كان يقض مضاجع العباسيين يتأتى من جانب بني عمهم العلويين، نظراً للقاعدة الشعبية العريضة التي كانوا يتمتعون بها، ولأن الناس لم يعرفوا هذا الأمر للعباسيين، بل كان الاعتقاد السائد عند معظم الناس، ان العلويين هم الأحق بهذا الأمر.
لكن العباسيين خدعوا العلويين، وخدعوا الناس أيضاً، فكان دعاتهم يهيئون الأمر لبني العباس باسم العلويين، وبخاصة أبو مسلم الخراساني الذي "من المؤكد أنه كان يدعو الناس الى الرضا من أهل البيت، ولا يصرّح باسمه ولا نسبه، مما يدل على أن الاُمة كان توجهها الى علي وأهل بيته أكثر من توجهها الى بني العباس، فلما تم له الأمر، أعلن اسم عبدالله السفاح بن محمد ابن علي بن عبدالله بن عباس.
عاد الاصطدام حينئذ بين البيتين العلوي والعباسي، فكان نصيب آل علي في خلافة بني هاشم أشد وأقسى مما لاقوه في عهد خصومهم من بني اُمية، فقتلوا وشردوا كل مشرّد، وخصوصاً في زمن المنصور والرشيد والمتوكل من بني العباس، وكان إتهام شخص في هذه الدولة بالميل الى واحد من بني علي كافياً لإتلاف نفسه ومصادرة أمواله. وقد حصل ذلك فعلا لبعض الوزراء وغيرهم"(1).
أدرك العباسيون أن بني اُمية لم يعودوا يشكلون خطراً عليهم وعلى دولتهم، فقد اُبيدوا تقريباً في المجازر التي أقامها لهم العباسيون، ودالت دولتهم وزالت شوكتهم، فلم يعد العباسيون يهتمون بذكرهم أو الاساءة لتاريخهم، بسبب انصرافهم الى مقارعة خصومهم العلويين الذين كانوا
____________
1- محمد الخضري. الدولة الاُموية: 150.
|
|
|
يشكلون الخطر الأكبر عليهم، لذا فقد صبّوا جل اهتمامهم عليهم، وبدأوا بمحاربتهم بالسيف والقلم واللسان، فأطلقوا لمبغضيهم العنان في النيل منهم، بل وإنهم كانوا يشجعون كل من ينتقص العلويين ويقلل من شأنهم ويكافؤنه، كما فعلوا مع الشاعر علي بن الجهم الذي كان لا يفتأ يتحامل على العلويين بشعره في حضرة الخلفاء العباسيين، وغيره كثير.
تلاقت إذاً أهداف أعداء الأمس الذين صار يجمعهم شيء واحد، التخلص من خصومهم العلويين، والعباسيون وإن لم يبلغوا الحد الذي يلعنون فيه علي بن أبي طالب وأهل بيته على المنابر جهاراً، إلاّ أنهم وجدوا في تمجيد الاُمويين - وبخاصة معاوية- ما يحقق بعض أغراضهم وغاياتهم، فتركوا المجال فسيحاً لمن يروي مناقب الاُمويين أو مثالب العلويين، ويشهد أحد المؤلفين والعلماء الثقات من العصر العباسي على هذه الظاهرة، إذ يقول ابن قتيبة:
وقد رأيت هؤلاء قد قابلوا الغلو في حب علي، بالغلو في تأخيره وبخسه حقه، ولحنوا في القول -وإن لم يصرّحوا- الى ظلمه، واعتدوا عليه بسفك الدماء بغير حق، ونسبوه الى الممالأة على قتل عثمان، وأخرجوه بجهلهم من أئمة الهدى الى جملة أئمة الفتن، ولم يوجبوا له إسم الخلافة لاختلاف الناس عليه، واوجبوها ليزيد بن معاوية لإجماع الناس عليه واتهموا من ذكره بخير! وتحامى كثير من المحدثين أن يحدّثوا بفضائله أو يظهروا ما يجب له. وكل تلك الأحاديث لها مخارج صحاح، وجعلوا ابنه الحسين خارجياً شاقاً لعصا المسلمين، حلال الدم! وأهملوا من ذكره أو روى حديثاً من فضائله، حتى تحامى كثير من المحدثين أن يتحدثوا بها، وعنوا بجمع فضائل عمرو بن
|
|
|
العاص ومعاوية! وكأنهم لا يريدونهما بذلك، وإنما يريدونه...!(1)
"وأخرج ابن الجوزي أيضاً من طريق عبدالله بن أحمد بن حنبل، سألت أبي: ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: إعلم أن علياً كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا، فعمدوا الى رجل قد حاربه، فأطروه كياداً منهم لعلي، فأشار بهذا الى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له"(2).
هذه الأمثلة وغيرها كثير، لتدلل على عدم صحة ادعاء القائلين بأن العباسيين هم الذين شوّهوا صورة الاُمويين لدى الرأي العام، فالثابت أن العكس هو الصحيح، وأن الفضائل التي نسجت لمعاوية وبني اُمية، إنما نسجت في أيام بني العباس أكثر مما وضع لهم من مناقب في عصرهم وابان دولتهم، وما ذلك إلاّ لأن العباسيين كانوا "على بغضهم وعداوتهم لبني اُمية يضيقون ذرعاً بكل فضيلة واتباع وانتماء الى علي وأهل بيته... ولئن كان بنو العباس أعداء لبني اُمية، فإنهم كذلك أعداء ألداء للعلويين، كارهين ذكر كل ما فيه منقبة وفضل لبني علي (عليه السلام) حتى أن أحد ملوكهم(3)، هدم قبر الحسين (عليه السلام) وزرع الأرض فوقه، وحكم بعضهم على العلويين أن لا يركبوا خيلا ولا يتخذوا خادماً، وإن من كان بينه وبين أحد من العلويين خصومة من سائر الناس، قُبل قول خصمه فيه ولم يُطالب ببينة! ومات كثير من أكابرهم في سجون بني العباس...(4).
____________
1- الاختلاف في اللفظ: 47.
2- فتح الباري 7: 104.
3- هو المتوكل.
4- النصائح الكافية: 284 عن الخطط للمقريزي.
|
|
|
إن موقف العباسيين المتقلب من معاوية كان منبعثاً من الظروف السياسية المحيطة بالدولة من جهة، وبوجهة نظر خلفاء بني العباس من جهة اُخرى، فقد لاحظنا أن الموقف في بداية قيام الدولة العباسية، وفي زمن خليفتهم الأول السفاح بالتحديد كان يتميز بالنكاية في الاُمويين والانتقام منهم بهدف استئصالهم، وكذلك بذمّهم وإسقاطهم أمام الرأي العام تقرباً من الناس الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بالاُمويين. إلاّ أن الموقف بدأ يتغير منذ عهد خليفتهم الثاني أبو جعفر المنصور، خاصة بعدما بدأت ثورات العلويين ضد دولة بني العباس; فاتجه اهتمام هؤلاء الى بني عمهم من العلويين الثوار ومحاولة النيل منهم بشتى الطرق، واستمر هذا الاتجاه المعادي للعلويين -والمهادن للاُمويين في الوقت نفسه- حتى أيام الخليفة المأمون بن هارون الرشيد الذي بدأ يقرّب العلويين ويمتدحهم، ويذم الاُمويين، حتى إنه أمر بانشاء كتاب بلعن معاوية بن أبي سفيان! ولكن يبدو أن الكتاب لم يُقرأ على الناس في المساجد كما كان قد تقرّر، لأسباب لعل أهمها هو تحذير بعض خواص المأمون له من إمكان ثورة العامة وانتشار القلاقل، ذلك لأن الاعلام الاُموي كان قد نجح في تعبئة رأي عام مؤيد له، أو على الأقل يكنّ الاحترام والحب لمعاوية بن أبي سفيان -كونه صحابياً- وقيام البعض بنشر فضائله المختلقة حتى ترشح في أذهان الكثير من العوام صحتها وصدقها، وربما كانت هناك أسباب اُخرى ثبطت من عزم المأمون، حتى جاء الخليفة المعتضد، فأمر باخراج الكتاب -كما يذكر الطبري في حوادث سنة أربع وثمانين ومائتين-
|
|
|
فأخذ من جوامعه نسخة هذا الكتاب، وذُكر أنها نسخة الكتاب الذي اُنشيء للمعتضد بالله:
بسم الله الرحمن الرحيم... (إلى أن قال):
وقد انتهى الى أمير المؤمنين ما عليه جماعة من العامة من شبهة قد دخلتهم في أديانهم وفساد قد لحقهم في معتقدهم، وعصبية قد غلبت عليها أهواؤهم ونطقت بها ألسنتهم على غير معرفة ولا روية، وقلّدوا فيها قادة الضلالة بلا بيّنة ولا بصيرة، وخالفوا السنن المتبعة الى الأهواء المبتدعة... تعظيماً لمن صغّر الله حقّه، وأوهن أمره، وأضعف ركنه من بني اُمية الشجرة الملعونة... فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك، ورأى في ترك إنكاره حرجاً عليه في الدين، وفساداً لمن قلّده الله أمر المسلمين، وإهمالا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين، وإقامة الحجة على الشاكّين، وبسط اليد على العاندين.
وأمير المؤمنين يرجع إليكم معشر الناس، بأن الله عزّوجل لما ابتعث محمداً بدينه، وأمره أن يصدع بأمره، بدأ بأهله وعشيرته.. فكان من استجاب له وصدّق قوله واتبع أمره، نفر يسير من بني أبيه... وكان ممن عانده ونابذه وكذبه وحاربه من عشيرته، العدد الأكثر، والسواد الأعظم، يتلقونه بالتكذيب من قصده، وينالون بالتعذيب من اتبعه، وأشدهم في ذلك عداوة وأعظمهم له مخالفة، وأولهم في كل حرب ومناصبة، لا يرفع على الإسلام راية إلاّ كان صاحبها وقائدها ورئيسها من كل مواطن الحرب منذ بدر واُحد والخندق والفتح... أبو سفيان بن حرب وأشياعه من بني اُمية الملعونين في كتاب الله، ثم الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن وعدة مواضع، لما مضى علم الله
|
|
|
فيهم وفي أمرهم، ونفاقهم وكفر أحلامهم، فحارب مجاهداً، ودافع مكايداً، وأقام منابذاً حتى قهره السيف، وعلا أمر الله، وهم كارهون، فتقوّل بالإسلام غير منطو عليه، وأسرَّ الكفر غير مقلع عنه، فعرفه بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمون، وميّز له المؤلفة قلوبهم، فقبله وولده على علم منه، فممّا لعنهم الله به على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله)، وأنزل به كتاباً، قوله: (والشجرةَ الملعونَةُ في القرآنِ ونخوّفهمْ فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيراً)(1)، ولا اختلاف بين أحد أنه أراد بها بني اُمية!
ومنه قول الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد رآه مقبلا على حمار ومعاوية يقود به ويزيد ابنه يسوق به: "لعن الله القائد والراكب والسائق"، ومنه ما يرويه الرواة من قوله: يا بني عبد مناف تلقّفوها تلقّف الكرة، فما هناك جنة ولا نار! وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنة من الله كما لحقت(الذينَ كَفروا مِنْ بَني إسرائيلَ عَلى لسانِ داودَ وَعيسى بنِ مَريمَ ذلكَ بِما عَصَوا وَكانُوا يَعتَدونَ)(2)، ومنه ما يروون من وقوفه على ثنيّة اُحد بعد ذهاب بصره، وقوله لقائده: هاهنا ذببنا محمداً وأصحابه! ومنه الرؤيا التي رآها النبي (صلى الله عليه وآله) فوجم لها، فما رُئي ضاحكاً بعدها، فأنزل الله: (وَما جَعلنا الرؤيا التي أَريناكَ إلاّ فتنةً لِلناسِ)(3)، فذكروا أنه رأى نفراً من بني اُمية ينزون على منبره! ومنه طرد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحكم بن أبي العاص لحكايته إياه، وألحقه الله بدعوة رسوله آية باقية حين رآه يختلج، فقال له: "كن كما أنت"، فبقي على ذلك سائر عمره، إلى ما كان من مروان في افتتاحه أول فتنة في الإسلام، واحتقابه لكل دم حرام سفك فيها أو اُريق بعدها، ومنه ما أنزل
____________
1- الاسراء: 60.
2- المائدة: 78.
3- الأسراء: 17.
|
|
|
الله على نبيه في سورة القدر: (ليلةُ القَدرِ خَيرٌ مِنْ أَلفِ شَهر)(1)، من ملك بني اُمية، ومنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعا بمعاوية ليكتب بأمره بين يديه، فدافع أمره، واعتلّ بطعامه، فقال النبي (صلى الله عليه وآله):"لا أشبع الله بطنه"، فبقي لا يشبع، ويقول: والله ما أترك الطعام شبعاً ولكن اعياءً، ومنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "يطلع من هذا الفج رجل من اُمتي يحشر على غير ملتي"، فطلع معاوية! ومنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقلتوه!" ومنه الحديث المرفوع المشهور أنه قال: "إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها ينادي: يا حنان يا منان، الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين"!.
ومنه انبراؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الإسلام مكاناً، وأقدمهم إليه سبقاً، وأحسنهم فيه أثراً وذكراً: علي بن أبي طالب، ينازعه حقه بباطله، ويجاهد أنصاره بضلاّله وغواته، ويحاول ما لم يزل هو وأبوه يحاولانه من إطفاء نور الله وجحود دينه، ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره المشركون. يستهوي أهل الغباوة، ويموّه على أهل الجهالة بمكره وبغيه اللذين قدّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخبر عنهما.
فقال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم الى الجنة" ويدعونك الى النار، مؤثراً للعاجلة، كافراً بالآجلة، خارجاً من ربقة الاسلام، مستحلا للدم الحرام، حتى سفك في فتنته وعلى سبيل ضلالته، ما لا يحصى عدده من خيار المسلمين الذابين عن دين الله والناصرين لحقه، مجاهداً لله، مجتهداً في أن يُعصى الله فلا يطاع، وتبطل أحكامه فلا تقام، ويخالف دينه فلا يُدان، وأن تعلو كلمة الضلالة، وترتفع دعوة الباطل... حتى احتمل أوزار تلك الحروب
____________
1- القدر: 3.
|
|
|
وما أتبعها، وتطوّق تلك الدماء وما سُفك بعدها، وسنّ سنن الفساد التي عليه إثمها وإثم من عمل بها الى يوم القيامة، وأباح المحارم لمن ارتكبها، ومنع الحقوق أهلها...
ثم مما أوجب له به اللعنة: قتله من قتل صبراً من خيار الصحابة والتابعين وأهل الفضل والديانة، مثل عمرو بن الحمق، وحجر بن عدي، فيمن قتل من أمثالهم، في أن تكون له العزّة والملك والغلبة، ولله العزة والملك والقدرة، والله عزّوجل يقول: (وَمَنْ يَقُتلْ مُؤمناً مُتعمداً فَجزاؤُهُ جَهنَّمُ خِالداً فيها وَغضِبَ اللهُ عَليهِ وأعَدّ لَهُ عَذاباً عَظيماً)(1).
ومما استحق به اللعنة من الله ورسوله: ادعاؤه زياد بن سمية، جرأة على الله، والله يقول: (اُدعوهُم لآبائِهمْ هُوَ أَقسُط عِندَ اللهِ)(2)، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول "ملعون من ادعى الى غير أبيه، أو انتمى الى غير مواليه"، ويقول: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، فخالف حكم الله عزّوجل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) جهاراً، وجعل الولد لغير الفراش، والعاهر لا يضره عهره، فأدخل بهذه الدعوة من محارم الله ومحارم رسوله في اُم حبيبة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي غيرها من سفور وجوه، ما قد حرّمه الله، وأثبت بها قربى قد باعدها الله، وأباح بها ما قد حظره الله مما لم يدخل على الإسلام خلل مثله، ولم ينل الدين تبديل شبهه!
ومنه إيثاره بدين الله، ودعاؤه عباد الله الى ابنه يزيد المتكبر الخمّير صاحب الديوك والفهود والقرود، وأخذه البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والاخافة والتهدد والرهبة وهو يعلم سفهه ويطّلع على خبثه ورهقه، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره، فلما تمكن منه ما مكنه منه، ووطأ
____________
1- النساء: 93.
2- الأحزاب: 5.
|
|
|
له، وعصى الله ورسوله فيه، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين، فأوقع بأهل الحرّة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ولا أفحش، مما ارتكب من الصالحين فيها، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله، وظن أن قد انتقم من أولياء الله، وبلّغ النوى لأعداء الله، فقال مجاهراً بكفره ومظهراً لشركه:
ليت أشياخي ببدر شهدوا |
جزع الخزرج من وقع الأسل |
قد قتلنا القوم من ساداتكم |
وعدلنا ميل بدر فاعتدل |
فأهلوا واستهلوا فرحاً |
ثم قالوا: يا يزيد لا تُسل |
لستُ من خندف إن لم انتقم |
من بني أحمد ما كان فعل |
ولعتْ هاشم بالملك فلا |
خبرٌ جاء ولا وحي نزل! |
هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع الى الله ولا الى دينه ولا الى كتابه ولا الى رسوله، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله.
ومن أغلظ ما انتهك واعظم ما اخترم: سفكه دم الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع موقعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل، وشهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) له ولأخيه بسيادة شباب الجنة، اجتراءً على الله وكفراًبدينه وعداوة لرسوله ومجاهدة لعترته واستهانة بحرمته، فكأنما يقتل به وبأهل بيته قوماً من كفار أهل الترك والديلم، لا يخاف من الله نقمة ولا يرقب منه سطوة، فبتر الله عمره، واجتث أصله وفرعه، وسلبه ما تحت يده، وأعدّ له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته.
هذا الى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله وتعطيل أحكامه واتخاذ مال الله دولا بينهم، وهدم بيته واستحلال حرامه ونصبهم المجانيق عليه ورميهم إياه بالنيران. لا يألونه احراقاً واضراباً، ولما حرّم الله منه استباحة
|
|
|
وانتهاكاً، ولمن لجأ إليه قتلا وتنكيلا، ولمن أمّنه الله به إضافة وتشريداً...
اللهم العن أبا سفيان بن حرب، ومعاوية ابنه، ويزيد بن معاوية، ومروان ابن الحكم وولده، اللهم العن أئمة الكفر وقادة الضلالة وأعداء الدين ومجاهدي الرسول ومغيّري الأحكام ومبدّلي الكتاب وسفاكي الدم الحرام...الخ.
قال الطبري: وذكر أن عبيدالله بن سليمان أحضر يوسف بن يعقوب القاضي وأمره أن يُعمل الحيلة في إبطال ما عزم عليه المعتضد، فمضى يوسف ابن يعقوب فكلم المعتضد في ذلك وقال له: يا أمير المؤمنين، إني أخاف أن تضطرب العامة ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة! فقال: إن تحركت العامة أو نطقت وضعت سيفي فيها. فقال: يا أمير المؤمنين، فما تصنع بالطالبيين الذين هم في كل ناحية يخرجون، ويميل إليهم كثير من الناس لقرابتهم من الرسول ومآثرهم، وفي هذا الكتاب اطراؤهم، أو كما قال: وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل، وكانوا هم أبسط ألسنةً وأثبت حجة منهم اليوم!
فأمسك المعتضد فلم يردّ عليه جواباً، ولم يأمر في الكتاب بعده بشيء!
وذكر الطبري أيضاً أن المعتضد قد أمر فنودي في الجامعين بأن الذمة برية ممن اجتمع من الناس على مناظرة أو جدل، وأن من فعل ذلك أحلّ بنفسه الضرب، وتقدّم الى الشُّرّاب والذين يسقون الماء في الجامعين ألاّ يترحموا على معاوية ولا يذكروه بخير(1).
أما ابن الأثير - الذي نعى على الطبري عدم إخراجه قصة استلحاق زياد
____________
1- تاريخ الطبري 10: 54.
|
|
|
ابن أبيه- فإنه هنا يخالف منهجه ذاك، فلا يورد كتاب المعتضد بالله، ويكتفي بالقول في حوادث سنة (284 هـ).
وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بانشاء كتاب يُقرأ على الناس، وهو كتاب طويل قد أحسن كتابته، إلاّ أنه قد استدل فيه بأحاديث كثيرة على وجوب لعنه عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا تصح! وذكر في الكتاب يزيد وغيره من بني اُمية، وعُملت به نسخ قرئت بجانبي بغداد...
ثم يذكر ابن الأثير بعض أعمال المعتضد وحيلة عبيدالله في اقناع المعتضد عن طريق القاضي يوسف بن يعقوب لصرفه عن قراءة الكتاب، وقال: وكان عبيدالله من المنحرفة عن علي (عليه السلام)!(1).
وتابعه على ذلك ابن كثير الدمشقي فقال:
وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر فحذّره ذلك وزيره عبدالله بن وهب وقال: إن العامة تنكر قلوبهم ذلك، وهم يترحمون عليه ويترضّون عنه في أسواقهم وجوامعهم، فلم يلتفت إليه، بل أمر بذلك وأمضاه وكتب به نسخاً الى الخطباء بلعن معاوية، وذكر فيها ذمه وذم ابنه يزيد بن معاوية وجماعة من بني اُمية، وأورد فيها أحاديث باطلة في ذم معاوية وقرئت في الجانبين من بغداد، ونهيت العامة عن الترحم على معاوية والترضي عنه، فلم يزل به الوزير حتى قال له فيما قال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الصنيع لم يسبقك أحد من الخلفاء إليه، وهو مما يرغب العامة في الطالبيين وقبول الدعوة إليهم! فوجم المعتضد عند ذلك تخوفاً على الملك، وقدّر الله تعالى أن هذا الوزير كان ناصبياً يكفّر علياً، فكان هذا
____________
1- الكامل في التاريخ 7: 485.
|
|
|
من هفوات المعتضد!(1).
ويجدر بنا أن نشير الى بعض الاُمور المهمة فيما يتعلق بأمر هذا الكتاب وموقف المؤرخين منه.
منها: أن الترحم على معاوية والترضي عنه كان شائعاً في زمن العباسيين للأسباب التي أوردناها سابقاً، والخلفاء العباسيون وإن كانوا في دواخلهم يكنون البغضاء والحقد لمعاوية وبني اُمية أجمعين، إلا أنهم كانوا لا يجهرون بذلك، ولا يمنعون الرواية في فضائلهم والترضي عنهم، أو بالأحرى اختلاق الفضائل لهم توهيناً لشوكة العلويين، وقد بدا ذلك واضحاً في إعراض المعتضد عن الكتاب - رغم قناعته به واستعداده لوضع السيف في العامة إذا ما اعترضوا عليه- عندما حذّره وزيره وقاضيه من مغبة التفاف العامة حول العلويين وميلهم إليهم، فعند ذاك نظر المعتضد الى مصلحة دولته وملك بني العباس، فأهمل الكتاب!
لقد أوردت كتاب المعتضد - مختصراً بعض الشيء لطوله- بهدف توضيح موقف العباسيين من معاوية، والكشف عن الملابسات التي تكتنف مواقفهم منه، ولكي لا يتوهم القاريء بأن مجرد وضع اسمه على أبواب المساجد في عاصمة العباسيين يدل على تعظيمهم إياه، فلطالما خالفت السياسة المبادئ.
والأمر الآخر، هو الكشف عن مواقف بعض المؤرخين من الكتاب وعدم ايراده في كتبهم، والحكم على الأحاديث النبوية التي وردت فيه بذم معاوية وأبيه وأخيه بعدم الصحة، رغم أن هؤلاء الحفاظ قد خرّجوا الكثير منها - مع
____________
1- البداية والنهاية 11: 97.
محاولة تأويلها- وسوف نتطرق الى مواقف الحفاظ من الأحاديث التي ذكرت فضائل معاوية ومثالبه بعد أن نستعرض هذه الأحاديث التي وردت في كتاب المعتضد وتبيّن مدى صحتها أو عدمه، مع ترك بعض الاُمور التي سبق وأن تناولناها في مباحث سابقة. واُود أن اُشير أخيراً الى موقف ابن كثير وهو يعبّر عن سروره الواضح لأن الله قدّر لهذا الكتاب رجلا ناصبياً منحرفاً عن علي بن أبي طالب ليمنعه من الظهور، ويعتبر الكتاب من هفوات المعتضد، ورغم إنني أعتقد أن ما تقدم من تصرفات معاوية وأعماله تكفي لإدانته بشكل تام، إلا أنني أود أن أستعرض شيئاً من سيرة عائلته التي تربى في أحضانها وبنى مواقفه من الإسلام متأثراً بمواقف تلك الاسرة، وزعيمها أبي سفيان بن حرب.
إن من الغرابة أن يتنكر بعض المؤلفين القدامى لكتاب المعتضد، مع أن المحدثين والحفاظ قد أخرجوا الكثير من تلك الأحاديث التي تنكر لها هؤلاء المؤلفون، وكثير منها طرقه لا مغمز فيها، فقصة مناصبة الاُمويّين ورأسهم أبو سفيان العداوة للنبي (صلى الله عليه وآله) هي من الاُمور التي لا يختلف فيها اثنان.
وأبو سفيان معروف منذ الجاهلية بأنه "كان من زنادقة قريش الثمانية"(1). وطائفة ترى أنه كان كهفاً للمنافقين منذ أسلم، وكان في الجاهلية ينسب الى الزندقة.
وفي خبر ابن الزبير أنه رآه يوم اليرموك، قال: فكانت الروم إذا ظهرت
____________
1- المحبّر: 161.
|
|
|
قال أبو سفيان: إيه بني الأصفر! فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان:
وبنو الاصفر الملوك ملوك |
الروم لم يبق منهم مذكور |
فحدّث به ابن الزبير أباه لما فتح الله على المسلمين، فقال الزبير: قاتله الله، يأبى إلاّ نفاقاً! أو لسنا خيراً له من بني الاصفر"؟(1).
ومن الجدير بالذكر هاهنا، أن الطبري قد روى عن سيف بن عمر في خبر معركة اليرموك، قال: "وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول: الله الله، إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم انزل نصرك على عبادك"!(2).
ولا عجب أن يتصدى زنديق الكوفة للمنافحة عن زنديق قريش.
وأورد ابن هشام شماتة أبي سفيان بالمسلمين في وقعة حنين. فقال نقلا عن ابن إسحاق:
فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال بما في أنفسهم من الضّغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! وإن الأزلام لمعه في كنانته!(3).
وعندما بويع لأبي بكر، دخل أبو سفيان بن حرب على علي والعباس فقال: يا علي، وأنت يا عباس، ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش، في تيم! أما والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا! فقال علي: يا أبا سفيان طالما غششت الإسلام!(4).
____________
1- الاستيعاب 4: 240، الكامل في التاريخ 2: 414، الاصابة 2: 172، تهذيب تاريخ ابن عساكر 5: 536، 6: 406.
2- تاريخ الطبري 3: 397.
3- سيرة ابن هشام 4: 86.
4- مختصر تاريخ دمشق 11: 65.
|
|
|
وعندما بويع لعثمان، دخل أبو سفيان عليه وقد عمي، فقال: ها هنا أحد؟ قالوا: لا، قال: اللهم اجعل الأمر جاهلية، والملك ملك غاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني اُمية!(1).
وفي رواية أنه قال: قد صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني اُمية، فإنما هو الملك، ولا أدري ما جنة ولا نار!
ومع ذلك، فقد أخرج الإمام مسلم في فضائل أبي سفيان، عن ابن عباس، قال: كان المسلمون لا ينظرون الى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي (صلى الله عليه وآله): يا نبي الله، ثلاث أعطنيهن، قال: "نعم". قال: عندي أحسن العرب وأجمله: اُم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجك بها! قال: "نعم". قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك. قال: "نعم". قال: وتؤمرني حتى اُقاتل الكفار كما كنت اُقاتل المسلمين! قال: "نعم".
قال النووي في شرحه للحديث: واعلم أن هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال! ووجه الإشكال أن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وهذا مشهور لا خلاف فيه، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد تزوج اُم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل! قال أبو عبيدة وخليفة بن خياط وابن البرقي، والجمهور: تزوجها سنة ست، وقيل سنة سبع...
قال القاضي (عياض): والذي في مسلم هنا أنه زوجها أبو سفيان، غريب جداً! وخبرها مع أبي سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهور، ولم يزد القاضي على هذا.
وقال ابن حزم: هذا الحديث وهم من بعض الرواة، لأنه لا خلاف بين
____________
1- الاستيعاب 4: 240، النزاع والتخاصم للمقريزي: 20، تهذيب تاريخ ابن عساكر 6: 409، الأغاني 6: 355.
|
|
|
الناس أن النبي (صلى الله عليه وآله) تزوج اُم حبيبة قبل الفتح بدهر وهي بأرض الحبشة، وأبوها كافر، وفي رواية عن ابن حزم أيضاً أنه قال: موضوع!! قال: والآفة فيه من عكرمة بن عمار الراوي، عن أبي زميل...(1).
أما القول بأن الحديث وهم من الرواة، فالأصح القول أنه من كذب الرواة الذين أرادوا أن يختلقوا هذه الفضائل لأبي سفيان تقرباً لمعاوية ورغبة فيما عنده من الدنيا وقد فطن ابن حزم لذلك، فالحقيقة أن الحديث لا يزيد عن قول ابن عباس بأن المسلمين كانوا لا ينظرون الى أبي سفيان ولا يقاعدونه، وهذا مطعن عليه وعلى بني اُمية، فزاد الرواة باقي الكلام ظناً منهم أنهم بذلك يتقربون لمعاوية وبني اُمية الذين كانوا يجزلون العطاء للكذابين من مختلقي الفضائل، وليس أدل على ذلك من الادعاء بأن أبا سفيان قد طلب من النبي (صلى الله عليه وآله) تأميره لقتال المشركين، وموافقة النبي على ذلك! فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يؤمر أبا سفيان على أي جيش، وموقفه في اليرموك وحنين يكفي للدلالة على نواياه تجاه الإسلام.
فكل ما في الأمر أن ابن عباس أراد أن يكشف عن موقف المسلمين من أبي سفيان الذي كان متهماً في دينه عندهم، وليس أدل على ذلك من الحديث الآخر الذي أخرجه مسلم في فضائل سلمان وصهيب وبلال، عن عائد بن عمرو، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها! قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها! فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبره، فقال: "يا أبا بكر لعلك أغضبتهم! لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك!" فأتاهم ابو بكر فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟
____________
1- شرح صحيح مسلم للنووي 16: 279.
|
|
|
قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي(1).
فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يعاتب الصحابة الذين عرّضوا بأبي سفيان، بل عاتب أبا بكر على أن يكون قد أغضبهم، ولو كانت لأبي سفيان كرامة عند النبي (صلى الله عليه وآله)، لظهر في موقفه من اُولئك الصحابة، ولكن موقف النبي قد كشف عن دناءة قدر أبي سفيان عنده!
أما زوج أبي سفيان: هند بنت عتبة، اُم معاوية، "فأخبارها مشهورة حتى قبل الإسلام، وشهدت اُحداً، وهي التي مثلت بجسد حمزة عم النبي (صلى الله عليه وآله)، حيث شقّت بطنه واستخرجت كبده فلاكتها -ولذا لقبت بآكلة الاكباد- فلم تطق إساغتها، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: "لو أساغتها لم تمسها النار"(2).
وقول النبي (صلى الله عليه وآله) يدل على أن هنداً هي من أهل النار، وهي من دلائل نبوته، رغم أنها أسلمت بعد الفتح، ولكنها وزوجها وأبناءها ظلوا يسرّون أحقادهم على النبي وبني هاشم خاصة وعلى المسلمين عامة، ولا أدل على ذلك من جرأتها على النبي (صلى الله عليه وآله) حين أخذ البيعة منها واشترط فيما اشترط أن "لا يسرقن ولا يزنين" قالت له هند بنت عتبة: وهل تزني الحرة وتسرق يا رسول الله؟ فلما قال "ولا يقتلن أولادهن". قالت: قد ربّيناهم صغاراً وقتلتهم أنت ببدر كباراً!(3).
فجوابها هذا يدل على مدى ما كانت تحمله من حقد وضغن على
____________
1- صحيح مسلم 4: 1947.
2- اُسد الغابة 7: 281.
3- ترجمة هند من الاستيعاب: 4. 474 ـ الإصابة: 8 ـ 155، اُسد الغابة: 7 ـ 281.
|
|
|
النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنها لم تنس أن دعوته كانت هي السبب في مقتل أبيها وأخيها وعمها في بدر!
في الواقع أن كلمة مناقب لا تبدو متناسبة مع سيرة معاوية إطلاقاً، وليس هذا من تقوّلنا عليه، بل هو مما اتفق عليه كبار الأئمة والعلماء، ولكن البعض يأبى إلاّ أن يختلق لمعاوية بعض الفضائل بوضع الأحاديث المناسبة للمقام، إلاّ أن الأعجب أن ينبري بعض الأئمة الحفّاظ - ممن شق عليه ألاّ يجد لمعاوية فضيلة صحيحة- لتحويل مثالب معاوية الى مناقب وفضائل! كما يفعل ابن كثير والذهبي وابن حجر الهيثمي وغيرهم، وقد تشبث البعض بالرواية التي جاءت في البخاري عن أبي مليكة، قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فقال: دعه فانه صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وفي رواية قال: إنه فقيه!(1).
قال ابن حجر العسقلاني في شرحه للحديث:
عبّر البخاري في هذه الترجمة بقوله ذكر، ولم يقل فضيلة ولا منقبة، لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب، لأن ظاهر شهادة ابن عباس بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير، وقد صنّف ابن أبي عاصم جزءاً في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب، وأبو بكر النقّاش، وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها، ثم ساق عن اسحاق بن راهويه أنه قال: لم يصح في فضائل معاوية شيء فهذه النكتة في عدول البخاري عن
____________
1- صحيح البخاري 5: 35، باب ذكر معاوية.
|
|
|
التصريح بلفظ منقبة اعتماداً على قول شيخه، لكن بدقيق نظره استنبط ما يدفع به رؤوس الروافض. وقصة النسائي في ذلك مشهورة، وكأنه اعتمد أيضاً على قول شيخه إسحاق. وكذلك في قصة الحاكم.
وأخرج ابن الجوزي أيضاً عن طريق عبدالله بن أحمد بن حنبل، سألت أبي: ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: إعلم أن علياً كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل قد حاربه، فأطروه كيداً منهم لعلي. فأشار بهذا الى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له.
وقد ورد في فضل معاوية أحاديث كثيرة، لكن ليس فيها ما يصح عن طريق الإسناد، وبذلك جزم اسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما(1).
أما الرواية الآنفة الذكر، والتي يتشبث بها أنصار معاوية ويعدونها منقبة لمعاوية، فهي في الحقيقة ليست منقبة ولا فضلا كما صرح به ابن حجر العسقلاني، إذ أن الصحبة وحدها لا تكفي فضلا، لأن العبرة بحسن العاقبة، وكم من الصحابة ارتدوا وماتوا مرتدين، وكما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) عن مآل الكثير من الصحابة في أحاديث الحوض التي أوردناها فيما سبق.
أما وصف ابن عباس لمعاوية بأنه فقيه، فلا شك أنه من باب التهكم عليه، لأن ابن عباس يعلم جيداً قصر باع معاوية في الفقه، لقلة فترة صحبته، وقد مرّ بنا فيما سبق كيف أن معاوية كان يعترض على بعض الصحابة بأنهم يروون أحاديث تتضمن أحكاماً فقهية خطيرة لم يسمع هو بها، كما أن ابن عباس كان يعرف جيداً ما أحدث معاوية من بدع يخالف بها شريعة الله وسنّة نبيه (صلى الله عليه وآله)، ولقد ذمّ ابن عباس معاوية ولعنه في أكثر من موضع لهذا السبب، كما
____________
1- فتح الباري: 7 ـ 104.
|
|
|
مر بنا فيما سبق، ولكن البعض يحاولون اقناع أنفسهم بأن قول ابن عباس هو تزكية لمعاوية، ولكن الأمر ليس كذلك قطعاً بعدما تعرفنا على رأي ابن عباس في معاوية.
أما النسائي، فقد دفع حياته ثمناً للحقيقة، حينما أعلن في بلاد الشام أنه ليس لمعاوية فضيلة ولا منقبة.
روى الحافظ المزّي، عن أبي بكر محمد بن موسى بن يعقوب الهاشمي قوله: قيل له: ألا تُخرج فضائل معاوية؟ فقال: أي شيء اُخرج، "اللهم لا تشبع بطنه"!!
كما واُخرج عن الحاكم أبي عبدالله الحافظ: سمعت علي بن عمر يقول: كان أبو عبدالرحمان النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح والسقيم من الآثار وأعلمهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج الى الرملة، فسئل عن فضائل معاوية، فأمسك عنه، فضربوه في الجامع فقال: أخرجوني الى مكة، فأخرجوه الى مكة وهو عليل، وتوفي بها مقتولا شهيداً(1).
وقد ادعى الحافظ المزي أن الإمام النسائي استشهد بدمشق من جهة الخوارج!(2).
وأخرج الذهبي عن ابن منده عن حمزة العقبي المصري وغيره، أن النسائي خرج من مصر في آخر عمره الى دمشق، فسئل بها عن معاوية وما جاء من فضائله، فقال: ألا يرضى رأساً برأس حتى يفضل!
قال: فما زالوا يدفعون في خصييه حتى اُخرج من المسجد، ثم حُمل الى
____________
1- تهذيب الكمال 1: 157 ترجمة النسائي.
2- المصدر السابق 1: 154.
|
|
|
مكة فتوفي بها(1).
إن هذا يعطينا فكرة واضحة عن مدى تأثير الإعلام الاُموي في كثير من الناس، وبخاصة أهل الشام الذين اعتقدوا بصحة المناقب المفتعلة التي وضعها الكذابون من أكلة السحت لمعاوية، إلاّ أن الغريب أن تجد بعض المحدّثين يخرجون الكثير من هذه الفضائل ويروجونها في كتبهم رغم معرفتهم بأن أئمة الحديث -وعلى رأسهم إبن راهويه- قد حكموا بالإعدام على كل فضائل معاوية! والأعجب من ذلك أن يحاول بعض اُولئك الحفاظ أن يحولوا مثالب معاوية الى مناقب له، كما سوف يأتي فيما بعد!
لعن النبي (صلى الله عليه وآله) لمعاوية والحكم
مرّ في المبحث السابق أن الإمام النسائي قد عرّض بحديث "لا أشبع الله بطنه" بمثلبة من مثالب معاوية، إلاّ أن العجب أن تجد بعض الائمة الحفّاظ يصرون على تحويل هذه المثالب واللعنات على معاوية الى مناقب له! وحديث لا أشبع الله بطنه أخرجه الإمام مسلم عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتواريت خلف الباب، قال: فجاء فحطأني حطأة، وقال: "إذهب وادع لي معاوية" قال: فجئت فقلت: هو يأكل! قال: ثم قال لي: "اذهب فادع لي معاوية". قال: فجئت فقلت: هو يأكل! فقال: "لا أشبع الله بطنه"(2).
قال الذهبي - بعد ذكر هذا الحديث- لعل هذه منقبة لمعاوية لقول
____________
1- تذكرة الحفاظ 2: 700.
2- صحيح مسلم 4: 2010 كتاب البر والصلة والآداب، باب من لعنه النبي(ص) أو سبّه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجراً ورحمة.
|
|
|
النبي (صلى الله عليه وآله): "اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة"(1).
أما إبن كثير، فلم يكتف بذلك، فقال بعد أن أورد هذا الحديث:
وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه واُخراه! أما في دنياه فانه لما صار الى الشام أميراً، كان يأكل في اليوم سبع مرّات! يُجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل، فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً، ويقول: والله لا أشبع وإنما أعيا!
وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك! وأما في الآخرة، فقد اتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي راوه البخاري وغيرهما من غير وجه عن عدد من الصحابة، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "اللهم إنما أنا بشر، فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا، فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة"!(2).
يقول ابن كثير هذا القول، وهو الإمام المفسر للقرآن الكريم، متناسياً قوله في تفسير قوله تعالى (وَكُلوا واشرَبوا ولا تُسرفُوا إنَّهُ لا يُحبُّ المسرفينَ)(3).
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سليمان بن سليم الكلبي، حدثنا يحيى بن جابر الطائي، سمعت المقدام بن معد يكرب الكندي العبدي، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فان كان فاعلا لا محالة، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"، ورواه النسائي والترمذي من طرق عن يحيى بن جابر وقال الترمذي: حسن، وفي نسخة حسن صحيح...(4)
____________
1- تذكرة الحفاظ 2: 699.
2- البداية والنهاية 8: 119 حوادث سنة 60.
3- سورة الاعراف: 31.
4- تفسير القرآن العظيم 2: 215.
|
|
|
كما ونقل ابن كثير عن المحدثين تخريجهم لحديث يناقض قوله أيضاً، وهو قول النبي (صلى الله عليه وآله): "إن المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء"!!(1).
هذا مع العلم أن الفطرة الانسانية تنفر بطبعها من الإنسان النهم الذي يفرط في الأكل، فكيف يمدح النبي (صلى الله عليه وآله) معاوية بخصلة تنفر منها طباع البشر! لكن ابن كثير يصر على جعل هذه المثلبة منقبة لمعاوية! أما كيف انتفع معاوية بلعن النبي (صلى الله عليه وآله) له في الآخرة! فذلك أعجب وأغرب، إذ أن من المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد لعن بعض الصحابة، بل إنه لعن قبائل بأكملها، كما جاء عن الحسن بن علي أنه قال لأبي الأعور الصالحي: ويحك! ألم يلعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رعلا وذكوان وعمرو بن سفيان!(2).
كما ولعن النبي (صلى الله عليه وآله) أشخاصاً بأسمائهم أو بأوصافهم، كما عن سفينة أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان جالساً فمرّ رجل على بعير وبين يديه قائد وخلفه سائق، فقال: "لعن الله القائد والسائق والراكب"(3).
ومن المعلوم أن الراكب الذي أضمر الرواة اسمه هو أبو سفيان وأن
____________
1- البداية والنهاية 5: 195، صحيح البخاري 7: 92 كتاب الأطعمة، باب المؤمن يأكل في معي واحد. صحيح مسلم 6: 132، سنن الترمذي 3: 405 أبواب الأطعمة، باب ما جاء أن المؤمن يأكل في معي واحد.. وقال: هذا حديث حسن صحيح، مسند الطيالسي ح 1834، مصنف عبدالرزاق ح 1955، مصنف ابن أبي شيبة 8: 321 مسند أحمد 2: 43، 74، 145، 455، و 3: 357، و 4: 336، و 5: 370، و 6: 397، سنن الدارمي ح 2047، سنن ابن ماجة ح 3257، سنن النسائي ح 6771، مسند أبي يعلى ح 2152، 5633، مسند أبي عوانة 5: 424، صحيح ابن حبّان: ح 5238، المعجم الأوسط للطبراني ح 1624، 1760، 1828. حلية الأولياء 6: 347، تحفة الأشراف 6: 176 ح 8156، المسند الجامع 10: 536 ح7859، الحميدي: 669، الموطأ: في صفة النبي.
2- مجمع الزوائد 1: 113 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير عبد الرحمان بن أبي عوف وهو ثقة.
3- المصدر السابق وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.
|
|
|
السائق والقائد هما إبناه معاوية ويزيد!
وهذه الروايات وأمثالها قد أوقعت الجمهور في حيرة عظيمة، لأنها تتنافى مع مكانة الصحابة عند الجمهور، إذ من المعلوم أن لعن النبي (صلى الله عليه وآله) لأي شخص يجعله عرضة لنقمة الله وسخطه، فلم يجدوا إزاء ذلك إلاّ اللجوء الى تبرير ذلك كله بروايات ادعوا أنها جاءت عن النبي (صلى الله عليه وآله)، بأن لعنه لاُولئك الأشخاص، إنما هو زكاة ورحمة لهم! رغم أن تصرف بعض الصحابة ممن تنسب إليهم هذه الروايات يناقضها تماماً كما سيأتي.
لقد أخرج المحدّثون هذه الروايات عن بعض الصحابة كأبي هريرة واُم المؤمنين عائشة وغيرهما، فمن تلك الروايات نختار رواية عائشة، قالت: دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلان، فكلّماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه; فلعنهما وسبّهما! فلما خرجا قلت: يا رسول الله، من أصاب من الخير شيئاً، ما أصابه هذان، قال: "وما ذاك؟". قالت، قلت: لعنتهما وسببتهما. قال: "أو ما علمت ما شارطت ربي عليه؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي مسلم لعنته، أو سببته فاجعله له زكاة وأجراً"!(1).
ومن الطريف أن الإمام مسلم استثنى في هذا الباب من هذه اللعنة من ليس لها أهلا، ولا أدري هل أن معاوية أهل للعن بعد كل ما عرضنا من أحواله أم لا!
والأغرب من كل ذلك أن تروي اُم المؤمنين عائشة هذا الحديث، وتعيّر مروان بن الحكم -في نفس الوقت- بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد لعنه وهو في صلب أبيه! فلو كانت عائشة تعلم أن اللعن زكاة له ورحمة، لما عيّرته به! كما وأن ابن الزبير -وهو منافس لآل الحكم على الخلافة وعدّوهم- يذكر لعن النبي (صلى الله عليه وآله)
____________
1- صحيح البخاري 8: 96 كتاب الدعوات، باب قول النبي (ص) من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة عن أبي هريرة، صحيح مسلم 4: 2010 كتاب البر والصلة والآداب. باب من لعنه النبي (ص) أو سبّه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجراً ورحمة.
|
|
|
لآل الحكم، فعن الشعبي، قال: سمعت عبدالله بن الزبير وهو مستند الى الكعبة وهو يقول: ورب هذه الكعبة، لقد لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلاناً وما ولد من صلبه، رواه أحمد والبزار إلاّ أنه قال: لقد لعن الله الحكم وما ولد على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله) (1).
وعن عبدالله بن عمر أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أشار الى الحكم وقال: "إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه، وسيخرج من صلبه فتى يبلغ دخانها السماء، فقال ناس من القوم: هو أقل وأذل من أن يكون هذا منه. قال: "بلى، وبعضكم يومئذ شيعته!!"(2).
وقال ابن حجر: وبسند رجاله رجال الصحيح، عن عبدالله بن عمر(رضي الله عنه)أنه قال: "ليدخلن الساعة عليكم رجل لعين،، فوالله ما زلت أتشوف داخلا وخارجاً حتى دخل فلان، وكنت قد تركت عمراً يلبس ثيابه ليقبل الى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلم أزل مشفقاً أن يكون أول من يدخل، فدخل الحكم بن أبي العاص"(3).
وعن عمرو بن مرة قال: استأذن الحكم على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فعرف صوته فقال: "ائذنوا له. لعنة الله عليه وعلى من يخرج من صلبه إلاّ المؤمنين، وقليل ما هم، ذوو مكر وخديعة يعطون الدنيا ومالهم في الآخرة من خلاق"(4).
وعن محمد بن كعب القرظي، أنه قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحكم وما ولد، إلاّ الصالحين، وهم قليل(5).
____________
1- مجمع الزوائد 5: 241 وقال: ورجال أحمد رجال الصحيح، المستدرك 4: 481 وصححه، كنز العمال 11: 357 ح 31732 و 31733، مختصر تاريخ دمشق 24: 291.
2- المعجم الكبير للطبراني 12: 336 ح 13602، كنز العمال 11: 165 ح 31060، 359 ح3174.
3- تطهير الجنان: 63، وانظر الاستيعاب 1: 119، مسند أحمد 2: 347 ح 6484.
4- البلاذري 5: 126 المستدرك 4: 481 وصححه، السيرة الحلبية 1: 337، الصواعق المحرقة: 181، تطهير الجنان: 64، جمع الجوامع للسيوطي 6: 90، كنز العمال 11: 357 ح 31729.
5- كنز العمال 11: 361 ح 31746.
|
|
|
وعن نصر بن حازم الليثي عن أبيه، قال: دخلت مسجد المدينة فاذا الناس يقولون: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، قال: قلت: ماذا؟ قالوا: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب على منبر، فقام رجل فأخذ بيد ابنه فأخرجه من المسجد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لعن الله القائد لهذه الاُمة من فلان ذي الإستاه"(1).
وهنا ينبري ابن حجر الهيثمي المكي للدفاع عن الحكم وغيره ممن شملتهم لعنة النبي (صلى الله عليه وآله) فيقول:
صحّ أنه (صلى الله عليه وآله) لعن الحكم وبنيه إلاّ الصالح منهم... على أنه مرّ أن لعنه لمن لا يستحق اللعن من اُمته طهارة ورحمة!(2).
وهنا أيضاً لا نعلم كيف يستثني النبي (صلى الله عليه وآله) الصالحين مِن ولد الحكم من هذه الزكاة والأجر والرحمة، مع أن الصالحين هم أحوج إليها وأكثر استحقاقاً لها من غير الصالحين! كما ولا أدري كيف علم ابن حجر المكي أن الحكم وبنوه غير مستحقين لتلك اللعنة، بعدما علمنا من أحوالهم فيما سبق ما علمنا!
أليس كل هذا يثبت أن عائشة اُم المؤمنين لم تسمع بهذا الكلام من النبي (صلى الله عليه وآله) ولا روته عنه، وإنما هي روايات اختلقها الوضاعون تقرباً لمعاوية وبني اُمية، بهدف إزالة هذه اللطخة التي تسبب لهم العار والشنار على جباههم بعد ما أصبحوا ملوكاً على رقاب الناس!
من المعلوم يقيناً أن دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) مستجاب لكرامة النبي (صلى الله عليه وآله) على الله سبحانه وتعالى لأنه أفضل خلقه وخاتم أنبيائه، ولأن النبي لا يدعو لأحد أو
____________
1- مجمع الزوائد 5: 242 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
2- تطهير اللسان والجنان الملحق بالصواعق المحرقة: 70.
|
|
|
يدعو على أحد إلاّ وهو يعلم استحقاق ذلك الشخص لدعائه له أو عليه.
ولقد نال كل من معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص حظّهما من دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) عليهما - في حال كانا مشركين أو بعد تظاهرها بالإسلامـ فقد كان هذا الرجلان وأبواهما من أشد المؤذين للنبي (صلى الله عليه وآله)، وقد كان عمرو بن العاص يقول الشعر في هجاء النبي (صلى الله عليه وآله) عند ما كان مشركاً، و "كان يعلمه صبيان مكة فينشدونه ويصيحون برسول الله إذا مرّ بهم رافعين أصواتهم بذلك الهجاء، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يصلي بالحجر: "اللهم إن عمرو بن العاص هجاني، ولستُ بشاعر، فالعنه بعدد ما هجاني"(1).
وروى أهل الحديث أن النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص، عهدوا الى سلا جمل فرفعوه بينهم ووضعوه على رأس رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو ساجد بفناء الكعبة فسال عليه، فصبر ولم يرفع رأسه، وبكى في سجوده ودعا عليهم، فجاءت إبنته فاطمة (عليها السلام) وهي باكية فاحتضنت ذلك السلا فرفعته عنه فألقته وقامت على رأسه تبكي، فرفع رأسه (صلى الله عليه وآله) وقال "اللهم عليك بقريش" قالها ثلاثاً، ثم قال رافعاً صوته: "إني مظلوم فانتصر" قالها ثلاثاً، ثم قام فدخل منزله، وذلك بعد وفاة عمه أبي طالب بشهرين.
ولشدة عداوة عمرو بن العاص لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، أرسله أهل مكة الى النجاشي ليزهّده في الدين، وليطرد عن بلاده مهاجرة الحبشة، وليقتل جعفر بن أبي طالب عنده إن أمكنه قتله...(2)
وبعد تظاهر كل من معاوية وعمرو بالإسلام، ظلا يقترفان اُموراً جعلت النبي (صلى الله عليه وآله) يلعنهما ويدعو عليهما بدخول النار! فقد أخرج المحدثون عن أبي
____________
1- تفسير القرطبي 2: 126.
2- شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد 6: 282.
|
|
|
برزة الأسلمي، قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سفر، فسمع رجلين يتغنيان وأحدهما يجيب الآخر ويقول:
لا يزال جوادي تلوح عظامه |
زوى الحرب عنه أن يجن فيقبرا |
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): "انظروا من هما؟" قال: فقالوا: معاوية وعمرو بن العاص، فرفع رسول الله يديه فقال: "اللهم اركسهما ركساً، ودُعَّهما الى النار دعّاً"!(1).
وبعد أن أورد السيوطي هذه الرواية، نقل عن بعض العلماء قولهم فيه:
لا يصح! يزيد كان يتلقّن باُجرة فيلقّن!
قال السيوطي: هذا لا يقتضي الوضع، والحديث أخرجه أحمد في مسنده: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا محمد بن فصيل به، وله شاهد من حديث إبن عباس، قال الطبراني في الكبير: حدثنا أحمد بن علي بن الجارود الاصبهاني، حدثنا عبدالله بن عباد عن سعيد الكندي، حدثنا عيسى بن الأسود والنخعي عن ليث عن طاوس عن ابن عباس، قال: سمع النبي (صلى الله عليه وآله) صوت رجلين يتغنيان وهما يقولان:
ولا يزال جوادي تلوح عظامه |
ذوى الحرب عنه أن يجن فيقبرا |
فسأل عنهما، فقيل له: معاوية وعمرو بن العاص، فقال: "اللهم اركسهما في الفتنة ودعهما الى النار دعاً".
وقال ابن قانع في معجمه: حدثنا محمد بن عبدوس كامل، حدثنا عبدالله بن عمر، حدثنا سعيد أبو العباس التميمي، حدثنا سيف بن عمر، حدثني أبو عمر مولى إبراهيم بن طلحة عن زيد بن أسلم عن صالح عن شقران، قال: بينما نحن ليلة في سفر، إذ سمع النبي (صلى الله عليه وآله) صوتاً فقال: "ما هذا؟" فذهبت أنظر، فاذا
____________
1- مسند ابي يعلى 13: 429، المعجم الكبير للطبراني 11: 32، مسند أحمد 5: 580 وقد حذف اسمي الرجلين وجعل مكانهما (فلان وفلان).
هو معاوية بن رافع وعمرو بن رفاعة بن التابوت! يقول:
لا يزال جوادي تلوح عظامه |
ذوي الحرب عنه أن يموت فيقبرا |
فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبرته فقال: "اللهم اركسهما ركساً ودعهما الى نار جهنم دعاً"، فمات عمرو بن رفاعة قبل أن يقدم النبي (صلى الله عليه وآله) من السفر...
قال السيوطي: وهذه الرواية أزالت الاشكال، وبينت أن الوهم وقع في الحديث الأول في لفظة واحدة وهي قوله: إبن العاصي، وإنما هو ابن رفاعة، أحد المنافقين، وكذلك معاوية بن رافع أحد المنافقين والله أعلم(1).
هنا نجد مثالا آخر من أمثلة التزييف، عندما يضع بعض الأئمة الحفّاظ أيديهم في أيدي الوضاعين الكذابين المتهمين بالزندقة من أجل قلب الحقائق، وتحويل المطاعن في معاوية وعمرو الى غيرهم إن لم يجدوا سبيلا الى تحويلها الى فضائل! فالحافظ الكبير جلال الدين السيوطي يخالف كل مبادئ الأمانة العلمية من أجل دفع هذا العار عن رجلين يعتقد عدالتهما -أو لا يعتقد ولكنه يساير الجمهور- فنجده يناور مناورة عجيبة، فهو بعد أن يورد رواية الإمام أحمد ويثبت أن الحديث بهذا الإسناد لا مغمز فيه إطلاقاً، نجده يعود فيستشهد برواية الطبراني، مدعياً بأنها حلت الاشكال، ويقصد به الاشكال الذي اعتقده هو وغيره في متن الرواية، لأن لعن النبي (صلى الله عليه وآله) لمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص -وهما صحابيان- ودعاؤه عليهما بدخول جهنم، قد أوقع اُولئك الحفّاظ في هذا المشكل، فهم يدعون من جهة أن الصحابة جميعاً من أهل الجنة، ولكن مثل هذه الروايات الصحيحة عن الأئمة الثقات توقعهم في مشكل لا يجدون للخروج منه سبيلا، فيلجؤون - بكل
____________
1- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1: 390.
|
|
|
أسف- الى أساليب التزييف وخداع المسلمين بالادعاء أن الاشكال في الرواية إنما جاءت بسبب الخطأ في الأسماء، وبأن الشخصان المقصودان ليسا معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص الصحابيان! بل هما شخصان آخران من المنافقين! وذلك بالاعتماد على تلك الرواية التي أوردها السيوطي مدعياً بأنها حلت الاشكال، متناسياً أن في إسنادها سيف بن عمر الوضاع المتهم بالزندقة، والذي طالما اخترع أحداثاً وأشخاصاً من نسج الخيال، من أجل أن يصرف النقمة عن أسياده من أعداء الإسلام!
وإذا كان سيف معذوراً في نصرة أسياده الذين كانوا يخدمون نفس غرضه، فما هو عذر الإمام السيوطي - وهو الإمام الحافظ المتقن العليم بالحديث الخبير بالرجال- في تصحيح رواية موضوعة انتصاراً لمعاوية وعمرو، وردّ الحديث الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله) في لعنهما، وهل غاب عن السيوطي من يكون سيف بن عمر!
بمناسبة الحديث عن المنبر، أود أولا أن أنقل ما ذكره المؤرخ ابن كثير الدمشقي في حوادث سنة خمسين، من أن معاوية بن أبي سفيان قد همّ بنقل منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المدينة المشرّفة الى الشام، وقال: "لما حرّك المنبر خسفت الشمس فترك!"(1).
وأعود لاُذكر القارئ الكريم بأنه قد مرّ بنا في مبحث سابق أن الصحابي عبدالرحمان بن سهل الأنصاري كان قد نذر أن يقتل معاوية إن رأى منه ما قد
____________
1- البداية والنهاية 8: 45.
|
|
|
سمع من النبي (صلى الله عليه وآله) في حقه، أو كما قال: "وأحلف بالله لئن بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبقرن بطنه أو لأموتن دونه"(1).
إلاّ أن من المؤسف أن هذه الكتب التي ترجمت لهذا الصحابي، قد اغفلت ذكر تاريخ وفاته، ولكن يغلب على الظن أنه قد توفي قبل أن يرى ما أخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) في معاوية، لذا فانه لم يف بنذره، فما هو ذلك الأمر يا ترى؟
قال ابن كثير:
وقد روى إبن عدي من طريق علي بن زيد -وهو ضعيف- عن أبي نضرة عن أبي سعيد. ومن حديث مجالد -وهو ضعيف أيضاً- عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه!". وأسنده أيضاً من طريق الحكم بن ظهير -وهو متروك- عن عاصم عن زر عن ابن مسعود مرفوعاً، وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحاً لبادر الصحابة الى فعل ذلك، لأنهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم(2).
وقال السيوطي:
أبو بكر بن داود لما روى حديث: "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه" هذا معاوية بن تابوت رأس المنافقين! وكان حلف أن يبول ويتغوط على منبره، وليس هو معاوية بن أبي سفيان! قال المؤلف: وهذا يحتاج الى نقل، ومن نقل هذا؟ قلت: قال ابن عساكر: هذا تأويل بعيد، والله أعلم!
ورواه بعضهم فاقبلوه بالباء الموحّدة!
(قال السيوطي): قال ابن عدي: هذا اللفظ مع بطلانه (أي فاقتلوه) قد
____________
1- الاصابة 4: 264، الاستيعاب 2: 379 أسد الغابة 3: 471.
2- البداية والنهاية 8: 141 حوادث سنة 60.
|
|
|
قُرئ أيضاً بالباء الموحدة، ولا يصح أيضاً! وهو أقرب الى العقل! فان الاُمة رأوه يخطب على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم ينكروا ذلك عليه، ولا يجوز أن يقال إن الصحابة ارتدت بعد نبيها (صلى الله عليه وآله) وخالفت أمره...(1).
وأخرج الخطيب عن جابر مرفوعاً: "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقبلوه فانه أمين مأمون!" وقال: لم أكتب هذا الحديث إلاّ من هذا الوجه، ورجال إسناده ما بين محمد بن إسحاق وأبي الزبير كلهم مجهولون!(2).
مرة اُخرى نجد الأئمة الحفّاظ يشرّقون ويغرّبون، ويلجؤون الى إقرار الروايات المزيفة دفاعاً عن معاوية وإنقاذاً لماء وجهه ووجوه المدعين الدفاع عن الصحابة، فابن كثير وغيره يكتفون بذكر الروايات الضعيفة ويسقطونها، وآخرون يقلبون التاء باءً فيعكسون المعنى، كل ذلك دفاعاً عن معاوية بن أبي سفيان، وكأنهم بذلك إنما يدافعون عن حياض الاسلام، مع أنهم يثبتون بالروايات الصحيحة عن الأئمة الثقات بأن كل أعمال معاوية وتصرفاته كانت تستهدف هدم عرى الإسلام ومحق الشريعة والسنّة النبوية، فهذا ابن كثير نفسه يقول في حوادث سنة ستين للهجرة:
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وسعيد بن منصور قالا: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن سويد، قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة -يعني خارج الكوفة- الجمعة في الضحى! ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا! قد عرفت أنكم
____________
1- اللآلي المصنوعة 1: 389، وانظر الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 2: 382 رقم 342، كنوز الدقائق للمناوي 1: 19، تهذيب التهذيب 5: 96، ميزان الاعتدال 2: 346 رقم 5049، كتاب المجروحين لابن حبّان 2: 172، تاريخ بغداد للخطيب 1: 259 رقم 88.
2- تاريخ بغداد 12: 178 رقم 6652.
|
|
|
تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم! فقد أعطاني الله في ذلك وأنتم كارهون. رواه محمد بن سعد عن يعلى ابن عبيد عن الأعمش به!(1)
فها هو إبن كثير ينقل عن لسان معاوية اعترافه بأنه لم يقاتل أهل الكوفة لإقامة الصلاة أو إعطاء الزكاة، بل قاتلهم على الملك، ولكي يثبت معاوية بأن ولاءه وحربه ليست للاسلام، فقد أقام صلاة الجمعة في الضحى خلافاً لسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وما تصافقت عليه الاُمة المسلمة!
وليس التكذيب والتضعيف والتزييف هو السبيل الوحيد الذي يلجأ إليه بعض اُولئك الأئمة الحفّاظ، بل والإغفال أيضاً!
فلماذا لم يستشهد ابن كثير برواية البلاذري عن الحسن (البصري) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه"، فتركوا أمره فلم يفلحوا ولم ينجحوا!
وإذا كان الإرسال عيباً في هذ الرواية، فقد أورد البلاذري رواية مسندة صحيحة عن أبي سعيد الخدري قال: إن رجلا من الأنصار أراد قتل معاوية فقلنا له: لا تسلّ السيف في عهد عمر حتى نكتب إليه، قال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إذا رأيتم معاوية يخطب على الأعواد فاقتلوه". قالوا: ونحن سمعناه ولكن لا نفعل حتى نكتب الى عمر. فكتبوا إليه فلم يأتهم جواب حتى مات!(2)
اما إنكار الروايات الصحيحة من حيث متنها، والادعاء بأن ذلك يعني مخالفة الصحابة لأوامر النبي (صلى الله عليه وآله) وهم منزهون عن ذلك، فهذا أدعى للعجب، فان من المؤكد أن الكثير من الصحابة قد خالفوا أوامر النبي (صلى الله عليه وآله) في حياته وبعد
____________
1- البداية والنهاية 8: 90 حوادث سنة 60.
2- انساب الأشراف 5: 136.
|
|
|
مماته، وسوف نذكر بعض الموارد التي خالف فيها الصحابة أوامر نبيهم كلما دعت الحاجة لذلك إن شاء الله تعالى.
لقد أسهبت في الحديث عن معاوية دون شك، ولكن ذلك كله ماهو إلاّ غيض من فيض، وإنما قصدت من ذلك الكشف عن نواحي التزييف الذي أصاب تراثنا الإسلامي، والرد على اُولئك الذين يرفعون عقائرهم بمدح معاوية وبني اُمية، مدّعين بأن ما قيل في مثالبهم هو من اختراع أهل القرون التي اعقبت سقوط الاُمويين، فأثبتنا بأن ما ذكرناه قد جاء عن الأئمة الثقات غير المتهمين على معاوية، بل وأظهرنا كيف أن بعضهم يتصدى للدفاع عن معاوية بعد قرون متطاولة من عهده حتى لو استلزم ذلك منه أن يزيف الحقائق، فيصحح السقيم ويضعّف الصحيح من الحديث النبوي الشريف تحقيقاً لتلك الغاية.
وإن من العجب أن تجد البعض - إن لم يجد أي مبرر لمعاوية للوثوب على رقاب المسلمين ـ يلجأ الى القول بأن معاوية- وإن لم يكن من أفاضل الصحابة- إلاّ أنه كان أقدرهم على القيام بمهام الحكم، ويعتبرون ذلك عذراً كافياً له، وقد أحسن السيد رشيد رضا في الإجابة على ذلك بقوله:
"إن سيرة معاوية تفيد بجملتها وتفصيلها أنه كان طالباً للملك ومحباً للرئاسة، وإنني لأعتقد أنه قد وثب على هذا الأمر مفتاتاً، وأنه لم يكن له أن يحجم عن مبايعة علي بعد أن بايعه اُولو الأمر أهل الحل والعقد، وإن كان يعتقد أنه قادر على القيام بأعباء الاُمة كما يقولون، فما كل معتقد بأهليته لشيء يجوز أن ينازع فيه، وقد كان علي يعتقد أنه أحق بالخلافة، ولما بايع الناس من قبله بايع لئلا يفرق كلمة المسلمين ويشق عصاهم، ومعاوية لم يراع ذلك، وأنه هو
|
|
|
الذي أحرج المسلمين حتى تفرقوا واقتتلوا، وبه صارت الخلافة ملكاً عضوضاً، ثم إنه جعلها وراثة في قومه الذين حولوا أمر المسلمين عن القرآن باضعاف الشورى، بل بابطالها، واستبدال الاستبداد بها حتى قال قائلهم على المنبر: (من قال لي اتق الله ضربت عنقه)!(1).
هذه كانت نتائج خروج معاوية على طاعة الخليفة الشرعي، وإشعاله نار تلك الحرب التي أودت بحياة اُلوف المسلمين، والتي انتهت أخيراً باستيلاء معاوية على السلطة بغير وجه حق، والتي كانت هدفه الأوّل من كل تلك الأعمال، من أجل أن يحقق بها هدفه الآخر - اضافة الى الملك- ألا وهو محاولة تحريف الشريعة وتغيير حكم الله، ومحق السنّة النبوية، كيداً لبني هاشم وسيدهم النبي (صلى الله عليه وآله) لما كان يحمله معاوية وتحمله بنو اُمية من ضغن لهم، حتى بلغت بمعاوية الجرأة على اتهام النبي (صلى الله عليه وآله) بالغدر! فعن عباية قال: ذُكر قتل كعب بن الأشرف عند معاوية فقال: كان قتله غدراً!
فقال محمد بن مسلمة: يا معاوية، أيغدر عندك رسول الله (صلى الله عليه وآله)!؟ لا يظلّني وإياك سقف بيت أبداً(2).
نعم، لقد ظل معاوية يحارب ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرته وسنّته طيلة مدة حكمه، ويظهر العداء الصريح لبني هاشم وبغض علي بن أبي طالب، ويحرّض الكذابين على وضع أخبار تستهدف النيل منه -كما سوف نتطرق إليه في موضعه- حتى صار ذلك سنة يتبعها خلفاؤه وولاتهم، فأعمال ابنه يزيد التي فاقت كل الحدود في بشاعتها ووحشيتها، من قتله الحسين بن علي وهو سبط النبي (صلى الله عليه وآله) وريحانته وأحد سيدي شباب أهل الجنة، وبعد قول النبي (صلى الله عليه وآله):
____________
1- المنار 9: 212، وقائل ذلك هو عبدالملك بن مروان!
2- مشكل الآثار 1: 77.
|
|
|
"حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط"(1)، وما أعقب ذلك من استباحة جنده بأمره مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقتله الصحابة وأبناءهم وختمه أعناقهم كالعبيد، وانتهاك أعراض النساء، في واقعة الحرّة الشهيرة التي لا يقدر أحد على انكارها ولا أن يجد مبرراً لها، ومن ثم هجوم جيشه على حرم الله ورميه الكعبة المشرفة بالمنجنيق حتى احترقت، كل ذلك كان بسبب الباب الذي فتحه معاوية للاجتراء على الله ورسوله والمسلمين، وحتى صار تولية الطغاة العتاة من أمثال عبيدالله بن زياد بن سمية، والحجاج بن يوسف الثقفي وخالد القسري وغيرهم ممن وطأوا المسلمين وأذلوهم وقتلوا خيارهم، سنة متبعة عند بني اُمية، ومهما أسهبنا في الحديث عن الأعمال التي ارتكبها اُولئك الخلفاء غير الشرعيين وولاتهم بحق الإسلام فاننا لن نستوفي كل ما أحدثوه، ويكفي أن نُلم إلمامة بسيطة ببعض أخبار اُولئك الولاة - دون الدخول في التفاصيل- لنعطي للقارئ فكرة مبسطة عن جرائمهم وما كانوا يحملون للإسلام من ضغن.
فالحجاج بن يوسف الثقفي يقول عن الصحابي عبدالله بن مسعود: ابن مسعود رأس المنافقين، ولو أدركته لأسقيت الأرض من دمه!
ويعترض على قراءة ابن مسعود، ويقول: يا عجباً من عبد هُذيل، يزعم أنه يقرأ قرآناً من عند الله، ما هو إلاّ رجز من رجز الأعراب، والله لو أدركتُ عبد هُذيل لضربت عنقه!
ويعترض على وجود المعوّذتين في القرآن، ويتهم ابن مسعود في قراءته
____________
1- الأدب المفرد للبخاري. باب معانقة الصبي ح 364، المستدرك 3: 177 وصححه ووافقه الذهبي، سنن الترمذي 13: 195 مناقب الحسن والحسين، سنن ابن ماجة ح 144، مسند أحمد 4: 172، 132 اُسد الغابة 2: 19، 5: 130 كنز العمال 13: 106، فيض القدير 3: 145.
|
|
|
وينهى عنها ويقول: ولا أجد أحداً يقرأ على قراءة ابن اُم عبد إلاّ ضربت عنقه، ولأحكّنها من المصحف ولو بضلع خنزير!(1).
قال الذهبي: قاتل الله الحجاج، ما أجرأه على الله، كيف يقول هذا في العبد الصالح عبدالله بن مسعود!(2)
وقال في ترجمته: كان ظلوماً، ناصبيّاً، جبّاراً، خبيثاً، سفّاكاً للدماء... (وذكر من أعماله): حصاره لابن الزبير بالكعبة، ورميه إياها بالمنجنيق، وإذلاله لأهل الحرمين، ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة، وحروب ابن الأشعث له، وتأخيره للصلوات الى أن استأصله الله، فنسبُّه ولا نحبّه، بل نبغضه في الله، فان ذلك من أوثق عرى الإيمان..(3)
وعن حبيب بن أبي ثابت، قال: قال علي(رضي الله عنه) لرجل: لا مُتَّ حتى تدرك فتى ثقيف. قيل يا أمير المؤمنين، ما فتى ثقيف؟ قال: ليقالنَّ له يوم القيامة: اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين سنة أو بضعاً وعشرين سنة، لا يدع معصية لله إلاّ ارتكبها!
وعن إسحاق بن يزيد قال: رأيت أنساً(رضي الله عنه) مختوماً في عنقه ختمة الحجاج، أراد أن يذلّه بذلك.
وعن قتادة قال: قيل لسعيد بن جبير: خرجت على الحجاج! قال: والله ما خرجتُ عليه حتى كفر.
وقال هشام بن حسّان: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً فبلغ مائة ألف وعشرون ألفاً. وقال الهيثم بن عدي: مات الحجاج وفي سجنه ثمانون ألفاً،
____________
1- تهذيب تاريخ دمشق 4: 72.
2- تاريخ الاسلام 6: 314.
3- سير أعلام النبلاء 4: 343.
|
|
|
منهم ثلاثون ألف امرأة.
ولم يكتف الحجاج بكل ذلك، بل تشبّه برب العالمين -تعالى عن ذلك- فقد مرّ الحجاج في يوم جمعة، فسمع استغاثة فقال: ما هذا؟ قيل: أهل السجون يقولون: قتلنا الحر، فقال: قولوا لهم: (اخسؤوا فيها وَلا تُكلِّمونِ)(1)، فما عاش بعد ذلك إلاّ أقل من جمعة.
وعن عمر بن عبدالعزيز، قال: لو تخابثت الاُمم، وجئنا بالحجاج لغلبناهم، ما كان يصلح لدنيا ولا لآخرة!
وقال سفيان عن منصور: ذكرت لإبراهيم لعن الحجاج أو بعض الجبابرة، فقال: أليس الله يقول: (ألا لَعنةُ اللهِ عَلى الظالمينَ)(2).
وكفى بالرجل عمىً أن يعمى عن أمر الحجاج.
وقال الأصمعي: قال عبدالملك للحجاج: إنه ليس أحد إلاّ وهو يعرف عيبه، فعب نفسك، قال: اعفني يا أمير المؤمنين; فأبى عليه، فقال: أنا لجوج حقود حسود. فقال: ما في الشيطان شرٌّ مما ذكرت(3).
يقول عبدالملك بن مروان: ذلك للحجاج، ويعرفه حق المعرفة، ومع ذلك يوليه على رقاب المسلمين في العراق والمشرق كله!
أما خالد القسري - أحد ولاة الاُمويين- فقال عنه ابن كثير:
كان رجل سوء، يقع في علي بن أبي طالب، وكانت اُمه نصرانية، وكان متهماً في دينه، وقد بنى لاُمه كنيسة في داره(4).
____________
1- المؤمنون: 108.
2- هود: 18.
3- تهذيب تاريخ دمشق 4: 72، تاريخ الإسلام 6: 314 ترجمة الحجاج.
4- البداية والنهاية 10: 20.
|
|
|
وقال أبو عبيدة: حدثني أبو الهذيل العلاّف، قال: صعد خالد القسري المنبر، فقال: الى كم يغلب باطلنا حقّكم، أما آن لربكم أن يغضب لكم! وكان زنديقاً، اُمه نصرانية، فكان يولي النصارى والمجوس على المسلمين، ويأمرهم بامتهانهم وضربهم، وكان أهل الذمة يشترون الجواري المسلمات ويطئنهن، فيطلق لهم ذلك ولا يغيّر عليهم!
قال: ودخل عليه فراس بن جعدة بن هبيرة وبين يديه نبق، فقال له: العن علي بن أبي طالب ولك بكل نبقة دينار، ففعل، فأعطاه بكل نبقة ديناراً!
ولم يقتصر خلفاء بني اُمية على تولية الظلمة على رقاب المسلمين، بل تعداه الى تولية الولاة الجهّال باُمور الدين، وحتى الجهل بكتاب الله، وبأبسط قواعد الشريعة، فقد قال عوانة فيما يروي عن هشام الكلبي، قال: خطبنا عتبة بن النهاس العجلي فقال:
ما أحسن شيئاً قاله الله عزّوجل في كتابه:
ليس حيٌّ على المنون بباق |
غير وجه المسيّح الخلاّق! |
قال: فقمت إليه فقلت: الله عزّوجل لم يقل هذا، وإنما قاله عدي بن زيد!
فقال: قاتله الله، ما ظننته إلاّ من كتاب الله، ولا نعم ما قال عدي بن زيد، ثم نزل عن المنبر.
واُتي بامرأة من الخوارج فقال: يا عدوة الله، ما خروجك على أمير المؤمنين! ألم تسمعي الى قول الله عزّوجل في كتابه:
كُتب القتل والقتال علينا |
وعلى الغانيات جرّ الذيول! |
فقالت: يا عدوّ الله، حملني على الخروج جهلكم بكتاب الله
|
|
|
وإضاعتكم لحق الله(1).
هذا بعض ما أوردناه من أعمال بعض خلفاء بني اُمية وعمالهم -وهي غيض من فيض- ولا يشك من له مسكة من عقل أن هؤلاء الخلفاء والولاة كانوا لا يمتّون لروح الإسلام بصلة إلاّ في الظاهر خوفاً من ثورة الاُمة عليهم ونزع ملكهم، والمسؤول الأوّل في كل ذلك هو معاوية بن أبي سفيان ومن أعانه على بغيه بما مهّد لهم من طريق للتسلط على رقاب المسلمين، ومع ذلك تجد من المؤلفين -قديماً وحديثاً- يتفننون في اختلاق الأعذار لمعاوية وأعوانه. بل ويتفاخرون بتلقيبه بخال المؤمنين، ولا أدري لماذا ينفرد معاوية بخؤولة المؤمنين دون سواه، فان كان هو أخا اُم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، فان عبدالرحمان ومحمداً إبنا أبي بكر الصديق هما أخوا عائشة اُم المؤمنين زوج النبي وأحبّهن إليه -كما يقال- وهي إبنة أبي بكر الصديق أفضل من بقي بعد النبي -كما يقال- وعبدالله بن عمر ألم يكن أخا حفصة اُم المؤمنين، وإبن عمر بن الخطاب الفاروق -ثاني أفضل رجلين بعد النبي كما يقال- وابن عمر معروف بتقواه وزهده، حتى قيل: إبن عمر في زمانه أفضل من أبيه في زمانه، ويقيناً فان لزوجات النبي الاُخريات إخوة وأشقاء، إلاّ أن أحداً من كل هؤلاء لم يحظ بهذا التكريم بوصفه خالا للمؤمنين -وكلهم أفضل من معاوية- وانفرد هو وحده بهذا الشرف الرفيع! ألا يدل هذا على مدى قوة الإعلام الاُموي من جهة، ومدى تفشي الجهل في أوساط المسلمين من جهة اُخرى! حتى تنطلي عليهم هذه التخرصات، ويصدقوا أن معاوية لم يفعل ما
____________
1- الفهرست: 119 ترجمة عوانة.
|
|
|
فعله إلاّ غيرة على الإسلام والمسلمين، وإنه لم يكن يطمع في حطام الدنيا، ولا يبتغي بعمله إلاّ الآخرة، وأي غيرة هذه على الإسلام بعدما استعرضنا بعضاً من أعمال معاوية، وبعد ورود لعنه على لسان النبي (صلى الله عليه وآله)، وبعد قول النبي (صلى الله عليه وآله): "إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من اُمتي قتلا وتشريداً، وإن أشد قومنا لنا بغضاً بنو اُمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم"(1).
وبعد قول النبي (صلى الله عليه وآله): "ستّة لعنهم الله وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله تعالى، والمتسلط بالجبروت فيعزّ بذلك من أذلّ الله ويذلّ من أعزّه الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرّم الله، والتارك لسنّتي"(2).
فأي مصلحة للاسلام جلبها له معاوية، وأي مفسدة دفعها عنه؟!
إن أعمال معاوية لم تكن إلاّ بدوافع عبّرت عنها اُم الخير بقولها: لإحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن اُحدية، وثب بها معاوية حين الغفلة، ليدرك ثارات بني عبدشمس...!(3).
وقد قال الأسود بن يزيد لعائشة: ألا تعجبين من رجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله في الخلافة! قالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البرّ والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة، وكذلك غيره من الكفار(4).
فعائشة قد أثبتت أن معاوية من الفجّار وليس من الأبرار، بل إنها قرنته مع فرعون الكافر، وهو في أشد العذاب كما أخبر الله سبحانه وتعالى!
____________
1- مستدرك الحاكم 4: 487.
2- سنن الترمذي 4: 457.
3- العقد الفريد 2: 115، صبح الاعشى 1: 297، بلاغات النساء: 57، نهاية الارب 7: 241.
4- تفسير ابن كثير 8: 131، الدر المنثور 6: 19.
|
|
|
وقال سمرة بن جندب -وهو أحد أعوان معاوية وولاته-: لعن الله معاوية! والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبداً!(1).
ولعل أفضل وصف لمعاوية، أخرجه البلاذري عن المدائني وابن الكلبي قالا:
قال معاوية لابن الكواء اليشكري: نشدتك الله كيف تعلمني؟ فقال: أما إذ نشدتني الله، فاني أعلمك واسع الدنيا ضيّق الآخرة، قريب الرّشا بعيد المدى، تجعل الظلمة نوراً والنور ظلمة!(2).
وأود أن اُنبّه القرّاء الكرام، بأن ما ذكرناه لم يكن من باب التحامل على أحد، وكلامنا لم يصدر عن نظرة مسبقة، بل كان كل ذلك محاولة لكشف نواحي التزييف الذي تعرض له تاريخنا في أخطر وأدق مراحله، وسوف نتناول في الفصول القادمة موضوعاً أكثر خطورة وأهمية مما سبق، ألا وهو ما تعرضت له السنّة النبوية الشريفة من عملية تزييف، محاولين تبين أسبابها وأهدافها ونتائجها، والله المستعان.
____________
1- تاريخ الطبري حوادث 53.
2- أنساب الأشراف 5: 47.