وجوب إمامة الأفضل:
يرى الشيعة الاثني عشرية أن إمامة المفضول مع وجود الأفضل قبيحة عقلاً فضلاً عن معارضتها لنص الكتاب، أما وجه القبح فإنه لما كان الإمام منصوباً من الله كان في جواز أن ينص الله على المفضول مع وجود الأفضل منه ما يتنافى مع عدم جواز صدور القبح من الله وبذلك ترتبط فكرة وجوب إمامة الأفضل بفكرة فعل الأصلح.
أما وجوب فعل الأصلح على الله فذلك لأنه وجب عليه سبحانه ألا يترك الواجب ويفعل القبيح، وأن تكون جميع أحكامه على وجه الحكمة والصواب ليس فيها جور ولا ظلم ولا عبث، ولما كان الله عالماً بقبح القبائح مستغنياً بذلك عنها ـ إذ يستحيل أن تلجئه ضرورة إليها ـ فقد تقدس عن الإلزام والقهر، ولما كان فعل القبيح لا يصدر إلا عن ضرورة ملجئة وجهل من الفاعل، وكل ذلك محال على الله، ولما كان صدور القبح غير جائز بدعوى أن لله حكمة في ذلك، لتعارض ذلك مع العدل المتصف به كان في صدور القبح منه محال وفي القول بتجويز صدور القبح منه قبح من العباد وآيات القرآن تشير إلى (أن الله لا يحب الفساد).
وإذا كان غير جائز على الله فعل القبيح وواجب عليه فعل الأصلح بعباده، فإن في تجويز نصب الإمام مفضول مع وجود الأفضل منه ما يعارض ذلك، فإذا كانت الإمامة بالنص من الله فإن إمامة المفضول مع وجوب الأفضل يتعارض مع وجوب فعل الأصلح على الله.
ولما كان متكلمو الشيعة يقيسون الإمامة على النبوة في كل استدلالاتهم، فإنهم لكي يدللوا على وجوب إمامة الأفضل استندوا إلى فكرة يسلم بها معهم سائر فرق المسلمين، وهي وجوب نبوة الأفضل.
ويستند الشيعة في إمامة الأفضل إلى قوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى).
وليس النص والعقل وحدهما هما اللذان يقضيان بوجوب إمامة الأفضل بل إن الذوق يستنكر أن تكون للمفضول رياسة على الأفضل.
ويعتبر الشيعة أن الإمام حجة فيما يؤديه كالرسول وفي تجويز كونه مساوياً في الفضل لبعض رعيته أو أنقص فضلاً منهم ما ينفر عن القبول أو الخضوع لرياسته.
ويرى الرازي أن دخول الفاضل تحت رئاسة المفضول مما يسهل على مَن هو أنقص فضلاً من الأمير الدخول تحت طاعته كما اختار الرسول عمر بن الخطاب فجعله في جيش أسامة لما أنف بعض مشيخة قريش أن يكون في جيشه، ففي إمامة المفضول رياضة للفاضل وكسر ما فيه من نخوة.
وهذا نقد لا يثبت للنقد، لأن الرازي قد اعترف في المثال الذي أورده أن بعض مشيخة قريش قد أنفوا رياسة أسامة اعتقاداً منهم بأفضليتهم أو بوجود من هو أفضل منه مع أنهم بذلك قد عصوا أمر الرسول، ثم هم راجعوا أبا بكر في أمر رياسة أسامة بعد موت الرسول، وفي هذا ما يدل على أن رياسة المفضول يمجها العرف والذوق العام، هذا إلى أن ما ذكره الرازي لتبرير إمامة المفضول متهافت كذلك، لأنه إذا كان تواضع الأفضل يسهل انقياد الرعية للأمير المفضول، فإنه من ناحية أخرى يشجع المفضول الذي قد نقل درجته في الفضل إلى حد الفسق أن يغلب على أمر المسلمين بالقوة مستنداً إلى تواضع الأفضل أو سكوته على الحق وهذا ما تم بالفعل في أمر الخلافة منذ أن تولاها الأمويون.
والواقع أن متكلمي أهل السنة وفقهائهم لم يسلموا بجواز إمامة المفضول مستندين إلى أصل من أصول الدين ولكنهم جوزوا ذلك إما تبريراً لسلطان الخلفاء ولخلع الصفة الشرعية على خلافتهم وإما على سبيل معارضة آراء خصومهم من الشيعة.
ويورد الرازي رأياً آخر ليبرر به تجويز إمامة المفضول على الفاضل فيفترض وجود ثلاثة نفر مرشحين للإمامة للاختيار فيما بينهم: أحدهم غاية في النسك وثانيهم غاية في الفقه وثالثهم غاية في السياسة، وكل واحد منهم ناقص في الأمرين اللذين لصاحبيه، فإن ولينا الأعلم والأنسك عظمت المفسدة لفقد المعرفة السياسية، وإن ولينا السائس والأمير وجعلناه رئيساً في أحكام الدين على كل رعيته فحينئذ يكون الرئيس أقل فضلاً من المرؤوس فيما هو قاصر فيه من العلم والنسك، فإن قالوا تفوض السياسة إلى السائس ويرجع في الفتوى للفقيه وفي أمر الصلوات والعبادات إلى الناسك قلنا هذا باطل.
ولست أجد في هذا المثال الذي أورده الرازي أي نقد لرأي الشيعة في وجوب إمامه الأفضل، لأن الإمامة عندهم ليست بالاختيار حتى يمكن تصور المفاضلة بين الناسك والفقيه والسائس، فضلاً عن أن الشيعة يفترضون في إمامهم الفضل في هذه الأمور جميعاً على الناس جميعاً بوصفه معصوماً حائزاً على كل الكمالات منصوباً من الله، ولا أجد في هذه المفاضلة إلا تعبيراً عن حيرة في نفس الرازي نفسه إذ من النادر أن يجتمع النسك والعلم والسياسة بدرجة فائقة في شخص واحد ليصلح إماماً، أما ما اعتبره الرازي باطلاً فمن الغريب أنه حادث الآن بعد تجربة دامت أربعة عشر قرناً إذ انتهى أمر الخلافة بفصل السياسة عن الدين أو على حد تعبير الرازي فوضت السياسة إلى السائس والفتوى للفقيه وأمر العبادات للناسك، غير أنه من التعسف أن نطالب الرازي أن يتصور إمكان وجود مثل هذا النظام أو وقوعه يوماً ما، ذلك أن تفكير جميع المتكلمين والعلماء مهما اختلفت فرقهم كان في حدود السياسة الدينية أو الشرعية.
والواقع أن أهل السنة والشيعة لا يحتدون في الجدل طويلاً حول إمامة الأفضل لا لقوة منطق الشيعة في دعواهم فحسب، بل لأن موقف أهل السنة نفسه لا يبدو واضحاً فضلاً عن أن جواز إمامة المفضول لا يبرره منطق أو دين وإن وجد له تبرير من مقتضيات الواقع أو حوادث التاريخ وليست هذه هي التي تملي على الفقهاء والمشرعين أصول الأحكام.
غير أن الجدل يشتد وترتفع حرارة المناقشة بين أهل السنة والشيعة حول قضية أخرى وثيقة الصلة بوجوب إمامة الأفضل، هذه القضية هي المفاضلة بين الصحابة ولا سيما الخلفاء الراشدين، ولعل الشيعة هم أول مَن فتح باب الجدل في ذلك حين اعتبروا علياً أفضل الصحابة أجمعين، وأنه يزيد فضلاً على أبي بكر، ولقد وصل الجدل حول المفاضلة بين علي وأبي بكر إلى حد تأويل الفريقين لآيات من القرآن وإيراد أحاديث ترجح أفضلية أحدهما على الآخر، ومعارضة أل السنة لدعوى الشيعة في أفضلية علي تنطوي على تسليم منهم بوجوب إمامة الأفضل، ومن هنا استقر رأي الأشاعرة على أن ترتيب الخلفاء في الفضل كترتيبهم في تولي الخلافة: أو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي فقد ذهب إلى هذا إماما الأشاعرة: أبو الحسن الأشعري، وأبو حامد الغزالي، ولم يكن هذا الرأي منهما عن اجتهاد مبعثه الحيدة التامة في المفاضلة، بقدر ما هو اعتبار أن ما جرى فيما يتعلق بالخلافة الراشدة لابد أن يكون قد تم في اعتبارهم وفقاً لوجوب إمامة الأفضل.
إلى جانب هاتين الصفتين الرئيسيتين في الإمام: العصمة والأفضلية، صفات أخرى لا ترقى في الأهمية إلى جانب العصمة أو الأفضلية لا من حيث اتصاف الإمام بها، وإنما من حيث ما تشغله من اهتمام في كتبهم، هذا إلى أنها ليست فضائل قائمة بذاتها، وإنما هي تابعة ولازمة عن العصمة والأفضلية.
فالإمام أزهد الناس جميعاً، إذ لو كانت لديه رغبة في أمور الدنيا جمع حوله أمثاله من أصحاب المطامع فأين مقام الفقراء والمساكين، إذن لانتفت صفة العدالة فيه وبالتالي العصمة والأفضلية، أما إن كان زاهداً ارتفع الفقير بمشاهدة زهد الإمام عن ذل الفقر وتساوى في نظره الفقر والغنى وازدري الدنيا فلا يفتتن بزخرفها ولا يغريه المنصب، ولذا قال الإمام علي: يا دنيا غري غيري فقد طلقتك ثلاثاً، وقال: والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجزوم.
ولا يليق بالإمام أن يخادع أو يحتال وإلا لارتكب ما يخالف الدين باسم الدين، وليست السياسة المداهنة والرياء والدهاء، وإنما هي إدارة البلاد وتدبير العباد على أساس من تقوى، وهذا ما منع أميرالمؤمنين أن يصانع أهل النفوذ أو يجامل أهل الغدر أو يجاري أرباب الزيغ والارتياب، مع أن الناصحين قد نصحوه بذلك في بدء خلافته لأنه دون الحيلة عنده حاجز من تقوى الله، ولذا كان يقول: والله إن معاوية ليغدر ويفجر ولولا الدين لكنت أدهى العرب.
ولا يخشى الإمام في الله لومة لائم من حيث إنه لا يخشى الناس، وهو لا يجزع ولا يفزع في مواطن الهلع، وإنما يقابل المواقف العصبية برباطة جأش وثبات قلب واستنارة وجه وإيمان كامل بالله، ولقد كان أميرالمؤمنين أشجع الناس ففعل في غزواته مع الرسول ما فعل.
والإمام أوسع الناس صدراً، إذ لو سئم المراجعة والتردد وتبرم من السؤال والإلحاح وأهمل الدعوة والإصلاح لقصر بذلك في واجبات أمته (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران آية 159.
هذه هي الإمامة الإلهية لا تماثلها أية إمامة زمنية، لم تكونها الصدف ولا قدمتها الظروف ولا أوجدتها المطامع والأغراض دون نظر لمصالح العباد ورعاية للهدى والرشاد، ولا غرابة أن يستنكر الناس قيام الإمامة الإلهية لأنهم اعتادوا أن يتسم الخلافة من هتكوا الحرمات واجترحوا السيئات واقترفوا المحرمات فلم يتصوروا إمامة من الله يجدون في ظلها العدل والرخاء والقرب من الله.
source : أحمد محمود صبحي