أغمي على أمير المؤمنين عليه السلام ساعة، وأفاق وقال: هذا رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعمّي حمزة، وأخي جعفر، وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكلّهم يقولون: عجِّل قدومك علينا فإنّا إليك مشتاقون، ثمّ أدار عينيه في أهل بيته كلّهم، وقال: أستودعكم الله جميعاً سدَّدكم الله جميعاً حفظكم الله جميعاً، خليفتي عليكم الله وكفى بالله خليفة.
ثمّ قال: وعليكم السلام يا رسل ربي، ثمّ قال: "لمثل هذا فليعمل العاملون إنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" وعرق جبينه، وما زال يذكر الله كثيراً ويتشهّد الشهادتين، ثمّ استقبل القبلة وغمَّض عينيه ومدّ رجليه ويديه، وقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله، ثمّ قضى نحبه عليه السلام.....
وا إماماه!! واعليّاه!! واسيّداه!!....
وارتفعت الصيحة... فعلم أهل الكوفة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد قبض، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجاً أفواجاً، و صاحوا صيحةً عظيمة، فارتجّت الكوفة بأهلها وكثر البكاء والنحيب، وكثر الضجيج بالكوفة وقبائلها ودورها وجميع أقطارها، فكان ذلك كيوم مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله......
قال محمّد بن الحنفيّة: ثمّ أخذنا في جهازه ليلاً وكان الحسن عليه السلام يغسّله والحسين عليه السلام يصبّ الماء عليه، وكان عليه السلام لا يحتاج إلى من يقلِّبه، بل كان يتقلَّب كما يريد الغاسل يميناً وشمالاً، وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك والعنبر، ثمّ نادى الحسن عليه السلام بأخته زينب وأمّ كلثوم وقال: يا أختاه هلمي بحنوط جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله، فبادرت زينب مسرعة حتى أتته به...
ثمّ لفّوه بخمسة أثواب كما أمر عليه السلام، ثمّ وضعوه على السرير، وتقدّم الحسن والحسين عليهما السلام إلى السرير من مؤخّره وإذا مقدّمه قد ارتفع ولا يُرى حامله، وكان حاملاه من مقدَّمه جبرائيل وميكائيل... فحملا مؤخّره وسارا يتبعان مقدّمه.
...فلمّا انتهيا إلى قبره وإذا مقدّم السرير قد وضع، فوضع الحسن عليه السلام مؤخّره ثمّ قام الحسن عليه السلام وصلّى عليه والجماعة خلفه، فكبّر سبعاً كما أمره به أبوه عليه السلام ثُمّ زحزحنا سريره وكشفنا التراب، وإذا نحن بقبرٍ محفورٍ ولحدٍ مشقوقٍ وساجةٍ منقورة مكتوبٌ عليها: "هذا ما ادّخره له جدّه نوح النبي للعبد الصالح الطاهر المطهّر" فلمّا أرادوا نزوله سمعوا هاتفاً يقول: أنزلوه إلى التربة الطاهرة، فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب، فدُهش الناس عند ذلك وتحيّروا، وأُلحد أمير المؤمنين عليه السلام قبل طلوع الفجر1.
ولمّا أُلحِد عليه السلام وقف صعصعة بن صوحان العبدي رضي الله عنه على القبر، ووضع إحدى يديه على فؤاده والأخرى قد أخذ بها التراب ويضرب به رأسه، ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي يا أمير المؤمنين، ثمّ قال: "هنيئاً لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك، وعظم جهادك، وظفرت برأيك.....".
وقال يرثيه عليه السلام:
أَلا مَن لي بِأُنسِكَ يا أُخيَّا ومَن لي أَن أَبثَّكَ ما لدَيّا
طَوَتْكَ خُطُوبُ دَهْرٍ قد تَوالى لِذاكَ خُطوبُه نَشْراً وَطَيّا
فَلو نشرَتْ قِواكَ ليَ المَنايا شكوتُ إليكَ ما صَنَعَتْ إلَيَّا
بَكيتُكٌ يا عليُّ بِدُرِّ عَيني فَلم يُغنِ البُكاءُ عَليكَ شَيَّا
كفى حُزناً بِدفنِك ثُمّ إنّي نَفضتُ تُرابَ قَبرِكَ مِن يَدَيّا
وكانت في حياتِكَ لي عِظاتٌ وأنتَ اليومَ أوْعَظُ مِنكَ حَيَّا
فيا أسفَا عليكَ وطولَ شَوقِي إليكَ لَوْ اْنَّ ذلكَ رَدَّ شيَّا2
ثمّ بكى بكاءً شديداً وأبكى كلّ من كان معه، وعدلوا إلى الحسن والحسين ومحمّد وجعفر والعبّاس ويحيى وعون وعبد الله عليهم السلام فعزّوهم في أبيهم صلوات الله عليه، وانصرف الناس، ورجع أولاد أمير المؤمنين عليه السلام وشيعتهم إلى الكوفة، ولم يشعر بهم أحد من الناس3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بحار الأنوار، ج42، ص290-295.
2- ابن شهراشوب: مناقب آل أبي طالب، ج3، ص97.
3- المجلسي: بحار الأنوار، ج42، ص295-296.
source : http://www.ahl-ul-bayt.org