لقد قصدنا بهذا الضابط إلى ضرورة التحرر من النزعات الايديولوجية باعتبار أنها تحول دون تحقيق الموضوعية المطلوبة في العلوم الانسانية والاجتماعية. وقد يعترض علينا بأننا نقع في تناقض ظاهر حينما نعود فندعو إلى الالتزام الايديولوجي والعقائدي لعلم الاجتماع الاسلامي في الوقت الذي ندعو فيه إلى ضرورة التحرر من هذا الالتزام. والواقع أن دعوتنا هذه ليست دعوة مطلقة وإنما تهدف إلى ضرورة تجاوز النزعات الذاتية التي تعبر عن مصالح ضيقة ومحدودة، ولكنها ليست دعوة إلى التحرر من كل التزام مذهبي عقائدي، فنحن نسلم بأصالة العقائدية الاسلامية بنظرتها الشمولية والتي ترتفع عن المصالح الفئوية وتخاطب الانسان من حيث هو انسان من غير تمييز عنصري و طبقي أو قومي، ونسلم بأن هذه العقائدية باعتبارها ذات أصل إلهي هي وحدها القادرة على تعريف الزيف الذي تمارسه العقائديات والايديولوجيات الوضعية.
وهنا نؤكد أن القضية الأساسية في تحقيق قدر أكبر من الموضوعية في العلوم الإنسانية والاجتماعية لا يكمن في تجريدها من طابعها العقائدي الذي يعتبر بالفعل حتمية من حتمياتها وإنما يكمن في تعيين المذهبية الصحيحة التي تجاوز كل المذاهب البشرية. وحينما تكون أحكامنا وقيمنا ومواقفنا التي نتخذها تجاه القضايا الاجتماعية المطروحة مؤسسة على هذه المذهبية فلا مجال للحديث عن وجود تعارض بين الالتزام الايديولوجي والالتزام العلمي، إذ أن علم الاجتماع الاسلامي الذي ينطلق من هذه العقائدية ليس من مهامه التحيز لفئة اجتماعية دون أخرى وليس علماً طبقياً يعمق الحقد الطبقي والفوارق الاجتماعية ويعمل على سيادة طبقة على أخرى، وهي كل المواصفات لتي عملت النظريات الوضعية على تعميقها وتأكيدها.
فنحن حينما ندعو إلى التحرر من النزعات الايديولوجية فإنما نقصد بالضبط أن نرتفع بعلم الاجتماع عن كونه مجرد أداة ايديولوجية تستخدم لصالح القوى العظمى ويوجه ضد قمع الشعوب المستضعفة ويعمل على تبرير سياسة الاحتكار العالمية ضماناً للمصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية للدول والشعوب المتفوقة مادياً. كما نقصد أن نرتفع بعلم الاجتماع عن الحدود العرقية التي وجد فيها حيث انتصر علماء الاجتماع لقومياتهم وكرسوا بحوثهم لتأكيد نزعتهم الاستعلائية. ونقصد أيضاً إلى خلق وعي جديد لدى علماء الاجتماع ليدركوا أن الإنسان يحيا في مملكة اله الممتدة، وأن هذه الحياة ليست حكراً على جماعة دون أخرى، وأن التفرقة العنصرية والقومية والامتيازات أمور متوهمة ومن صنع القوة والاغتصاب والاستغلال، وهي مؤقتة ومحرفة وليست أصيلة ولا سماوية بل عرضية ومحكوم عليها بالزوال، وأن يدركوا أيضاً أن الالتزام بالعقائدية الاسلامية المؤسسة على التوحيد يعني سحق الحدود العرقية والتناقضات الطبقية والتفرقات الأسرية وبالتالي الامتيازات في الحقوق، لأن التوحيد لا يقتصر على تحريم الشرك العقائدي بل يمتد إلى تحريك الشرك الاجتماعي بكل مظاهره الطبقية والعرقية ويجردها من تبريرها الفلسفي والعلمي والديني. وحينما ندعو إلى الالتزام بالعقائدية الاسلامية فإنما ندعو إلى ضرورة الوعي بأن علم الاجتماع ليس حرباً على الانسان كما جسدته المدارس الوضعية بالفعل وإنما هو دعوة إلى بناء الانسان وتأكيد ذاته وإقرار حقوقه.
إن دعوة علم الاجتماع إلى التحرر من الايديولوجيات الضيقة هي دعوة مستمدة من الإسلام ذاته، فالاسلام لا يرضى لنفسه ولا لأتباعه أي عنوان عنصري أو طبقي صنفي أو محلي، فالمعنقون للاسلام لا يتميزون عن غيرهم بعنوان معين كالعرب أو الساميين أو الشرقيين أو الغربيين. ولا شيء من هذه العناوين يعتبرها ملاكاً للجماعة الواقعية لأتباعه. إن دعوة علم الاجتماع الاسلامي إلى تجاوز الخلافات الايديولوجية دعوة أصيلة تتأسس على أصول الاسلام نفسه، فقد دعا الاسلام إلى تجاوز التكتلات والتحيزات والاختلافات كما تبين هذه الآيات: (قل يا هل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) آل عمران/ 64، (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات/ 13.
ويتوعد القرآن بشدة أولئك الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً وأحزاباً (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) الأنعام/ 159.
ويحذر القرآن من عواقب التكتلات والتحيزات وما يستتبع ذلك من تفكك اجتماعي وفقدان المنعة: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) الأنفال/ 46.
ويؤكد القرآن أن التكتلات والتحيزات وصراع المصالح أمر عرضي طارئ وليس أصيلاً في تكوين المجتمعات (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وان الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) البقرة/ 176، (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم) آل عمران/ 19، (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات) آل عمران/ 105.
ويؤكد الوحي على وحدة الانسان والمجتمع من خلال تأكيده على وحدة المعتقد التي تضم تحت لوائها كل الأصناف البشرية من غير تمييز. كما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة (رض) عن النبي (ص) أنه قال: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد). وهي وحدة الهدف التي أكدها القرآن الكريم: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى/ 13، (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم/ 30، (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) البقرة/ 136.
ومن جهة أخرى، فقد تميز الحوار الايديولوجي بين المدارس والنظريات الاجتماعية المتصارعة بالحدة والتحيز إلى جانب الذات وتأكيد المواقف الشخصية والمصالح الذاتية وتبرير الاحتكار والاستغلال وتعميق الحقد الطبقي والطائفي بين شعوب العالم، وبالمقابل فإن الحوار الايديولوجي الذي يدعو إليه علم الاجتماع الاسلامي هو حوار مؤسس على مذهبيته العقائدية التي تهدف إلى بناء وحدة المجتمع الانساني من خلال التأكيد على وحدة العقيدة والتي تهدف إلى التقليل من الفواصل الموجودة بين الشعوب، فيدعو القرآن إلى الحوار البناء الذي يهدف إلى تحقيق المزيد من التفاهم كما تؤكد ذلك هذه الآيات الكريمة: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل/ 125، (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً) الإسراء/ 53.
فالحوار القرآني حوار ايديولوجي عقائدي ولكنه يرفض تعميق الفواصل الطبقية بقدر ما يرفض الذوبان والانمحاء وسط الايديولوجيات كما يؤكد الجزء الأخير من الآية (إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)، فدعوة الجماعات التي تخالفنا عقائدياً أمر مطلوب ومؤكد ولكن الحفاظ على استقلالية عقائدية القرآن وضرورة تميزها أمر مطلوب وبحدّة.
source : البلاغ