عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عندما يطرح علماء الاجتماع ظاهرة (الضبط الاجتماعي) الذي يعني الوسائل التي تتم من خلالها السيطرة على المجتمعات والحفاظ عليها من الفوضى والتفكك والانحراف، فإنهم يشيرون إلى وسائل متنوعة لعملية الضبط، منها: الوسيلة المباشرة متمثلة في صعيد (الجماعات الأولية _ أسرة، مدرسة، الخ) حيث تتسم العلاقات فيما بينها بنحو مباشر أي الاتصال وجهاً لوجه، وحيث يمارس الآباء وأولياء الأمور والمعلمون.. الخ مهمة (الضبط الاجتماعي) لسلوك الأطفال والتلاميذ.. الخ من خلال الأوامر والنواهي المختلفة.
بيد أن هذه الوسيلة من (الضبط الاجتماعي) تبقى ذات فاعلية محددة حينما ينحصر الضبط داخل (الجماعات الأولية)، بخلاف ما إذا تجاوز الضبط جماعات المواجهة التي تحددها علاقات عائلية أو مدرسية، إلى مطلق الجماعات أو الأفراد، حيث تتسع فاعلية الضبط لتشمل كل (مواجهة) تتم بين الأشخاص والجماعات التي لا ترتبط بعلاقات الأسرة أو الجوار أو المدرسة أو الصداقة، وهذا ما يطبع (الاجتماع الإسلامي) الذي يقرر مبدأ عامّا ينبثق من مفهوم (المسؤولية الاجتماعية) التي تعد وظيفة إلزامية لكل الأفراد والجماعات كما أوضحنا،.. وهذا المبدأ هو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهو مبدأ يقرر فرض المسؤولية المشار إليها على جميع الأفراد أو الجماعات أو الأمة الإسلامية، حتى أن الآية القرآنية الكريمة (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) قرنت الدعوة إلى الخير بمبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ممّا يفصح عن أن أحدهما لا يكاد يفرق عن الآخر بصفة أن الأمر بالمعروف هو الأمر بالالتزام بمبادىء الله تعالى، وأن النهي عن المنكر هو النهي عن ممارسة ما يتنافى مع مبادىء الله تعالى،... بيد أن الأهم من ذلك هو (فرض) هذا المبدأ وليس مجرد الندب إليه، لأن (الندب) من الممكن ألا يمارسه الناس، بخلاف (الفرض) الذي يُلزمون بممارسته، وهو أمر يكشف عن مدى حرص المشرّع الإسلامي على تعميم مبدأ (المسؤولية الاجتماعية) بما يترتب على هذا التعميم من ضبط اجتماعي يتحقق من خلاله تماسك المجتمع الإسلامي وحجزه عن مختلف الانحرافات.
ويلاحظ أن المشرع الإسلامي يحاول تعميم هذا المبدأ على مختلف الأصعدة بحيث لا يدع مجالاً لتردد الناس في ممارسته، حيث يفرضه في مجالات ثلاثة هي استخدام القوة واستخدام اللسان وإلا فإنكاره _لا أقل_ داخليّاً (أي في القلب).
يقول الإمام علي (ع) في هذا الصدد (فمنهم المنكِر للمنكَر بقلبه ولسانه ويده، فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه، فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه، فذلك الذي ضيّع أشرف الخصلتين). فالإمام (ع) يحدد هنا درجة المسؤولية من حيث التفاضل بينها، لكنه لا يسمح بتركها البتة بل يدمغ التارك لها بما يلي: (ومنهم تارك لإنكار المنكَر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء) فهو يسم تارك النهي عن المنكر بأنه (ميت الأحياء) أي يلغيه من دائرة الاجتماع أساساً، مما يعني أنّ دلالة الاجتماع الإسلامي لا تنفصل عن (المسؤولية الاجتماعية) التي ينبغي أن تُمارس على نحو الفرض. لذلك نجد أن التوصيات الإسلامية تشدّد في هذا المبدأ إلى الدرجة التي تتوعد من خلاله بإنزال العقاب الاجتماعي (في نطاق الحياة الدنيا) على المجتمع الإسلامي في حالة عدم التزامه بممارسة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، متمثلاً في التهديد التالي:
(لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليستعملنّ عليكم شراركم)(1).
فالمشرّع الإسلامي يرتّب _على عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر_ قانوناً اجتماعيّاً جزائياً هو تسليط الأشرار على المجتمع الإسلامي، مما يفصح ذلك عن مدى أهمية هذا المبدأ في التصور الإسلامي، بحيث يُعاقَب الناس دنيويّاً على تركه، فضلاً عن العقاب الأخروي، مع ملاحظة أن تسليط الأشرار على المجتمع الإسلامي يعني تعريضهم لعمليات الاضطهاد والقتل والسجن، فضلاً عن فقدان الأمن والحرية الخ...
طبيعيّاً، من الممكن (وهذا ما يطبع غالبية مجتمعاتنا المنحرفة) عدم إتاحة الفرص في ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طالما نواجه حكومات منحرفة أو دكتاتورية، أو نواجه بشراً منحرفاً وعدوانيّاً، أو نواجه حفنة من الجهلة الذين يصعب تعديل سلوكهم، من خلال مبدأ الأمر والنهي، كما لا يتورّعون من إلحاق الأذى بكل من يأمرهم بمعروف أو ينهاهم عن منكر، حينئذ فإن المشرّع الإسلامي يأخذ هذا الجانب بنظر الاعتبار، فيدخل تعديلاً على المبدأ المذكور، حيث يقرر في إحدى التوصيات ما يلي: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إذا أمكن ولم يكن خيفة على النفس)(2)، كما يأخذ _في توصية أخرى_ طبيعة الظروف الاجتماعية التي تتفاوت من خلالها فرص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنظر الاعتبار، فيقرر (من رأى منكم منكراً فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه...)(3)، لكن خارجاً عن الاستثناءات المذكورة يظل هذا المبدأ أمراً لايسمح بتركه البتة مهما كانت نتائجه، يقول الإمام (ع) في هذا الصدد (فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم) فهو يطالب بإنكار المنكر قلباً ولساناً ويداً بحيث (لايخاف في الله لومة لائم) حيث تشير العبارة الأخيرة إلى أنه لا ينبغي أن تحجز الشخص أية شدائد مترتبة على ممارسته للمسؤولية المشار إليها. والملاحظ أيضاً: أن التوصيات المذكورة لا تحصر مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في نطاق محدد بل تتجاوز ذلك إلى مطلق الأشخاص والجماعات سواء أكان ذلك في نطاق (الحكام) (من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوّفه كان له مثل أجر الثقلين(4)، أم كان في نطاق عامة الناس (كان أبو عبد الله (ع) إذا مرّ بجماعة يختصمون لا يجوزهم حتى يقول ثلاثاً (اتقو الله)(5)، أم كان في نطاق الجماعات الاولية حيث ترسم التوصيات الإسلامية في النطاق الأخير مبادىء خاصة بأحد أشكال الجماعات الأولية وهم الأسرة عبر الآية الكريمة (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) حيث فسرها بقوله (تأمرهم بما أمر الله وتنهاهم عما نهاهم الله)(6) كما ترسم التوصيات الإسلامية مبادىء خاصة بنمط آخر من الجماعات الولية (وهم جماعة الأصدقاء) تأخذ من خلاله طبيعة العلاقات المباشرة التي تحكم الجماعات الأولية بنظر الاعتبار حيث تقرر إحدى التوصيات ما يلي (لو أنكم إذا بلغكم عن الرجل شيء، تمشيتم إليه فقلتم: يا هذا إمّا أن تعتزلنا وإما أن تكفّ عن هذا، فإن فعل وإلا فاجتنبوه)(7).
إن هذه التوصية لها خطورتها في ميدان الضبط الاجتماعي للسلوك، إنها واحدة من أشكال الضبط الجزائي الذي ألِفَتهُ مجتمعات الأرض في بعض مبادىء السلوك، إلا أن المشرّع الإسلامي يتجاوز المبادىء الخاصة التي ألِفتها مجتمعات الأرض إلى مطلق السلوك حيث يطالب (جماعة الأصدقاء) بأن ينبّهوا المخطىء (نهيه إياه عن المنكر) وأن يحذّروه من الاستمرارية في ممارسة الخطأ، وإلا فيقال بصراحة: ينبغي أن تعتزلنا... هذا النمط من ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (في نطاق الجماعات الأولية) يساهم بنحو فعال في تعديل السلوك، طالما نضع في الاعتبار، أن دوافع من نحو (الانتماء الاجتماعي) و (التقدير الاجتماعي) اللذين يتحسّس الشخص بالحاجة إلى إشباعهما تضطره إلى تعديل سلوكه حفاظاً على استمرارية (العلاقة) التي تفرضهما الحاجتان المشار إليهما.
وأيّاً كان، إن ما يعنينا تأكيده هو أن مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يظل _من حيث فاعليته الاجتماعية_ أهم مبدأ اجتماعي فرضه الإسلام على مجتمعه من حيث إنماؤه لحس (المسؤولية الاجتماعية) التي يمكن من خلالها حلّ المشكلة الملحّة التي يعرضها علماء الاجتماع ونعني بها مشكلة (اللامبالاة) و (الاغتراب) الذي يطبع المجتمعات الصناعية الحديثة.
إذن: ظاهرة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تبدأ من أصغر وحدة اجتماعية، وتمتد إلى أكبر مؤسسة اجتماعية، كما تبدأ من الفرد وتمتد إلى الجماعة، وتتجه كذلك إلى أفراد أو جماعات، سواء أكانوا عاديين أو يحتلون مراكز ضخمة... الخ.
ـــــــــــــ
1_ الوسائل/ ب 1/ حديث 4، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2_ الوسائل/ ب 2/ حديث 8.
3_ الوسائل/ ب 3/ حديث 12.
4_ الوسائل/ ب 3/ حديث11.
5_ الوسائل/ ب 3/ حديث3.
6_ الوسائل/ ب 9/ حديث 2.
7_ الوسائل/ ب 7/ حديث5.
----------------------------------


source : البلاغ
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

تربية الأطفال بين الهدف والوسيلة
زيارة عاشُوراء غَير المشهُورة
تأثير التلفزيون على الأطفال
ماذا يحب الرجل في المرأه ..
دعوة للتكامل مع الاحتفاظ بخصوصية الآخر
خصائص الأسرة المسلمة
هل يعاني الشباب حقاً من مشكلة؟
إصدار كتاب "كربلاء كما شاهدت
اعتصام “زينبيات صمود” ومسيرات “أنات الإنتصار” ...
الواصلية

 
user comment