الحقيقة الكبرى والموقف التاريخي
مهما بلغت شهادة التاريخ من قوّة، فإنها قد تكون غير مطابقة للواقع ولا نسخة حقيقية عنه. وكلنا نعترف أن التاريخ غير برئ من التحريف، وأنه لم يسلم من الدس والتزوير. ولو أنه تضمن حقائق الواقع وأحداثه حتى بنسبة معقولة، لكنّا نقرأ غير هذا الذي وصلنا، ولربما تشكّل وعينا بطريقة أخرى بإمكانها أن تلغي كثيراً من الثنائيات.
ولأن التاريخ عنصر من عناصر تشكيل الوعي، فلابدّ من إعادة قراءة التاريخ بطريقة جديدة تتعامل مع عناصر الفعل الحقيقي الداخل فيه بحجمه الواقعي، وبنسبه المؤثّرة ووفق معايير محايدة. خاصة وإن الجميع يعترف أن الزمن السلطوي الذي امتد طويلاً قد ساهم في قولبة هذا التاريخ بطريقة تتناغم مع متطلبات الحكم. وخضع بالتالي لأسوء عملية توظيف من قبل السلطان.
فما هي قصة التاريخ؟
القصة بدأت من الماضي، وما الحاضر إلا صورة من صور الظلامة التي انتجتها هيمنة الاستبداد، فمرة أصبح التاريخ اختصاصاً مطلقاً لرواة منحازين آمنوا بما آمن السلطان، فكانوا بحق على دين ملوكهم، وجاء التاريخ من هذا الجانب ليتحالف مع السلطة اللاشرعية ويكفر بـ(الآخر) الذي مثل عين الشرعية.. وقد وصل إلينا بالكامل.
ومرة ظل التاريخ تفاصيل حقيقة مخزونة في الذاكرة، ولكنه ممنوع من القراءة.. وقد وصل قليله إلينا.
فبعد أن انتهت السلطة السياسي إلى (الولاة) الذين قلبوا الإسلام ودولته إلى مملكة يحكمها الاستبداد والقمع، استأجروا كلّ الأدوات المطلوبة لأعداد التاريخ من رواة، ومنابر، ووعاظ فكانت أن تشكلت موجة تضليل عاصفة للرأي العام، من أجل تخدير الأمة وتطويق الدور التصحيحي لحركتها الذي كان يشكل تياراً سياسياً مؤثراً في توعية الأمة.
إن تاريخنا في الحقيقة هو تاريخ الاستبداد والمطاردة والقتل والتشريد والتسلط ومصادرة الرأي الآخر، فيكون من الطبيعي جداً أن يمتلئ هذا التاريخ بـ(اللاحقيقة)، وتضيع الحقائق في زحام التهويل السلطاني، والمبالغة السلطوية واتجاهها المؤسس على تغييب الحقيقة الكبرى، أو تصغيرها ما أمكن بعد أن فلتت من رقابة الحاكم ودخلت التاريخ عنوة.
أهمية التاريخ
لا شك أن التاريخ هو أحد العناصر التي تشكّل الوعي، والوعي التاريخي العلمي قد حثّ عليه القرآن عندما عرض بعضاً من التجارب الإنسانية وأكّد على الدور الإنساني الفاعل في صناعة الحدث أو التأثير فيه، حيث اعتبر الحدث التاريخي درساً لاستخلاص الترابط بين الدور الإنساني والحدث معاً على ضوء السنن التي تنظم ذلك الترابط أو العلاقة.
يقول تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ).
وعندما يشير القرآن الكريم على ضرورة مراجعة التاريخ باعتباره انعكاساً لانتظام الحدث وفق مقاييس السنن، فإن صورة التاريخ يجب أن تكون صادقة وحقيقية، أي أن الحدث المنقول عن الماضي يجب أن يكون مطابقاً للواقع. وإلا فعندما يكون التاريخ مشوّهاً، أو مجموعة من قصص الأساطير والخرافات،أو من النوع التلفيقي، فإنه لم يعد صالحاً كمصدر من مصادر الوعي، ولهذا يقترن التشديد القرآني على درس التاريخ بالواقعية إذا صح التعبير.
إن الوعي التاريخي تعريفاً هو إدراك الماضي البشري إدراكاً عقلانياً.. والإدراك العقلاني هو التفكّر بأحداث الماضي وبظواهره الاجتماعية، والاقتصادية والثقافية وهذا التفكر المبني على التحقق والتنقيب والبحث والملاحظة والمقارنة والاستقراء، أي على مجمل الطرق العقلية والحسية التي تؤدي إلى المعرفة المحققة. هذا التفكر يؤدي إلى صورة عن التاريخ يعيها الفرد أو الجماعة ويعبّرون عنها في أقوالهم وكتاباتهم.
ولهذا يقترن الوعي التاريخي بالمعرفة المحققة التي تتبع للإنسان فهم الحدث التاريخي بأبعاده وتفاصيله دون زيادة ونقصان، والقرآن الكريم عندما حثّ استلهام دروس الماضي، إنما في حدوده الواقعية التي تستبعد كل ما هو مزيف. حتى وإن كان هذا الزيف قد تأطر بأجزاء من الإيديولوجيا ووظفها لكي تلعب دوراً تمويهياً. فهناك أشياء كثيرة في التاريخ أصبغت على نفسها صفة العقائدية، أو النص، في حين إن التنقيب فيها يؤدي إلى اكتشاف أصلها الذي يرتبط بـ(الوضع) المقصود وخارج الحقيقة تماماً، ولعلنا يمكننا هنا أن نقدم نماذج كثيرة على الأحاديث الموضوعة أو الحوادث الملفّقة التي أقحمها البعض في التاريخ لتصبح وكأنّها وقائع مهمّة في تعيين المفاهيم المتعلقة بمعالجة الجوانب المختلفة.
إن الإرشاد القرآني للاستفادة من التاريخ إنما يتم عندما يكون هناك تاريخ نظيف لتسجيل الأحداث وضبطها خارج أي عملية تزوير أو تمويه. ولذلك نجد الرق واضحاً، والبون شاسعاً عندما نقرأ قصص الأولين في القرآن مرة، وفي الكتب (السماوية) الأخرى. إذ أن المصادر الثانية تتضمن من الأساطير الشيء الكثير.
تكمن خطورة التاريخ المزيف في أنه يسوّغ بعض (إن لم نقل كلّ الأفكار)، ويكسبها جدارتها وقوتها الإقناعية، وتصبح بمرور الزمن وكأنها إيديولوجيا (بمعنى الحرفي: نسق الأفكار)، ليضفي عليها عنصر الزمن بعداً آخر تتحصن فيه من النقد والتحليل بعد أن ترتدي لبوس الفلسفة، وتتوسل بذات التاريخ، وتستحوذ على نخب تصبح فيما بعد أداة ترويجها، وخنادق دفاعها. ولعلّ قصة (بولس) تصلح كدليل في هذا السياق عندما استطاع هذا الرجل اليهودي الروماني أن يكون أستاذاً ومعلماً لأحد كتاب الأناجيل الأربعة وهو (مرقص).
لقد صار هذا اليهودي الحاقد على النصرانية في تاريخ المسيحية أحد الرسل السبعين الذين نزل عليهم روح القدس في اعتقاد النصارى بعد رفع المسيح (عليه السلام) وألهموا بالتبشير بالمسيحية، كما ألهموا مبادئها، ويسمي النصارى هؤلاء السبعين رسلاً، أي: رسلً للتبشير بالمسيحية في الأقطار.
تفاقم خطر (بولس) عندما اخترع فكرةً وابتدعها بدهاء وأقنع (لوقا) بأن يسوع هبط عليه، حتى أدرجها (لوقا) في ختام حكايته لقصة أستاذه (بولس) وكيف هبط عليه يسوع وكالآتي:
(وللوقت جعل يكرز (معناه يعظ الناس) في المجامع بالمسيح أن هذا هو ابن الله). علماً بأن هذه الفكرة لم تكن قد عرفت من قبل، وبعد أن أدخل هذه الفكرة أصبحت رسائله فيما بعد هي الرسائل العملية، بما حوت من مبادئ إعتقادية وشرائع عملية.
وعندما نفهم النتائج الضخمة التي ترتّبت على العمل التخريبي اليهودي في تحريف المفهوم الديني، يمكننا أن ندرك تأثير التاريخ الواسع على مجمل الحياة الإنسانية التالية للماضي، ومدى الانحراف الخطير الذي يصيب مسيرة الحياة البشرية في ذات الوقت الذي يصعب فيه معالجة هذا الانحراف رغم الجهود الكبيرة التي بذلت في هذا الجانب ولحد الآن.
بل وحتى الدراسات التاريخية المتنوعة واللغوية الدقيقة منها التي طبقت بحذافيرها وبشكل صارم على الكتابات المقدسة للغرب رغم أنها قصدت تنقية التاريخ فإنها لم تنجو من أسر المشكلة، وهكذا ظلت المشكلة تدور طالما أن المعالجة جاءت لتكفر بالحقيقي والمزيف معاً.
التاريخ الإسلامي
لما يمكن لأحد أن يقطع بأن التاريخ الإسلامي لا يقبل النقد أو الدراسة خاصة وإن العوامل الرئيسية التي لعبت دوراً في تكوينه تدعو إلى المراجعة التصحيح. إن علم الحديث قد أرسى منهجاً علمياً دقيقاً في التاريخ كان في أساس نشوء علم التاريخي عند العرب والمسلمين, فإن النقد المستمر لا يزال ضرورياّ، ولكن ضمن مقاييس منطقيّة. وليس وفقاً للأهواء والإشتهاءات. وبوصف الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود، فإن المرء ليحار في تغاير أشكال الواقعة الواحدة بمقدار تعدد رواتها. ويصف الرواية التاريخية: إنها غالباً، تقصر عن أن تبلغ الذهن حقيقة ما قصدت للحديث عنه من تلك التفصيلات أو العناصر، واضحاً غير مشوش، كاملاً غير مبتور، ويضيف: أحياناً عديدة تختلف، وأحياناً عديدة تأتلف، ثم لا يخلو ائتلافها من ظلال تكثف في هذا الجانب من بعضها، وتشف في ذاك بعضها الآخر، وقد يتعقّد السياق فتغمض الدلالات، وقد تضطرب عبارة فيختلف المعنى، وقد تبدو كلمة بغير مقتضى، أو إيماء وإيجاز، فيحتمل التأويل.
إن الالتباس الحاصل في التاريخ، وغموض أجزاء كثيرة منه عدّت في بعضها مقاطع مهمة في الجانب العقائدي، لم يكن عفوياً، أو أن الوسائل الفنية في التدوين والحفظ لم يكن بمقدرها أن تنتج أكثر ممّا هو موجد فعلاً، بل إن الأمر أبعد من ذلك وربما أشار إلى هذا كثير من الباحثين الذين التمسوا معايير العدل في التنقيب عن هذا التاريخ الغامض، ويجب أن نعترف أن تعاملنا مع التاريخ لم ينفذ إلى الأعماق بقدر ما أصبحت بعض الحوادث مدار الحديث والتكرار، ليس في جانبها الأعمق، إنما في إطارها العام باعتبارها شكلت خصوصية مذهبية، وظل هذا التشبث السطحي يدخل في أطر طقوسية أبعدته حتى من حقيقة التمثل التاريخي الذي يساهم في تجديد عناصر الحركة الواقعية التصحيحية التي تضمنها هذا التاريخ.
فمن كثرة ما ينغمس المؤرخون في حياة الماضي، وأشخاص الماضي، يكادون ينسون أنفسهم، وحياة الحاضر المعاش، ويصبحون ويعيشون في عصر غير عصرهم، وهكذا يخسرون العصر الوحيد الموجود لكي يربحوا عصراً آخر لم يعد موجوداً، ثم أن الإغراق في البحث التاريخي إلى حد التخمه، وعدم الاعتراف إلا بالوقائع التي تثبت صحتها مادياً، واحتقار كل الحياة التي أحاطت بها أو انتجتها، يعني القضاء على نسغ الحياة نفسه. فالاهتمام بالتاريخ من الجانب الروائي والطقوس هو في الحقيقة دوران في حلقات الماضي بدرجة أقل، ولو أن هذا الاتصال كان بعمق الماضي وتفاصيله ومزجه بالحاضر، بكل ما تعني كلمة الحاضر من معاني، لاستطعنا ليس في إحياء الماضي فقط، بل في تحضير الحاضر ليكون امتداداً حقيقياً للماضي، ولكن بلبوس الحاضر. وهذه المعضلة تكاد تكون الحجاب الذي فصل الماضي عن الحاضر، أو قطع الماضي، والدوران في هامشه وليس في أعماقه.
فالدراسة التاريخية لم تعد موظفة لسبر أغوار الحياة الماضية والحاضرة، بل أصبح تراكم المعلومات بما فيها المعلومات الصغيرة جداً والتافهة غاية بحد ذاته. أصبح التاريخ يمارس من أجل التاريخ، وليس من أجل الحياة، وعندئذ تفقد القدرة في استكناه أسرار المستقبل أو الحدس بمسيرة التاريخ، ثم تكمن ميزته ـ وهنا النقطة الأهم ـ في موضعة اللحظة التاريخية ضمن سياقها الصحيح، ومعرفة أين نقع نحن الآن بالضبط.
وعندما تكون معظم أجزاء التاريخ المهمة هي انعكاس لابتكارات وعاظ السلاطين الذين وظفوا الدين لصالح السلطة وضد المعارضة السياسية التي مثّلت التيار التصحيحي لواقع الحكم، بل لواقع الحياة فإننا يجب أن ندين التاريخ، وندين كثير من الروايات حتى لو افترضنا أن هؤلاء الوعاظ يصيبون ويخطئون طالما أمامنا هذا السيل الجارف من الروايات المتناقضة التي تخالف العقل والمنطق قبل مخالفتها للدين.
كان الولاة ينهبون الأموال، ويستعبدون الأحرار، ويملئون السجون بالأبرياء، ويعملون السيف في الرقاب، وكانوا في الوقت نفسه يجدون من شيوخ السوء من يبرر أعمالهم، ويخرجها على قواعد الدين وأصول الشريعة، فلقد وجد معاوية من يضع الأحاديث الكاذبة على لسان الرسول (صلّى الله عليه وآله) في مدحه، والطعن على عليّ (عليه السلام)، كما وجد ولده يزيد شيخاً يقول:
(إن الحسين قتل بسيف جدّه!!).
وقال آخر: تجب طاعة ملوك بني أمية، وإن جاروا، وإن ظلموا.. والله لما يصلح بهم أكثر ممّا يفسدون).
إن الكثير من المصادر القديمة التي بين أيدينا بحاجة إلى الدرس والتمحيص بخاصة التي تتعرض للفرق والمذاهب. قد كان للقدماء غايات وأهواء، وعلى الكاتب أن لا يتجاهل هذه الحقيقة.
التاريخ وأهل البيت (عليهم السلام)
اقترن تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) بالمعارضة السياسية، لا لأنهم في موقع قيادي بارز تميز على طول التاريخ وعرضه فحسب، بل لأنهم أيضاً مبدأ وعقيدة تنص على معارضة الحاكم إذا لم تتوفر فيه الشروط. ورغم الاضطهاد المستمر الذي تعرض له أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، فإن موقفهم السياسي ظل ثابتاً ولازم الثورة، وامتد هذا الموقف إلى يومنا هذا.
ولما كانت السلطة السياسية بيد الحاكم الجائر، ولم تنتقل إلى الطرف المعارض، فقد أصبح الشيعة والتشيّع مشروعاً للقتل والإبادة والتشريد، وكانت عقوبة الولاء للخط العلوي التي ينص عليها دستور السلطة هي الموت ولكن بطريقة قاسية جداً كالحرق، والصلب، والتقطيع بالسيف، أو بناء الضحية في الحائط.
ومع أن أبسط مظاهر الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) كان يؤدي إلى الموت المحقق وبأسلوب بشع جداً، لكن المعارضة السياسية ظلّت تتمتع بالقاعدة الشعبية الموالية، وتحدّت هذه القاعدة السلطة السياسية الحاكمة عندما مارست دورها بأشكال متعددة. ولئن أمر الأئمة اتباعهم بكتم ولائهم في الحالات الحرجة التي مثلت قمة قمع السلطة، فإن ذلك لم يمنع من تماسك الولاء الشعبي، وتنامية حتى إذا تنفس جو القمع والإرهاب قليلاً انفجر هذا الولاء بأشد ما يكون، وهكذا كانت الثورات، وكانت الصفحات الخالدة من تاريخ الأبطال الذين تحدوا السلطة في عقر دارها.
إن الظلم الذي وقع على أهل البيت (عليهم السلام) وبمختلف ألوانه كان لا يطاق حقاً، ويعجز الإنسان عن وصف تلك المواقف التي جسّدها أنصار العقيدة المضطهدة عندما كانوا يواجهون اشد وأقسى ألوان التقتيل والتعذيب.
وإذا كان عدد المواقف المحيرة هذه بعدد ضحايا القمع السلطوي على امتداد مسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، فلك أن تتصور حجم الولاء السياسي لهم والذي لم ينقطع رغم انعدام كلّ الفرص المتاحة لتقويض الاستبداد آنذاك.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن هذا الولاء قد مثل قمّة الوعي السياسي عندما نستحضر أنموذجاً واحداً من نماذج المواقف السياسية لاتباع أهل البيت (عليهم السلام).
ألقي القبض على صيفي بن فسيل، فجيء به إلى زياد فقال له: يا عدو الله ما تقول في أبي تراب؟
قال صيفي: ما أعرف أبا تراب.
قال زياد: ما أعرفك به.
قال:ما أعرفه.
قال زياد: أما تعرف علي بن أبي طالب؟
قال: بلى.
قال زياد: فذاك أبو تراب.
قال: كلاّ، ذاك أبو الحسن والحسين.
قال زياد لجلاوزته: عليّ بالعصا، فأتي بها، فالتفت إلى صيفي، وقال: ما قولك؟
قال: أحسن قول أنا قائله في عبد الله المؤمن.
فقال زياد: اضربوه حتى يلصق بالأرض، فضربوه حتى لازم الأرض وعندها قال له زياد: ما تقول في عليّ؟
قال صيفي: والله لو شرحتني بالموسى والمدى ما قلت إلا ما سمعت مني.
قال زياد: لتلعننه، أو لأضربن عنقك.
قال صيفي: إذن والله لتضربها قبل ذلك.
فإذا كان هذا الموقف متروك للقارئ ليقول في وصفه ما يشاء، فلنا أن نبحث عن تلك المواقف التي حجب التاريخ حقيقتها، وصغرها حتى كادت تفقد مداليلها.
من جانب آخر فإن الأيدي الأثيمة التي امتدت إلى سنة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) لتحرّفه أو تمنعه من التداول، خدمة للسلطات الأمويّة فإنها قد اخترعت شخصيات وهمية ادعت أنّهم كانوا صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وطبقاً للقاعدة التي تقول (كلما كانت الكذبة أكبر كان تصديقها من قبل الناس أسهل) فقد اختلقوا 124 صحابياً لا وجود لهم إلا في دواوين إعلام السلطات الأموية، وإذا كان هؤلاء يختلقون شخصيات وهميّة فهل يتحرّجون من اختلاق روايات كاذبة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟
وخصوصاً في مدح أعداء أهل البيت (عليهم السلام) الذين واجهوا انحراف السلطة عن خط القرآن والرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله).
نعم لقد تجاهل التاريخ حقائق كبرى، وجئنا لنكرس هذا التجاهل عندما أمسكنا بالتاريخ المقيّد، ورحنا نعيد ونكرر هذا التاريخ الذي خضع لتوجيه الحاكم بصورة غير مباشرة. وإذا كان المؤرخون القدماء لم تسمح لهم ظروفهم في الحديث عن الوقائع المهمة التي تضمنت مواقف سياسية ضد السلطة، فإن حرية الحاضر، وما يوفره هذا الحاضر من أدوات ووسائل للتحقق والتمحيص التاريخيين يؤدي إلى إزالة كل الغموض والتجاهل اللذان أصابا الصورة التاريخية، هذا الحاضر يدين هيمنة الحجج والذرائع التي يقبع ورائها الذين لم يهز التاريخ وعيهم، ولا هم بعد يذكرون قمة هذا الوعي في تحفيز الحياة لصالح الإسلام.
وكمثال على ذلك فإن الثورات في التاريخ الإسلامي لم تحظ بالعناية التي تستحقها من المؤرخين والباحثين: القدماء منهم والمتأخرين، ولكن مهما تكن المبررات، فإنّ إهمال البحث الجاد المستوعب للثورات في التاريخ الإسلامي يجعل الصورة التاريخية مشوهة وناقصة، لأن الثورة هي الوجه الآخر من الصورة التاريخية للمجتمع الإسلامي، ولا يمكن تكوين فكرة صادقة عن أوضاع المسلمين القديمة ما لم نحط بالصورة من وجهيها.
إن ما يهمنا هنا هو التأكيد على حقيقة ولاء الأمة الإسلامية السياسي لأهل البيت (عليهم السلام) في ذات الوقت الذي حاول فيه التاريخ تصغير هذه الحقيقة الكبرى وسنأخذ نموذجاً من ثورة الأمام الحسين (عليه السلام) كمثال صارخ على ذلك، وبالذات الأحداث التي أحاطت بسفير الإمام الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل.
جو الإرهاب السياسي
مارست السلطة السياسية أسلوباً صارماً مع الأمة، وطغت حالة من الإرهاب لتسود حالة القوة من جانب السلطة كي تضعف قبالها إرادة الأمة بعد أن أصبحت ثورة الحسين (عليه السلام) هي حديث الساعة آنذاك. وفي ضوء هذا الوضع السياسي اصبح الرجل لا يأمن على حياته وسط ظاهرة التجسس وبث العيون، وكان من الطبيعي أن ينسحب هذا الوضع على المرأة باعتبارها تعيش نفس هذه الأجواء السياسية المتشنجة بالكامل، خاصة وإنها ترى شاهد القتل المتكررة، ومناظر الجثث المعلقة على أعواد المشانق، أو تلك التي يجرها الجند في الشوارع.
وكان وفق هذا الظرف السياسي المزدحم بالاضطهاد والقتل والتنكيل أن يتأخر موقف المرأة عن موقف الرجل بلحاظ شدة الرجل وجلده أمام ظواهر العنف السياسي، لكن الذي حدث كان عكس ذلك تماماً ولا أتصور أن هذا الموضوع يحتاج إلى دليل على رغم أن التاريخ حاول طمس معالم دور المرأة في هذه الفترة بالذات. إن المرأة جزء اجتماعي يتحسس بكامل الظرف السياسي، وحتى إذا افترضنا أن سلطة الرجل تمنع من تمدد حرية المرأة السياسية وفق الوضع السياسي والاجتماعي القائم آنذاك. فإن هذا لا يمنع المرأة من التعبير عن رأيها بأشكال متعددة. وقد ظهر من إرادة المرأة ما يكبر عن ذلك ليتعدى إلى الجهر بالموقف السياسي علناً.
ولنا في هذا المجال أن نتناول موقف امرأة في المجتمع الكوفي الذي استخدمته السلطة الأموية في تنفيذ جريمة التاريخ بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه الأبرار.
هذا المجتمع الذي أذعن لمنطق القوة وأساليب التهديد التي أطلقها بن زياد ضمن خطة إرهابية وأعمال تعسفية من اعتقالات ومداهمات وقتل جماعي. وبدأ يفتت النسيج الاجتماعي، واستولى الرعب على الناس، وأخذ الجميع ينأى بنفسه عن هذا الواقع.
في هذا الواقع المضطرب أصبح سفير الإمام الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل بدون ناصر، بل بدون مأوى بعد أن تفرق الجميع واعتقل بن زياد هانئ بن عروة الذي كان زعيماً لقبيلة مذحج القوية. وبينما كانت أوامر حاكم الكوفة المشددة تقضي بالفتك لمن وجد مسلم في بيته، وتهديم داره، وإبادة عائلته. بادرت امرأة اسمها (طوعة) إلى استقبال مسلم بن عقيل وقت أغلقت الكوفة أبوابها بوجهه، وهيأت هذه المرأة له ملجأ بعيداً عن عيون السلطة، وقامت بخدمته والسهر على راحته. لكن كيف عرض التاريخ هذه الواقعة؟ وهل أن واقع الكوفة وظرفها السياسي يتوافق مع العرض التاريخي هذا؟!
يكتنف التاريخ غموض عجيب في تسجيل هذا الموقف، وعرض الدور البطولي لهذه المرأة، ومبادرتها الواعية في الدخول إلى المعترك السياسي من جانبه الخطير في ظل تلك الأوامر المشددة للبحث عن مسلم، عرض هذا الدور بشكل باهت، وبطريقة تنم عن العفوية إلى أبعد حد. في حين أن طوعة امرأة موالية لأهل البيت (عليهم السلام) وكانت تعيش ظروف الثورة وتتحسّس بها، وأقدمت على إيواء مسلم عن وعي، ودعته إلى دارها عن دراية تامة، ومعرفة كاملة به.
لقد صوّر لنا التاريخ هذه الحادثة، وكأنها صورة من صور العطف الذي تبديه أي امرأة لحال رجل يشكو لها من قلة الناصر، وفقد الأهل والعشيرة وبقي أن يشير إلى بعده السياسي وهو ولاء الأمة السياسي لأهل البيت (عليهم السلام). إنّ تكثيف الجانب العاطفي، وحذف العلل، وتهميش الأسباب والعوامل. بل وغلق الملفات المهمة من تاريخ الأمة، واحدة من أقسى المعضلات التي تواجه الباحث الذي لا يصدّق بالتفسيرات الضيقة والصورة السطحية للحدث التاريخي.
source : تبیان