عربي
Wednesday 27th of November 2024
0
نفر 0

وقفات مع دولة الامام المهدى عليه السلام


لكن القوم كانوا قد أعرضوا عن آل بيت رسول الله وائمة الهدى )ص( ، ولم يرضوا بهم أئمة وقادة , لذلك لا أكون مبالغا إذا قلت أن منهم من سيحارب الإمام المهدي عند ظهوره وسيتأول عليه كتاب الله كما تأوله من قبل الخوارج على أمير المؤمنين عليه السلام ورموه بالكفر...


 


 (( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين ))
صدق الله العلي العظيم

تمر الأمة الاسلامية هذه الايام بمنعطف خطير ربما كان هو الاخطر في تاريخ حياتها منذ ان اشرق فجر الإسلام قبل أربعة عشر قرنا على يد خاتم الانبياء والمرسلين سيدنا ومولانا ابي القاسم محمد (صلى الله عليه وآله) .

وبنظرة سريعة لحال أمة القرآن والأرض التي نمت عليها حضارتهم الإسلامية الخاتمة والتي كانت يوما ما قبلة الامم ومنبر العلم لكل شعوب الارض , نجد أن هذه البلاد التي كانت تحيى يوما في أرقى درجات العزة والكرامة والحرية والتقدم والرفاهية بما من الله به عليها من ثروات وخيرات في باطن الارض وفوقها وموقع جغرافي متميزفي مركز العالم جعلها ملتقى اتصالاته ومركز انطلاقه , قد أمست مرتعا لعصابات السلب والنهب ومصاصي الدماء المدعومين بقوى الشر والطغيان والاستكبار العالمي , فاستباحوا ديارها ونهبوا ثرواتها وخيراتها ودنسوا مقدساتها حتى رسولها الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يسلم من الطعن والتطاول على ذاته الشريفة المقدسة .

يحدث هذا فى امة خرجت جيوشها يوما تثار لإمرأة أن جذب يهودي ثوبها فصاحت .. وامعتصماه ... فأجابها الخليفة .. لبيك يا إمرأة !!! .

وهنا تنكشف لنا حقائق اخرى اكثر مرارة وهي :

أن هذه القوى الشيطانية المتغطرسة قد وعت دروس الماضي القريب وتعلمت من تجاربها السابقة فكبلت ابناء الامة الاسلامية ورجالها بقيود حديدية حريرية , هم من قدمها لهم وأعانهم عليها بعد أن زينوا لهم حب الدنيا وكراهية الموت وإن كان في سبيل الله أو دفاعا عن مقدساتهم وأعراضهم , فتركوا كتاب الله وراء ظهورهم واتخذوه مهجورا فلم يبق لهم من القرآن إلا رسمه ومن الاسلام إلا اسمه يسمون به وهم ابعد الناس عنه , ولم يقنع الشيطان الاكبر وحلفه بما حققوه من مكاسب ومطامع , وان مكرهم لتزول منه الجبال ، فاستقطب إلى معسكره علماء الضلالة وفقهاء الفتنة الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان فرفعهم إلى جنبه وأجلسهم إلى جواره ونفخ فيهم من روحه بما يمتلك من خزائن عامرة وآلة إعلامية كاسحة لانجاز مخططاته المشؤومة في بلاد المسلمين , فغرروا بابناء الامة وخيرة شبابها وزجوا بهم في حرب مريرة على أرض أفغانستان المسلمة تحت شعار براق هو (( الجهاد الاسلامي في مواجهة الالحاد الكافر )) ولم يتبادرإلى ذهن هؤلاء الذين تركوا ديارهم وذراريهم من خلفهم وجاءوا من شتى البلاد الاسلامية للجهاد في سبيل الله , إنما هم يقومون بحرب بالوكالة عن الجيش الامريكي وحلف الناتو للقضاء على العدو اللدود والخصم الاوحد لامريكا وهو روسيا وحلف وارسو , وبعد أن أنجز المجاهدون المهمة على الوجه الاكمل , جاءت المكافاة من الشيطان الأكبر , فشن حربا شعواء على أرض أفغانستان فأمطروها بالصواريخ والقنابل الفتاكة فجعل عاليها سافلها وهدم البلاد فوق رؤوس أهلها من النساء والأطفال والشيوخ ومن استطاع الهرب منهم لجأ إلى الكهوف والمغارات ومن عاد الى بلاده وجد ابواب السجون والمعتقلات مفتحة أمامه , ومن وقع في الاسر اقتيد إلى جوانتانامو !! .

ولم يتوقف المخطط ولم يع المسلمون الدرس ويتعلموا من تحاربهم السابقة القريبة فتعود الأفعى الأمريكية مرة أخرىوتبث سمومها بين ابناء أمة الاسلام فتضرب على أوتار خلافات مذهبية وطائفية بالية كانت قد اندثرت منذ قرون بين طائفتين عظيمتين هما عصب الامة الإسلامية , ومرة أخرى يقف الأخوة المجاهدون في مواجهة إخوانهم في بلاد الرافدين , لكن هذه المرة تحت شعار (( الجهاد الاسلامي في مواجهة الرافضة )) ويعنون بهم شيعة أهل البيت عليهم السلام , فيشتبك الطرفان في حرب طاحنة أتت على الأخضر واليابس وأفنت خيرة الشباب والابناء , حرب يراد لها أن تنتقل إلى دول الجوار وسائر البلاد الاسلامية فيثب الجار على جاره والأخ على اخيه راجيا بذلك وجه الله تعالى كما أخبرهم بذلك علماء الضلالة وفقهاء الفتنة .

ومن العجيب أن يتوجه هؤلاء إلى الله تعالى ويرفعوا إليه اكف الضراعة ربنا اكشف عنا العذاب إنا راغبون , بل ويسالونه أن يظهر لهم مهدي هذه الامة الذي يملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ليقطع دابر المتكبرين ويجتث اصول الظالمين وهم لا يعلمون من منهم سيكون من أتباعه ومن منهم سيقف مع أعدائه , من منهم سيمد له يده بالبيعه فيقبلها ومن منه سيمده له فيقطعها , هل هم الذين لزموا آبائه واجداده من أئمة أهل بيت النبوة ولم يرتضوا بغيرهم بدلا ولم يبغوا عنهم حولا , أم الذين عادوهم وحاربوهم وصدوا الناس عن موالاتهم واتباعهم والتمسك بهم والتلقي عنهم , فمن الثابت المتواتر عند كافة المسلمين أن عند ظهور حجة الله ووليه الإمام الهادي المهدي عليه السلام يخرج عليه رجل أبرص قرشي يدعي الاسلام وهو السفياني في جيش جرار من مائة الف مسلم على اقل الروايات ذكرا ، لقتال الإمام المهدي المنتظر عليه السلام وهو يومئذ بمفرده إلا من نفر من اصحابه بعدد أهل بدر

يقول الله تعالى : (( هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من رؤوسهم الحميم ))

فلمسلم أن يسال اي الفريقين أحق بالأمن ؟ وفي اي المعسكرين سيكون مقامه وموقفه ؟

" بنفسي انت من مغيب لم يخل منا , بنفسي انت من نازح ما نزح عنا , بنفسي انت أمنية شائق يتمنى من مؤمن ومؤمنة ذكرا فحنا "

ان تدبر قول رسول الله (ص) عن وليه (عليه السلام ( يملا الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يعني أن العدل في دولة الإمام المهدي عليه السلام سوف يعم كل بني الإنسان على الأرض وليس المسلمون خاصة بل إنه ليمتد ويشمل حتى ينعم به الطير في الهواء والحيتان في البحار , فعند الظهور المبارك يخاطب الإمام المهدي عليه السلام جميع أهل الديانات السماوية انطلاقاً من عالمية ثورته ويدعوهم إلى تحقيق الأهداف السماوية التي جاء بها انبياء الله ورسله الكرام , وهذا يعني أنه سيكون له من الأصحاب والأعوان من كان يظن أنه ليس منه من العرب والعجم وغيرهم , تماما كما كان من اصحاب رسول الله (ص) الذي آمنوا به وايدوه ونصروه ولم يرتابوا فيه ولا فيما آتاهم به , فهل يوجد بيننا من هم على نفس الدرجة من صلابة الإيمان وصفاء العقيدة والاخوة والمحبة في الله والتراحم والتسامح ولين الجانب التي كانت لاصحاب الرسول الأكرم (ص) ؟

إن عدم ظهور الإمام المهدي المنتظر حتى اليوم يرجع سببه إلى المسلمين أنفسهم بما قدمت ايديهم !

فمنهم من مزقتهم خلافاتهم وكثرة انشقاقهم على انفسهم وتعصبهم لما يرونه حقا في دين الله , ,قذفهم لكل من خالفهم بالكفر والشرك والضلال , فتفرقوا إلى جماعات وفرق شتى وانكسرت شوكتهم فسهل على أعدائهم قهرهم واستعبادهم من حيث لا يشعرون أو يشعرون !

هذا هو حالهم رغم زعمهم الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله (ص) مع تضييعهم لفريضة الإمامة التي شرعها الله تعالى لخلافة النبوة في حفظ الدين وسياسة الرعية وإقرارهم بوجوبها وفرضها فرض العين على كل مسلم ، , وان عقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم , واشترطوا في أهل الإمامة سبعة شروط وهي:

الأول : العدالة على شروطها الجامعة

الثاني : العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام

الثالث : سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان

الرابع : سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض

الخامس : الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح

السادس : الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو

السابع : النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه

والمدقق في هذه الشروط وأكثر منها يجد أنها لا تتوفر إلا في رجال من أهل بيت النبوة رفعهم الله فوق درجة العدالة , فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا , واصطفاهم من بين خلقه بسابق علمه وحكيم قدرته من سلالة الأنبياء وأبناء الأنبياء من ذرية آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين , ثم أورثهم الكتاب فجعلهم باب مدينة العلم النبوي وتراجمة وحي الله وحملة كتاب الله وأوصياء نبي الله (ص) الذي أوصى الامة بهم قائلا : يوشك ان أدعى فاجيب وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض , آخرهم هو الإمام الهادي المهدي عليه السلام الذ قال فيه جده المصطفى (ص) المهدي من عترتي من ولد فاطمة , وهل قريش إلا ذرية إبراهيم وآل محمد على نبينا وآله وعليه افضل الصلاة والسلام ، أول من سكن مكة وجاور بيت الله الحرام واستجاب الله فيهم دعوة ابراهيم عليه السلام (( ربنا انى اسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك الحرام ، ربنا ليقيموا فاجعل أفئدة من الناس تهوى اليهم ))

لكن القوم كانوا قد أعرضوا عن آل بيت رسول الله وائمة الهدى )ص( ، ولم يرضوا بهم أئمة وقادة , لذلك لا أكون مبالغا إذا قلت أن منهم من سيحارب الإمام المهدي عند ظهوره وسيتأول عليه كتاب الله كما تأوله من قبل الخوارج على أمير المؤمنين عليه السلام ورموه بالكفر , بل سيقفون في الخندق المواجه له مع السفياني وجنده

يقول الله تعالى :

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" البقرة الشريفة - الاية الكريمة رقم 246

عن الباقر عليه السلام ان بني إسرائيل بعد موسى عملوا بالمعاصي وغيروا دين الله وعتوا عن امر ربهم وكان فيهم نبي يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه ، وروي انه ارميا النبي فسلط الله عليهم جالوت وهو من القبط فأذاهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم وأخذ أموالهم واستعبد نساءهم ففزعوا إلى نبيهم وقالوا سل الله أن يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت والملك والسلطان في بيت آخر ولم يجمع الله لهم النبوة والملك في بيت واحد فمن ذلك قالوا إبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله فقال لهم نبيهم هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا وكان كما قال الله تعالى فلما كتب عليهم القتال تولوا الا قليلا منهم وقالوا نحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال وكانت النبوة في ولد لاوي والملك في ولد يوسف وكان طالوت من ولد ابن يامين اخي يوسف لأمه ولم يكن من بيت النبوة ولا من بيت المملكة قال لهم نبيهم ان الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم وكان أعظمهم جسما وكان شجاعا قويا وكان أعلمهم الا أنه كان فقيرا فعابوه بالفقر فقالوا لم يؤت سعة من المال .

فظهور الإمام المهدي في آخر الزمان أمر لا خلاف عليه بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم , كما أخبر بذلك رسول الله (ص) وبشّر به وذكر ألقابه وصفاته وعلاماته وغير ذلك ، ومن هذه الاوصاف والعلامات انه من ذرية رسول الله (ص) من أهل بيت النبوة الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم وتطهيرا , ومن ولد الامام الحسين تحديدا , وهو من الذين اصطفاهم الله بسابق علمه وجليل حكمته من ذرية آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين , يقول الله تعالى : {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } آل عمران33,34

فهل يقبل الناس بأن يكون إمامهم من اهل بيت رسول الله (ص) ) من ذرية السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام سيدة نساء أهل الجنة , أم أن سيرتهم معه ستكون كسيرة اسلافهم مع آبائه وأجداده ؟ هل سيقبلونه ويرتضونه إماما عليهم فيسمعون ويطيعون له ؟ أم انهم سيرفضونه ويرفضون إمامته كما رفضوا من قبل إمامة أئمة أهل بيت النبوة , الإمام علي والامام الحسن والامام الحسين وذريتهم عليهم السلام ؟

إن الامام المهدي عليه السلام يسير بسيرة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) الذي قال فيه : (( رجل من عترتي يُقاتل على سنتي كما قاتلت أنا على الوحي )[1] وقد سمي المهدي لأنه يهدي الناس الى أمر قد دُثر وضل عنه الجمهور»[2] وهو يحيي صورة الحكم الإسلامي التي جسدها من قبل وبأسمى صورها رسول الله (ص) ووصيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان همه الكبير كقائد رسالي بعد رسول الله (ص) محاولة تطبيق الصيغة الاسلامية الصحيحة للحياة الانسانية على المجتمع المسلم في سبيل بناء الانسان المتكامل , كان همه الأول بناء المجتمع وإيجاد افضل الطرق والوسائل التي ترتقي بمعيشته الاجتماعية وترتفع بها إلى آفاق متجددة من القوة والهيبة والامان والرفاهية داخل الاطار الاسلامي المحمدي الاصيل , فكان عهده إلى واليه على مصر مالك الاشتر والذي عرف بعهد الاشتر أو كما لقبه رجال القانون فيما بعد بـ )) دستور الولاة )) الذي لم تر البشرية - كما شهد بذلك علماؤها ومفكروها - حتى اليوم مثيلا له في شموله وتمامه وعبقريته كذلك إحكامه وصرامته مع الحاكم وعطفه وإعذاره للرعية بل وأمتعتها ودوابها , يقول أمير المؤمنين عليه السلام لواليه :

وأشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة والمحبّة لهم و اللّطف بهم , ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم ، فإنّهم صنفان إمّا أخ لك في الدّين وإمّا نظير لك في الخلق ، يفرط منهم الزّلل ، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطإ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الّذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه ، فإنّك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ، واللّه فوق من ولاّك , وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم

ويقول لعامله على الصدقات :

((...... ثمّ تقول : عباد اللّه ، أرسلني إليكم وليّ اللّه وخليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم ، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه ؟ فإن قال قائل لا ، فلا تراجعه ، وإن أنعم لك منعم ، فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه ، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة . فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه ، فإنّ أكثرها له ، فإذا أتيتها فلا تدخل عليه دخول متسلّط عليه ولا عنيف به ، ولا تنفّرنّ بهيمة ولا تفزعنّها ولا تسوءنّ صاحبها فيها ((

والامام المهدي أو المهدي المنتظر أوالمصلح العالمي كما يتوسمه أهل المذاهب الفكرية والفلسفية , هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً كما تواترت بذلك الأحاديث النبوية الشريفة ، وهذا الامر يتطلب علما وفقها تاما ومطلقا بأحكام الشريعة الاسلامية , ليس فقط ما يخص المسلم وما ملكت يداه , بل حتى الدواب والانعام والحشرات ,وفي هذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام : وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الاَْقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَة أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَة مَا فَعَلْتُ [3]

وهناك من ينتظر ظهور قائم آل محمد عليه السلام لينعم بالخير والعدل في كنفه وتحت ولايته يوم أن يخرج ليملأ الأرض قسطا وعدلا وهو غافل عن وجوب تربية وتهيئة نفسه والآخرين إن استطاع حتى يمهد الظروف المناسبة لاستقباله الشريف آخذ بالفهم السطحي الساذج لحديث رسول الله (ص) : أفضل اعمال أمتي انتظار الفرج على أنه الاكتفاء بالعبادات والصلوات والنوافل وترك العمل والسعي إلا لكسب المعيشة وسد الحاجة .

أما من فهم الحديث بالمعني الذي اراده رسول الله وبينه من بعده أهل بيته (صلوات ربي عليهم اجمعين)فقد واصل العمل والجهاد بيده ولسانه وقلبه ليلا ونهارا إعدادا لظهور الإمام عليه السلام وتمهيدا لقيام دولة العدل الإلهي تحت إمرته مبتغيا بذلك وجه الله تعالى .

وهذا يعني وجوب وجود افراد على جهوزية عالية عقائدياً ونفسياً وبدنياً ومن حيث الكفاءات ليكونوا في خدمة القائد المهدي عليه السلام .

فالعقبات والموانع التي تحول بيننا وبين ظهوره الشريف عليه السلام والتي ستتصدى لبرنامجه ومنهجه القرآني بعد قدومه المبارك ليست افراداً فقط وجماعات بل دول وانظمة وأمم منحرفة وظالمة وطاغية , وهذا ما لا يمكن مواجهته والتصدي له بالصلاة والدعاء والأوراد فحسب ولا بشكل فردي دون عمل جماعي منضبط ومتنامي

عن الصادق عليه السلام في وصف أنصار الامام المهدي عليه السلام قال: رجال لا ينامون الليل لهم دوي كدوي النحل ، يبيتون قياما على أطرافهم ويصبحون على خيولهم ، رهبان بالليل ليوث بالنهار ، وهم من خشية اللّه مشفقون

ومن ثم فلما وجدت رجال حملوا على كواهلهم هموم وأعباء أمتهم , كان الحدث الذي غير وجه التاريخ ومسار حركة الكون ، الا وهو اندلاع الثورة الإسلامية المباركة في إيران بعزيمة شباب وكهول عزل وقيادة روح الله الموسوي الإمام الخميني قدس الله سرة الشريف ، ذلك الرجل الذى اخلص تمام الاخلاص ووصل الى حق حقيقة اليقين بامام زمانه صلوات الله وسلامه عليه ، وتمكن بفضل وعناية الحجة بن الحسن عجل الله فرجه الشريف ان ينهض بالامة الايرانية لتكون ممهدة وبحق للظهور الشريف بل استطاع بفضل عمق ارتباطه بامام الزمان وبفضل سحقه التام لنفسه والتوجه المطلق لوجه الله تعالى ان ينهض بالعديد من الافراد والتكتلات والجماعات فى شتى ارجاء الارض صانعا بذلك الارضية المناسبة لاستقبال الحدث الاكبر الذى تنتظره البشرية جمعاء الا وهو ظهور المخلص الحجة بن الحسن صلوات الله وسلامه عليه .

فاطاح الامام باكبر إمبراطورية ترتكز على أقوى وأمنع الاسلحة ، وانطبق عليه قول أمير المؤمنين عليه السلام قال : يخرج رجل من قم يدعو الناس إلى الحق يجتمع معه قوم كزبر الحديد لا تزلزلهم الحوادث ولا يملون ولا يجبنون وعلى الله يتوكلون والعاقبة للمتقين [4]

وبديهي أن هذا النصر ما كان ليتحقق إلا بالعمل الايجابي لمفهوم انتظار الفرج , وما كان هؤلاء الرجال لينجحوا فيما عزموا عليه وخرجوا من أجله وخلفوا ذراريهم وبيوتهم من ورائهم إلا بعد أن استقامت معرفتهم بإمامهم وما فرضه واوجبه عليهم من واجبات وتكاليف فرسخ في افئدتهم أن كل ما يقدمونه من عمل وجهاد وتضحية إنما هو عين ما فرضه الله على عباده , فكيف عرف هؤلاء الفتية إمامهم ومراده منهم ؟

جاء في دعاء زمن الغيبة المروي

عن الامام الصادق عليه السلام :

(( اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم اعرف نبيك ، اللهم عرفني نبيك فإنك إن لم تعرفني نبيك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني ((

فحتما ليست المعرفة هى ما يصطلح عليها بالمعرفة الأطفالية اى معرفة اسمه المهدى صلوات الله وسلامه عليه وانه غائب وسيعود ، فأطفالنا يعرفون هذا ، ولكن موضوع المعرفة موضوع جد عميق والكلام فيه سيطول ، لان للمعرفة درجات منها ما لا يمكن الوصول اليه كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " يا على ، لا يعرف الله الا انا وانت ، ولا يعرفنى الا الله وانت ، ولا يعرفك الا الله وانا " ، وكقول سيد الساجدين صلوات الله وسلامه عليه : " ولم تجعل للخلق طريقا الى معرفتك الا بالعجز عن معرفتك " .

ومنها المعرفة النورانية وهى التى نطالب نحن كمؤمنين بها وسنسأل عنها فى الدنيا والآخرة وهى المعرفة التى اشارت اليها الآيات والروايات الشريفة كما ورد فى توديع الائمة صلوات الله عليهم اجمعين حيث تخاطبهم فتقول : " بأبى انتم وامى ونفسلى ومالى واهلى اجعلونى من همكم ، وصيرونى فى حزبكم ، وادخلونى فى شفاعتكم ، واذكرونى عند ربكم " فهم صلوات الله عليهم اجمعين الهم الوحيد الذى يهون التضحية من اجله بكل العلائق الدنيوية وان كانت الانفس والاهل والاولاد والاموال ...

ولا يتحقق هذا الهم على الصعيد النفسى والاجتماعى الا بمراعاة الاتى:

اولا : تربية النفس الانسانية حتى تصير مرتبطة ارتباطا حقيقيا مع امام زمانها والولى على الانفس والعقول .

ثانيا : تربية وتهيئة الاخرين للوصول لنفس الغرض السامى اى الارتباط بمهدى آل محمد صلوات الله عليهم اجمعين .

ثالثا : الحب العميق المستتبع للتسليم شيئا فشيئا الى ان يصل المسلم الى التسليم المطلق لامامه عجل الله فرجه

الشريف ، تطبيقا للمعانى القدسية العالية الشريفة التى وردت فى العديد من الآيات القرآنية الشريفة كقوله تعالى : " ان الله وملائكته يصلون على النبى ، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " و " ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون " ، حيث ورد فى الروايات الشريفة ان المرابطة هى مرابطة امام زمانكم ، فالنفس المؤمنة متى وصلت الى التسليم الحقيقى تحلت بالصبر عن المعاصى والمصابرة على الطاعات ومرابطة صاحب الامر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه ، وعندئذ تشرق أنوار معارف مهدى آل محمد فى تلك النفس التى خلصت وسلُمَت وسلَّمت ذاتها وقلبها وسرها لولى امرها صلوات الله وسلامه عليه .

وهذا ما تجسد للعيان فى الامام الخمينى قدس سره وفى شعبه الايرانى العزيز الذي أتوجه إليه بالكلمة :

لقد قمت بثورة عظيمة ليس لها مثيل في التاريخ وصمدت خلال حرب الثمان سنوات مدافعا عن بلادك وحريتك أمام قوى الشر والاستكبار العالمي وحلفائها ، وفي الواقع أنت كنت تحارب العالم كله وأنت تزأر بصوت أبي عبد الله الإمام الحسين عليه السلام (( هيهات منا الزلة .... هيهات منا الزلة )) حتى رددت جيوشهم مدحوره وقادتهم أذلة خاسئين , وتحملت سنوات حصار ظالم خاسر مرير , وتحمل آلامه ومعاناته الاطفال والشيوخ قبل الرجال والنساء .

ولله در الإمام الخميني حين يقول (( اللهم ارحم غربتنا في هذا العالم )) ، لكنه يراه قدس سره أنه (( لطف من الله ورحمة !!! )) .

وأدرك الشعب الفطن ما يعنيه قائده الملهم فأجابه من فوره (( فلنصنع نحن , ولنعتمد على سواعدنا )) ومن ثم كانت إيران العزة والحرية... إيران الكرامة والإباء راية الحق ومنارة الشرفاء والأحرار على أرض هذا العالم في سنوات قليلة هي في عمر الشعوب دقائق معدودة .

ثم كان حزب الله إحدى ثمار هذه الثورة المباركة الذي قضى على أوهام كيان سرطاني لقيط جاء إلى بلادنا في غفلة من الزمن فخاض معه حرب طويلة حتى أجلاه عن أرض لبنان الحبيبة , ثم كانت حرب تموز التي اذهلت العالم ومازالت بما حققته من مكاسب وانجازات لامة الاسلام التي استرجعت سنوات مجدها وعزها وعلى الصعيد الدولي الذي بدأ في مراجعة حساباته ومخططاته وحتى داخل الكيان الصهيوني الذي بدا يستشعر أفراده أن دولتهم إلى زوال في المستقبل القريب .

[1] فتن ابن حماد: 102، القول المختصر لابن حجر: 7، برهان المتقي: 95

[2] سنن الدارمي: 101، فتن ابن حماد: 98، عقد الدرر: 40، اثبات الهداة: 3/ 527.

[3] الخطبة 223 من نهج البلاغة

[4] سفينة البحار ج2 ص 446

[5] آل عمران61 .

 

دولة الموعود

مدخل:
تقدم دولة المهدي الموعود من خلال ما توصلنا به من نبوءات ومظاهر دولته المنتظرة شريطا يكاد يكون متكاملا عن أحوال دولته وسياسته ومشاريعه، تزخر بدلالات التزامية كبرى ، وتتمحور حول حقيقة طالما تشوق إليها البشر وشكلت حلمهم الدفين، بل والمعلن أحيانا. إنها دولة تلخص حلم البشر في القضاء على كل ألوان الظلم والجور وتؤسس لدولة العدالة بمعناها الفريد. ذلك لأن مسيرة البشرية الممتدة عبر آلاف السنين أكدت بأن خياراتها السياسية العادلة لم تعد تقوى على مواجهة أشكال المقاومات السلبية التي تعيق سير البشرية لتحقيق العدالة. حتى أن الأمر أصبح يتجه اليوم إلى نوع من ارتضاء النماذج القاصرة التي لا تبلغ بالاجتماع إلى حاق العدالة ، بقدر ما تسعى إلى الإقناع والاقتناع بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وبأن العدالة الاجتماعية والإنسانية غاية لا تدرك ، وبأن المطلوب هو الرضى بالقدر المتيسر والإغضاء عن كل الحلول الحالمة والمشاريع الطوباوية التي يتعذر تحقيقها في دنيا البشر. فالظلم والجور غدا معضلة بنيوية ، ودورته باتت مأزقا نسقيا. وإن أي حل لا يكون ثوريا سوف لن يحل معضلة الإنسان، وليس أي ثورة تقصد هاهنا في المقام ، بل المقصود قيام ثورة كونية. بهذا المعنى تحديدا نفهم لماذا عبر الخبير الأمريكي ذات مرة عن الخيار الليبرالي بأنه نهاية التاريخ وعن الرجل الليبرالي بأنه خاتمة النوع . وبينما ساد الانطباع كذلك بأن دنيا البشر هي ساحة لتزاحم المصالح والصراع بحيث بتنا نسلم منذ ابن خلدون حتى اليوم بأن الأمر حتى لو تعلق بأرقى مستويات الديمقراطية لا يعدو مجرد نمط من التغلب السياسي أكثر نعومة من ذي قبل . وبأن العصبية والتغلب هما أساس التسلط في الدولة الحديثة أيضا. إلا أن البعض لا يكاد يدرك من نموذج دولة الموعود سوى أنها ارتقاء بفكرة المستبد العادل إلى منتهاها.

وعليه تعين وضع ما به امتياز دولة الموعود وتحريرها من سلطة الإسقاطات المنهجية والأيديولوجية التي تتيحها النماذج السياسية الراهنة والتاريخية، باعتبار أن دولة المهدي هي في نهاية الأمر ليست نموذجا تاريخيا مستعادا ، بل هي نموذج مستقبلي لم يطبق ولم يكن في مكنة الشروط التاريخية ما يسند هذا الحلم الذي يعبر عن رشد البشرية وقوة إمكاناتها. إنها بهذا المعنى تلخص كل آمال الأنبياء والرسل والمصلحين عبر التاريخ، إنها لحظة التطبيق الأولى لكبرى القيم الإلهية والإنسانية على الأرض، لذلك كانت وعدا ، ليس للمسلمين فقط ، بل هي وعد للبشرية جمعاء منذ آدم حتى يومنا هذا.

ما سنبحثه في هذه الورقة يتعلق بما هو محل تميز دولة الموعود وخصائصها لا سيما إزاء ذلك الشكل الذي توحي به عند النظرة الأولى، نعني المستبد العادل. وأيضا إبراز ملامح الجدة والمستقبلية والتاريخانية في هذا النموذج الرسالي المشرق. وأيضا توضيح جانب الخاتمية كأساس تغدو فيه دولة المهدي ضرورة أكثر من كونها ضرورة سياسية، بل ضرورة حضارية كونية؛ ضرورة يفرضها الاجتماع الإنساني. ليس من حيث أنها خاتمية الرسالة بل من حيث هي تمامها الذي لا يتقوم إلا بوجود إمام مخلص يحقق ما لم ينجز بعد. لذا كانت تمام النعمة.

دولة المهدي باعتبارها نهاية التاريخ والمهدي باعتباره الرجل الأخير

ليس جزافا أن سمى فوكوياما محاولته الكلاسيكية : نهاية التاريخ والرجل الأخير قبل أن يخفف من غلوائها ويتراجع عن مضمونها الجزافي نحو من التراجع. إنها صياغة تحمل شحنة تحيل على أكثر أشكال الإيمان رسوخا في وجدان الإنسان الحديث. لقد قدمت اللبرالية نفسها تعبيرا عن التجسيد المقدس عن حلم البشر بالعدالة والحرية. واستمرت كذلك مع نجيبتها النيوليبرالية بوصفها نهاية تجسد هذا الحلم. هكذا استندت الليبرالية على تقديم نموذجها باعتبارها وعد الله على الأرض ، ومظاهر عدن متحققة بقوة العمران وجاذبية هذا النمط الأبيقوري الذي جعلها تستقوي بمظاهر الاستهلاك والرفاهية والعيش الكرنفالي، مما يحجب كل أشكال العذابات والتدمير الممنهج للإجتماع والبيئة وسلطة التهميش لأغلبية البشر من أن يكونوا شركاء في الحد الأدنى من الثروة والموارد والخيرات. وهي بالتأكيد ضريبة هذه الكرنفالية الدائمة لعدد محصور من النوع يبني رفاهيته فوق عذابات أغلبية المعمورة. العنوان الأخير هو نوع من الشماتة والسخرية المقنعة بهذه الملايين المعذبة والمهمشة في المراكز والأطراف، حيث راهنوا طيلة الحرب الباردة على نموذج أكثر عدالة لينقلهم إلى بعض من تلك الرفاهية التي يحتكرها الأقلون في عالم النيوليبرالية المشحون بكل قيم التغلب والسيطرة والقمع والتحرش بالسياسات الاجتماعية الضامنة لحرية وكرامة هذه الشريحة الأغلبية من المجتمعات. إن سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار سور برلين كانا نقطة الانطلاقة لهذا النوع من الطرحات التي تسعى إلى انتزاع الاعتقاد من وجدان البشر بإمكان انبعاث دولة العدالة الاجتماعية من نموذج ما هو بالتأكيد خارج تحكم الفكر السياسي النيوليبرالي. كذلك سعى فوكوياما للقول بأن النموذج اليوم هو هاهنا ، وبأن الغلبة للمعسكر الشرقي هي الحجة البالغة على انتصار الليبرالية . بل هي نفسها ذلك الحلم الذي تنتظرونه. لذا كانت برسم تاريخانيته المغالطة نهاية تاريخ النماذج وكان الرجل الليبرالي والأمريكي هو الرجل الأخير.

لعله من المفارقة أن تسعى اللبرالية عبر الخطاب الفوكويامي إلى فرض نموذجها الحالم بغلب الأيديولوجيا وتداعيات الهيمنة الآحادية عشية نهاية الحرب الباردة. وقد كان هذا منتهى الشطط في إرادة الهيمنة على الوجدان والعقول والضمائر ، مع أن لحظة هذا الاستئثار الأيديولوجي كانت هي أسوء لحظة وآلمها على المجتمع الدولي. هذا دون أن نتحدث عن تداعياتها المدمرة التي اتجهت بالعالم نحو مزيد من التفقير والتدمير حتى لتلك المكتسبات التي حققتها البشرية عبر نضالاتها الحقوقية والتحررية. لم يصاغ هذا النموذج الخلاصي الفوكويامي في وجدان البشرية، بل لقد أريد له أن يصاغ في دوائر الهيمنة والشطط في الاستكبار.

لم يعد اليوم وبعد مرور سنوات على إطلاق هذا الخطاب الحالم ما من شأنه أن يدعم كل المسوغات المحشدة التي ساقها فوكوياما للدفاع عن صواب أطروحته. فلقد لجأ ككل ناسج أيديولوجي على أفكار منتزعة من سياقاتها ومقاصدها لدعم خيار لا يزال وراء كل أشكال التفقير والتدمير الممنهج للاجتماع الانساني. فحتى قبل بزوغ الرأسمالية ، لم يكن الفقر يوما عاملا لتخريب الاجتماع الانساني وقيمه. لقد جاء التخريب مع شكل مزيف من أيديولوجيا الوفرة. تلك التي تعني بالملموس تقسيم العالم إلى فسطاطين: أحدهما ينعم بأقصى فرص الوفرة والآخر و هو القسم الأكبر يتأرجح بين الفقر وما تحت الفقر. لقد أظهرت الأحداث بؤس هذا الوعد الكاذب لايديولوجيا بقدر ما تنحت أيقونتها الايديولوجية بعناية، ترسم كاريكاتورا لنهاية دراماتيكية لكل أشكال الايديولوجيات. حقا إنها أيديولوجيا محتالة: أيديولوجيا نهاية الايديولوجيات!

لقد سعى هذا الأخير عبر صياغة تلفيقية من فلسفات تتناقض في مبدئها ومنتهاها مع هذه النهاية السيئة التي اكتمل نشيدها عشية انهيار المعسكر الشرقي، إلى أن يصور النيوليبرالية كحركة طبيعية قدر لها أن تواجه كل هذه المضادات لتراتبية التطور التاريخي، ما جعلها انتصارا لطبيعة الاشياء. ففي محاولة تحريفية قصوى استعار هذا الأخير المنظور الهيغلي ليغطي على أزمتين بنيويتين في المشروع النيوليبرالي: الأولى تتعلق بفلسفة التاريخ الهيغلي التي ترى تاريخ البشر هو صيرورة غير منقطعة بحثا عن الاعتبار والكرامة. وهذا المنظور حتما لم يعد مؤسسا حقيقيا للنيوليبرالية بنكهتها الفيكتورية التي حولت مفهوم الاعتراف والكرامة لينحصر في أولئك السادة الذين امتلكوا على حين غفلة وبأي شكل اتفق قدرة التحكم بثرواة الأمم وأيضا مكنهم ذلك من الاستغلال الأقصى لعموم الخلق. فالرأسمالية في أطوارها النيوليبرالية اليوم هي لحظة عارمة تقوم على مولنة الكرامة واختزال الرقي في المراكمة التي عادة ما تقوم على المضاربات المالية الوهمية المدمرة للسياسة الاجتماعية والاقتصادية. وهذا ما يقودنا إلى الأزمة الثانية حيث لم يصدقنا فوكوياما حينما جعل من الفلسفة الهيغلية رجز أيديولوجيته النيوليبرالية. إن غاية الانسان ليست اقتصادية. وهنا تصلح الهيغلية مستندا ضد النزعة الماركسية. فليس بالإمكان أن نبرر أهمية الديمقراطية لو سقطنا في هذه النزعة المادية لتاريخ التقدم البشري. صحيح قد تكون الهيغلية برسم المادية الماركسية جدلا مقلوبا يمشي على الرأس. لكن تاريخ النيوليبريالية مع كل هذا الادعاء لم يكن يوما استجابة لهذه النزعة الهيغلية بقدر ما هو معانقة لهذه النزعة المادية ؛ المادية التي جعلت من الديمقراطية اليوم وسيلة للاجهاز على آخر ما تبقى من آثار للقيم والكرامة. لم تكن النيوليبرالية هي حصيلة نضال طويل من أجل الكرامة ، بل هي نفسها ذلك الخطر المهدد للكرامة ، وبالتالي هو ما يجب الانتصار عليه.

يقول فوكوياما مدافعا عن فكرته ومنزها إياها عن زيف الأيديولوجيا:

" وبالرجوع إلى سؤالكم وعن ما أشرتم إليه من أن نظرية نهاية التاريخ هي أيديولوجيا، فإني أقول: ليست أيديولوجيا بالمعنى الذي حملته تسمية أيديولوجيا منذ زمان، إن نهاية التاريخ هي أكثر من ذلك، إنها وصف وتحليل للأسلوب وللطريقة التي يتغير بها العالم ويطور بشكل أمبريقي نظامه السياسي في الزمان "[1].



يحاول فوكوياما أن يقنعنا كما فعل في كتابه المذكور بأن ثمة رؤية أمبريقية للتاريخ يستند إليها هذا النوع من الوعد الكاذب بنهاية التاريخ عند أعتاب النيوليبرالية. والحق أن الأحداث التي رافقت هذا الاعلان لم تكن لتعزز من صدق هذه الاطروحة. إن حديثه الانشائي عن النماذج الواعدة في أسيا هي دليل على انتصار الليبرالية. وقد سعى لتبرير عظمة النموذج الاسيوي الذي قادته ثورة النمور الاسيوية، حتى لو اقتضى الحال ان يجازف هذه المرة ويقلل من نزعته الهيغلية ويتمسك بنزعة اكثر ايديولوجية وبراغماتية وهو يعزو الأبوية المنازعة لديمقراطية هذه البلدان إلى آفاق انتربولوجية خارج منطق التراتبية التاريخية التي أصر عليها منذ البداية أيما إصرار. إن فوكوياما لم يتأمل فارق النموذج لما يبرر سياسة القمع والاستبداد في المجال السياسي للنمور بكونها فرعا لأصول الأبوية ، ذلك الارث الطبيعي للسوسيوـ ثقافة السياسية لبلدان لا يهم حقا أن تكون مثالا يعزز انتصار عقيدة الانسان الأخير، طالما أن هذه الأبوية المناقضة لأصول الديمقراطية نفسها تتماشى مع الارتفاع المضطرد لمعدل النمو. وذلك حينما يستشهد هذا الأخير بكلام لكوان يوفان، رئيس الوزراء السانغافوري الأسبق" إن شكلا من الاستبداد الأبوي يتناسب أكثر مع التراثات والتقاليد الكونفوشيوسية في آسيا. والأهم أنه يمشي بشكل أفضل مع معدل النمو المرتفع، بالمقارنة مع الديمقراطية الليبرالية الغربية. فالديمقراطية في نظر لي كوان هي عقبة في طريق النمو"[2] .

إن التاريخ هنا سيكف ان يكون بحثا عن الكرامة والاعتراف ، بل هو تاريخ نشاط مادي ذي طبيعة استعراضية قابلة للانهيار الكارثي كما حدث قبل سنوات، وكما سيحدثنا أحد أبرز الفاعلين في اقتصاد المضاربات ، والمتهم الرئيسي في كارثة الانهيار الذي شهدته اقتصادات النمور قبل سنوات، حينما يقول، ليس فقط عن هذه الاقتصادات التي أظهرت أن مضاربا واحدا في حجم سوروس يمكن أن يدفع بها إلى هاوية الإفلاس، بل عن عموم النموذج الرأسمالي لما قال:" إن انهيار السوق العالمية، سيكون حدثا مؤلما يسفر عن نتائج يتعذر تصورها ، ومع ذلك أجد أن تصور الانهيار أيسر من تصور استمرار النظام الراهن"[3].

هنا الديمقراطية تصبح برسم هذه الرأسمالية الجامحة مجرد عارض غريب، وبأن الغرض متى تم ولو بدونها، فذلك هو المطلوب. ثمة مغالطة بخصوص هذه اللعبة القذرة التي تجعل من جموح غريزة التغلب والسيطرة ، طبيعة للاجتماع أيضا. وليس غريبا ما قاله تشومسكي عن هذه اللعبة القذرة لمنطق السوق:

"إن مثلا من قبيل الديمقراطية والسوق مثل جيدة، طالما أن "ميل الملعب" يضمن فوز الناس الذين يجب أن يفوزوا. أما إن حاولت جموع الرعاع رفع رؤوسها، فيجب أن يضربوا إلى أن يخضعوا بشكل أو بآخر. في العالم الثالث غالبا ما يفي العنف المباشر بالغرض. أما إذا أثرت قوى السوق على امتيازاتنا المحلية ، فسرعان ما نقذف بالتجارة الحرة في النار"[4].

الاقناع بأن النيوليبرالية ستنتصر لأنها التعبير عن طبيعة الاشياء ، سيعيدنا إلى البداية الفيكتورية التي تراجعت فترة طويلة بفعل نضالات شهدتها اوربا. إنها اهتبال وحشي لفرص تاريخية تملك النيوليبرالية قدرة خارقة على استغلالها. لكنها لم تكن هي النهاية نتيجة صمودها الطويل ، وليس بروزها لحظة الفراغ يعني أنها هي نهاية الاعتقاد. ان النيوليبرالية والرأسمالية لم تكن التعبير عن رفع القيود المكبلة للانماء، ولا هي معانقة سمحة لطبيعة السوق. بل كانت دائما نتيجة تدخل الدولة. بل يكون تدخلها في الغالب أشرس تدخل. يحدثنا جون غراي عن هذه الحقيقة بوضوح تام:

" إن السوق الحرة التي وجدت في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر لم توجد مصادفة كما أنها على نقيض التاريخ الاسطوري الذي يروج له اليمين الجديد لم تنشأ من تطور طويل غير مخطط ، وإنما كانت صناعة يدوية للسلطة وفن الحكم"[5].

لم يكن فوكوياما في حاجة إلى أن يعلم البشرية ماهية الليبرالية التي عرفوا كل مظاهرها السلبية واصطفافها ضد العدالة الاجتماعية وكوارثها الاجتماعية و الثقافية والبيئية. فإذا كان واقع الليبرالية قد صنع عوالم الفقر وما تحت الفقر سواء في المركز أو المحيط في عز حربه الباردة ضد خصيمه السوفياتي، فماذا لو خلا له المجال واستفرد بالاستكبار ولم يوجد له من رادع أو أن يوجد في هذا الصراع المدمر للبشرية من يخلق شكلا من التوازن يعيق استفراده بالنوع ويؤجل أجندته النهائية. وبالفعل إن سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة كان له الفضل في انهيار كل أشكال السياسة الاجتماعية ليس في الاتحاد السوفياتي فحسب ، بل في أوربا التي أدخلت مجتمعاتها في دورة نيوليبرالية غير مقدور عليها بالنسبة للعقل السياسي الأوربي ، مما جعل حركة الاحتجاج والثورة تنطلق هذه المرة من هوامش أوربا ضد ذلك النموذج النيوليبرالي الأمريكي الذي بات يتهدد الهوية الثقافية والمقومات الاجتماعية لأوربا نفسها، تلك التي صدرت يوما نموذجها الاقتصادي والاجتماعي ليس على أساس عظمتها الليبرالية ، بل على أساس سياستها الاجتماعية التي ظلت حتى حين مدينة فيها للنموذج النقيض ، حيث كان للصواريخ الباليستية السوفياتية الفضل في حفظ هذه السياسة حتى لا يصبح للنموذج السوفياتي الاجتماعي جاذبيته تلفت انتباه مجتمعات أوربا الغربية.



يبدو أن النهاياتية تتحدد بآخر حلم بشري. فطالما ثمة ما لم يستنفذ من هذه الأحلام، ومادام أن ثمة مجموعة بشرية تنتظر ما هو أفضل ، فذلك خير دليل على أن النهاية لا تكون كونية إلا إذا تحقق معها مخرج كوني لعذابات الشعوب وانحطاط الأمم. ومع ذلك يكون خطاب النهايات نظير ما رأينا من فرنسيس فوكوياما ، على علاته وإسرافه واستعجاله أكبر دليل على أن ثمة نموذجا ما تنتظره البشرية دون أن تجد له طريقا ولا مثالا في هذا المعروض البشري المحكوم بنيويا بمظاهر الظلم والجور. أو لنعتبرها حكاية قرصان انتصب في وسط الطريق ليسرق من الموكب البشري ما تبقى لديه من حلم. ليس غريبا أن الرأسمالية سرقت الشعوب واحتلتها ونهبت مواردها. فاليوم تسعى لاحتلال وعيها وسرقة رأسمالها الرمزي المحتمل، سرقة مستقبلها بعد أن فعلت ذلك في ماضيها وحاضرها.

وإذا كان مظهر قومة الموعود هو القطيعة مع كل أشكال الجور والظلم وانطلاقا سمحا في آماد العدل والخيرات، فلا بد أن يكون آلة تحقيق ذلك هو قيام دولة عظمى ، تتميز ليس فقط في استقوائها الإيجابي الذي لا قبل لدول العالم به، بل تتميز أيضا بحسن الإدارة وقوة الإنماء والتقدم بحيث تحمل استحقاقها في مظاهر نموذجها الذي سينسخ تلقائيا كل النظم السياسية التي سوف تبدو حتما في صورة بشعة يكاد المرء يعجب كيف صمد الجهل كله والظلم كله في هذه النماذج السياسية وكيف ظلت البشرية أسيرة لهذا الانسداد السياسي الأعظم. لكن قبل الحديث عن ميزات دولة المهدي وخصائص سياسته للمدينة الموعودة لا بد أن نقف عند نقطتين أساسيتين:

إحداهما تهدف تمييز دولة الموعود عن دولة الطوبا

والأخرى ، أن انتصار دولة الموعود لن يكون بالضرورة انتصارا حربيا.


دولة الموعود ودولة الطوبا..أية علاقة


ثمة ما هو مهم في دولة الطوبا ، وهي ذلك الحلم الكبير الذي لم يبرح خيال الفلاسفة والحكماء، وهم يعبرون بصورة مثالية وذوق رفيع عما يختلج في قلوب البشر. إنها قصة الحلم بمستقبل أفضل ونموذج أكمل. لكن تفاصيل ما جاد به خيال أولئك جعلها قصة حلم فقط وليست حتمية من حتميات التاريخ. إن دولة الموعود هي كبرى الحتميات التي يفرضها منطق التاريخ نفسه . وهي كذلك بما أنها تقع في حيز الإمكان لا تعاكس الضرورة المنطقية أيضا؛ تلك الضرورة التي يعززها أيضا منطق الإيمان. إن إطلالة سريعة على بعض أحوال المدن الخيالية تضعك أمام شكل من أشكال النقص والاعورار في تدبير المدينة يؤكد على أن منطلق النقص هو كامن في بنية الخيال نفسه وتصورنا للعدالة والحقوق. إن أي حالم بهذه الطوبا لم يفعل أكثر من تجسيد مظاهر ثقافته وخبرته ودرجة خصوبة خياله . لكنه لم يتمكن من ذكر إلا نموذج يستحق أن يوصف بأنه ليس له من الجدارة إلا أن يظل خيالا مستحيل التحقق. ودولة الموعود تحمل مظاهر استحقاقها في نموذجها ومن منطق التاريخ ، بحيث ندرك لو قارنا بين كل أشكال الطوبا ودولة الموعود سنجد أن أرقى نموذج يرقى ويهذب حتى مخيلة الحالمين هي دولة الموعود كما سنجدها وحدها من بين هذه الدول الحالمة ، تتوفر على ضمانات تاريخية وجغرافية ودينية. بل إنها لا تنتمي لجنس الأدب اليوتوبي ـ طالما هي متصلة بأزمة الراهن وطالما هي ليست مجهولة المكان والشروط بالجملة ـ ، لأنها ليست كما الطوبا: أي اللامكان، بل هي دولة موعودة بحتمية التاريخ وضمانة الوحي وتحقق الجغرافيا. إن دولة الموعود لها جذر تاريخ حققي وأيضا جغرافيا سياسيا للانطلاق وأيضا ضمانة دينية.



تضعنا الأخبار الاسلامية على محددات لتشخيص الموعود وتاريخانيته وجغرافيته. وقلت تاريخانيته احترازا من الالتباس الذي قد تضفيه عبارة تاريخه، لأن التاريخ بناء على النهي عن التعيين، أمر ثابت بالجملة ومتوقف على شرائط. عدم التعيين لا يخرج الحقيقة من سياق التاريخ وفلسفته. لكن التاريخ هنا ليس محض كرونولوجيا بل هو فعل تراكمي تشارطي. وتاريخانية الظهور يعني أنها حتمية تاريخية متوقفة على جملة من الشروط.

ففي سنن ابن ماجة» (ج 4 ص 151 ط السعادة بمصر) قال: ذكر الحافظ أبو داود السجستاني في «سننه» (ج 4 ص 151 ط السعادة بمصر) قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عبدالله بن جعفر الرقي، ثنا أبو المليح الحسن بن عمر، عن زياد بن بيان، عن عليّ بن نفيل، عن سعيد بن المسيّب، عن اُم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول: المهديّ من عترتي من ولد فاطمة".. في منتخب كنز العمال: المطبوع بهامش المسند ج 5 ص 96 ط الميمنية بمصر). روي من طريق ابن عساكر عن الحسين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لفاطمة: إبشري يا فاطمة فإنّ المهديّ منك. روى بسنده عن عليّ بن هلال، عن أبيه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وهو في الحالة التي قبض فيها فإذا فاطمة عند رأسه فبكت حتّى ارتفع صوتها فرفع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إليها وقال: حبيبتي فاطمة ما الّذي يبكيك فقالت: أخشى الضيعة من بعدك فقال: يا حبيبتي أما علمت «إلى أن قال»: ومنّا سبطا هذه الامّة وهما إبناك الحسن والحسين وهما سيّدا شباب أهل الجنة وأبوهما والذي بعثني بالحقِّ خير منهما، يا فاطمة والذي بعثني بالحقّ أنّ منهما مهديّ هذه الامّة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن وانقطعت السبل وأغار بعضهم على بعض فلا كبير يرحم صغيراً ولا صغير يوقر كبيراً فيبعث الله عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في آخر الزمان ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً الحديث[1]. حديث ابن عباس كما ورد في المناقب: لعبدالله الشافعي: ص 215 ورى بسند يرفعه إلى ابن عبّاس رضي الله عنه عن الحسين بن عليّ (عليه السلام)قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول: إنّه منّي يعني المهديّ من ولد الحسين بن عليّ. عن عبدالله بن مسعود في صحيح الترمذي: ج 9 ص 74 الصاوي بمصر. حدّثها عبيد بن اسباط بن محمّد القرشي الكوفي، حدثني أبي، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم بن بهذلة، عن زرّ، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: لا تذهب الدّنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطي إسمه إسمي. قال أبو عيسى: وفي الباب عن عليّ وأبي سعيد وامّ سلمة وأبي هريرة هذا حديث حسن صحيح. قال: وحدثنا عبد الجبّار بن العلاء، عن عبد الجبار العطار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عاصم، عن زرّ، عن عبدالله، عن النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال: يلي رجل من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي قال عاصم: حدثنا صالح، عن أبي هريرة قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتّى يلي. هذا الحديث حسن صحيح.

عن عليّ (عليه السلام)

في كتاب الاعتقاد للبيهقي: (ص 105 ط كامل مصباح) قال:

حدّثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد (رحمه الله) أنبأنا حامد بن محمّد الهروي أنبانا عليّ بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا فطر

بن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أنّه قال: لو لم يبق من الدّنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلا من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي. الخ.

عن تميم الدارمي في تذكرة الحفاظ: (ج 1 ص 765 ط حيدر آباد).
قال: أخبرنا عبد الخالق [القاضي] وابنة عمّه ستّ الأهل بقرائتي عليهما ببعلبك قالا: أنبأنا البهاء عبد الرحمّن بن إبراهيم منوجهر بن محمّد، أنبأنا هبة الله بن أحمد، أنبأنا الحسين بن عليّ بن بطحاء سنة 428، أنبأنا محمّد بن الحسين الحرّاني، أنبأنا محمّد بن الحسن بن قتيبة أنبأنا أحمد بن سلم الحلبي، أنبأنا عبدالله بن السرّي المدائني عن أبي عمر البزّار، عن مجالد عن الشّعبي، عن تميم الدّرامي قال: قلت: يا رسول الله ما رأيت للروم مدينة مثل مدينة يقال لها: انطاكية، وما رأيت أكثر مطراً منها; فقال النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: نعم وذلك أنّ فيها التوراة وعصى موسى ورضاض الألواح ومائدة سليمان في غار ـ إلى أنّ قال ـ: فلا تذهب الأيّام واللّيالي حتّى يسكنها رجل من عترتي، اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، خلقه خلقي، وخلقه خلقي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
في صحيح الترمذري: ج 9 ص 74 ط الصاوي بمصر. قال: قال عاصم: وأنبأنا ابو صالح، عن ابي هريرة قال: لو لم يبق من الدّنيا إلا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يلي (يعني حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي) وانّما لم يذكره تعويلاً على ذكره في الحديث.

وقد رويت أخبار أكثر من ذلك وبطرق مختلفة تؤكد أن الموعود مشخصا لا مجرد فكرة في الرؤوس كما رأينا في الأدب اليوتوبي ورأينا لها نظائر عند من اختزل القضية والشخص في مشروع فكرة.

وأما من حيث المكان، فالأخبار تكاثرت في تعيينه ليس فقط في الاقليم أو البلدة فقط بل حددت حتى موطء قدمه الأول حين الخروج ومكان صلاته وظهوره. ففي«الأربعون حديثاً لأبي نعيم» الحديث السابع قال:

روى باسناده عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يخرج المهديّ في قرية يقال لها كريمة. وثمة روايات تتحدث عن خروجه بين الركن والمقام مما لا يخفى على مطلع على أحوال عصر الظهور.

تتجلى ضمانة الوحي في مجمل النبوءات التي زخرت بها التعاليم وحثت على الاعتقاد بها بوصفها وعد الله الذي لا يخلف الميعاد. وما تعبيرنا بالنبوءة في المقام إلا جريا على المتداول. وإلا فهي حقائق المستقبل التي ذكرتها المصادر الدينية الكبرى. إضافة إلى أنها عينت لها تاريخا مجملا متصلا بأشراط محتومة كما عينت لها جغرافيا مشهودة.

تظل دولة الطوبا مستحيلة التحقق بلا ضمانات. حيث لم يعد بها من تنزل وعده منزلة المحتوم. ولا تعينت جغرافيتها التي ستشهد نشأتها الأولى إلا في خيال الحالمين. إنها محض تعبير عن أحلام. لكنها أحلام تؤكد بأن ثمة حتمية لا مفر منها. أن تبلغ الأمم رشدها الحقيقي و تتكامل فكرة العدالة لتستصدر نموذجها الكامل بقيادة الإنسان الكامل.

ثم إنها بما هي تعبير عن تصميمات أيديولوجية وثقافية خاصة بالحالم وبيئته الثقافية لا يمكن أن تكون بالضرورة كونية وفيها إسعاد كل البشر. بينما ليس في دولة الموعود ما يتعذر تحقيقه. وليس لها من خصوصيات إلا قصة الدين كما يطرحها تحدي الإلحاد. وهذا سينحل بمجرد أن يدرك العالم أن الدين ضرورة وواقع أكثر الحقائق برهانية وقوة في زمن الموعود.فالدين كان ولا يزال وسيظل الظاهرة الأبرز في تاريخ النوع. فإذا تحقق ذلك لم يعد في مظاهر دولته العادلة ما يجعل الحليم حيران. بل يصبح الإلحاد شذوذا وتفاهة وانحطاطا. فلن تزعج دولته يهوديا أدرك تعاليم موسى ولا مسيحيا أدرك تعاليم عيسى، حيث كان من المفترض أن يشهد الأنبياء على صدق دولة الموعود ، ليؤكدوا لاتباعهم أنها هي نفسها دولة الوعد الموسوي والعيسوي. لكن عودة المسيح نفسها هي الدليل الكافي لذلك ، حيث وجود المسيح الذي شكل عقدة مفصلية في الانتقال النبوي من الموسوية إلى العيسوية ، سيثبت ذلك بضمانة قوة الموعود نفسه ويجعل الأبدال والأتباع من مختلف الأقوام . حيث من بني إسرائيل من سيدخل دولة الموعود وينصرونها؛ اعني الأمتين اليهودية والمسيحية. دولة الموعود تؤكد أن الأشرار الذين سيواجهون دولة الموعود هم أشرار الخلق ممن كان يتأسلم أو يتهود أو يتمسح ، مما يعني أنها دولة الإنسان التي ستعيد وضع خريطة الطريق لتوزيع أمثل لقيمة الإيمان، فهي دولة الابتلاء الكبير. فخصومها قد يكونوا يهودا أو مسيحيين أو حتى مسلمين وغير دينيين، كما ان أتباعها سيكونون مسلمين ويهود ومسيحيين، إنها ليست قضية مسلمين فقط بل هي قضية العالم أجمع!

ففي رواية عن الإمام الباقر (ع):" فإذا اجتمع عنده عشرة آلاف رجل ، فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد ممن يعبد غير الله تعالى إلا آمن به وصدقه"[6].

أما من جهة الحروب ومظاهر العنف المقدس الذي تحدثنا عنه الأخبار، فهو لا شك عارض ستقوم به البشرية نفسها مع ظهور النموذج وتحققه على الأرض بقيادة الإمام المهدي ـ عج ـ. بمعنى أن الحرب سوف تكون موقف الشعوب والأمم من عدوها الذي يبغي لها الاستمرار تحت وطأة الجور، وليس ذلك خيارا للإمام إلا من حيث هو الحل الأخير الذي ستفرضه أقلية قليلة من البشر، تريد أن يتأبد الشر في العالم حيث كتب الله أن للعدل المطلق دولة موعودة هي حجته على أن عالم الخلق قادر أن يظفر بتلك العدالة التي جاء من أجلها الرسل ودعا إليها صلاح الأمم دون أن تتحقق. إن عنوان الحرب أو السيف الذي وصفت به دولة الموعود ، هو من باب التغليب لأمر اختص به الموعود دون سائر خواص الخلق من الأنبياء والأولياء[7]؛ أعني تنفيذه للحكم الواقعي في مقام القضاء[8]. فالعدالة المطلقة تقتضي أن لا يأخذ بالظاهر فيما هو يعلم الواقع. وأن لا يحكم بالبينات والأيمان فيما هو يدرك من أمر الجاني في حاق الواقع ما خفي عن الأنام. إن سائر الأنبياء والأوصياء كانوا على علم بما يفعل الخلق، ولكنهم لم يكونوا مأمورين بتنفيذ الأحكام على وفق ما يعلمون . وبذلك فقط تتحقق العدالة المطلقة ليس لأن الموعود سيحكم في مقام التقاضي بالعلم فقط ، بل إن سيفه سيلحق كل من أتى جريمة حتى يدخل في قلوب الجناة الرعب ، فلا يجرأ أحد على الإقدام على أية جريمة. إنه الردع والقانون يتنزل في موارده دونما شطط ولا إخطاء الجاني.

عن الإمام الصادق (ع):" إذا قام قائم آل محمد (ع) حكم بين الناس بحكم داود ، لا يحتاج إلى بينة ، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه ويخبر كل قوم بما استنبطوه"[9].

ليس سيف الإمام المهدي سيفا جبارا إلا من حيث هو تعبير عن جلال البارئ تعالي ، ولكن لا ننسى قيمة الجمال لدولة الموعود التي بها ستصبح الأرض مسرحا لكبرى قيم العدالة والحق والخير، فتعتدل بها السياسة والمعاش ، ويشذ فيها الباطل والجور والشطط. إن سيف المهدي قوة لا شطط فيها. سيف العدالة لا يحرفه عن مهمته نزوة عصم منها . فهو مأمور تجري حركته بعين الله، لأنه وعد الله ووليه الذي احتفظ به لهذه المهمة العظيمة وسدد خطوه ، حتى كان له وليا وناصرا ودليلا وعينا.

يومها ستدرك الأمم قاطبة أي سيف هذا الذي يمتشقه أسد الله الموعود. ذلك لأنها ستشهد لأول مرة بعد تاريخ مرير من الجور أنه سيف في خدمة الحق و العدالة. لن يتطلع أحد إلى نموذج آخر بعد ذلك ، لأن النموذج الأخير سيعلم الأمم أن فرصتهم الأخيرة هي ها هنا في ظل حكومة الموعود.

وكما جاء عن الإمام الباقر(ع):" دولتنا آخر الدول ولم يبق أهل بيت إلا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء. وهو قول الله عز وجل: والعاقبة للمتقين"[10].

المهدوية وحتمية الطريق الثالث

يوقفنا تاريخ الفكر السياسي على ضربين من المخارج الرئيسية للاستبداد ونظام السلطان العاري. ولم يشهد تاريخ الفكر السياسي من مخرج حقيقي سوى منظورين سرعان ما استتب الأمر لأحدهما بعد أن أصبح الأول هو نفسه موضوعا للاستهجان والامتعاض. ونقصد بذلك مفهوم المستبد العادل ومفهوم الديمقراطية. وحتى وإن كانت معظم النظم السياسية المعاصرة لا زالت تدين لفكرة الاستبداد ، فإن الديمقراطيات هي نفسها باتت تستنجد بسلطة المستبد حتى يرعاها ، مما جعلها غاية في ذاتها وليست وسيلة لتحقيق العدل وتأمين الحقوق . إن فكرة المستبد العادل ما هي إلا مخرج من كل أشكال الطغيان العاري الذي عرفته البشرية ووسم تاريخها بالعنف والعبودية والانحطاط. ومشكلة المستبد العادل في حكومة الموعود لا موضوع لها ، لأن حكومته جاءت لتتجاوز معضلة أقصى ما بلغته البشرية في نظمها السياسية، أعني الديمقراطيات. فهي متجاوزة لنموذج المستبد العادل برتبتين، ما دامت هي متجاوزة لما كان متجاوزا لها ، أي النظام الديمقراطي. ولعل الشبهة في المقام ، أن حكومة الموعود يحكمها شخص واحد. وهذه الشبهة تخطئ مناط قيام النماذج والنظم السياسية وفلسفتها. لأن الديمقراطية نفسها لم تكن هدفا في ذاتها إلا بالقدر الذي تمكننا من بلوغ أفضل اختيار حر للحاكم. ليست الديمقراطية في نهاية المطاف وبكل المخارج التي لحقتها من أجل التقليص من صلاحيات الحاكم الفرد ، مثل الانتخاب الدوري والفصل بين السلطات ، إلا بحثا عن حكم العادل. وليس الانتخاب الحر نفسه هدفا في ذاته ، بل من حيث هو طريق لاختيار الأفضل. فإذا كان الطريق إلى معرفة الأفضل غير هذا النموذج ، فإنه المطلوب ، لأنه الغاية. بل اختيار الأعدل هو قيمة القيم. إن مفهوم العدالة يتناقض مع الاستبداد بمعناه السياسي. فالعدالة في ظل هذا النموذج هي مصلحة المستبد بما هو أقوى وليست العدالة المطلقة التي تتحرك في الاجتماع السياسي الموعود على أساس العدالة والعلم والمهمة الرسالية. بل ليست أحكامها جزافية ولا أحكاما مزاجية بل هي تنفيذا أمثل لقانون أمثل. وقد جاءت الديمقراطية لتعيد الاعتبار إلى حق الشعب في اختيار نموذجه وحكم نفسه بنفسه عبر آليات وهيئات تمثيلية تمارس الحكم والرقابة حتى تحاصر تشكل الاستبداد بالسلطة ولا حتى الاستبداد بسلطة من السلط المفصول بينها. لكن الجدل الذي شهدته ولا تزال المجتمعات حول نواقص الديمقراطية وفشلها بالارتقاء بالإنسان وحماية قيمه ، بل كونها أصبحت وسيلة لتدمير القيم الجماعية بفعل تغول سلطة الفرد وفوضى الحريات وانهيار مفهوم الأسرة وما شابه، هو نفسه أصبح طريقا لا يقل ضراوة عن سابقيه، طريقا لأشكال جديدة من الطغيان والتدمير الممنهج لقيم الإنسان. إن الديمقراطيات اليوم في البلدان المتقدمة لا تخلوا من هذا النوع من الاستبداد الناعم الذي يجعل السلطة لا تفلت من أيدي بارونات المال والمتنفذين وأعوانهم. يلعب المال والمصالح الشخصية والفئوية دورا حاسما في اللعبة الديمقراطية. فالأمر كما يبدو تحول من نظم تفرض نفسها بالباطل والاستبداد القائم على القوة إلى نظم تسمح باللعبة السياسية، على شرط أن تكون لعبة بين أقوياء مسلحين بالمال والنفوذ وبين أشخاص منزوعي السلاح والقوة . لعبة يدرك الجميع أن مآلها الوحيد هو استبداد مقنع بالسلطة. إن دولة الموعود لا هي استبداد شخصي لأن مفهوم التشخصن أبعد من أن يكون سمة للإنسان الكامل المنزه عن الأنا . وكذلك هي أبعد من أن تجعل مصائر الخلق متوقفة على لعبة الديمقراطيات التي أوجدت أشكالا أخرى من الجور البنيوي، لا طريق للخلاص منه إلا مع قيام دولة الموعود. إن هذه الأخيرة هي إعلان صريح عن نهاية عصر المستبد العادل وعصر الديمقراطية ، لأن عنوانيهما سينتفيان لا محالة بعد تحقق النموذج الأكبر؛ حكومة الإنسان الكامل. أعني حكومة تلتقي عندها مقاصد الخالق والمخلوق. يكون الاستبداد فيها ليس ذاتيا بل موضوعيا كما هي جملة الحتميات الطبيعية الأخرى. وإن الموعود سيحكم الناس في طريق العدل بقوة الحتميات الطبيعية . فإذا تحقق خروج الانسان الكامل وظهر، انتفى موضوع المستبد العادل كما لم يعد للديمقراطية موضوعا. فاختيار الأصلح مع وجود الإنسان الكامل ، لن تكون حينئذ إلا وقاحة من الأشرار الذين سيكابرون رغم الصيحة ـ الإعلامية ـ التي ستجعل الموعود معروفا لدى العالم، لا يجهل استحقاقه أحد[11]. ولا شك أن الانتخاب الطبيعي في المقام هو العمدة التي ينتفي معها موضوع الاختيار الحر. ليست الديمقراطية هي النظام الأمثل والأخير بل هي أفضل من سواها مما في يد البشر. لكنها كانت دائما تأكيدا على تلك الحقيقة التي يتعين أن لا يمارس النسيان في حقها؛ هي كونها تقر بأن لا ضامن للعدالة في غياب نظام النبوة والانسان الكامل. وبأن دولة الموعود هي وحدها النظام الذي يحمل خصائص دولة النبوة والانسان الكامل المفقود.

هل هي دولة أم قومة

يتطلب الأمر عودا إلى المعجم السياسي للوقوف على مفهوم الدولة بمدلوله المعاصر. وحتما إننا ندرك أن الدولة لم تبرح حياة الاجتماع الإنساني منذ عرف الأشكال الأولى للتنظيم والإدارة العقلانية لجماعة بشرية ما. لكن هذا لا يمنع من القول أن مفهوم الدولة الحديثة برسم التعريف الويبري الشهير لا يغدو أن يكون إلا كما ذكرنا؛ التدبير العقلاني ، حيث لا يسعنا تمييزه عن أي دولة في تاريخ النوع سوى بهذا الشمول والعمق والنضج العقلاني كما شهده تاريخنا الحديث. لذا كان الأمر سيكون صعبا لا بل متعذرا أن تقوم دولة الموعود في شروط تاريخية غير الشروط التي ينعم بها تاريخنا الحديث والمعاصر. إن الدولة بمعناها اللغوي تحيل أيضا إلى الجولة. ودولة الموعود هي خاتمة الجولات ، وبالتالي خاتمة الدول. وهي منتهى التدبير العقلاني الذي لا يدع مجالا للاحتمالات الكبرى، لأن نضج البشرية بهذا النموذج سوف يتعدى كل أشكال النضج التي وسم بها تاريخنا الحديث منذ قررها كانط مجيبا عن سؤال "ما معنى التنوير".

إننا ندرك أن معضلة الاجتماع السياسي والذي فجر إشكاليات الفكر السياسي والاقتصادي ، هو الندرة. فلو أننا سلطنا الضوء على كبرى نظريات الاقتصاد السياسي والعلوم السياسية والفكر السياسي ، سنقف على تلك الحقيقة التي لا زالت تؤرق العقول: لدينا دائما في أي اجتماع سياسي أو جغرافيا سياسية عددا محدودا من المناصب والموارد والامتيازات. وحيث أصبح من الصعوبة بمكان تأمين الحقوق برسم الرفاهية لكل الشعب، إلا على أساس التوزيع الظالم للثروة وبالتالي النفوذ، فإننا سنجدنا دائما أمام ذلك المبدأ الأساسي والطبيعي الذي توارى بمخاتلة وراء مفهوم العقد الاجتماعي والديمقراطية ؛ أعني مبدأ القوة الذي هو العامل الوحيد الذي لا نزال نفسر به كل أشكال الاجتماع السياسي بما في ذلك الشكل الذي ينتمي إلى دولة الرفاهية. وجود القوة الفئوية ووجود الندرة عاملان أساسيان في هذا الانسداد السياسي الأعظم.

تزعم دولة الموعود بأنها ستنطلق من هذين العاملين في تحقيق نموذجها. إنها من جهة تتحدث عن القوة، ولكن وحيث يتعذر غياب القوة فإن دولة الموعود تتحدث عن تمركز عادل للقوة. إن قوة المهدي لا تستمد فقط من القدرة على التغلب بوسائط بالغة الإعجاز. بل هي ارتقاء في الأسباب والسنن. لعل أهم مصدر لقوة المهدي هي قناعة الشعوب بقيمة النموذج الأمثل الذي سيجعلهم بعد يأس جماعي مرير يقفون على معنى جديد ومطلق للعدالة الاجتماعية. إن الإلحاد لا يملك كل هذه الخاصية من اليقين والقوة حتى يصمد أمام الحجة الكبرى للموعود أو يملك حتى من المصالح حينئذ ما يغري به دنيا البشر. فالمهدي سينمي دنيا البشر حتى يصل إلى كل ذي حق حقه، فلا مجال للابتزاز والمساومة باسم الدين. بل لا مجال أن يتعرى الإنسان من قيمه النبيلة ليكسب رهان المصلحة المشروعة. فدولة المهدي ستجعل المعاش متماهيا مع القيم. بل ستجعل غداء الإنسان قيما كبرى بعد أن يتشبع بحقوقه المادية ويدرك أنها لا تفرض عليه كل هذا الحرص والخوف من فوات الفرص. إن واحدة من مصاديق القوة المهدوية ، امتلاكه الحجة الكبرى. فلا يظل صاحب دين في غمرة الشبه. فالناس هم أنفسهم سيثورون في وجه من عارض المهدي.

فعن أمير المؤمنين:" إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشا فخسف به بالبيداء، وبلغ ذلك أهل الشام قالوا لخليفتهم: قد خرج المهدي فبايعه وأدخل في طاعته وإلا قتلناك، فيرسل إليه بالبيعة. ويسير المهدي حتى ينزل بيت المقدس وتنقل إليه الخزائن وتدخل العرب والعجم وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته من غير قتال حتى تبنى المساجد بالقسطنطينية وما دونها"[12].

ولا ندري كيف سيتخلف عن دولته اليهود والنصارى وقد استخرج التوراة والإنجيل وأوضح أنه موعود العالم جميعا. بل كيف يظل الغرب المسيحي بعيدا عن هذه الدولة وقد تزامن ذلك مع نزول المسيح(ع). حيث لنزوله مغزى عميق. فهو أكبر شاهد على شرعية الموعود، لما يصلي وراءه ويبايعه.

عن عبد الله بن عباس، قال رسول الله ـ ص ـ :" والذي بعثني بالحق بشيرا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي فينزل عيسى ابن مريم فيصلي خلفه"[13].

كل الأحداث والوقائع التي ستجري تباعا وتزامنا مع ظهور المهدي ، تجعل قناعة الناس بدولته أكبر، وتفقد قوى الباطل شعبيتها المزيفة. لأن الناس ترفض بطبيعتها أهل الباطل، وهي لا تنقاد إليهم إلا إذا أجبروها على ذلك الشكل من الاستعباد بقوة البطش والابتزاز. فإذا تحولت سلطة السيف إلى المهدي ولم يعد في أيديهم ما يصلح للابتزاز ، تحول الناس طوعا إلى حكومة العادل وتركوا الباطل بلا رجعة. فتكون الأغلبية خيرة، لأن الأغلبية بإنسانيتها خيرة، وكذلك الأغلبية برسم التهميش والفقر والاستضعاف ستدرك قيمة العدالة الموعودة. وتدرك أيضا أن دولة المهدي سوف تحتكر العنف العالمي على أساس مشروع العدالة الإنسانية. هذا بالإضافة إلى عدالة الإمام التي تضمنها عصمته بوصفها أعلى مدارك العدالة. فلا عدالة فوق عدالة المعصوم. بل إن قومة المهدي لن تكون إلا بعد أن يصبح الناس مؤهلين لاستيعاب أزمتهم وانحطاطهم فتتجه أفئدتهم لنموذج آخر جديد وحاسم. وهذا يتحقق على خلفية تفاقم خيبات الأمل وانسدادات الفكر السياسي وبداية التطلع إلى طريق ثالث حتمي لكنه مستحيل في ما بين يد البشر من مقدمات مضادة. فحينما تملأ حكومة المهدي ثغرات النظم السياسية سيدرك العالم أنه الأعدل لا محالة. بل سيدركون متأسفين أنهم كانوا ظالمين لأنفسهم أو كانوا مخدوعين عبر تاريخ من الجهل والطغيان والانحطاط السياسي. إن حكومة المهدي قد تستوعب كل إيجابيات نموذج المستبد العادل وكل إيجابيات الديمقراطية ، لكنها ستتجاوز كل ثغراتهما. ومن هنا كان لا بد للناس أن يجربوا إيجابيات المستبد العادل والديمقراطيات وأيضا يقفوا على ثغراتهما ليدركوا قيمة حكومة المهدي. فقوة دولة الموعود هي قوة نموذجه. ورعب المهدي هو ضد حراس ثغرات نموذج المستبد العادل وثغرات الديمقراطية التي هي سبب بؤس الإنسان وعامل تدمير للعدالة الإنسانية. ليس فقط أن دولة المهدي هي تجاوز للنظم السياسية الوضعية، بل هي تجاوز للتطبيقات الفاسدة للنظم الدينية وثورة على التحريفية. فهي نموذج مستقبلي وليست نموذجا سلفويا.

ففي غيبة النعمان ذكر رواية التيملي، قال: حدثنى أخواي محمد وأحمد ابنا الحسن، عن أبيهما، عن ثعلبة بن ميمون، وعن جميع الكناسي جميعا عن أبي بصير، عن كامل، عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال: " إن قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا إليه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإن الاسلام بدا غريبا وسيعود غريبا كما بدا، فطوبى للغرباء ".
وكذلك، أخبرنا عبدالواحد بن عبدالله بن يونس قال: حدثنا محمد بن جعفر القرشى، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، قال: حدثنا محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه قال: " الاسلام بدا غريبا، وسيعود غ؟؟؟ ا كما بدا فطوبى للغرباء، فقلت: اشرح لي هذا أصلحك الله، فقال: [مما] يستأنف ا؟؟ اعي منا دعاء جديدا كما دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) "[14].

دولة العدالة ودولة الوفرة

ليست دولة الموعود هي فقط دولة العدالة التي بها تطمئن النفوس وتندك الفوارق الباعثة على كل أشكال الصراع والاستغلال. بل هي أيضا دولة الوفرة الحقيقية القائمة على أساس الوفرة بمدلولها الاستغراقي وليس الطبقي. لقد كانت دولة علي بن أبي طالب هي المجلي الحقيقي للأزمة التي ظهر أن ليس لها مخرج إلا في دولة الموعود. وذلك حينما قال في النهج:

" الله الله في الطبقات السفلى من الناس".

أو لما قال أيضا:" ما رأيت من نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع".

أو لما قال:" ما جاع فقير إلا بما متع به غني"

وقوله:" وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها. وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع".

إن دولة الموعود تؤكد على أن لحل مشكلة الفقر وإدخال البشرية في حالة من الاستقرار المادي والاستهلاك الجماهيري الحقيقي، يقتضي الأمر النهوض بجملة عوامل بدءا بترشيد أمثل لنمط الانتاج وعدالة قصوى في التوزيع وثروة هائلة تكفي حاجيات المستهلكين. فهي تناهض الظلم الاجتماعي في التوزيع والظلم القائم على نمط الانتاج وأيضا تناهض اقتصاد الندرة وتعد بمستقبل الوفرة الاقتصادية للنوع.. ولذا فإنها أكدت على وفرة الموارد وتغيير النموذج وتأمين النفوس واعادة الاعتدال الى النفوس، حيث ان من أسباب اهتزال العدل هو فقدان العدل في النفس وشيوع أنماط انتاج فاسدة سرعان ما جعلت الاقتصاد ينمو بخلق حاجيات وهمية على حساب سلامة الاجتماع والبيئة، فيصبح الانسان خادما للاقتصاد وليس العكس. إن دولة الموعود تخطئ كل التوقعات التي تقررها الهيئات والخبراء في مجال الاقتصاد والبيئة. إن التوقعات تشير إلى تراجع في الموارد الطبيعية . إحدى أهم المؤشرات تؤكد على نضوب مهول في مصادر الطاقة، مضافا إلى ارتفاع معدل التصحر مضافا إلى أزمة المياه وارتفاع الحرارة وتراجع المساحات الخضراء ، وبالتالي تقلص مصدر الاكسجين ، ويزداد الامر سوءا حين الحديث عن ثقب الاوزون والمشاكل التي يسببها التلوث المستدام والتخريب الممنهج للبيئة دون أن نتحدث عن مخاطر الاقدام على حرب نووية. إننا حسب هذه التوقعات أصبحنا أمام مستقبل كارثي للكوكب، فكيف تكون دولة الموعود لا تزال تعدنا ببيئة نظيفة وموارد هائلة كما لو كانت كل هذه التوقعات مجرد هواجس خرافية ليس لها رصيد من الحقيقة. والحق أن الانسان ما يزال بصدد ترميم ما أمكنه من أزماته . حتى أنه ما أن يحل مشكلة حتى يغرق فيما هو أنكى وأمر. ففي الفكر السياسي ما زالت الديمقراطية التي باتت أمل المجتمعات الرازحة تحت نير النظم الفردية والطغيان السياسي، هي نفسها مصدر استغلال لا يزال يحول دون السعي إلى بدائل يفرضها الاحساس بعدم انسداد الآفاق أمام نظم أكثر ضمانا للحرية والعدالة. وكذلك ظلت البشرية في مستوى الاقتصاد السياسي رهينة تصورات خاطئة في تقدير الثروة ورهينة انسدادات في تدبير الموارد البشرية. على الرغم من كل المعارضة التي أبداها نقاد الاقتصاد السياسي ضد النسق الرأسمالي اللاأخلاقي، استطاعت الرأسمالية أن تنتصر في نهاية المطاف ، باعتبارها النظام الأكثر قدرة على الصمود حتى الآن رغم ما يحمله في طياته من أزمات بنيوية. لعل انتصار الرأسمالية على كل مناهضاتها بما في ذلك نقيضها الأشرس ، المعسكر الاشتراكي، دليل على أننا وصلنا عصر الانسداد. اذا كان فوكوياما رأى في هذا الانتصار تكريسا لليبرالية وتوابعها ـ في مقدمتها اقتصاد السوق ـ بعد أن غطى على كل أزماتها البنيوية، فهو لم يفعل أكثر من أن يقدم شهادة على هذا البؤس الذي يشكل ظاهرة عالم يعيش يوما بعد يوم على إيقاع فريد من التفقير. يتساءل كبير الرأسماليين المضاربين جورج سوروس كيف أمكن هذا النظام الاستمرار حتى اليوم. فانهيار " السوق العالمية سيكون حدثا يسفر عن نتائج يتعذر تصورها، ومع ذلك أجد أن تصور هذا الانهيار أيسر من تصور استمرار النظام الراهن"[15].

لم يهزم النظام الرأسمالي المهيمن معارضيه ،على فظاعة توحشه ، لأنهم لا يحملون البديل القادر على الإحلال محله بجدارة ، ولا لأنهم حاربوه بوسائل أقل نظافة منه. بل لعله حاربهم بأقذر ما لديه. من المؤكد أن الأزمات التي واجهت الرأسمالية كادت تعجل برحيلها لولا التدخل السافر للدولة في حمايتها وتمكينها. لم تكن الرأسمالية حقا مساوقة للطبيعة إلا إذا اعتبرنا تشجيعها على الجشع وعبادة المال والنزعة الأنانية هي هذه الطبيعة الانسانية التي تزعم الرأسمالية مسايرتها. وقد صدق جورج سوروس حينما عزى انتصار الغرب إلى أمر آخر غير رأسماليته. ففي رأيه أنه " من المناسب أن نعزو انتصار الغرب إلى حقيقة أنه مجتمع منفتح أكثر من كونه مجتمعا رأسماليا"[16].

لم تستطع الماركسية على الرغم من أنها قدمت تحليلا نقديا للنظام الرأسمالي لعله الأهم من كل النقود، لأنها لم تستطع أن تضع اليد على المشكل الحقيقي، وهو أن النسق الرأسمالي بما أنه نسق متكامل يستطيع أن يحتوي أزماته بما في ذلك الأزمات التي تصورتها الماركسية عللا تامة برسم نظرية الأزمات. هكذا استطاع هذا النظام تحييد أو تعطيل النشاط البروليتاري وصرفه عن فكرة التموقف التاريخي الجذري من النظام الرأسمالي . كما طورت الرأسمالية الكثير من أساليبها ، ما أبطل مفهوم الثورة الشيوعية التي لم يعد لها أي معنى لا سيما بعد انهيار معسكر كامل قام على أساسها. حاولت الماركسية أن تجد الحل في التطور الطبيعي للرأسمالية الذي ينتهي بها إلى حتمية الانفجار. لكن الرأسمالية عرجت على مسارات أخرى جنبتها كل المخاطر التي تكهنت بها الماركسية. الأمر يتعلق بالأثر الأوديبي بالمعنى الذي ذهب إليه بوبر في إبطال النبوءة. إن القيم الأخلاقية الماركسية التي استقوت بها الحركة الماركسية في نضالها ضد النظام الرأسمالي لا يمكن أن يدان بها هذا النظام ، لأنه لم يستدعيها منذ النشأة الأولى ولا يمكن محاكمته بشيء لا يعنيه في صميم النسق. كان لا بد على الماركسية أن تبحث خارج هذه المنظومة عن سند تستقوي به في إعلان ثورتها. لقد استندت على الضمير الداخلي للرأسمالية فيما هي نسق نصب نفسه خارج مفهوم الضمير الاخلاقي في الاقتصاد. ولأن الماركسية نفسها راهنت على الرأسمالية في استدماج كل الانماط الأخرى ما قبل الرأسمالية انتظارا لانسدادها الحتمي. مع ذلك كان للاجهاز على الحقيقة الدينية الدور الأكبر في جعل الماركسية عاجزة عن إيجاد ضامن أخلاقي . يتساءل أندره كونت سبونفيل إن كانت الرأسمالية أخلاقية. سيضطر هذا الأخير رغم إلحاده غير المبرر أن يسلك طريقا كانطيا لإحلال الاخلاق المجردة أو القانون الاخلاقي محل الدين كضامن من خارج النسق لنوع من الاخلاقية ـ ethiqueـ بدل الاخلاق ـ moral ـ. بين الاخلاق كفعل للواجب وبين الاخلاقية كفعل باعثه الحب. هذه عودة مبطنة للقيم الدينية نفسها مع تمثل حالة من خفة اليد. أي خلع كل صفات وقيم الدين على هذا الشكل المثالي من الاخلاق. يعيدنا ذلك إلى النكتة نفسها التي واجه بها شوبنهاور القانون الأخلاقي الكانطي. أخلاق بلا ضمانات. لكن كان رأي هذا الأخير صائبا في فضح انسداد النظام الرأسمالي الذي جعل إنماء الثروة ليس فرصة للفقراء المحتاجين، بل هي فرصة سانحة فقط للاثرياء. أليس هذا هو مبدء بيروث: المال يولد لمال. نعم. وإذن صح قول الباحث:" أفضل وسيلة لكي تصبح ثريا في بلد رأسمالي هو أن تكون ثريا"[17].

نحن أمام تحصيل حاصل. إنماء وحشي للثروة قد يتيح منافذ وفرصا على المستوى الفردي تستطيع أن تتباها بها الرأسمالية المخاتلة لإغراء الغالبية العظمى التي رسم لها سقفا من الاحلام لن تخرج منه أبدا. لكنها الكارثية على المستوى الجماعي. يجب على الأغلبية الساحقة في هذه السوق الداروينية التي تبتلع الصغار والمتوسطين باستمرار أن تتطلع لتعمل أكثر ولكن في الوقت نفسه عليها أن لا تصل إلى مبتغاها حتى لا تتحسن أحوالها لتبرح نطاق الشغيلة.

غياب العدالة وسورة الأزمات البنيوية للاقتصاد الرأسمالي وتكاثر السكان وتراجع الموارد وتلوث البيئة وانفجار وضعية الشركات العابرة للحدود في ظل عولمة جارفة لكل أشكال القوانين التي تحمي نظم التكلفة السياسية والاجتماعية والبيئية، كل هذا يعني أن الفقر هو صناعة رأسمالية بامتياز. إن الانسداد الأعظم لم يطال الفكر السياسي فحسب، بل إننا أمام ضرب كارثي من الانسداد الاعظم في الاقتصاد السياسي. على الرغم من أن تساوي البشر في معدل الاستهلاك الجنوني وتحول الأمم جميعا إلى مصاف الأمم المصنعة الكبرى يظل حلما ساذجا في ظل الشروط المجحفة التي يفرضها النظام الرأسمالي على الدول الفقيرة أو تلك السائرة في طريق النمو ـ ذلك لأن الأمر لا يتطلب كثير تأمل ـ فالفقر والتخلف هو الذي يؤمن الهامش الأمثل للمركز. إننا جميعا جزء ضروري ووظيفي للرأسمالية. فهي لا تقوم بالمركز فقط ، بل تكتمل بوجود هامش مهدور المصير . وهذا الأخير ليس مسألة جزافية ، بل هو صنيعة النسق الرأسمالي الذي بقدر ما يتيح للمركز نموا مضطردا فأيضا يعمل على تأميل تفقير مضطرد للهامش. لكن دعنا نحلم قليلا مع هذا النظام ونسايره في أحلامه تلك. فحتى لو أصبحنا جميعا في هذا العالم مصنعين في مستوى الدول العظمى فإن ذلك سيكون كارثة على البيئة لا تتحملها البتة. إن نمط الانتاج ونوع الطاقة المستهلكة اليوم في هذه الصناعات تنذرنا بمستقبل كارثي. لا يوجد من يخطئ هذه الحقيقة حتى من أولئك الذين يتحايلون للامتناع عن دفع التكلفة البيئية. إن الطبيعة كما يقولون متسامحة تتحمل كل الاختلال البيئي الناتج عن التدخل الخاطئ للانسان وسوء تدبير الموارد الطبيعية. يقولون أيضا إن الطبيعة ستعود لتوازنها متى كف هذا الأخير عن التدخل. نقول هذا مؤكد ما لم يستمر الاستنزاف. ولا ندري هل حقا نحن أمام ذلك المصير أو المستقبل المشترك الذي بشرت به التنمية المستديمة، وهل في سياق هذا التدبير الخاطئ والجنوني للبيئة سنسمح للأجيال القادمة ببعض من هذا الامتياز. هذا حقا لا يهمنا الآن بقدر ما يهمنا الوقوف عند فكرة التسامح البيئي وعلاقة ذلك بالجواب عن وضعية دولة الموعود. لا نريد أن نضع أرقاما لتوصيف الحالة المزرية للطبيعة اليوم ولا ما هو متوقع غدا. لكن السؤال الذي يظل مطروحا: هل دولة الموعود تستطيع أن تفي بكل وعودها في مستقبل ينذر بالمأساة البيئية. قد يكون لفكرة التسامح البيئي قدرة على تفسير ذلك. لكن ماذا لو لم يعد في مكنة الطبيعة أن تغفره للانسان بعد أن تنفذ مواردها أو يفسد مناخها بصورة لا تطاق. هذا إنما يفيدنا، بأن دولة الموعود سيكون لها موعد مع العالم قبل استفحال الوضع البيئي بصورة لا رجعة فيها ولا تسامح. إن الطاقة اليوم تعد بنضوب ، وحسنا أن يكون ذلك سببا في انطلاقة جديدة للبحث عن طاقة بديلة ونظيفة. إن مظاهر دولة الموعود تؤكد على أنها دولة تنعم بآخر مستويات التقنية النظيفة. بل إن كل ما تعد به يؤكد على أنها دولة تخضع لنمط اقتصادي مختلف جذريا، بحيث لا مكان لنظرية التفقير والأزمات وما شابه ذلك. وبالتأكيد لا مجال لأي شكل من أشكال الملتوسية هنا ، ما دامت الموارد ستتضاعف في نموها أكثر من الحجم السكاني . إن دولة الموعود تؤكد على أن الموارد ستظهر بشكل لم يسبق له مثيل. فالمستقبل واعد بالرفاه. لذا علينا أن نتأمل بعضا من تلك الروايات التي تقول مثلا[18]:

ـ أخرج البخاري عن أبي هريرة أن الرسول ـ ص ـ:" لا تقوم الساعة ، حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته. وحتى يعرضه فيقول الذي يعرض عليه : لا أرب لي به".

ـ أخرج الحاكم عن أبي سعيد، عن الرسول ـ ص ـ " يخرج في آخر أمتي المهدي ، يسقيه الله الغيث ، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمة".

ـ روى الصدوق عن الامام الباقر:" القائم منا منصور بالرعب مؤيد بالنصر تطوي له الأرض وتظهر له الكنوز ولا يبقى في الارض خراب إلا عمر".

ـ يروي المجلسي قول علي بن أبي طالب:" ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها ولأخرجت الأرض نباتها ولذهبت الشحناء من قلوب العباد واصطلحت السباع والبهائم حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلا على النبات وعلى رأسها زينتها لا يهيجها سبع ولا تخافه".

ـ يروي الشافعي عن أبي سعيد الخدري عن الرسول ـ ص ـ :"تتنعم أمتي ( في عصر المهدي) نعمة لم يتنعموا مثلها قط، ترسل السماء عليهم مدرارا ولا تدع الارض شيئا إلا اخرجته".

ـ في عقد الدرر عن النبي ـ ص ـ :" وتزيد المياه في دولته وتمد الانهار وتضاعف الارض أكلها".

مثل هذه الروايات ونظائرها فاضت بها المتون الاسلامية، يجب استيعابه خارج اللغة والنمط الحضاري الذي ذكرت فيه مثل هذه النبوءات. فأفضل وسيلة لمزيد من الاستيعاب هو إعادة تأمل مضامينها في ضوء النموذج الحضاراتي المعاصر. إنها قضايا موجهة لنا أكثر مما هي موجهة للأسلاف. ومن هنا فمثل هذه المظاهر تؤكد على أن دولة الموعود غير معنية بالتكهنات آنفة الذكر، تلك التي تنذر بعودة الندرة والتلوث والفقر والمجاعة والمستقبل الكارثي للانسان. إنها تؤكد بذلك على أنها باراديغم مختلف تنتهي معه رحلة الاجتماع السياسي وتقف عنده أيضا محاولات الاقتصاد السياسي. إن المستقبل البشري والاجتماع السياسي الانساني لا يمكن أن يقرأ بصورة إيجابية فيما تؤكده تقارير تنتمي إلى العقل السياسي والاقتصادي الذي بات واضحا أنه لا يملك ما يقوله عن المستقبل سوى ذلك الشكل من التحذير والترهيب. لكن يظل دائما السؤال الذي يطرح و طرحه مشروع، حول إمكانية إعادة تطهير الاجتماع الانساني والبيئة من الفساد في دولة الموعود؟

ندرك أن العملية لا تقتصر على أحياز ضيقة ولا حتى على حيز المؤمنين. الامر يطال الكوكب برمته ومن عليه. لا ننسى أن دولة الموعود هي كونية. وعملية كهذه ليست محصورة ويسيرة، بل هي انقلاب حضاري وبيئي سيجعل العالم أمام نمط مختلف عن كل ما سبقه. إنها ثورة الانسانية المنتظرة بقيادة الموعود. قراءة الاخبار في شموليتها تؤكد على أن ارتفاع معدل الأمن إلى أقصاه وغياب الندرة ونهاية سلك الأزمات البنيوية في الاقتصاد وشعار دعه يعمل دعه يمر الذي لن يظل كما في النظام الرأسمالي شعارا لطبقة من المتنفذين وأيضا ليس شعارا يتحلل به المستثمر من كل التزاماته الاجتماعية والاخلاقية..كما يؤكد على ارتفاع في مستوى التحسن البيئي ونظافة وسائل الانتاج وتغيير نمط الاستهلاك وكل هذا مع وجود عدالة كافية لتوزيع الثروة بالقسط، جدير بخلق مناخ صحي لانطلاق اقتصاد كبير وتحقق قدر هائل من الوفرة للنوع.

ثمة كما أكدنا تحولات جذرية ستطال الثقافة والأنماط. وهي كما يظهر من الاخبار تتحدد في:

ـ أنماط استغلال البيئة:

يتقوم النمط الراهن في شكل ضار من الاستغلال للبيئة بلغ ذروة الشطط. والمسألة البيئية اليوم والتقارير التي تطلع علينا ليل نهار دليل كافي على أن الأمر لم يعد يتحمل مزيدا من الاستهتار.لا سيما وأن معدل أوكسيد الكاربون يتزايد بصورة جنونية مهددا البيئة وهو مسؤول عن درجة ارتفاع حرارة الارض والتأثير السلبي على طبقة الأورزون وما ينتج عن ذلك من فيضانات وحرائق للغابات والتصحر...في مقابل ذلك تنهض دولة الموعود على سياسة مختلفة وجادة في هذا المجال، قوامها: الاستغلال الأمثل للطبيعة والاستغلال الأنظف للطاقة.

إن استغلالنا للطبيعة لا زال ضعيفا للغاية بحيث لا يغطي الطلب. ومثل هذا لا يشكل أزمة حقيقية في نمط الانتاج المعاصر طالما أن معضلة المجاعة لا تصيب إلا الطبقات السفلى من المجتمع أو المجتمعات الفقير في العالم. فأنماط الانتاج الراهنة ليس فقط أنها تواجه مشكلة تقنية في تأمين الطلب الحقيقي للنوع، بل إن السياسات الانتاجية تفرض عبر سلطة الاحتكار أن لا يتم البحث عن بدائل لا في التكنولوجيا ولا في أنماط الانتاج ، من شأنها أن تهدد بنية الارباح والامتيازات التي تحرسها سياسة الاحتكارات الكبرى.

ـ أنماط الاستهلاك:

اذا كان نمط الاستهلاك اليوم هو تعبير عن منتهى غياب ليس الاخلاقية فقط عن الاقتصاد بل العقلانية التي طالما بشرت بها السوسولوجيا الحديثة . لقد تجاوز نمط الاستهلاك المعاصر كل الحاجيات الحقيقية للانسان، بل كدنا نرى انقلابا في سلم المقاصد العقلائية للنوع، منذ أصبح الانسان برسم الاستهلاك الجنوني اليوم يستهلك من السموم والأزبال ما يعرض الصحة العالمية لوضعية حرجة. لم يعد في معايير المستهلك أن ثمة ضروريات يجب أن تفوز بالمقام الأول في الاعتبار. فالتحسينيات استوعبت باقي القيم ، لا بل إننا أصبحنا أمام شكل هجين من الضروريات؛ ضروريات وهمية تنتج باستمرار، تؤمن صيرورة الاستيلاب الامثل للانسان، تجعله كائنا عاجزا عن وجود ذاته واستقلاله ومعناه خارج هذه الدورة العدمية للاستهلاك اليومي. يحدثنا طويلا جون بودريار عن هذه الحقيقة بصورة أكثر كاريكاتورية، حينما يحاول أن ينجز تشريحا لما يسمى بـ"homo oeconomicus". الحكاية مصاغة كالتالي:

" كان في وقت ما انسان يعيش على سبيل الندرة. ومن خلال العديد من المغامرات والأسفار عبر العلوم الاقتصادية التقى مجتمع الوفرة. فتزوجا وأصبح لهما الكثير من الحاجيات"[19].

هذه الجمالية نفسها التي كان يتمتع بها الاموـ ايكونوميكوس، كما تغنت بها الحكايات الكلاسيكية لم تعد موجودة في هذا المناخ الجنوني الذي تحول فيه الاستهلاك من أمر نحدده ونبحث عنه إلى أمر مفروض في الصيرورة المحتومة لهذا النمط الاستهلاكي الذي منح قوام الكوجيتوا الجديد: أنا أستهلك إذا أنا موجود. بل أصبح الأمر غاية في التفاهة: أرني قمامتك أقول لك من تكون. الاستهلاك للاستهلاك، تلك هي عقيدة شخص آخر يبشر به هذا النمط الخطير من الاستهلاك ، أعني ما أسميه بالكائن الأونطو ـ ميتري. كناية عن كائن تتحدد أنماطه ومصائره بحسابات الانتاج والربح والخسارة والعرض والطلب. كائن تحدد ماهيته قبل وجوده، بل يبرر وجوده باكتمال ماهيته وقابليته للاندماج في دورة اقتصادية لا وجود لبداياتها ولا لنهاياتها. إنها دورة لا تقبل إلا بالمسوخ.

إن دولة الموعود بما أنها تلخص آمال البشر ومتطلبات الرشد البشري، كفيلة بإحداث هذا الانقلاب الأعظم في نمطية الاستهلاك. هذا أمر ممكن جدا ما دام أن هذا النمط من الاستهلاك هو الابن البار لنمط الانتاج والنسق الرأسمالي المتوحش نفسه. وهذا سيعد بعودة العقلانية في الاستهلاك يتحرر بموجبها الانسان من سطوة التشيء والاستيلاب. حيث يصبح الاستهلاك تعبيرا عن حاجيات حقيقية وعقلانية لا مجرد انخراط في دوامة غير معقولة من الاستهلاك للاستهلاك. ويتقوم ذلك أيضا بتخليق الاستهلاك، وهو ما يجعل الاستهاك أيضا في خدمة الانسان ويعزز ماهيته ككائن خلق للتسامي العقلي والروحي وليس كائنا يبحث عن منتهى متعته في متاهة الاستهلاك والتشيئ والاستيلاب كما تتحدث اليوم فلسفات الانسان. ولعل القواعد المنظمة لهذا النمط التخليقي من الاستهلاك هي :

ـ لا تستهلك إلا ما كان ضروريا حقا أو حاجة تجد فيها كمال العقل والروح وسلامة البدن..

ـ لا تستهلك للاستهلاك..

ـ لا تستهلك ما فيه فساد البدن والروح والعقل..

ـ لا تستهلك ما ليس في مقدور أغلبية الناس استهلاكه..

هذا القدر من المحددات لا يتحقق إلا في ظل دولة الموعود لاكتمال أخلاقها ونمو مداركها العقلية والروحية. إن ما تكشف عنه هذه الدولة من خيرات لا يعني أن الاستهلاك أضحى أكثر جنونية. بل إن الانسانية يومها مشغولة فيما هو أعظم من ذلك. أعني ذلك المعنى الانساني السامي الذي يجعل الناس تكتفي بحياة التقشف رغم الوفرة، لأن ما سيأتي به الموعود ليس مجرد كنوز لن يجد لها طالبا من فرط فائض الانتاج، بل قيمة ما سيأتي به أنه سيحرر الانسان من مقولة أنطوان مونتكرتيان :" إنما الانسان ولد لكي يعيش للعمل المستمر والاحتلال" إلى المعنى الأسمى للانسان بوصفه خلق لعبودية الخالق لا لعبودية القطاع والعمل في ظروف مزرية. كما خلق لتعمير الأرض لا للاحتلالات الجائرة التي تستعبد في طريقها الأمم وتخضع لقوانين التخليف والتفقير. أجل إن زمان الموعود زمان مختلف، وذلك لأن أنماط السلطة ستشهد تحولا جذريا. لا عجب في ذلك إذا تأملنا قولة لجده علي بن أبي طالب في النهج:" إذا تغير السلطان تغير الزمان".

وعليه ستكون دولة الموعود خاتمة المطاف في تاريخ النوع وليس بعدها من نموذج جدير بالانتظار. إنها نهاية تاريخ الاجتماع السياسي والنموذج المأمول. ذلك هو الحد المعروف من مستقبلنا المشترك.

ختاما:

لدي شئ أقوله في نهاية هذه الورقة: إن البحث عن حلول لإنسانيتنا من داخل صيرورة الهدر التي يفرضها النسق المتغلب في حياتنا هو أمر مشروع ومطلوب لإيجاد ما هو أمثل دائما من داخل النسق. لكن هذا لن يحل مشكلة البشرية المتأرجحة في أزمات بنيوية. قد يتراءى للبعض أننا نحلم ، لكن حلمنا هو واقع مؤجل يملك من المسوغات والضمانات أكثر من أي خيار آخر. إن ما بين أيدي الناس اليوم سياسات واقتصادات لا تملك إلا أن تصنع الجور والفقر، ولا تملك إلا أن تنذر بمستقبل مظلم وكارثي ملؤه الرعب واليأس. وأمام هذا القدر المحتوم لأنظمة سياسية واقتصادية، ليس أمام البشرية المعذبة إلا أن تحسن الإطراق والسمع لذلك النداء الذي لا يحمل سوى بشرى جميلة للاجتماع الانساني. وإن دولة الموعود حتما لن تحرر المظلومين من شخوص ظالمين فحسب، بل ستحررهم من نموذج ظل فيه الظالم والمظلوم كلاهما ضحية نموذج فاسد ، جعلهما حقا في حاجة ماسة إلى ذاك المخلص.

------------------------------------------------------------------------------

[1] ـ انظر الحوار الذي أجراه كاتب السطور مع فرنسيس فوكوياما: نهاية التاريخ بعد مرور أكثر من عقد على إعلانها، مجلة الكلمة ، العدد 47 ، السنة الثانية عشر 2005 ، بيروت

[2] ـ أديب ديمتري، دكتاتورية رأس المال، ص 41 ،ط1 ـ 2002، دار المدى، دمشق

[3] ـجون غراي، الفجر الكاذب،ص7 تـ أحمد فؤاد بلبع، ط 1 ـ 2000، المجلس الاعلى للثقافة ومكتبة الشروق/القاهرة ـ كوالالامبور ـ جاكرتا.

[4] ـنعوم تشومسكي، سنة 501، الغزو مستمر، ص 171، تـمي النبهان ، ط2، دار المدى، دمشق 1999

[5] ـ المصدر ، ص 16

[6] ـ نور الأبصار للشبلنجي ج 2 ص 155

[7] ـ بعض الانبياء أو الاولياء حكموا بالواقع ولكن في مهام محدودة وفي ظل الغيبة مثل الخضر عليه السلام. لكن الامام المهدي عج سوف تكون تلك خاصية حكومته الظاهرة والدائمة والشاملة.

[8] ـ تؤكد بعض الأخبار أن المهدي سيأتي فيما سيأتي به، بقضاء جديد. ولعل من أبرز مظاهر جدة هذا القضاء ليس محتوى العدل ومضمون الحقوق التي هي مدركة لكل البشر مولويا وإرشاديا وشكل على مدى قرون مقاصد بها يتقوم ضمير لاقانون نفسه ومفهوم العدالة. لكن ما هو جديد كل الجدة في قضاء المهدي ، أنه سيحكم بعلمه لا بالظاهر، وسوف يحل مفارقة القانون الظالم، ذلك القانون الذي يطبق بصورة متوحشة على من لا يملك أن يدفع عنه ظلم تطبيق العدالة بخلاف الواقع. إن قيمة التطبيق القانوني في عهد المهدي ليس في التطبيق المجرد بل التطبيق المشروط بالمطابقة الحقيقية للواقع ، ليس لأنه وحده من أدرك الواقع ، بل لأنه مأمور بتنفيذ الحكم الواقعي. وهذا أبرز عنوان الجدة.

[9] ـ بحار الانوار ص 52 ج 339

[10] ـ الغيبة ، الطوسي ، ص 382

[11] ـ تؤكد الأخبار على أن من المحتوم ظهور النداء أو الصيحة من السماء. وقد نفهم نحن الحدثاء أن مثل هذا الحدث معقول جدا في زمن الاتصالات والفضائيات التي تبث أخبار العالم بمختلف اللغات.هذا ما يزيده وضوحا كلام للامام الصادق ، حينما يعتبر أن كل قوم سيسمعون النداء بألسنتهم. ويزيده الامام الصادق وضوحا أكثر ـ وإنه لعجيب أن كلما بدا غريبا على القدماء ازداد وضوحا عند الخلف ـ لما ذكر بأن قائمنا إذا قام مد الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يرون بينهم وبين القائم بريد يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه.ونظائر ذلك كثير

[12] ـ كنز العمال، ص 261 ج 2

[13] ـ فرائد السمطين، الجويني ص 312 ج 2

[14] ـ غيبة النعماني ص 321 تحقيق: على اكبر الغفارى

[15] ـ جون غراي، الفجر الكاذب، ص 7

[16] ـ جورج سوروس ، خرافة التفوق الأمريكي، ص92 ، ط 1 2006، مطبعة فضالة / المحمدية ـ المغرب

[17] ـ اندره كونت سبونفيل، هل الرأسمالية أخلاقية؟ ص 78 ــ تـ: بسام حجار، دار الساقي ، ط1 ـ 2005 بيروت

[18] ـ لمزيد من الاطلاع انظر السيد محمد الصدر ، تاريخ ما بعد الظهور ، ـ بيروت ص 542ج 3 ط 2 ـ 1987 ، دار التعارف للمطبوعات و السيد القزويني ، الامام المهدي من المهد إلى الظهور، ص399 ، ط1 ـ 2005 منشورات لسان الصدق ، قم المقدسة

[19] ـ jean baudrillard, la societe de consomation : ses mytes ses structure ,p93editions denoel,1970

 

 النظرية المهدوية و صناعة التاريخ

 

أمام التلوينات المختلفة والمتخالفة للفكر، وأمام المنطلقات والمعايير التي تفصل بين الغرب والإسلام، وأمام ما احتوت عليه قيم الحداثة المتمحورة حول العقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، يمكننا على كل حال، ضرورة استيعاب الدينامية الداخلية والخارجية لمختلف المفاهيم التي تعمل على تحريك صيرورة المجتمع في اتجاهه العمودي والأفقي، ولكن هذا التعاطي لا نجده مجديًا في مجتمعاتنا، للإنعزالية والانزوائية التي تخترقنا وتخنقنا، لانقساماتنا والمجاهيل التي تسد طريق الإبداع والتفكير، وفي هذا المقام تتطلع التجربة المهدوية إلى طرح جزئي تعاود قراءة القيم في استعادة أمل قد همشناه، وبكل خطواتها الجريئة التي تعتمد على الإصرار والوثوق، وإتيانها لخطة المستقبل بكل أبعاده الاستشراقية، قصد التغيير الذي يحمل في طياته معنى الخلاص والنجاة من الأنظمة القهرية الاستبدادية، وتفشي حالة الإحباط والخوف التي ازدادت رسوخًا. فكرست انتهاك حقوق الإنسان واحتكار الديمقراطية والتسلح. وأصبحت الحياة بلا معنى في مجتمع يفتقد وجوده ورغبته نحو الحراك والانجاز، فكان مصبها هو اجتراح منافذ وأدوات من أجل التغيير، ومن المسلم به أنّ الإنسان لا يمكن إحداث تغيير في الحياة والأحياء والوقائع ما لم يتغير هو أولاً، قصد البحث عن مركزية للتمركز.

فهل باستطاعته التجربة المهدوية أن تزعزع هذا التمركز ؟

وهل بإمكانها إعادة صناعة التاريخ ؟.

ولدراسة هذا الإشكال قسمنا البحث إلى :

- مقدمـة.

- المبحث الأول : التجربة المهدويّة المنطلقات والمعاييـر

- المبحث الثاني : المستوى لمعرفي لقراءة التجربة المهدوية.

- خـاتمة :

- البحث الأول : التجربة المهدويّة المنطلقات والمعاييـر

مثلما ننتمي إلى العالم، فإننا ننتمي إلى نصه، ومثلما ننتمي إلى تاريخنا، فإننا ندخل في نصه، والدخول لا يعني بلا وعي، بل الوعي الذي يستحضر جميع المفهومات التأويلية للظاهرة التّي نتحدث عنها، كما لا نتقبل دون أن نثير تساؤولات حول عمق هذه التجربة، ومدى حساسيتها، وتجليها، وشهودها على جميع أنماط الوجود.

إنّ الحديث عن المهدويّة كنظريّة، وعلى فكرة الخلاص كمضمون لها، هو الحديث عن تحدي، للذات، وتحدي للموضوع، وهذا التحدي هو استرجاع للوعي قصد نقده، وتفكيكه وتأويله، لكي يتسنى لنا تطويع مختلف الإرادات والممكنات حول هذه التجربة وتميزها عن سائر التجارب في الفكر العالمي.

كما أنّ هذا التوجه يدفعنا إلى فهم الفهم الذي يجليه العقل الحصيف كما يقر ديكارت لأنّ المشكلة تتعلق بين الجزئي والكلي، وبين العام والخاص، وبين الفاضل والمفضول، وبين الصالح والأصلح، وفي هذا المقام يتحدد دور الفعل التاريخي الذي يدخل في صناعة الأوضاع وإعادة بناءها وتوجيها من جديد، في ظل غياب من يدفع الأمة إلى الحراك، قصد تحمل المسؤولية أو النيابة عنه، وبالتالي البحث عن خطاب جديد يتضمن تأطير الأفراد وتوجيههم نحو أدق القضايا المصيريّة والقضايا الوجودية الكبرى، التي تتمركز حول الحياه والموت والعالم، وكذلك حول معنى إنسان وعلاقاته بالمتعالي. وما وراء العالم، وبالتالي البحث عن شكل من أشكال الوعي الذي يعكس في مكانه مطالب للخلاص سواء كانت فرديّة، مثلما يتجلى الأمر في مشاريع الحركات الإصلاحية والتي كانت منطلقاتها صوفية روحيّة كتجربة المهدي بن تومرت، والأمير عبد القادر الجزائري، وتجربة رئيس حزب الله الشيخ حسن نصر الله، أو يكون هذا الوعي في صيغته العامة يبحث عن بديل غائب في غائب لابد أن يكون دافعًا للتعبير عن روح زمنه، ولكي نلتمس منه الأسئلة والأجوبة في الوقت نفسه، أمام التحديات التي تطرحها كبرى القضايا المحلية والعالميّة.

إنّ الموضوع كما يرى هيدغر، لا يمكننا أن نرغمه من جانبنا على المجيء، حتّى في أفضل المحالات، حتّى ندركه ونفهمه بعمقٍ، كما لا ننتظر، حتّى يتوجه إلينا، وهذا الانتظار ما هو إلاّ نسق التأمل الباطني الذي مستقر الكثير من الذوات، كما لا يعني التلمص والابتعاد عنه بل الانتظار(*) هو التفكير في جميع الجهات والممارسات التي تخدم المجتمع، وبالمصلحة التي يقتضيها الدّين، كما لا ندخله أي - الانتظار- في شراك التعطيل، حيث تتعطل جميع مصالح الفرد والمجتمع، في الوقت الذي أصبح العالم قرية واحدة، يشهد عليها الانفجار الرقمي والمعلوماتي.

- ليس هناك فهمًا خالصًا أو رؤية للتاريخ، دون الإشارة أو الإحالة إلى الحاضر، بل إنّ فهم التاريخ ورؤيته لا يتمان أبدًا إلاّ من خلال ذلك الوعي الذي يقف في الحاضر والذي عبر عنه هيغل على أنّه : (البحث الذي لم يعد يعرف شيئًا يعلو على يقينه الباطني أو اقتناعه الذاتي، فنحن إزاء ذاتٍ قد تحللت من كل واجب محددٍ يمكن أن تكون له قيمة القانون، لأنّها قد أصبحت تملك من قوة اليقين الذاتي ما يجعلها تتصف بأعلى صورة من صور بالاستقلال الذاتي) ([1]).

ولكن أين صورة الاستقلال الموضوعي الذي تتلاقى فيه كل قيم التغيير والتحويل
ما دام الغائب لم يشهد شهوده ؟ أما أننا نؤجل البحث في هذه النقطة إلى حين ؟.

- إننا نسعى بلا شك إلى البحث عن سر تغيير السنن التاريخية التي تحيلنا إلى تقييم الوضع السوسيولوجي من خلال الوعي الذي يقف في الحاضر، والذي يعبر عن وجود إنساني مهموم يسعى إلى تحقيق إمكانيات في الوجود، حيث ينتج هذا الهم ثلاثة تراكيب :

1. هم يتحقق ممكنات : المستقبل الذي يجرى ترقبه، الأمل المنشود لكسبه.

2. هم مما يتحقق ممكنات : الماضي الذي يستبق في صورة مشرقة يطفئ نيران الحقد
والكراهية.

3. هم بما يجرى تحقيقه من ممكنات : الذي يتشكل في الحاضر، فيساءلنا ونساء له عمّا ينبغي أن نفعله في لحظة تظل مرجعية الفعل المشخص مهددة بالجمود، وبالتالي سقوطها في اغتراب موهوم واستغلال محسوب، فتصبح العلة التي تسقط الرمز، كما أنّها الفيروس الذي سيهدد المعنى والغيب، وبالتالي يتحول الدين في مشروع المهدوية إلى قيد وسجن وإلى فخ ومأزق، وداءٍ ووباء([2]). وفي هذا الصدد يتساءل الإمام الخميني.

لا يوجد نص على شخصٍ معين يدير شؤون الدولة. فما هو الرأي إذن ؟ هل تُترك أحكام الإسلام معطلة. أم نقول أن الإسلام جاء ليحكم قرنين من الزمن ثم يمهلهم بعد ذلك.

ولكن عندما يعجز الانتظار عن الاستقرار على مستقبل محدد، فإنّ الحاضر يخال نفسه ممزقا بين سقطتين، سقطة ماض راح، وسقطة الحاضر النهائي الذي لا يوقظ أي حاضر، حتّى ينعكس، وهو ينقسم على نفسه، الشيء الذي يمكن أن يحوي دلالات حاضرنا الكبرى([3]).

- علينا إخراج النظرية من طابعها العام وإدخالها في عمقها الذري النووي، لكي نتجنب التناقض الحاصل بين الفكرة والشخص، حيث يتوسع الاختلال عندما يكون عالم الأشخاص هو الذي يحدد ويستقطب أوجه النشاط الثقافي، وأن يكون شخصٌ معين بصفة خاصة، وبالتالي نغوص في اختلالٍ جوهري، يجذب لصالحه جميع الروابط المقدسة فنغوص من جديد في عبادة الوثن دون الفكرة ويسقط الإصلاح الذي دخل معركة دون ردار([4]).

نتيجة للاصطدام الذي سيحدث داخل المنظومة القيميّة العليا، وعدم الانتظام والتوافق سيساهم في صياغة سلوك الفرد العام والخاص، والذي ينفلت في عالم الأشخاص وينعكس جذريا على عالم الأشياء ومتغيراتها، فينكشف الخلل والعجز الموجود بين هذه العوالم الثلاث والتي أخلتنا في أكبر الأزمات خلال العقود الماضية، وستدخلنا الآن إذا لم نعي بقاعدة وإستراتيجية هذه العوالم الثلاث. حيث يتولد انهيار في المنظومة الاجتماعية، وخلخلة في البنيّة الاقتصادية، وانرواءً في المرجعية العقدية، واستلاب في الحقوق المدنية، وارتداد في المواقف السياسية، وضعف وعجز في مواجهة وإدارة الأحداث.

· وكما يقول برهان الدين عليون : « لا تعود المشكلة هي : كيف نحمي أنفسنا من الثقافة الأجنبية، إنّما كيف نستوعب الحضارة من أفق ثقافتنا وانطلاقًا من أطرها ومنطلقاتها الذاتية، أي كيف نعزل الحضارة العالمية عن مسبقاتها المرجعية الخاصة بالمنطقة التي دفعتها في مرحلتها الأخيرة، وكيف نتمثلها في أطر ثقافتنا الذاتية. أي كيف نصبح نحن مركز الحضارة) ([5]).

أو بتعبير آخر كيف نزعزع اللوغوس فنمتلكه دون أن يمتلكنا ؟ .

- لا مراء أن هناك جانبا لا يمكن أن نغفله، هو أن ننظر للفكرة على المستوى الوجودي القيادي، وفي بعدها المتعالي الذي يمنح الفرد وجوده الحقيقي، ليس كما وصفه دوركايم على أنّه يفكر من خلال عقلٍ جمعي، ولا كما وصفه كانط على أنّه المنعزل الذي يفكر في عزلة صوريّة خالصة، لكنه الإنسان الفرد والنموذج المتميّز الذي وصفه مانهايم على أنّه الإنسان المشخص، الإنسان في موقف، الإنسان المرتبط بوجوده السوسيولوجي العام، أي أنّه ينظر إلى الفكر الإنساني في استجاباته وصراعاته، في سكناته، وحركاته حين يواجه موقفًا من المواقف التي تصادفه أو أزمة من الأزمات.

· ومن هذا المنطلق يتحدد دور الفرد، أو الإنسان العظيم، الإنسان الممتاز الذي يتولى ويتصدى لمهمة متعددة الجبهات، والذي لا يخرج عن نطاق الزعامة التي تدفع المجتمع نحو الحراك والتحول، بواسطة هذا القائد الكارزمي الذي يجسد اجتماع الناس حول

قضية مشتركة، آنية وحساسة، حيث يكون مجسدًا للأدوار التالية :

1. الـدور الـرحماني : باعتباره آية الرحمة حيث يجسد سلطة الخلاص سواء خلاص فردي أو جماعي، إذ ينزوي الأمر في إنقاذ البشرية وتحقيق المجتمع المنشود أو البشرى المنتظمة والمنتظرة.

2. الـدور المعنـوي : يتركز البحث في أسس النجاح وكيفيات تحقيقه في جميع الميادين سواء داخلية أو خارجية (مناهضة المشروع الأمريكي واليهودي في المنطقة، المؤدي إلى كفالة لنصر مصداقا لقوله تعالى : } إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ {.

3. الـدور التغيـري : أن يقود التغيير بمفهومه الإيجابي، باعتباره حامل رسالة، وصاحب مشروع، على كل براثن الظلم والاستبداد، ومن ثم فهو المنتظر المصطفى، فتتنامى النظرية جماهريا وطبقيًا ودينيًا وحتّى عسكريًا ، تحمّله في نهاية المطاف إلى تغيير الأوضاع وتحولٌ في الاستراتيجيات. تتحول بمقتضاها العلاقة بين الحاكم والمحكومين([6]).

- وفي هذا التاريخ، تطمح المهدوية إلى مجتمع يسود فيه قيم الحرية والعدالة وهي غاية الغايات بعيدة كل البعد عمّا بناه أفلاطون في الجمهورية، والفارابي في مدينته، وبالتالي الخروج من الفكرة الطوباوية بحيث يجعلنا هذا الخروج نعتنق الفعل في مضمونه وأهدافه إلا في شخصه وهويته.

ولأنّ الانتظار أملاً بالنسبة للإنسانية فإنّ الشرط الأساسي والمهمة الأساسية، هي إقامة مجتمع مدني يدير الحق بصفة كونية عادلة، في ظل ما يتعرض له من تهديدات القمع المرتبطة بفكرة التاريخ الكوني الذي يعلن عن قراءة جديدة لمسألة البدايات والنهايات.

- والأرجح في إمكانياتنا المعقولة والمحدودة في إطار هذه التجربة، أن نجد أنفسنا أمام تحديات وانتقادات ينبغي الاضطلاع بها، فلا فائدة ترجى من البحث في الواجب عن قاعدة استطاعتنا وقدرتنا، وإذ ذاك نظّل سجناء خطاب (...) يدعنا في الغالب عاجزين ممزقين، متذبذبين في إقرار الأحكام، فليس ما هو كائن هو الذي يحدد استطاعة الفعل بل إنّ استطاعة الفعل هي التي تحدد ما ينبغي أن يكون([7]).

وهذا ما يشير إليه بول ريكور إلى كون مجيء أنظمة استبدادية، قد تكون أفضح

وأشرس، بحيث لا تنفعنا العقليّة الطوباوية التي تدفعنا إلى الهناك، بقدر ما ينبثق خطاب أحمق
متحذر في الأصولية الدمويّة المغرقة، والتي تضع المجتمع في بركة دماء، نجد خلالها الوعي قد انصبَّ في المخيال، يزعم الفكر من جديد على أن يتقبل واقع غائب عنا، والذي يكون حتمًا أفق الانتظار([8]).

ومن الثابت أنّ الانتقادات، سوف تدخلنا في استثناءات، لطالما شكلت العائق الذي يعوق الفعل، لكن نفترض ووفقًا لتعاليم المهدوية أنّ هذه الاستثناءات ستكون بمثابة التحديات الأساسيّة للظاهرة التي يمكن درسها، وبالتّالي ستنطوي على جهدٍ وعمل وتضحيّة تخضع أحيانًا للتصعيد وأخرى للمصالحة منبثقة من تلك الروح الخالدة التي سيعاد تخليدها من طرف التاريخ والذي سيعلن عنها.

- هكذا نتفادى ونتدارك الكثير من المتناقضات، قصد اجتراح الإمكان، لتغير موازين القوى، وقلب المعادلات، وللإنتاج النماذج، وتغيير الأدوار، التي لا تدخل فقط ضمن نسق المعطيات ولكن ضمن القدرة التي نفقه معناها، إلاّ إذا تلازمت مع المجتمع الذي يحمل في جوهره مختلف أنماط الوعي، كنمطي الاعتقاد والتصور، فيتجلّى في صراع تكشف عنه الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية وحتّى العقائدية، مقارنة مع القوى المؤثرة في المجتمع، سواء عُولج هذا الصراع من منظور حركة التاريخ. أو من منظور المجتمع الواحد، والذي يبحث عن مشروعيّة السيادة. لطرح بناءات القوة والسيطرة الواجب تحقيقها إعلانًا عن ميثاق جديد، ميثاق المجتمع القوي والسعيد والمهيمن([9]). الذي يتحكم فيه القائد الكارزمي بالطرق أو بالمعاني السيكولوجية. فضلا عن الإيدولوجية، التي سيسيطر بها على المجتمع، وكذلك المعتقدات التي تصاحب تغيرات سريعة دون أن تلجأ إلى تحطيم وحدة المجتمع.

- هذا ما تعكسه فكرة الزمان، أو الإحساس به، حيث لا نجد أنفسنا نتكلم عن زمان

خارج جدلية الوعي والموضوع الخاص به، لأنّ الرتابة العقلية لا تفيد الخضوع لواقع حاصل ولا الإذعان للأشياء، على الوجه التّي هي عليه، إنّما بمثابة القوة الكبيرة المتجلية في قوة الرفض، الناتجة عن الحرمان.

· فكيف يتم إذن هذا الرفض في معايير ومنطلقات التجربة المهدوية ؟.

إن الهدف الأساسي هو البحث عن إنسانية الإنسان، بواسطة الثورة التّي تعطي للإنسان مفهومه الحقيقي، كفرد واعي لتاريخه، ووجوده، والثورة لا يمكن أن تحقق أهدافها إلاّ إذا انطلقت من معايير حقيقية للتغيير تعكس للإنسان صورته وحركته في الحياة، ترى في الإنسان الكامل أو المجتمع الكامل، هذه السيرورة المتحركة، لأنّ الفعل الإنساني هو الجوهر الحقيقي لكل العمليات التاريخية، وأنّ التاريخ في عمقه هو تاريخ أفكار ومعارف، حين تنحذر بالرجوع إلى الشروط السوسيولوجية، بالمقارنة مع الحالة التّي تنتج، عنها سواء كانت سلبية أو إيجابية (الهزيمة العربية مع إسرائيل، والحرب العراقية أكبر دليل على ذلك).

ويرى عبد المجيد النجار أنّ الضمان الأكبر لنجاح حركة التغيير أن تكون مستندة إلى سند عقدي إيديولوجي، يقوم على تنظير عملي، ويعتمد الحجة العقلية، فتكون الملهم الأساسي لمحتوى الحركة في مسارها العملي حينما تصطدم بمشاكل المواقع([10]). فتمنع الفعل قدره من التأثير إعلانًا للعودة، وخروج المستبعد من دائرة اللاشعور إلى دائرة الشعور، وهذا ما يقربه هيغل، في كون الفعل (تحريك للساكن، وتحقيق في الخارج لما كان في البدء محبوسًا داخل قوقعة الإمكان وربط بما هو لا شعوري بما هو شعوري، أو لما هو غير موجود بما هو موجود) ([11]).

- وإذا كانت النظريات الغربية بكل توجهاته سلبية تريد أن تزعزع الفرد المسلم والمجتمع المسلم، عن كيانه، قصد إضعاف الدولة وإرهاقها، بتحريرها من كل ما هو إنساني لضرب الإسلام بصفة أدق، في سياق معادلة الخير والشر، واعتناق سيدها بوش تعاليم، الإنجيلية الصهيونية. إعلانًا عند حرب صليبية ثالثة، تعلن عن ميلاد حرب الحضارات، أبطالها مصطلحي المقاومة والإرهاب، ومضمونها الخلاص(*) في ضوء عولمة العالم وأمبريالته، سواء من جانب حقوق الإنسان، أو حرية التعبير، أو حرية التملك والامتلاك . إعلانا عن نهاية التاريخ في قطب محدد ، أو محورٍ، يملك التأشيرة لسيطرة والاحتكار.

وإذا كان هذا، تاريخ الكمال، من منظور الغطرسة الغربية والبلطجة الصهيونية في احتكارهما للتاريخ، وصنعه في مؤسساتهما الأكاديمية والعسكرية، فكيف تصنع المهدويّة التاريخ ؟ وهل بإمكانها ذلك ؟.

- إذا تأملنا في مصطلح الـ م. هـ. د. و. ي. ة (المهدوية) من حيث دلالتها اللغوية، فتعني الاهتداء إلى ما هو أليق وأنسب في التفكير، وإذا ما تأملنا من الناحية المنهجيّة، فهي الانتقال من الآنا أفكر إلى الآنا أقدر، إلى الآنا أقاوم.

هذا النموذج هو الكفيل لمواجهة التحديات أمام التحولات الجديدة التي تطرحها ساحة الوقائع والأحداث، والسعي المتواصل للبحث عن مشروع جديد، يكون قوامًا للأمة وحراكها، وفي الوقت نفسه لتستعيد هيبتها ومكانتها، في ظل الطموحات والرؤى الإستشراقية التّي يطمح إخواننا الشيعة في تحقيقها. لامتلاكها قوة الخطاب، الذي سيكون السبيل الوحيد والخيار اللازم، للخروج من مقامات التنظير المجرد، الذي يساهم في تظليل الإستراتيجية المتوخاة لمجابهة التحديات التي قد تطرح مضاربات تعكّر من صنع الهدف ومن قيم الغاية.

· وإذا كان التاريخ يعيد نفسه، فكيف يعاد في طيات هاته التجربة ؟.

- المبحث الثـاني : المستوى المعرفي للتجربة المهدويّـة :

- أولا : الإستراتجية المعرفية والبحث عن مجتمع المعرفة :

1. من خلال البحث عن نظرية جديدة تمتاز بالشموليّة والموضوعيّة، تهدم كل البنيات السابقة، التي بنتها النماذج الغربيّة، سواء كانت تتعلق بالقيّم الروحيّة،
كالداروينيّة، والنتشويّة، أو تتعلق بالقيم الماديّة، كالماركسية، والرأسمالية، أو بالنتظيرات الوضعية، كتعاليم هوبز وروسو، ولوك.

2. الإنتقال من المرحلة المتلقية إلى المرحلة الإجتهادية الإبداعية لخلخلة المفاهيم والمصطلحات والنماذج، لتعرية ما هو كامن، سواء من جانب المغالطات أو من جانب الإبهام والتضليل (لأنّ اللّغة ليست أداة تواصل فحسب وإنّما هي وعاء للتفكير، فاللغة برغم أنّها ألفاظ، وعبارات إلاّ أنّ هذه الألفاظ والعبارات تحمل أفكارًا وعقائد وآراء، وهنا يبدو الصراع واضحًا بحكم كون التأثيرات الدلالية ناتجة هذه الصراع ستفرز وتظهر بشكل جلي على الساحة) ([12]).

3. تغيير النماذج الإدراكية : بإعمال العقل، الذي يهدف إلى الإبداع، والخروج بحق الاختلاف بمنظار التعدد، لا التفرد وهنا نستذكر أعمال طه عبد الرحمن (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، والحق الإسلامي في الإختلاف الفكري، بالإضافة إلى أعمال عبد الوهاب المسيري من خلال موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل، تفكيك الإنسان والحضارة، أهميّة الدرس المعرفي، إشكالية التحيّز.

4. البحث عن العقل الموسوعي : للخروج من دائرة التخصص، ويمكن أن نقدم في هذا المضمار ما كتبه ابن خلدون، وطاش كبرى زاده، وابن سينا، والطوسي وإخوان الصفا، وضرورة الانفتاح على الأنساق المعرفية الأخرى، وهذا ما يقتضي في قول ابن رشد (ما كان موافقا للشرع أخذناه، وما كان منافيًا له تركناه).

- ثـانيا : إعلاميـا :

تغيير الخارطة الإدراكية للعدو من خلال فقه المقاومة، سواء عبر وسائل الإعلام كنموذج "قناة المنار" والدور الريادي الذي لعبته في ساحة الميدان، لكسر الجدار الأمني والدعائي للعدو، وما انتصار حزب الله(*) أكبر دليل على ذلك.

- ثـالثا : سيـاسيا : ما تجلّى في حكم كونفوشيوس في قوله :

يعرف الإمبراطور كيف يحكم إذا كان الشعراء أحرارًا في قرض الشعر، والناس أحرارًا في تمثيل المسرحيات، والمؤرخون أحرارًا في قول الحق، والوزراء أحرارًا في إسداء النصح والفقراء أحرارًا في التذمر من الضرائب، والطلبة أحرارًا في تعلم العلم جهرة، والعمال أحرارًا في إثراء مهارتهم، والشعب في أن يتحدث في كل شيء.

- رابعـا : اقتصـاديا :

- التنسيق مع دول الإقليم للاستغلال العقلاني للثروات، والبحث عن شراكة متداولة، تقضي على معظم المشاكل والأزمات (مثلا الاتحاد الأوروبي نموذجا).

- تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص –تشجيع اليد العاملة- البحث عن منتج وطني أو تكنولوجيا وطنيا.

- محليًا : تشجيع المؤسسات الجمعوية والأكاديميات الثقافية، وتطوير نظام الحوزات.

- التعبئة الروحية للأفراد بترسيخ مبادئ الإسلام وفقه السنة النّبوية لترسيخ قيم التكافل والتضامن في الأزمات ...

- إقليميًا : تسويّة مشاكل الحدود مع الدول المجاورة، لضمان أكبر قدر ممكن من
الاستقرار.

- خارجيًا : الحنكة في إدارة العلاقات الدولية لكسب الوزن الديبلوماسي للدولة من خلال القراءة الدقيقة للمشهد السياسي العالمي اليومي، تجنبًا لسوء التوظيف السياسي، الذي سيحتم إعادة ترتيب جديد ومتميز من القيم والمفاهيم الدوليّة، وبالتالي تتمكن من تكوين إنسان جديد، يحددها، اللاعب الرسمي في المسرح العالمي.

- عسكريًا : أو على مستوى الدفاع :

- تحقيق القوم المعنويّة من خلال أسلوب الاستنفار الشامل والتعبئة الشاملة.

- غرس قيم الاستشهاد والبطولة استنادا إلى مناهج علم النفس التعبوي وضرورة الأخذ نموذج دفاع حزب الله والاقتداء بالسير الشهداء.

- تحقيق تكنولوجيا تطوره في للفرد الآمان والاستقرار.

- هكذا وإن حصرنا أهم النقاط في نجاح التجربة، فهناك نقاطًا أخرى وتفصيلات جزئيّة ودقيقة لم نتطرق إليها لطبيعة الموضوع الذي صال وجال في عدّة رؤى، ليترك المجال لتخصصات أخرى توسع من حجم الإمكانات والعطاءات لتزيد من قيّم التجربة واتساعها إذا ما أحسنا رصد منطلقاتها، الإستشراقية.

- خــاتمة :

- لن يكون الحديث عن المجال البعدي الباطني لمسألة الغائب حصرها في خانة ضيقة من التحليلات الفرديّة والرؤى الجزافية، التي تكون جزئية وغير هادفة في بعض الأحيان، نتيجة استقلالها عن موكب الفعل، والنظر إليها بمنطار القطب الواحد، أو الأحادي، الذي يقزم من شساعة التجربة، وإنّما النظر إليها، بأبعاد متعددة تفتح المجال لرؤية ما لم نكن نراه، هذا التعدد بفتح أيضا المجال للحديث عن مرتكزات الدينامية الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية والإيديولوجية، التي ستنظم وتقولب الفكرة، في صورة اعتقاد كلي جازم، يظل انعكاسها شرطا ضروريًا لتبرير المشروع، في عصر تتصادم فيه الإيديولوجية، وتتنوع فيه الإرادات، وتتحارب فيه الأفكار.

وأمام هذه المظاهر تسعى المهدوية إلى تحقيق تجريبتها لقلب موازين القوى، إعلانًا عن التغير التاريخي، الذي سيدخلها في لحظة تاريخية زمنية، تسترجع دون محالة زمن حضاري جديد، يمس بالأساس الحقل الإبستولوجي، والسياسي، والسوسيولوجي، منطلقة من مبدأ أنا أفكر، إلى الآنا أقدر، إلى الآنا أقاوم، قاهرة تلك العدوانية المعشعشة في المفاهيم، والاختزالية في التفكير، والدوغمائية في الإمتلاك والإنتاج والتعبير، منطلقة من كسر خطاب النفي الذي بُني على قاعدة الصراع والصدام، لا الشراكة والحوار، وفي هذا الشأن نستذكر قول مادلين أو لبرايت « إن الغرب ينفرد بتوليفه خاصة، وهي التي منحته خاصيّته المتميزة ».

فلماذا لا تخلق التجربة المهدوية توليفه وفقا لخاصيتها المتميزة ! ؟.

هذا ما تستجيب عنه الأيام، حينذاك سيكون لنا موقف، وستكون لنا كلمة.

- قـائمة المـراجع :

1. إسماعيل علي سعيد : المدخل إلى علم الاجتماع السياسي، دار النهضة العربية، بيروت، ج4، 1989.

2. برهان غليون : اغتيال العقل، المركز الثقافي العربي بين السلفية والتعبير، المركز الثقافي العربي، بيروت، المغرب، ط3، 2004.

3. بول ديكور : من النص إلى الفعل (أبحاث التأويل) ت : محمد براده، حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث، القاهرة، ط1، 2001.

4. جان بول رزفير : فلسفة القيم، تعريب عادل الحوا، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، لبنان، ط1، 2001.

5. خالد محمد خالد : أفكار في القمة، يوليو 1959، مكتبة وهبة، بغداد.

6. خليل أحمد خليل : العرب والقيادة، بحث اجتماعي في معنى السلطة ودور القائد، دار المداثر، ط1، 1981، بيروت، لبنان.

7. رضوان جودت زيادة : صدى الحداثة، ما بعد الحداثة في زمنها القادم، المركز الثقافي العربي، المغرب، بيروت، ط1، 2003.

8. زكريا إبراهيم : هيغل أو المثالية المطلقة، ملكية مصر، القاهرة.

9. عبد الرحمن بدوي : موسوعة الفلسفة، ج2، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1984.

10. عبد المجيد النجار : وتحركة التغيير عند المهدي بن تومرت، مطبعة تونس، قرطاج، ط1،
1924-1984.

11. مالك بن نبي : مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ت : محمد عبد العظيم علي، دار الفكر دمشق.

------------------------------------------------------------------------------

(*) - إنّ الانتظار ليس هو السّليم، وإنّما هو واجب يضاف إلى الواجبات الإسلامية قصد البحث عن مصلح يؤسس
مجتمعًا جديد، يقيم الدولة المثلي، كما يتولى إشارة الوعي السياسي والمصير للأمة سواء بوسائل ثوريّة أو عبر
ثورية، تعتمد في تغييرها الكلاني ربانيّة السماء، لكن في تنفيذها تعتمد على الظروف الموضوعية.

([1]) - زكريا إبراهيم : هيغل أو المثالية المطلقة، مكتبة مصر، القاهرة، ص 376.

([2]) - عبد الرحمن بدوي : موسوعة الفلسفة، ج2، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1984، ص 558.

([3]) - بول ديكور : من النص إلى الفعل (أبحاث التأويل) ت : محمد براده، حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث،
القاهرة، ط1، 2001، ص 212.

([4]) - مالك بن نبي : مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 104-105، ت : محمد عبد العظيم علي، دار الفكر
دمشق، ص 167.

([5]) - برهان غليون : اغتيال العقل، محنة الثقافة بين السلفية والتبعيّة، المركز الثقافي العربي، بيروت، المغرب،
ط3، 2004، ص 136.

([6]) - خليل أحمد خليل : العرب والقيادة، (بحث اجتماعي في معنى السلطة ودور القائد)، دار الحداثة، ط1، 1981،
بيروت، لبنان، ص 22.

([7]) - جان بول رزفبر : فلسفة القيّم، تعريب عادل العوا، عويدات للنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2001، ص 105.

([8]) - بول ريكور : مرجع سابق، ص 308.

([9]) - إسماعيل علي يسعد : المدخل إلى علم الاجتماع السياسي، دار النهضة العربية، بيروت، ج4، 1989، ص 13.

([10]) - عبد المجيد النجار : وحركة التغيير عند المهدي بن تومرت، مطبعة تونس، قرطاج، ط1، 1924-1984.
ص 113.

([11]) - زكريا إبراهيم : مرجع سابق، ص 327.

(*) - تبنى الرئيس بوش عقيدة الخلاص بالمنظور الصهيوني الإنجيلي، إيمانًا منه لتمهيد ظهور المجتمع السعيد الذي تبتغيه
الإدارة الأمريكية والصهيونية، متغذية من فلسفة نيتشه التي تلخصها فكرة السوبرمان والعود الأبدي.

([12]) - رضوان جودت زيادة : صدى الحداثة، ما بعد الحداثة في زمنها القادم، المركز الثقافي العربي، المغرب، بيروت،
ط1، 2003، ص 106-107.

(*) - لقد بين حزب الله وزعيمه الشيخ حسن نصر الله لكل العالم، أنّه لا مساومة في الحريّة، ولا مساومة على
الأرض ولا تنازل على المواقف والثوابت، وبواسطة استراتيجياته المعرفية وتكاتيكاته العسكرية وحنكته
السياسية استطاع أن يصل إلى أعماق إسرائيل، فاشتد أثناءها الصراع وشق الطريق وعظمت التضحيات،
وكان النصر حليفة مصداقا لقوله تعالى : }إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهَادُ { [سورة غافر : الآية 51].

 

فوكوياما من "نهاية التاريخ" إلى "مستقبلنا ما بعد البشري

 

تمهيد:

فوكوياما من "نهاية التاريخ" إلى "مستقبلنا ما بعد البشري"مـا لا يُنتهك في الثورة الجينية هو الفطريّ إلى اليوم، تدبّر الإنسان أمره واغتنى بتكنولوجيته. الأدوات حسّنت محيطه وجعلت الإنسان أقوى، أكثر أماناً، أسرع، وأوفر سعادة. لكن ماذا يحصل عندما تسمح المعرفة أخيراً بتصحيح عيوب الطبيعة البشرية؟
هذا الحل لا يراه فوكوياما جديراً بأن يطبّق العنصر الجديد أن البيوتكنولوجيا سوف تسمح قريباً بالاختبار: إذا لم يكن المولود الرضيع سوى نتيجة الـ"أ. د. إن" خاصته، على ما تؤكده لنا عملية فك رموز الجينوم البشري، فلن يكون بعيداً الوقت الذي سنشهد فيه العلم عاملاً على تحسين طينتنا، جسداً وروحاً.

هل الأمر حتميّ وخطير إلى هذا الحد؟ هل ينبغي منعه؟ "هذه المعطيات سوف تعيد طرح ما تجذّر عميقاً فينا، أي مفهوم المساواة والقدرة على القيام بخيارات أخلاقية" يقول : فرنسيس فوكوياما في كتابه "مستقبلنا ما بعد البشري"، ويتابع قائلاً: "هذه المعطيات سوف توفّر للمجتمع تقنيات جديدة للسيطرة على تصرفات الأفراد. سوف تغيّر مفهومنا للشخصية والهوية الإنسانية. سوف تزعزع المراتب الاجتماعية(...)وتؤثّرعلى السياسةعالمياً".
صرخة الإنذار هذه ليست أكاديمية على الإطلاق. فرنسيس فوكوياما ينتسب إلى مجلس البيو-أخلاقية في البيت الأبيض. عند تقاطع العلم، الفلسفة والسياسة، يُقلق فوكوياما ما قد تنتهكه المعرفة في المجال الذي لا يُنتهك: الطبيعة البشرية.
والإنذار لم يصدر باكراً في أي حال. للإقناع، يناقش الكاتب ما سبق أن وجد له مكاناً في خزانة صيدليتنا المنزلية، أكثر منه التقنيات التي لا تزال بعيدة كالجينات تحت الطلب، أو زرع الذكاء، أو الأطفال على الطلب. يرى ان "البروزاك" المضاد للإحباط الأكثر مبيعات في فرنسا و"الريتالين" الذي يصفه الأطباء كثيراً في الولايات المتحدة للأطفال الوفير الحركة، يجعلاننا نتصور منذ الآن ما ستكون عليه البشرية المستقبلية المخدّرة حتى في جيناتها. ويعتبر فوكوياما أن العلماء وصناعيي البيوتكنولوجيا تقدموا كثيراً اليوم ويترك لهم الخيار حول الطريق التي ينبغي ان يسلكوها.
يرسم فوكوياما الحدود بين الفطري والمكتسب، مستنداً إلى تعريفه الواضح لما ينبغي أن يبقى بعيداً عن الانتهاك: الطبيعة البشرية: "مجموع التصرفات وكل الطبائع الناتجة بالأحرى من الجينات، لا من المحيط".
وماذا عن "نهاية التاريخ"؟

هل عساه بدّل رأيه وهو القائل "لن تكون النهاية ممكنة بعد الآن لأن العلم والبيوتكنولوجيا في صدد تغيير الطبيعة البشرية". فهل نحن أمام بلبلة جديدة؟ وجيناتنا التي ستسوّق قريباً هل ستُطلق التاريخ مجدداً؟

ويجيب فوكوياما: "بعض عناصر هذه الثورة مرهون بالمستقبل فقط، كالجينة الوراثية. فيما أضحت عناصر أخرى هنا، حولنا. يكفي أن ننظر إلى أوروبا وعدم توازنها الديموغرافي. ولا نحتاج إلى الذهاب بعيداً جداً كي نرى المجادلات حول الهجرة والمجتمعات المتعددة الانتماء وحول خرق جان ماري لوبن الانتخابي في فرنسا، وبيم فورتوين في هولندا. فالمعطيات الديموغرافية هذه الناتجة من التقدم العلمي الطبي حوّلت طبيعة المناقشة السياسية، وليست سوى البداية.
والأمر الآخر في الصدارة، يتعلّق بتلك المواد المتنوعة التي تسمح بتبديل التصرف البشري، لأنها تتيح تبديل الأحاسيس والانفعالات ونشاط الدماغ، أي كل ما يتعلق بالفطري. يسعنا أن نتبنّى يوماً شخصية ما، وفي اليوم التالي شخصية أخرى. وفي السنوات المقبلة سوف تستهدف مواد أخرى الدماغ للتقليل من حاجة الإنسان إلى النوم، ولتنمية الذاكرة والذكاء. [2]
"أما الاستنساخ فهو الحدث الذي يثير الرعب الأكبر، فلا أحد تقريباً يودّ حقاً أن يعاد نسخه. إني ضدّ هذا الإجراء قطعاً، لأن ذلك سيكون على صعيد التجربة البشرية خطوة لا عودة عنها.
"لكن من ناحية أخرى، تضخم التكهنات حجم الأمور أحيانا. علماء المستقبل في الخمسينات تصوّروا كل بلد على المعمورة مصححاً حدوده بواسطة القنابل النووية. والواقع أن عدد القوى الذرية يظل محدوداً، فضلاً عن انه لم يحصل أي انفجار من هذا النوع منذ هيروشيما وناغازاكي. ليس ممكناً إيقاف مسيرة العلم. انما لا شيء يمنعنا من لجم مفعوله.
"لن نتمكن من تلافي هذه المناقشة عندما تتوصل الجينة الوراثية إلى إطالة الحياة إلى ما لا نهاية، أو إلى صنع أطفال على الطلب. يجب أن نفكّر في أبعد من ذلك. كل الفئات الاجتماعية سوف تحاول "تحسين" نسلها: الأغنياء، بالتأكيد، لكن أيضا الجماعات الدينية أو بعض الفئات الإتنية. الخطر يكمن في مفاضلة لا عودة عنها في الإرث الجيني، وفي تعبير آخر حصول تمييز بشري من نوع جديد. [3] مثلاً في الصفوف المدرسية، سوف يوضع التلامذة موضع شك لناحية جيناتهم في حال نجحوا نجاحاً بارزاً. المشكلة أن القرار لن يكون للدولة بل للعائلة. فالأهل يحبّون أولادهم وسوف يحاولون تأمين نجاحهم. لذا ينبغي البدء بتوعية أولئك الأهل توعية جدية ليفهموا أن التلاعب بثروة أولادهم الجينية رهان خطر. "إني مقتنع بأن على الطبيعة البشرية أن تتجاوز المفهوم الضيق إلى كل الانفعالات الإنسانية البحتة، كالقابلية للتعلّم واللغة والحاجة الى العيش ضمن مجموعة من البشر لا في عزلة وتذوّق السياسة. الطبيعة البشرية معقدة وهشّة. لو بدّلنا عنصراً لتزعزع كل ما تبقى. إن لم تكن الوصفة جيدة فقد نقع في "ما بعد البشرية" سهواً. [4]
في أي حال، ثمة أمر أخلاقي فريد، رابط وثيق يشدّ الطبيعة البشرية، هو عزة النفس والحقوق التي ننسبها إلى أنفسنا بشرا.

الديمقراطية الليبرالية ونهاية التاريخ :


تعد مقولة "نهاية التاريخ" آخر صيحة عالمية استفاق عليها الفكر الإنساني المعاصر. وقد وردت في كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير

(The end of history and the last man) للمفكر الياباني اللامع فرنسيس فوكوياما.


الديمقراطية الليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي هي خاتمة مطاف تتطور الفكر البشري. فقد حسم صراع الايديلوجيات ، نهائيا والى الابد ، لصالح الديمقراطية الليبرالية. هذه هي باختصار الرسالة التي يريد تبليغها ، فرانسسكو فوكاياما من خلال كتابه الذائع الصيت : " نهاية التاريخ"
Francis Fukouyama :The End of History and the Last Man,

لعله ليس صدفة ، ان تلتقي الفلسفات الارضية بالعقائد السماوية في تصور نهاية سعيدة تتوج تطور الفكر الانساني في رحلته الشاقة والمتعرجة نحو الكمال ( ان كان ثمة كمال ) . فاذا كانت الجنة هي النهاية السعيدة التي تبشر بها الاديان السماوية اتباعها . فان الفلسفات الانسانية المثالية ( افلاطون وتوماس مور الخ ..) لا يختلف تصورها لتلك النهاية السعيدة ( اليوتوبيا او المدينة الفاضلة ) عن الجنة
اما الفلسفات المادية (العقلانية ) فتؤمن ان الانسان قد امتلك زمام مصيره بفضل المعرفة وانه قادر علي تسخير هذا العلم ليرقي به نحو الكمال البشري ، وانه حتما سيبلغ نهاية هذا الكمال حينما يتجسد النظام المثالي الذي يلبي طموحات واشواق الانسان الي الحياة الانسانية الكريمة . يري هيجل ان غاية تطور الفكر البشري هي بلوغ الحرية الانسانية ، وان النظام الاقدر علي تحقيق هذه الحرية ، هي الديمقراطية الليبرالية . اما عند كارل ماركس فيري ان الحرية الانسانية التي ينشدها هيغل لا تتحقق الا بتحقق النظام الشيوعي هذه الغاية التي عناها ، هيجل وماركس ، هي النهاية التي قصدها فرنسيس فوكاياما في عنوان كتابه : " نهاية التاريخ " . فهو لا يقصد بنهاية التاريخ ، نهاية الاحداث والوقائع اليومية وانما يقصد" ان التطور المضطرد للمجتمعات البشرية لا يسير الي ما لانهاية ، وانما محكوم بتوصل الانسان الي شكل محدد لمجتمعه يرضي احتياجاته الاساسية وعندما يتم التوصل لالي هذا الشكل يتوقف التطور او بمعني آخر يتوقف التاريخ . هذا لا يعني اطلاقا توقف للاحداث ، فالحياة ستستمر من ميلاد وموت ، وسيستمر تفجر الاحداث الهامة وغير الهامة ، وستستمر نشرات الاخبار وتستمر الجرائد في الاطلال علينا كل يوم ، لكن الفرق الوحيد هو انه لن يكون هنالك اي تقدم او تطور بعد اليوم فيما يتعلق بالمباديء والايدلوجيات والمؤسسات . "
هذه النهاية بالنسبة لفوكوياما هي ، الديمقراطية الليبرالية الراسمالية. انها في تصوره النظام الامثل للحكم . كل المجتمعات شاءت ام ابت مكتوب عليها تتنبي هذا النظام . قد تتعثر المسيرة عند بعض الدول والامم نحو بلوغ هذه الغاية ولكنها ستصل ان عاجلا ام أجلا . ويختتم فوكوياما كتابه بهذا التصور الدرامي الذي يعبر عن ايمانه الحتمي بانتصار الديمقراطية اللبيرالية :
" .. ويبدو لي اخيرا – الجنس البشري كما لو كان قطارا طويلا من العربات الخشبية التي تجرها الخيول متجها الي مدينة بعينها عبر طريق في قلب الصحراء ، بعض العربات قد حددت وجهتها بدقة ووصلت اليها باسرع وقت ممكن ، والبعض الاخر تعرض الي هجوم من الهنود الاوباش ، فضل الطريق ، والبعض الثالث أنهكته الرحلة الطويلة فقرر اختيار مكان وسط الصحراء للاقامة فيه وتنازل عن فكرة الوصول الي المدينة ، بينما من ضلوا الطريق راحوا يبحثون عن طريق بديلة للوصول الي المدينة ، وفي النهاية يجد الجميع انفسهم مجبرون علي استعمال نفس الطريق - ولو عبر طرق فرعية مختلفة – للوصول الي غائتهم ، وفعلا تصل أغلب هذه العربات الي المدينة في النهاية ، وهذه العربات عندما تصل لا تختلف عن بعضها الا في شيء واحد هو توقيت وصولها الي المدينة : سرعة او بطء وصولها الي ، الديمقراطية الليبرالية ، ومن ثم نهاية رحلتها.[5] .. نهاية التاريخ ."

فهل حقا ان الديمقراطية الليبيرلية بشقيها السياسي والاقتصادي هي خاتمة المطاف البشري نحو المال ام انها حسب ماركس مرحلة ضرورية لا بد منها ، تصل فيها الراسمالية الى أعلي مراحل تتطورها لتهيئة المجتمعات للانتقال الي الاممية الشيوعية . ام انها التجسيد الرمزي للمسيخ الدجال الذي يمهد لظهور المسيح ليقيم جنة الارض السماوية حيث يرث المستضعفون الارض كما يعتقد الجمهوريون وسائر اتباع الكتب السماوية ؟؟؟!!
صدر كتاب فوكاياما سنة 1992 عقب تفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط الانظمة

الاشتراكية في اوربا الشرقية ويقول المؤلف في مقدمة الكتاب ان فكرة الكتاب ترجع الي مقال حمل نفس العنوان كتبه في صيف 1989 . بل ان فكرة المقال نفسه ترجع الى محاضرة القاها بجامعة شيكاغو في ذات السنة بعنوان : الديمقراطية بين النظرية The End of History and the Last Man, Francis Fukuyama, perennial , 1992


فكرة نهاية التاريخ في خطوطها الكبرى كما وردت في الكتاب:

تعد مقولة نهاية التاريخ آخر صيحة عالمية استفاق عليها الفكر الإنساني المعاصر. وإلقاء نظرة على مجمل ما ورد في كتاب نهاية التاريخ وخاتم البشر يكشف عن مجموعة من الأفكار والتصورات التي صاغها فوكوياما يمكن إبراز خطوطها العريضة الآتية:

ـ يرى المؤلف أن سقوط الاتحاد السوفياتي واكتساح الديموقراطية الليبرالية أرجاء العالم، وانهيار الأنظمة الشمولية، وانتصار فكرة الأسواق الحرة، كل ذلك وصد باب التاريخ وأدى إلى نهايته الأبدية التي لن يبرز في أفقها أي مؤشر جديد.[6]

ـ يرتكز في تحليله للديموقراطية على المرجعية التاريخية فيعود إلى أحداث القرن 19م الذي يعتبره قرن الاستقرار والسلام بفضل ما جناه من ثمار الثورة الفرنسية التي ركزت مبادئ الديموقراطية. لكنه ينتقد أحداث القرن العشرين التي أدت في نظره إلى تراجع المبادئ الديموقراطية بسبب الحربين العالميتين وظهور الأنظمة الديكتاتورية واليسارية الشمولية. ثم يعرج على الفترة المعاصرة ليفسر كيفية تحول الدول الديكتاتورية إلى دول ديموقراطية وسقوط الأنظمة الاشتراكية، وتحولها إلى أنظمة تنحو نحو وجهة الاقتصاد الحر بسبب عجزها عن حل مشاكلها الاقتصادية.

في مواضع أخرى من الكتاب، يضع المؤلف الأصبع على فكرة التاريخ الكوني، فيستعرض مختلف النظريات التاريخية لفلاسفة التاريخ والآلية التي تحرك التاريخ العالمي، والمتمثلة في نظره في الآلة العسكرية والتكنولوجية وسعي الإنسان المعاصر للسيطرة على الطبيعة، معتبرا أن التاريخ يسير نحو تاريخ عالمي متجانس بهدف تكوين الدولة العالمية، مستبعدا أن يكون التاريخ الكوني تاريخا دوريا يقضي على المنجزات الحديثة ليرجع للمرحلة السابقة.[7] إلا أن أهم ما يميز فكر فوكوياما في باب التاريخ العالمي يكمن في رؤيته بأن الاتجاه نحو الدولة العالمية المتجانسة يؤدي إلى نشأة مجتمع خال من الطبقات، ويعكس آخر مرحلة مرضية من التاريخ الإنساني، منها سيكون الاتجاه نحو نهاية التاريخ.

ولم يفته الإشارة إلى ما ينجم عن التطور التكنولوجي من دمار للبيئة معبرا عن تشاؤمه الشديد في هذا المجال من المجهودات التي تقوم بها الجمعيات ومنظمات من أنصار البيئة. وحول الاقتصاد الاشتراكي، أبرز أوجه قصوره، خاصة من ناحية اعتماد الدول الاشتراكية على فكرة الخطط الاقتصادية التي لم تعد ملائمة في نظره للتغيرات الاقتصادية السريعة وتبدل الأسعار، ومن ثم يعتبرها معيقة للتطور التكنولوجي، ويقرن الثورة العلمية بالديموقراطية الليبرالية الحرة.[8]

ويطرح في مواضع أخرى وجهات نظر تتعلق بفلسفة التاريخ، خاصة آراء هيغل كما فسرها كوجيف حول الحرية والإنسان، معتبرا أن الحرية تظهر عندما يقدر الإنسان على تجاهل وجوده الطبيعي الحيواني وخلق ذات جديدة لنفسه. وفي هذا الإطار يخصص فصلا لمعالجة السيادة والعبودية، فيرى أن خدمة العبد لسيده أصبحت تستفيد من التطور التكنولوجي، مما جعل العبد حرا بفضل تغلبه على صعوبة الخدمات السائدة قبل العصر التكنولوجي، ومطالبا بالمزيد من الحرية والمساواة.[9]

وفي تحليله للكائن البشري، يرى أن انفعالات الإنسان من خلال رغبته في العرفان والتمايز والحفاظ على النفس والكرامة، يؤدي به إلى الدخول في مجتمع مدني حيث الدستور يقر بحقوق كل إنسان، ويقدم شرحا لمفهوم الشهامة اعتمادا على آراء الفلاسفة الأقدمين، منتقدا النظام الشيوعي الذي جعل الجزء الشهواني من النفس ضد الجزء الحيوي فيها، وذلك بإجبار الناس العاديين على جعل العديد من التافهين أكثر اتفاقا من طبائعهم.

ويلاحظ أن فكرة الديموقراطية تأخذ حيزا هاما من اهتمامات المؤلف الذي يرى أن غيابها يسفر عن مشاكل لا حصر لها داخل المجتمع، ويمكن أن تلعب دورها إذا وضعت في الحسبان الخصوصيات الثقافية لشعب أو أمة. ويذهب إلى أن الديموقراطية تتجه نحو وجهة عالمية تتميز بالتجانس، ليخرج بنتيجة قطعية في نظره، وهي أن التاريخ يقود الإنسان بطريق أو بآخر إلى الديموقراطية الحرة.

ويستند فوكوياما في الدفاع عن أطروحة التوجه الكوني نحو الديموقراطية على الثورة الحالية لتكنولوجية الإعلام، فالانفجار التكنولوجي في المجال الإعلامي الذي نجح في غزو أكثر المناطق انزواء في العالم، سيعطي –في نظره- الأفراد مزيدا من القدرات ويسرع من وتيرة الدمقراطية.[10]

وبهذه الأفكار التي أبرزنا خطوطها العريضة كما أوردها فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ وخاتم البشر، يبرر أطروحته حول نهاية التاريخ الذي لن يطرأ في نظره أي مؤشر جديد يغيره أو يؤدي به إلى مسار جديد. فما مدى مصداقية هذه الأطروحة؟

من إنصاف القول أن فوكوياما كان جريئا في أطروحته، ولم يكن يغرب عن باله أنها ستلاقي جيشا من النقاد. كما يحمد له إبحاره في كتابه السالف الذكر عبر مجموعة من العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفلسفة التاريخ والأنتروبولوجيا، ونجاحه في تجييش مجموعة من القرائن التي تدل على صحة وجهات نظره. وبالمثل اتخذ التاريخ بمراحله الشاسعة مرجعية لمجموعة من التصورات، خاصة في تحليله للحرية والديموقراطية، واستطاع بهذا التحليل التاريخي أن يدلل على أبعاد أطروحته.

وقد دعم مقولته حول نهاية التاريخ بمؤلفات وأبحاث ومقالات أخرى دافع فيها دون هوادة عن أفكاره، فضلا عن مقابلات علمية متعددة أجرتها معه مختلف المجلات نذكر من بينها على سبيل المثال مجلة Construction التي أجرت معه حوارا مطولا أكد فيه تشبثه بنظريته وموقفه من أن اليمين هو القادر الوحيد على تسيير الاقتصاد العالمي، منتقدا بعض النظريات الوسطية كنظرية الطريق الثالث لرئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، بل ذهب بعيدا في حديثه عن نهاية الإنسان الأخير بفعل ثورة الاستنساخ التي جعلت بعض الباحثين يبشرون بعمر إنساني يمتد إلى 200 وحتى 300 سنة؛ ولعل كتابه الأخير: The great discruption : human nature and the reconstruction of social order يعكس هذا التوجه الأخير، فضلا عن آخر مقال صدر له تحت عنوان (الإنسان الأخير في الزجاجة) The last man in a bottle.

والواقع أن أي أطروحة معاصرة لم تثر صخبا وضجة إعلامية مسترسلة مثلما أثارته أطروحة فوكوياما. وربما زاد من تضخيم ردة الفعل تجاهها سوء الفهم الذي وقع في حباله بعض المنتقدين لها؛ لذلك لا غرابة أن نجد صاحب الأطروحة يشكو من قلة إدراك المجادلين لأطروحته بقوله: "لقد نتج قسم كبير من الجدال الأول حول نهاية التاريخ عن سؤال دلالي غبي إذ لم يفهم العديد من القراء أنني استعملت كلمة تاريخ بمعناها الهيغلي الماركسي: التطور التدريجي للمؤسسات الإنسانية والسياسية والاقتصادية".[11] ويوضح المفهوم الذي استعمله للتاريخ بأن هذا الأخير موجه بواسطة قوتين جوهريتين، وهما توسع علوم الطبيعة والتكنولوجيا المعاصرة التي تشكل أساس التحديث الاقتصادي، والنضال من أجل الاعتراف الذي يتطلب في نهاية المطاف نظاما سياسيا يقبل كونية حقوق الإنسان. وعلى عكس الرؤية الماركسية التي ترى أن صيرورة التطور التاريخي تجد نهايتها في الاشتراكية، فإن المفكر الياباني يرى أن هذه النهاية تتجسد في الديموقراطية واقتصاد السوق. ولم يعد ثمة نموذج آخر للتنمية قابل للاستمرار يجعل العالم يتفاءل بنتائج أفضل من اقتصاد السوق، فحتى النموذج الآسيوي التنموي المزعوم، والذي تتبناه دول ما يعرف بنمور آسيا عرف هزة قوية بسبب التعثرات التي شهدها في العقد الأخير بسبب الأزمة الاقتصادية التي عصفت به، مما يؤكد هشاشة نظام الحكم المطلق في البلدان الآسيوية، حيث سعى ذلك النظام إلى كسب شرعيته من خلال الإنجازات الاقتصادية الكبرى.


يضاف إلى جملة الانتكاسات التي عرفها النظام الشيوعي، الهزائم المرة التي لحقته في أفغانستان حيث تم استئصال شأفة الخطر الأحمر بفعل تحالف القوى الإسلامية هناك بدعم أمريكي واضح؛ ناهيك عن تداعي أنظمة أخرى بإفريقيا وآسيا كانت تدور في فلك المارد الأحمر السوفيتي.

قصارى القول إن نظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ بقدر ما هي قضية فكرية جريئة ومثيرة للجدل والنقاش، فإنها لا تستند على مقومات علمية دقيقة لابتعاد صاحبها عن القاعدة الثابتة التي تشكل منطلق المؤرخ، وهي النزاهة والموضوعية. أما وقد سقط في شباك التحيز حين وضع فكرته في خدمة السياسة الأمريكية الرأسمالية، وصاغ أفكاره بروح انبهارية تحت نشوة انتصار النظام الدولي الجديد، فإن هذا التوجه المهندس سلفا، جره إلى السباحة في عالم تخيل فيه أن التاريخ قد انتهى وأغلق أبوابه بعد انتهاء الحرب الباردة، متناسيا أن بوادر تكتلات سياسية أخرى بدأت تطفو ملامحها مع كل من روسيا والصين والهند، كما أن أوروبا نفسها بدأت تعلن عدم انصياعها لنظام العولمة الجديد، دون أن ننسى أن القوى التحررية الإسلامية بدأت في الانتفاض والتفكير في تكتلات إقليمية وجهوية، وتطمح ليكون لها موقع قدم في خارطة القوى المؤثرة رغم هيمنة الغرب. ومن ثم فإن ظهور أطروحة نهاية التاريخ في عصر ما، ليس سوى علامة على مخاض الفكر الذي يدشن تأمله في حقبة جديدة تصبح البداية وليست النهاية.

إن هذه التغيرات العالمية ذات الإيقاع السريع المتجه نحو تكريس النظام العالمي الجديد تفسر إلى حد كبير أن هذا الكتاب/القنبلة تحول من مجرد محاضرة ألقاها فوكوياما في جامعة شيكاغو الأمريكية إلى كتاب طبقت شهرته الآفاق. ولا أعتقد أن هذا الشاب الياباني الأصل، الأمريكي الجنسية، الذي كان يشتغل في العلوم السياسية بمؤسسة راندا بكاليفورنيا ومديرا مساعدا لمصلحة التخطيط الأمريكية وعضوا باحثا في مركز الأبحاث Rand Corporation التابع لجامعة شيكاغو، كان يحلم بكل هذه الشهرة التي بناها بوسائل الإعلام الأمريكية، وجعلته يحول محاضرته التي ألقاها في جامعة شيكاغو ونشرتها مجلة The National interest سنة 1989 إلى كتاب أكثر ما يقال عنه أنه يقال عنه أنه إعادة لفكرة هيغل، ودفاع عن نظرة الدولة الرأسمالية، وإعلام غربي متطور يهدف إلى الترويج للنظام العالمي الجديد.

النهاية بين العلم والفلسفة:
يمكن أن نبدأ باستعارة سؤال صاغه جاك دريدا: كيف يمكن فهم خطاب النهاية أو الخطاب حول النهاية، وهل يمكن أن تكون نهاية النهاية مفهومة؟

يتعلق الأمر، بالنسبة إلينا، تحليلا بالتمييز بين خطاب النهاية والخطاب حول النهاية، ونقدا بالبحث عن إمكانية الحديث عن نهاية النهاية وعن دلالتها.

فالخطاب حول النهاية، هو الخطاب الذي ينطلق من نهاية الفلسفة، لكي يؤسس خطابا حول النهايات، وبالتالي يريد أن يؤسس خطابا أبوكاليبسيا بصدد العالم (نموذج الخطابات السائدة حول نهاية التاريخ، نهاية الشيوعية وسنعود إلى ذلك لاحقا).

أما خطاب النهاية في الفلسفة فهو يحيل على الأسس الفلسفية التي أسست لما يمكن تسميته بالقيامة الحديثة Apocalypse moderne (موت الله، موت الإنسان، نهاية الفلسفة) [12]وقد وضع هذه الأسس فلاسفة أمثال: ماركس، نيتشه، هايدغر…الخ.

إن الإحالة الدلالية لكلمة النهاية على المكان هي التي تجعل لكلمة النهاية دلالة أخرى، ألا وهي وضع الحدود limites، فالأمر يتعلق لا بانتهاء الفلسفة ولكن بنهاية الفلسفة، عند تخوم وحدود معينة. بهذا المعنى اعتبر ج. دريدا أن الخطاب حول النهاية، حول الموت، هو عبارة عن خطاب تشكيلي في بلاغة الحدود[13]. تبتدئ هذه الحدود بمشكلات (problèmes) وتنتهي بإحراجات. فالشكل يحيل على الإسقاط أو الحماية (projection-protection). ذلك أن فكرنا وتساؤلاتنا ليست سوى إسقاط لمشاريعنا ومتطلباتنا، نضعها أمامنا، لكي تمثلنا وتأوينا وتحمينا، إذ نستتر على ما لا نود التصريح به، لكن الحد الآخر للمشكل هو الأبوريا، حيث لا نعلم أين نذهب. يتعلق الأمر بممر مغلق non-passage، إننا نقف مشلولين في مكان ما أمام حدود مليئة بالعقبات، حيث لا نستطيع أن نضع ما يحمينا، أي أن نكون مشكلا بما هو إسقاط وحماية، إننا في مكان إحراجي "أبوريتيكي" تكون فيه سريرتنا الداخلية معرضة للفضح وللعري بموازاة مع هذا البعد الأبوكاليبسي في الفلسفة (خطاب النهاية)، سيتأسس خطاب حول النهايات، وما بعدها، يتخذ مسحة إسكاتولوجية، تجعل من التحولات العالمية مؤشرا على عالم أخروي.

وعلى العموم، يمكن تكثيف هذه التحولات العالمية في عبارة صدمة التاريخ، هذه الصدمة التي يمكن تلمس تجلياتها على مستويين:

المستوى السياسي:

حيث عملت الأحداث التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية (النازية والستالينية والليبرالية الجديدة) على وضع الفلسفة والفلاسفة أمام كوة سحيقة، إذ كانوا ضحايا سيرورة لم يستطيعوا منع حدوثها ولا التنبؤ بها، بل لم يكونوا على علم بها (بل إن بعض الفلاسفة، كما أشار إلى ذلك Christian de La Campagne، كانوا متورطين فيها).

علاوة على ذلك فانهيار الإمبراطورية السوفياتية، بخر كل الآمال المعلقة على الثورة التاريخية المشيدة لعالم مثالي. الشيء الذي وضع ارتهان الفلسفة بالثورة موضع تساؤل، وجعل الفلاسفة يتخلون عن الرغبة في تغيير العالم، من أجل العودة إلى السعي نحو محاولة فهمه وتفسيره.

المستوى العلمي/البيولوجي:

سنقتصر بهذا الصدد على التطورات العلمية التي حدثت على مستوى البيوتكنولوجي Biotechnologie. لقد لاحظ Dominique folsheid بعمق، أنه ليس صدفة أن يكون انهيار الإمبراطورية السوفياتية معاصرا لتطور نمو البيوتكنولوجيا، وظهور وعي حاد بمشاكلها. إن هذا الترادف له دلالة فلسفية، لا يجب الاستهانة بها. إن صدمة التاريخ هنا، تتجلى في تعويض العهد الذهبي للتاريخ ولكل الخطابات والتمثلات التي أسسها بصدد الإنسان والإنسانية، وبصدد العالم، بعهد ذهبي للبيوتكنولوجيا، وما رافقها من تغير على مستوى الخطابات والتمثلات. هكذا فعوض النظر تاريخيا إلى الإنسان كمنتوج اجتماعي، يمكن تفسير كل ما يتعلق به اعتمادا على ما هو سياسي وعلى ما هو اجتماعي، وبالتالي على ما هو مكتسب، أصبح الإنسان الآن ينظر إليه بيولوجيا، كمنتوج لتركيبة من الخلايا l’homme neuronal (لنستحضر هنا أطفال الأنابيب وظاهرة الاستنساخ)، إذ يمكن تفسير كل ما يتعلق بالإنسان اعتمادا على ما هو اقتصادي، ما هو بيولوجي وبالتالي ما هو فطري[14]، (بل حتى الشذوذ الجنسي أصبح ينظر إليه لا كنتاج لشروط نفسية واجتماعية، بل نتاج لشروط جينية).

إن صدمة التاريخ، هنا، تكمن في تحول الإنسان من منتوج اجتماعي (تاريخي) إلى منتوج بيولوجي، وتحويل وجهة التحكم من حقل التاريخ إلى حقل البيولوجيا. أمام هذه التحولات وأمام صدمة التاريخ، انتعشت نزعة اسكاتولوجية، تعلن نهاية التاريخ.

يرجع أصل الفكرة إلى هيغل، الذي اعتبر أن نهاية التاريخ تبدأ تحديدا من الفلسفة، "ذلك أن التاريخ هو المعيار الواقعي للحكم على مدى أهمية ودلالة الأفكار". لكن السؤال الذي يجب طرحه، هو ذلك الذي صاغه دريدا، أليست نهاية التاريخ، سوى نهاية تصور محدد عن التاريخ؟ ألا تؤدي هذه النزعة الإسكاتولوجية، إلى استنبات يوم القيامة في المتخيل؟ وما هي دلالة هذا الاستنبات وخلفياته؟

يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال فرضيتين اثنتين:

أولا: لقد اعتبر فوكو أن الفكرة التي كانت سائدة عن التاريخ هي أنه مجال متصل، يضفي القيمة على ما يدوم ويستمر، بينما التصور الجديد للتاريخ، أصبح قائما على مساءلة التحولات. وبالتالي فقراءة التحولات العالمية، على أنها مؤشر على لحظة أبوكاليبسية تبشر بحدوث اسكاتولوجيا محددة، ليس سوى دليل على النظر إلى التاريخ، كتاريخ شامل يعكس وجه العصر. فهو يسلم بكون جميع الأحداث وجميع الظواهر تدخل في منظومة شبكة واحدة من العلاقات والعمليات التي تتمحور كلها حول نواة مركزية "ثم إنه يفترض أن نفس الشكل التاريخي يعم البنيات الاقتصادية والثوابت الاجتماعية واستقرار الذهنيات والمواقف السياسية، فيخضعها جميعا لذات النوع من التحول".[15]

ولكن قد نتخلى عن هذه النزعة الإسكاتولوجية، إذا ما قرأنا هذه التحولات وفق ما سماه فوكو بالتاريخ العام، باعتباره فضاء للتشتت والتغير. إن السعي نحو سيادة خطاب أحادي شامل حول التاريخ، يود أن يتحدث باسم روح العصر، هو الذي جعل النظر إلى بعض الفلسفات التي أسست للخلخلة والتصدع بمثابة فلسفات أبوكاليبسية، تنذر بسوء مآل التاريخ. لذا فضد كل أشكال الخلخلة الماركسية والنيتشية والفرويدية، سيتم البحث عن كيفية الحفاظ على سيادة الوعي من خلال السعي نحو إقامة تاريخ شامل ينتعش فيه التناسق والاتصال والمعقولية، وبالتالي فالنزعة الإسكاتولوجية المدججة بخطاب النهايات، ليست سوى نزوع نحو كلية منغلقة، ينتفي فيها التنوع ويرفع فيها التصدع والخلخلة، إنه التبشير بتاريخ ينظر إلى ما سبقه نظرة يوم القيامة، كما قال فوكو. إن هذه النظرة الإسكاتولوجية تفترض شيئين: افتراض إمكانية الحكم بموضوعية على يوم القيامة، وافتراض وجود حقيقة خالدة في العالم الآخر الجديد، الذي يتأسس بعد القيامة، إنه عالم الخلود، حيث ينتهي الموت، ينتهي الفناء: إن هذا العالم الخالد ليس شيئا آخر سوى عالم الليبرالية، عالم العولمة.

ثانيا، لقد أشار دريدا إلى نفس الفكرة، ولكن بطريقة مغايرة، ذلك أن هذه النزعة الإسكاتولوجية، التي تدعي ارتداء لبس جديد وتدعي سمة وجه العصر، ترجع إلى بداية الخمسينات. فالخطابات حول النهاية (نهاية التاريخ، نهاية الإنسان) وهذه اللكنة الأبوكاليسية كانت مستشرية. لذا قال دريدا إنها تشبه مفارقة مملة[16]. إن خطاب نهاية التاريخ، يتقنع من أجل إخفاء حقيقته كخطاب معاد للخلخلة الماركسية، وللتاريخ الشامل. فالخطاب المهيمن، والذي يتلذذ بالحديث عن نهاية المجتمعات المبنية على النموذج الماركسي، هو خطاب يبدو ظاهريا، منسجما، إلا أنه خطاب دوغمائي، يسكنه الخوف والوسواس من طيف الشيوعية، الذي يمكن دائما أن يعود، بل يجب علينا أن لا نجعله يعود. لقد كان في الماضي، يشكل طيفا مقبلا؛ وفي الحاضر، يعتقد البعض أنه طيف مضى، وعلينا الاحتياط من رجوعه. لهذا ينبغي تهويل يوم القيامة، نعجل فيه بالإعلان عن النهاية، عن الموت. إن هذه النزعة الأسكاتولوجية تريد أن تنتصر لحقيقة خالدة، ولعالم غير فان. إن الأمر يتعلق بإنجيل جديد، يبشر بإيديولوجية رأسمالية ليبرالية جديدة منتصرة، ينظر إليها كلحظة شمولية، كونية وبالتالي كنقطة نهاية في الحكومة الإنسانية، لأنها تعلن بفرح نهاية الشيوعية. لكنها، حسب دريدا لم تنته لأنها لم توجد قط، ولأنها مجرد شبح لا يموت. تنبني هذه الإسكاتولوجية، إذن على "انهيارات مزعومة، هدفها التبشير بالديموقراطية الليبرالية باعتبارها أصبحت المطمح الوحيد السياسي المنسجم، الذي يجمع مناطق وثقافات مختلفة"[17].

إن الأسكاتولوجية هي حد فاصل بين حياة وحياة أخروية، بين موت/نهاية وخلود/بقاء، إن الخطاب الذي يتأسس بعد هذه الأسكاتولوجيا، هو خطاب مدمر لكل الخطابات الأخرى، ويقوم على أنقاضها، إنه خطاب يعيد الاعتبار للتاريخ الشامل (بالمعنى الفوكوي) خطاب يبحث عن وجه العصر، وينزع نحو تأسيس كلية منسجمة مغلقة، إنه خطاب العولمة، "إيديولوجيا هذه الأيام" التي تزعم التطابق مع الطبيعة العميقة للإنسان، إذ تنطلق مقومات هذه الإيديولوجيا من التقدم والتقنية والاتصال، لكي تمركز فكر الناس حول الكيف، مع إخفاء سؤال "لماذا"، في أفق تثبيت ديانة العصر(30).

إن خطابا كهذا يجعل من العولمة عالما أخرويا، استتب دوامه، لأنه انتهى زمن النهايات وقامت القيامة، ولم يبق سوى أن نتموقع في فلك هذا الخلود، وأن نختار هذا الشكل من خلودنا.

إن هذا العالم الجديد (العولمة)، هذا النظام العالمي الجديد هو سعي نحو ترسيخ انسجام يزعم أنه لم يسبق له مثيل، يعتمد في آلياته الكليانية على إعلان حرب ضد الماركسية، لأنها الطيف، حسب دريدا، الذي يهدد كليته المغلقة، ويهدد انسجامه، إنه مجرد اختلال عالمي جديد nouvel désordre mondial[18]، هاجسه ترسيخ رأسمالية جديدة وليبرالية جديدة وخالدة ومتحررة من الأشباح التي لازالت تطاردها. إن عولمة العالم، ليست كما يشيع لذلك خطاب العولمة، عبارة عن سيرورة عادية، ومرحلة نهائية من مراحل التطور، بل هو في الأصل، نزعة كليانة تقوم أساسا على إسكاتولوجيا للأزمات ووضع حد للإيديولوجيات.

إنها مهمة تتوخى النظر في هذه التحولات بمعزل عن روح العصر، وبالتالي مهمة نقدية، تتوخى هدم خطاب العولمة، بما هو مطمح يود جعل التحولات دالة على زمن العالم الذي نعيشه، زمن يجب أن نقرأ فيه كل التحولات باعتبارها ليست سوى تجليات لعالم يرسم قدر الحضارات ومصير الإنسانية مصيرا واحدا خالدا، كمرحلة نهاية من مراحل التطور. فالعالم الأفضل الأبدي الذي ينتظره الإنسان، حسب هذا المنظور، ليس هو النموذج الذي عاش فيه سابقا (المجتمع الإنساني ذو الدلالة الاشتراكية ولا حتى النموذج الرأسمالي سابقا) بل هو مملكة خالدة (مملكة إلهية). هذا العالم الأخروي، هذا العالم الجديد،[19] لا يمكن أن ننظر إليه وفق ثنائية الجنة والنار، بل هو العالم المفروض وكفى، العالم الوحيد الذي يمكن أن نعيش فيه. إن مهمة الفلسفة تكمن في خلخلة وهدم هذا الفردوس الذي يزعم الخلود. إنه تصور ينبني على موقف خطي من التاريخ حيث يرفض إسكاتولوجيا فكرة العود الأبدي (رفض عودة الاشتراكية)، فلا عودة للعالم المنتهي. لهذا قد يبدو لنا فردوسا، وقد يبدو لنا جحيما، ولكن لا خيار لنا، فليس هناك عالم آخر بعده، لأنه عالم أخروي أخير. يقول ديريدا في نقد هذا العالم: "يسير العالم نحو الأسوأ (ليس كعالم على ما يرام). لقد أصبح مستنفذا (مبتذلا) ولا يمكن تقدير هذا الابتذال: هل هو شيخوخة أم شباب؟ لا يمكننا تقدير ذلك. أصبح للعالم أكثر من عمر. يعوزنا قياس القياس، إننا لا ننتبه إلى هذا الابتذال وكأن الأمر يتعلق بعمر واحد له دور في تقديم تاريخ ما. ليست المسألة مسألة نضج، ولا أزمة ولا حتى احتضار، يتعلق الأمر بشيء آخر. إن ما يحدث، يحدث في نفس العمر، لكي يعزز النظام الغائي للتاريخ. أما ما يأتي، أو يبدو أنه لا زمني، فهو يحدث في الزمن، ولكنه لا يحدث في وقته[20].

الخاتمة:


إن انتهاء الزمان رياضيا، يعني اقترابه من الصفر أي تحقق السرعة المطلقة-سرعة الضوء، وتفكك فكرة المابعد والما قبل لتتأسس اللحظة، باعتبارها الراهن الفوري المحدد لكل حدث. لا تفيد النهاية هنا، وعلى حد تعبير عبد السلام بنعبد العالي، بلوغ تلك النقطة التي عندها تتوقف كل حركة، وإنما بالضبط جعل الحركة خاصية كل نقطة، مما يشي بالدخول في حالة من التسريع والإسراع، وهو ما نحن عليه اليوم مع حدث "الانفجار الاتصالي عن بعد"(ليوتار) الذي بات يغدي العالم السرنطيقي (عالم التحكم والضبط) بالصور والرسائل والأرقام وغيرها من المنتوجات الإلكترونية التي تبث وتنقل من مكان إلى آخر، ومن نقطة إلى أخرى بسرعة خاطفة، على طول وامتداد الكوكب اللانهائي. وبقدر ما أضحى الإنسان، أمام هذا البث الفوري، لا يبالي بشأن التاريخ والزمان من حوله، كما كان من ذي قبل بقدر ما صار مأخوذا في عالم من الصور المرئية والمعلومات الضوئية التي غدت تخلق له مشهدا واقعيا يستغني فيه تماما عن كل ما تحمله له ذاكرته الخبيثة من مرجعيات وأساطير. أمام زمان الرقم والسرعة إذن، تتشظى كل الصيغ والأشكال، كما تتحول وتتبخر كل المرجعيات والأنساق، كما لو أن لعبة الخروج التي ما فتئ ينبئها بها "دولوز"، قد غدت تتحقق مع ثروة الاتصالات والإعلاميات، حيث تكاثرت المداخل بنفس القدر الذي تكاثرت في المخارج.

ب – نهاية الأخلاق ما هي إلا بداية لبزوغ قيم التقنية

إن الإنسان وهو يحيا في مدينة الاتصالات "الأمنوبوليتية" على حد تعبير بول فيريليو، هو من غدا بخلاف الأمس، يساير الأحداث ويتفاعل مع العالم على مستوى الزمن الواقعي temps réel، زمن السرعة المطلقة، معه لا مجال، بل لا طائل من التمييز بين الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة، ما دام الفكر قد غدا لأول مرة في التاريخ، فكرا كوكبيا وكونيا. والحال أن الوجود في ظل هذه المدينة/عالم، قد أضحى خاضعا لإكراهات التقنية، حيث الكل يوصف بالتقني: لقد حلت لائحة جديدة، من المفاهيم محل اللائحة القديمة، فأصبحنا نتحدث عن الزمن التقني، المكان التقني، العقل القني بل والإنسان التقني.. وعليه وجب الاعتراف على ما يبدو بأن ثمة إلها تقنيا صار يتسلل هنا وهناك ليحتل رويدا، رويدا، مكان الإله التيولوجي. يكمن الفرق ما بين الاثنين على ما يتضح في أن الإله التقني هو من لا يتطلب منا الامتثال لقواعد النموس الأخلاقي، حيث لا تعنيه الصلاة، الصوم، الزكاة.. وما إلى غير ذلك في شيء. إنه لا يتلكأ لأي وسيط، وفي رمشة عين يغوص بنا في عالم افتراضي، مغاير تماما لما كان فيما قبل، لا من حيث زمانه وفضائه فحسب، لكن من حيث نظامه وإيقاعه أيضا، وهذا ما عبر عنه عبد العزيز بومسهولي في مؤلفه قائلا: "لم يعد التصور الإيطيقي هو الذي يسير العالم، إنما هو العقل التقني الذي غدا شاملا وكونيا، وشكل مرحلة نهاية الإنسان"، هاته النهاية التي تعلن عن ميلاد نموذج إنساني آخر مغاير لأسلافه: إنه الإنسان الرقمي أو العددي، ما دام لكل كائن صنوه العددي.

ج – كونية الرغبة، كونية الحدث، كونية الكائن، كلها جعلت التنافس يجري حول احتلال موقع في العالم الافتراضي.

إن الحدث الكوني الذي غدت العولمة تمثله، هو ما ينذر بتحولات يستحيل حصرها كما أسلفنا، رغم محاولة العديد من القراءات التنبؤ بمستقبلها، تكن بعض بوادر هذه التحولات فيما نشأ اليوم من طرق جديدة في العيش وممارسة الحياة، بل والتعامل مع الذات والآخر. الأحرى أن أولى هذه العلاقات بخاصة هي تلك التي في حماها يسكن الإنسان، أعني اللغة بما هي "مسكن الوجود" على حد تعبير هايدغر. لقد انتقلنا اليوم أو صرنا ننتقل على الأصح من لغة محلية ترسو على قوام الهوية والإثنية وتعكس تمركز الذات Egocentrisme إلى فضاء لغة كونية تتكفل بصيانتها شبكات الاتصال والأنترنيت، فاللغة قد أضحت على حد تعبير الباحث عبد العزيز بومسهولي مختزلة تقنيا(…) مما يفيد أن الهوية اللغوية التي هي موطن الكائن قد تحللت في شبكة الأنترنيت لتفسح المجال للترجمة الآلية، التي تنقل مضمون الخطاب من لغة إلى أخرى، فالمتكلم –فيما يرى الكاتب- لم يعد في حاجة إلى تعلم لغة أخرى ليحاور من يتصل به، لأن الشاشة هي الوسيط الذي يقوم بعملية النقل والتلقي، كل شيء يمضي كما لو أن الكائن الإنساني غدا مكتوبا أو كأنه جزء من كتاب كوني، تنعدم فيه حدود الإيطيقا، وتنسحب فيه الرؤية الأخلاقية لصالح رؤية تقنية تتكفل بإعادة ترتيب اللغات والأفكار، والمعلومات التي أضحت سائلة باستمرار، وتغدي جميع الحقول" . على غرار هذا يتشكل ذلك المركز الفائق أو الأعظم Hypércentre الذي يوجد في كل مكان بقدر ما لا يوجد في أي مكان، وبقدر ما يتجسد كمركز للبث والاستقبال بقدر ما يضفي صبغة كونية لا على الرغبة أو الإنسان فحسب بل أيضا على الحدث والأشياء، الزمان والمكان.. أمام هذا الوضع، ألا يليق بنا التسليم بأن التقنية اليوم، قد أضحت تسيطر على النواة الأخلاقية للمجتمعات؟ إذ بقدر ما تخلق الواقع عبر الهندسة اللحظية للأوطان والبلدان، بواسطة القنبلة المعلوماتية التي أصبحت من الآن فصاعدا، أهم بكثير من المجرى الفعلي للأحداث بقدر ما يسعى كل كائن على البسيطة إلى حيازة موقع في العالم السبيرنطيقي، الأثيري.

أمام عالم كهذا يتساءل الباحث: "كيف يمكن للكائن الإنسان انتشال كينونته واستعادة حريته التي بدت خاضعة لتدبير التقنية؟ كيف يستعيد الإنسان إيطيقاه وينفلت على الأقل بطاقته الإبداعية في ظل هيمنة التقنية؟ . وإن راح يتساءل على هذا النحو، فلأنه يعرف بل ويقر بأن السؤال تقوى الفكر، من حيث كونه الجرثومة التي لا تتوقف عن التناسل وإصابتنا نحن القراء بالحمى..

هذا هو المراد من هذا الكتاب، الذي بقدر ما يضعنا على قدم وساق أمام حكم التقنية وقدرها، بقدر ما يعدنا بأن الأمور غير قابلة للحسم على اعتبار أن سؤال نهاية الأخلاق هو من يكشف لنا عن وجه لوحة باهتة يعرضها علينا المؤلف في عصر اللايقين التقني، عصر تحكمه ربما عودة الأسطوري والرمزي، اللاعقل والجنون، التيهان واستحالة الضبط القبلي لمجريات الأمور.


------------------------------------------------------------------------------

- باحثة في قسم الفلسفة،جامعة وهران،الجزائر[1]

فرنسيس فوكوياما :مستقبلنا بعد البشري،عواقب ثورة التقنية الحيوية،ترجمة إيهاب عبد الرجيم محمد،مركز الإمارات للدراسات والتحوث الإستراتيجية، الطبعة الأولى،2006,ص,40,[2]

المصدر نفسه،ص.46.[3]

فرنسيس فوكوياما:مستقبلنا بعد البشرية،عواقب ثؤرة التقنية الحيوية،ص.180.[4]

- فوكوياما فؤنسيس.بداية التاريخ،المقال المؤسس لكتاب نهاية التاريخ والنسان الاخير،مجلة العرب والفكر العالمي،الغدد15-16،1996,ص87[5]

- فرنسيس فزكزياما. المرجع السابق،الصفحة،73[6]

[7] -Francis Fukuyama :The End of Hestory and the Ladt Man,perennial,1992.P.92.

[8] -Ibid:p,92,

- فوكوياما فرنسيس:نهاية التاريخ،برجمة حسين الشيخ،دار العلوم،بيروت،1993.ص.153[9]

- المرجع السابق،ص.123[10]

- فوكوياما:مستقبلنا بعد البشري،المرجع السابق،ص.86[11]

-المصدر السابق،ص.54[12]

[13] Derrida Jacqes :of gramatologie,trans :Gayatri Cayatri LONDON Univ/PRESS ?1972 ?P/46

-فوكوياما:عواقب الثؤرة الحيوية،ص.123[14]

[15] M Foucaut :L’Archéologie du Savoir,éd Gallimard,Paris ,1969.P 54

-المرجع السابق،ص75[16]

- فوكوياما:مستقبلنا بعد البشري،ص,09[17]

-المصدر نفسه،ص76[18]

المصدر السابق،عواقب ثورة التقنية الجيوية،ص،231[19]

-فوكوياما:مستقبلنا بعد البشري،ص،98[20]


source : http://mahdawiat.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أهل البيت^ الحبل المتصل بين الخالق والمخلوق
مقام علي الأكبر (ع) في كلمات الأئمة (عليهم السلام)
وقفوهم إنهم مسئولون
مكانة السيدة المعصومة (عليها السلام):
يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا
ملامح شخصية الإمام جعفر الصادق عليه السلام
أحاديث في الخشية من الله (عزّ وجلّ)
أقوال علماء أهل السنة في اختصاص آية التطهير ...
فاطمة هي فاطمة.. وما أدراك ما فاطمة
معرفة فاطمة عليها السلام

 
user comment