العمل داخل المنزل ورعاية شؤونه هو واجب من اختصاص الزوجة وعليها أن تؤدي هذا العمل عن اقتناع وطيب نفس، ولكن إذا كانت ممن تعوّدن على مساعدة الخدم لها في بيت أبيها، أو تشكو من علة معينة تتضرر معها من الخدمة، أو أن هناك أي سبب آخر وجيه يدعو إلى وجود خادمة تساعد ربة المنزل على العمل، فالإسلام لا يمانع من وجود الخادمة باتفاق جميع الفقهاء في المذاهب الأربعة، وإن كان الإمام مالك اشترط أن يكون الزوج في حالة يُسر يتمكن معها من دفع أجرة الخادمة.
فالقضية التي تستحق المناقشة هنا ليست قضية إيجاد أو عدم إيجاد الخدم، فهذا راجع إلى ظروف الأسرة، وكل أسرة أدرى بظروفها، وكل ربة بيت مسلمة يفترض فيها أن تكون عادلة في طلبها، فلا تطلب وجود الخدم إلا إذا كانت في حاجة حقيقية إليهم.
إنما القضية التي تحتاج إلى نقاش هي: أسس اختيار الخادمة، ومدى الاعتماد عليها في تربية الأطفال، ونوع المعاملة التي تعامل بها من قبل أفراد الأسرة.
إن الإسلام لا يسمح باستئجار الخدم بشكل عشوائي في أي بيئة كانوا وإلى أي مذهب ينتمون.
فهذا يتنافى مع أخلاقيات الإسلام التي تنادي بأن يكون جميع أفراد البيت قدوة صالحة للبراعم التي تتفتح في أرجاء ذلك البيت، فالقدوة الصالحة هي عماد التربية الصالحة.
لكن من المؤسف أننا عندما ننظر في أحوال بعض الأسر المسلمة المعاصرة، نرى أنها تستأجر المربيات للأطفال وخادمات المنازل بدون انتقاء، وبدون البحث عن الشخصيات الصالحة المؤتمنة على العمل في البيت المسلم المؤسس حسب أهداف الشريعة الإسلامية الغراء.
فمقياس الاختيار لدى تلك الأسر هو أن تكون المربية والخادمة نشيطة في عملها وكفى، لذا فهناك العديد من الأسر المسلمة تحتوي بداخلها مجموعة من الغرباء، الغرباء في العقيدة والأخلاق والمبادىء، الغرباء في اللغة، والمنطق والفكر، وبذلك ينشأ أطفالنا غرباء عن لغتهم لغة القرآن الكريم وعن دينهم، وهم يعيشون بين آبائهم وأمهاتهم.
ويزيد غربة أولئك الأطفال المساكين انشغال هؤلاء الآباء والأمهات، والاعتماد على الأجانب في احتضان الصغار.
وهذه الغربة تعبر عنها طفلة صغيرة في رسالة شعرية تهديها إلى والدها. وقد كتب الرسالة على لسان الطفلة، الشاعر السعودي إبراهيم بن محمد السبيل، وفيما يلي نذكر جزءاً من الرسالة:
يا والدي أنا غرسة من غرسك الحلو الجميل
أدبتني ورعيتني وهديتني خير السبيل
وحنان أمي نسمة كرقيق أنسام الأصيل
ما بين أبي وأمي أتفيأ الظل الظليـل
كانت حياتي يا أبي كالحلم في الليل الطويل
وتركت يا أمــاه بنتك للأيادي الأجنبية
وتركت يا أمــاه بيتك للفتاة المشرقية
وسرحت في الدنيا وقد عاودت أحلام الصبية
ثم اتخذت شعار مالي في الحياة وما عليّة
حتى تحول كل ما في البيت "كوري الهوية"
وإذا حياتك يا أبي صار ريالاً في ريـال
تجري وتلهث جل همك في حياتك جمع مال
ونسيت نفسك بل ودينك في المبادىء لا تبالي
الوقت عندك صفقة بحرام مال أو حلال
والوقت عندك سهرة أواه من سهر الليالي
ثم استمرت الرسالة الشعرية تقول على لسان الطفلة إلى والديها بألم وتفجع وحسرة:
يا والدي كأننــا سكان في أحد الفنادق
صرنا نعيش حياتنا ما بين خادمة وسائق
وتوليان عنكمــا وكلاهما في الدور حاذق
كانت لنا أمنية أن نلتقي والجو رائـق
ونراكما في بيتنـا يا والدي ولو دقائــق
ثم اختتم الشاعر القصيدة بهذه المقطوعة المفزعة المؤلمة:
من كان هذي حالـه في بيته واضيعتـاه
وإذا المربي خـادم أو سائق واضيعتـاه
وإذا البيوت تديرها الأغراب لا واضيعتاه
إن في ألفاظ هذه الأبيات ومعانيها ما يغني عن كثرة الكلام عن خطورة ترك الأطفال في أيدي المربيات والخدم (رجالاً ونساءاً) ولا سيما إذا كان هؤلاء غير مسلمين.
فالأبيات تشير إلى أن الخطورة تكمن في ضياع الأطفال جسمياً ونفسياً وخلقياً وعقلياً، وخاصة إذا تخلى الأب والأم عن دورهما في تربية أولئك الأطفال وراحا يتنافسان على الخروج من المنزل والجري وراء مغريات الحياة الدنيا.
وقد نشرت الصحف والمجلات العديد من صور هذا الضياع، ومن ذلك ما أشارت إليه مجلة المجتمع من أن حادثة وقعت في الكويت مفادها، أن إحدى الأمهات استضافت عدداً من النساء في إحدى الأمسيات وحذرت المربية الخاصة بالأطفال من أن يدخل أحد أطفالها إلى الضيوف، وعندما حضر الضيوف أخذت (الهندية) الطفلين ويبلغان من العمر 8 سنوات، 10 سنوات وأدخلتهما إلى غرفتها، ومضت حوالي ثلاث ساعات والأم مسترسلة مع الضيفات في الحديث والسمر.
وبعد ذهابهن ذهبت الأم إلى غرفة المربية وفتحت الباب، وصعقت لما رأت، وجدت المربية ومعها مربية أخرى، والثانية معها طفل بالإضافة إلى ولدي صاحبة المنزل، والجميع يشاهدون فيلماً جنسياً داعراً، والأولاد مندمجون مع هذا الفيلم الذي أمامهم ولم ينطقوا بكلمة واحدة.
ومن ذلك أيضاً ما ذكرته إحدى الأخوات المسلمات في العدد 81 من مجلة الإصلاح حيث قالت: "كانت طفلة رائعة، في عينيها ذكاء، وفي حركاتها دلال يزيدها جمالاً وتألقاً، ومربيتها الفيلبينية لا تتركها لحظة واحدة وهي لا تفارقها ولا ثانية مما امتعض له قلبي وضاق به صدري، وأخذت أبحث عن أمها وأفكر فيها، ترى ما الذي يشغلها لهذه الدرجة، لدرجة أن ابنتها لا تكاد تصبر على فراق تلك الصليبية المترجلة!
ثم عرفت الأم فيما بعد، وأخذت أراقبها من طرف خفي وهي تتناول كوب الشاي من يد جارتي، فإذا هي إنسانة طيبة الحديث، أول ما يلفت النظر فيها أناقتها الفائقة، اقتربت منها وسألتها: أتعملين يا أختاه قالت: كلا، قلت: وأنا كذلك. إنني أرى أن رسالة المرأة العظيمة هي زوجها وأولادها، بهم تنال رضا خالقها وتعيش سعيدة هانئة. رمقتني بنظرة متسائلة، لكنها سرعان ما تراجعت ثم قالت: ألديك أطفال غير هذه البنت الصغيرة؟ فقلت: نعم. وأنت؟ قالت: أنا يكفيني هذه البنت الشقية، لقد تبت ولن أنجب غيرها قبل فترة طويلة (!!) نظرت إلى البنت وناديتها، لم لا تسلمين عليّ يا حلوة؟ فجاءت هي والصليبية ونظرت إلي وقالت: How do you do)?.
يا للأسى _هذه هي إفرازات التحدث المزعوم!! أمهات متشاغلات بتوافه الأمور وأطفال لا يعون في الحياة إلا ما يشبون عليه مما يتلقونه من صليبية ترضعهم ما تشاء".
تفادياً لهذا الضياع وإنقاذاً للطفل المسلم من مستقبل مظلم، فإنه ينبغي من الأسرة المسلمة إن كانت في حاجة ماسة لمن يخدمها أن تختار الخادمة المسلمة التي تنتمي إلى أسرة وبيئة طيبة، فهذا أولاً فيه نوع من التكافل الإجتماعي بين المسلمين حيث هناك أسر مسلمة فقيرة يموت أطفالها من الجوع في البلاد الإسلامية الفقيرة، وبين أسر الأقليات الإسلامية التي تعيش في ديار الكفار واختيار الخدم من بين هذه الأسر يعود عليها بالنفع الإقتصادي، ويساهم بطريق غير مباشر في تخفيف آلام الأطفال الجياع، ومن جهة أخرى، فإن الخادمة المسلمة وإن كانت جاهلة، فإن ربة المنزل بحكمتها تستطيع التفاهم معها، وتخصص وقتاً لتثقيفها وتخويفها من الله، صحيح ستكون هناك مشكلة اختلاف اللغة، ولكن مع الصبر وبمرور الوقت وحسب جهد ربة المنزل تزول هذه المشكلة، فتتعلم الخادمة اللغة العربية وتحصل على ثقافة إسلامية تكون دافعاً لها على الإخلاص في العمل والخوف من الله، وتحصل ربة المنزل على ثواب دعوتها وتعليمها.
فكل مسلم مكلف بتعليم وتثقيف أخاه المسلم، ومع هذا فلا يجب الاعتماد عليها في تربية الأطفال، بل إن وجودها يجب أن يكون مشجعاً للأم على أن تتفرغ لتربية أطفالها طالما أن الخادمة ستقوم بالكثير من أعمال المنزل، وإذا اضطرت الأم للإعتماد عليها لظروف العمل خارج المنزل أو لمرض تعجز معه من خدمة الطفل، فليكن ذلك الاعتماد في جو من المراقبة الغير مباشرة، ومسألتها عن الطريقة التي تتعامل بها مع الأطفال، وإرشادها إلى الطرق السلمية في تربية الأطفال والتعامل معهم.
ومما يخفف من الآثار السلبية للخدم، اتباع الحكمة في التعامل معهم، والحكمة تكمن في تنفيذ وصايا الشريعة الإسلامية الخاصة بذلك التعامل قال (ص): "إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم".
فالرسول (ص) يبين لنا في هذا الحديث الشريف أن العبيد والخدم المسلمين إخوة لنا في الدين والبشرية، لهم نفوس ومشاعر مثل نفوسنا ومشاعرنا، فهم يتأثرون ويتألمون من القول الجارح والمعاملة السيئة، وما جعلهم الله تحت أيدينا إلا عوناً منه سبحانه وتعالى ليساعدونا على الأعمال، لذلك علينا عدم الخشونة معهم في الحديث وعدم مطالبتهم بالأعمال التي لا يستطيعون القيام بها، وإذا كلفناهم بعمل شاق فيجب علينا مساعدتهم، فهم لم يخلقوا حجارة أو حديدياً، إنهم بشر تتألم أجسامهم بالعمل الشاق، وتجرح مشاعرهم بسيء القول وبذيء الكلام، ومع ذلك يجب علينا إكرامهم وإطعامهم الطعام الطيب الذي نأكل منه، وإلباسهم اللباس الطيب الذي نكسو به أجسادنا وأجساد أولادنا.
وعن أبي علي سويد بن مقرن رضي الله عنه قال: "لق رأيتني سابع سبعة من بني مقرن، ما لنا خادم إلا واحدة، لطمها أصغرنا فأمرنا رسول الله (ص) أن نعتقها".
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "ولقد خدمت رسول الله (ص) عشر سنين فما قال لي قط أف، ولا قال لشيء فعلته لِمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا؟
وقال رجاء بن حيوة: "سهرت عند عمر بن عبد العزيز _أمير المؤمنين ليلة، فبينما نحن كذلك إذا غشي المصباح ونام الغلام (الخادم) فقلت: يا أمير المؤمنين: قد غشي المصباح ونام الغلام فلو أذنت لي أصلحته فقال: إنه ليس من مروءة الرجل أن يستخدم ضيفه، ثم حط رداءه عن منكبيه فقال وصب الزيت في المصباح وأشخص الفتيلة ثم رجع".
إذاً فالتربية الإسلامية توصي بالرفق بالخدم والإحسان إليهم، والتجاوز عن أخطائهم الغير مقصودة لأنهم بشر، ولا بد أن يقعوا في الخطأ. مع تحذيرهم برفق من تعمد الخطأ ومعاقبتهم على الخطأ العمد بالأسلوب الإسلامي الذي يعاقب به الوالد ولده، والأخ أخاه، بقصد التوجيه والردع، وليس بقصد الانتقام والتشفي.
بالإضافة إلى اشعار الأطفال وإقناعهم بأن الخدم ليسوا من أفراد الأسرة، بل هم غرباء أجانب يعملون داخل المنزل بأجر إلى أجل مسمى، لذا يجب معاملتهم بالحسنى وعدم تعمد إثارتهم أو الإساءة إليهم بالقول أو العمل مع الحذر منهم وعدم الإكثار من مخالطتهم.
إن اقتناع الأطفال بهذا الأمر وتدريبهم على الإلتزام بما يحميهم بإذن الله من التعرض للأخطاء والمخاطر التي يتعرض لها بعض الأطفال الذين يتركون بين أيدي الخدم يتعاملون معهم كما يتعاملون مع آبائهم وأمهاتهم.
ومن تلك الأخطاء ما أشارت إليه إحدى الأخوات المسلمات في العدد 696 من مجلة المجتمع، حيث قالت: "عند المدارس الإبتدائية ورياض الأطفال نفاجأ بمناظر غريبة... براعم صغيرة من البنات ينتظرن سياراتهن عند نهاية الدوام المدرسي، وما أن ترى الواحدة منهن السائق آتٍ لاصطحابها إلى البيت حتى تجري لتضمه وتقبله ببراءة، وكأنه أبوها أو أخوها وهو بدوره يحملها... إن الذنب هنا لا يقع على التلميذات الصغيرات وإنما على أولياء أمورهن إذ كيف يَقْبلونَ لبناتهم هذا الوضع... وأنتن أيتها الأمهات الغافلات كيف تتركن بناتكن بمعية رجال غرباء لا تعلمن شيئاً عن سلوكهم وخلقهم، لا تقلن إنهن صغيرات، إذ قد تترك هذه التصرفات آثاراً مستقبلية سيئة عليهن، واعلمن أيتها الأمهات أن بناتكن أمانة في أعناقكن لأنهن لا يدركن خطورة مثل هذه الأمور.. ولذلك أنصحك أختي المسلمة بأن لا تتركي طفلتك وحدها مع رجل أجنبي بل احرصي على إحضارها بنفسك حتى لا تندمي يوم لا ينفع الندم".
إن الأسرة المسلمة مطالبة شرعاً بمراقبة سلوك أبنائها وبناتها وتصرفاتهم مع الخدم (رجالاً ونساء) مهما كانت جنسياتهم ودياناتهم، ومهما كان نوع الخدمة التي يؤدونها للأسرة، ومطالبة أيضاً بالحرص على عدم خلوة بناتها بالرجال من الخدم، وعدم خلوة أبنائها النساء منهم مهما كان سن أولئك الأبناء والبنات، ومن جهة أخرى فإن الأسرة المسلمة مطالبة أيضاً بإلزام الخدم بالإحتشام، والإستئذان، والتمسك بآداب وأخلاق الإسلام أثناء التعامل مع أي فرد من أفراد الأسرة صغيراً كان أم كبيراً.
إضافة إلى ذلك فإن من مكارم الخلاق ومن أسس التعامل الإسلامي الفاضل مع الخدم والأجراء. تسليمهم رواتبهم كاملة غير منقوصة في نهاية كل شهر بدون تأخير ولا مماطلة.
قال (ص): "قال الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة. رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
وزيادة رواتبهم وتحسين أوضاعهم المعاشية والتصدق عليهم بما تجود به نفوس أفراد الأسرة، فهذه كلها حوافز مشجعة على محبة الخدم لأفراد الأسرة وعلى إخلاصهم في العمل، وهو سبب للوقاية من شرهم وضررهم بإذن الله.
---------------------------------------------
source : البلاغ