البَدَاءُ أو تغيير المصير بالأَعمال الصالحة أو الطالحة 1- المفردات، مادة "بد"، ص 40.
تحتل مسألة البَدَاء في عقائد الشيعة الإمامية المكانة الأُولى. وبقدر ما تحظى هذه المسأَلة من الاهتمام والعناية لديهم تلقى نقداً لاذعاً وهجوماً عنيفاً من جانب علماء السنة. فلا يمرون عليها إلاّ ويهاجمونها بشدة وقسوة. وهذا من العجب أنْ تعتبر طائفة مسألة، من صميم الدين وجوهره، وأُخرى تعتبرها فكرة هدَّامة للدين.
وأعجب منه أَنَّ الباحث إذا نظر فيما سيأتي، يقف على أَنَّ النزاع القائم على قدم وساق نزاع لفظي، لا يمت إلى النزاع المعنوي والجوهري بصلة. وقد حصل النزاع من عدم إمعان المخالف فيما يتبناه الموافق. ولو وقف على مراده ومقصده لاتّفق معه في هذه المسألة وقال: إنّ البَدَاء بهذا المعنى هو عين ما نطق به الكتاب العزيز، وتحدثت عنه السنَّة الطاهرة، وأذعن به جهابذة العلم من أهل السنة.
الأمر الأول: تفسير لفظ البَدَاء
إنَّ البَدَاء في اللغة هو الظهور بعد الخفاء.قال الراغب في (مفرداته): "بدا الشيء بدوءاً وبداءً:ظهر ظهوراً بيّناً، قال تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾(الزمر:47-48)"1.
والبَدَاء بهذا المعنى لا يطلق على الله سبحانه بتاتاً.لاستلزامه حدوث علمه تعالى بشيء بعد جهله به، ولا يظن بمسلم عارف بالكتاب والسنة أَنْ يطلق البَدَاء بهذا المعنى على الله سبحانه. فالشيعة الإمامية الذين يسعون إلى تنزيهه سبحانه من كل نقص وعيب بحماس أكبر من سائر الفرق الإسلامية، يستحيل عليهم أنْ يطلقوا البَدَاء على الله بهذا المعنى. بل لهم في ذلك تفسير آخر سيأتي بنص كلامهم.
ألأمر الثاني: إحاطة علمه بكل شيء
اتّفقت الإمامية تبعاً لنصوص الكتاب والسنّة والبراهين العقلية على أنّه سبحانه عالم بالأشياء والحوادث كلها غابرها وحاضرها ومستقبلها، كليّها وجزئيها، لا يخفى عليه شيء في السَّماوات والأرض.
قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ﴾(آل عمران:5). وقال سبحانه: ﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ شَىْء فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ﴾(إبراهيم:38).
وقال أمير المؤمنين عليه السَّلام: "كل سر عندك علانية، وكل غيب عندك شهادة"2.
وقال الإمام الباقر عليه السَّلام: "كان الله ولا شيء غيره، ولم يزل الله عالماً بما كوّن، فعلمه به قبل كونه، كعلمه به بعد ما كوّنه"3.
وقال الإمام الصادق عليه السَّلام: "من زعم أنَّ الله عز وجل يبدو في شيء لم يعلمه أمس، فابرأوا منه"4.
وقال أيضاً: "فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أنْ يصنعه ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إنَّ الله لا يبدو له من جهل"5.
وقال الإمام الكاظم عليه السَّلام: "لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء"6.
وقال الإمام أبو الحسن الرضا عليه السَّلام: "إن الله عِلْم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه. قال كذلك هو"7.
هذه تصريحات أئمة الشيعة في سعة علمه سبحانه، وامتناع البداء عليه بمعنى الظهور بعد الخفاء وهم في الوقت نفسه يقولون: "ما عبد الله بشيء مثل البداء". ويقولون: "ما بَعث الله نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية، وخلع الأنداد، وأنَّ الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء".
ويقولون: "ما تَنبأ نبي قط حتى يقرَّ لله تعالى بخمس: البداء والمشيئة...".
ويقولون: "لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر، ما فتروا عن الكلام فيه"8.
أفهل يصح أن ينسب إلى عاقل فضلاً عن باقر العلوم وصادق الأُمة القول بأنَّ الله لم يعبد ولم يعظّم إلاّ بالقول بظهور الحقائق له بعد خفائها عنه، والعلم بعد الجهل، كلا. كل ذلك يؤيد أنَّ المراد من البداء في كلمات هؤلاء العظام غير ما يفهمه المعترضون سواء أكان إطلاق البداء عليه حقيقة أم كان من باب المجاز.
الأمر الثالث: الكتاب والسنّة مليئان بالمجاز
إن القرآن الكريم وسنَّة النبي الأكرم مليئان بالمجاز والمشاكلة، فترى القرآن ينسب إلى الله تعالى "المكر" و "الكيد" و"الخديعة" و"النسيان" و"الأسف"، إذ يقول:﴿يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْد﴾(الطارق:15-16).﴿وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكراً﴾(النمل:50).﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَخَادِعُهُمْ﴾(النساء:142).﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ﴾(التوبة:67).﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾(الزخرف:55).
إلى غير ذلك من الآيات والموارد.
وليس لأحد أنْ يغتر بظواهر هذه الآيات والألفاظ فيثبت لله سبحانه هذه الصفات بالمعاني المتبادرة منها، بل لا بد أن يمعن النظر في القرائن حتى يقف على المراد الواقعي، سواء أكان موافقاً للمعنى اللغوي أم لا.
ومن هذا القبيل توصيفه سبحانه بالبداء في أحاديث أئمة أهل البيت وكلمات العلماء.فلا يصح الاغترار بظاهر هذه الكلمة.
الأمر الرابع: تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة
دلت الآيات والأحاديث الصحيحة على أنَّ الإنسان قادر على تغيير مصيره بحسن أفعاله وصلاح أعماله، بمثل الصدقة والإحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين والاستغفار والتوبة وشكر النعمة، إلى غير ذلك ممّا يوجب تغير المصير وتبدل المقدر السيء، إلى المقدر الحسن. كما أنه قادر بسبب الأعمال الطالحة على تغيير مصيره من الحسن إلى السيء بارتكاب طالح الأعمال وسيّئها. فليس الإنسان محكوماً بمصير واحد ومقدّر غير قابل للتغيير،ولا أنه يصيبه ما قدّر له شاء أم لم يشأ، بل المصير والمقدّر يتغيّر ويتبدل بشكر النعم، أو كفرانها، وبالتقوى والمعصية إلى غير ذلك من الأُمور، من دون أن يمس ذلك بكمال علم الله سبحانه بأن يوجد فيه التغير والتبدل. كما سيوافيك بيانه.
وهناك آيات كثيرة وروايات صحيحة تنص على تغيير المصير بعمل الإنسان نذكر القليل منها:
القرآن وتأثير عمل الإنسان في تغيير مصيره
1- قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد:11).
2- وقال سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح عليه السَّلام: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّات وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾(نوح:10-12).
3- وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(الأعراف:96).
4- وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾(الطلاق:2- 3).
5- وقال سبحانه: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾(إبراهيم:7).
6- وقال سبحانه: ﴿وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾(الأنبياء:76).
7- وقال سبحانه: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ إنِّي مَسَّني الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرّ...﴾(الأنبياء:83-84).
8- وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(الأنفال:33).
9- وقال سبحانه: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَسَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِين﴾(الصافات:143-146).
10- وقال سبحانه: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾(الأنبياء:88).
11- وقال سبحانه: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين﴾(يونس:98).
وهناك آيات أخرى تدل على تأثير الأَعمال الطالحة في تغيير المصير كقوله تعالى: ﴿وضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾(النَّحل:112).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الأنفال:53).
وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِين وَشِمَال كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُل خَمْط وَأَثْل وَشَيءْ مِنْ سِدْر قَلِيل * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ﴾(سبأ:15-17).
فقوله سبحانه: (وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ) بعد عرض القصة، نصّ في كونه ضابطة إلهية جارية في الأُمم جمعاء، وليست مجازاة الكفور إلاّ سلب النعمة عنه.
وفي هذه الآيات في كلا الطرفين دليل على ما نقول ولأجل إكمال البحث نذكر بعض الأحاديث:
الروايات وتأثير العمل في تغيير المصير
1- قال أمير المؤمنين عليه السَّلام: "أفضل ما توسَّل به المتوسلون الإيمان بالله وصدقة السر، فإنها تذهب الخطيئة وتطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان"9.
2- وقال الإمام الباقر عليه السَّلام: "صلة الأرحام تزكي الأعمال، وتُنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتُيسر الحساب، وتنسئ في الأجل"10.
3- وقال الصادق عليه السَّلام: "إنَّ الدعاء يرد القضاء، وإنَّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق"11.
4- وقال الإمام موسى الكاظم عليه السَّلام: "عليكم بالدعاء فإنَّ الدعاء والطَّلبة إلى الله عزّوجل يرد البلاء.وقد قدّر وقضى فلم يبق إلاّ إمضاؤه، فإذا دُعي الله عزوجل وسُئل صرف البلاء صرفه"12.
5- وقال الإمام أبو الحسن الرضا عليه السَّلام: "يكون الرَّجُل يَصِلُ رَحِمَه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيره الله ثلاثين سنة ويفعل الله ما يشاء"13.
هذا بعض يسير ممّا روي عن أئمة أهل البيت وقد روى أهل السنَّة نظير هذه الروايات نذكر بعضها:
6- روى السيوطي عن علي رضي الله عنه عنه أنَّه سأل رسول الله عن هذه الآية: "يَمْحو الله ما يشاءُ"، فقال: "لأقرن عينيك بتفسيرها. ولأقرن عين أُمتي بعدي بتفسيرها: الصَّدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، واصطناع المعروف، يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر، ويقي مصارع السوء"14.
7- وأخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه عنهما قال: "لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر"15.
8- وعن أبي هريرة عن النبي قال: "لا يردّ القضاء إلاّ الدعاء، ولا يزيد في العمر إلاّ البرّ"16..
9- وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن ثوبان، قال: قال رسول الله: "لا يرد القدر إلاّ الدعاء. ولا يزيد في العمر إلاّ البر. وإنَّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه "17.
10- وروى عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الدعاء ينفع ممّا نزل وممّا لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء"18.
وهذا قليل من كثير، وغيض من فيض ممّا ورد في تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة، وقد نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد، فمن أراد استقصاءها فليرجع إلى مظانّها.
وفي الختام نذكّر بأنَّ القول بوجود الرابطة بين الحسنات والسيئات والحوادث الكونية لا يهدف إلى إبطال العلل الطبيعية وإنكار تأثيرها، كما لا يهدف إلى تشريك الحسنات والسيئات مع العوامل المادية. بل المراد إثبات علة في طول علة وعامل معنوي فوق العوامل المادية وإسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن بالترتيب.
الأمر الخامس: إمكان النسخ في التشريع والتكوين
إنَّ المعروف من عقيدة اليهود أنهم يمنعون النسخ سواء أكان في التكوين أم في التشريع.وقد استدلوا على امتناعه في التشريع بوجوه مذكورة في الكتب الأصولية أوضحها هو أنَّ رفع الحكم الثابت لموضوعه إما أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها، وإما أن يكون من جهة البداء وكشف الخلاف على ما هو الغالب في نسخ الأحكام العرفية، فالأول ينافي حكمة الجاعل مع أنه حكيم والثاني يستلزم جهله تعالى. وكلاهما ممتنع.
وأجيب عنه في الكتب الأُصولية بما مثاله: إنَّ النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة كما لا يلزم منه البداء المحال في حقه. لأن معنى النسخ ارتفاع الحكم المجعول المقيد بزمان معلوم عند الله ومجهول عند الناس.ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لأجل انتهاء أمده الّذي قيد به، وحلول غايته الواقعية الّتي أنيط بها. ومن المعلوم أن للزمان دخالة في مناطات الأحكام فيمكن أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة في سنين ثم يخلو عن تلك المصلحة بعد انتهائها. وعندئذ ربما تقتضي المصلحة بيان الحكم من دون بيان حدّه مع أنَّ المراد لبّاً هو المحدود بالحد الزماني، فالنسخ بهذا المعنى تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان، ولا يستلزم أحداً من التاليين المذكورين في الاستدلال.
واستدلّ اليهود على امتناع النسخ في التكوين19 بأنَّ قلم التقدير والقضاء إذا جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه.
وبعبارة أخرى: ذهبوا إلى أنَّ الله قد فرغ من أمر النظام، وجف القلم بما كان، فلا يمكن لله سبحانه محو ما أثبت وتغيير ما كتبه أوّلاً.
ويَردّ عليهم سبحانه في بيان إمكان هذا النسخ في مجال التكوين بالآية التالية: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(الرعد:39). وعلى ذلك فإنّ الله سبحانه باسطُ اليدين في مجال التكوين والتشريع، يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء لا يمنعه من ذلك مانع. وما تتخيله اليهود، وما انتحلوه من أن الله قد فرغ من الأمر وانتهى من الإيجاد والتكوين فصار مكتوف اليدين، مسلوب القدرة، فترده هذه الآية وما سبقها من الآيات والأحاديث.وهذا هو القرآن الكريم يصرح بكونه تعالى: ﴿كُلَّ يَوْم هُوَفِي شَأْن﴾(الرحمن:29).
ويقول أيضاً: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(الأعراف:54). الآية مطلقة غير مقيدة بزمان دون زمان.ولأجل ذلك ينسب إلى نفسه كل ما يرجع إلى الخلق والإيجاد ويبين ذلك بصيغ فعلية استقبالية دالة على الاستمرار، وناصّة على أنَّ الفيض والخلق والإيجاد والتدبير بعد مستمر.
يقول سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَال فِيهَا مِنْ بَرَد فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن من يَشَاءُ﴾(النور:43).
فالأفعال المتعددة الواردة في هذه الآية أعني قوله:"يزجي"، "يؤلف"، "يجعل"، "يخرج"، "ينزل" تكشف عن كونه كل يوم هو في شأن وأنّ أمر الخلق والإيجاد والتصرف بعد مستمر ولم يفرغ منه سبحانه كما تدعيه اليهود.
وقد حكى سبحانه عقيدة اليهود بقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾(المائدة:64). فقول اليهود: (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) يعكس عقيدتهم الكلية في حق الله سبحانه، وأنَّه مسلوب الإرادة تجاه كل ما كتب وقدّر وبالنتيجة عدم قدرته على الإنفاق زيادة على ما قدّر وقضى.فردّ الله سبحانه عليهم بإبطال تلك العقيدة أوَّلاً بقوله: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ).
وثانياً بقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ). ولأجل ذلك فسّر الإمام الصادق الآية المذكورة بقوله:
"إنَّ اليهود قالوا: قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص. فقال الله جل جلاله تكذيباً لقولهم: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾20.
إلى هنا تبين أنَّ القول بتغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة يوافق الكتاب والسُّنة.والقول بأنَّ المقدر لا يتغير وأنَّ الله فرغ من الأمر يوافق قول اليهود.
والعجب أنَّ بعض العقائد اليهودية تسربت إلى المجتمعات الإسلامية في بعض الفترات، فهذا عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن فضل وقال له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي...قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْم هُوَفِي شَأْن﴾ وقد صح أنَّ القلم قد جفَّ بما هو كائن إلى يوم القيامة.
فأجاب الحسين متأثراً بالعقيدة اليهودية بقوله: ﴿كُلَّ يَوْم هُوَفِي شَأْن﴾ فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتدؤها"21.
وهذه العبارة من المسؤول تكشف عن تسرب عقيدة اليهود إلى تلك الأوساط. وهو باطل بنفس الآية لأن معناها أنَّه يحدث الأشياء ويبتدئ بها لا أنَّه يبديها بعد ما ابتدأها في الأزل. ويظهر ذلك جلياً بالمراجعة إلى الأحاديث الّتي نقلناها عن الصحاح حول القدر، فإن مضامينها تطابق هذه النظرية، وتعرب عن أنَّ القدر في نظر هؤلاء عامل حاكم على كل شيء.
*الإلهيات، آية الله جعفر السبحاني، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2، ص221-233
2- نهج البلاغة، الخطبة 105، طبعة عبده.
3- بحار الأنوار، ج 4، باب العلم وكيفيته، ح 23، ص 86.
4- المصدر السابق، ص 111، الحديث 30.
5- المصدر نفسه، ص 121، الحديث 63.
6- الكافي ج1، باب صفات الذات، ص 107.
7- بحار الأنوار، ج 4، ص 84، الحديث 17.
8- راجع للوقوف على هذه الأحاديث، بحار الأنوار، ج 4، الأحاديث 11، 19، 23، 26، ص 107- 108.
9- البحار، ج 90، كتاب الذكر والدعاء، الباب 16، الحديث 2.
10- الكافي، ج 2، ص 470.
11- البحار، ج 90، كتاب الذكر والدعاء، الباب 16.
12- البحار، ج 90، باب فضل الدعاء والحث عليه، ص 295.
13- الكافي، ج 2، ص 470.
14- الدرّ المنثور، ج 4، ص 66.
15- الدر المنثور، ج 4، ص 66.
16- التاج، ج 5، ص 111
17- المستدرك، ج 1، ص 493.
18- المصدر السابق.
19- الّذي يراد منه في مورد الإنسان أنّه مخيّر في حياته، غير مسيّر، وأنّ له تغيير مصيره بتغييره مسيره على ما تقدّم.
20- التوحيد، باب معنى قوله عز وجل وَقَالَتِ الْيَهُودُ، الحديث الأول، ص 167.
21- الكشَّاف:3/ 189.تفسير الرحمن.
source : http://almaaref.org