أمیر طاهریكیف یفكر المسلمون الیوم؟ وهل یرفض معظمهم التفسیرات الرادیكالیة للإسلام، أم أنّ الإقبال على تلك التأویلات یتزاید؟ ورغم أنّ الإجابة على هذا السؤال یمكن أن تكون تجریبیةً أو إحصائیة؛ فإنّ المراقبین الغربیین غیر متوافقین على الإجابة. أما الجهود الإحصائیة المبذولة من خلال الاستطلاعات؛ فإنها ما جاءت بنتائج مقنعة، وزادت من الشكوك بشأن الجدوى والجدیة. بید أنّ أحداً لا یشكُّ فی أهمیة السؤال، إذ على الإجابة علیه تتوقف أسالیب مواجهة الجوانب السیاسیة للحرب على الإرهاب، وطرائق كسْب العقول والقلوب، كما سمعنا وقرأنا مراراً كثیرة فی السنوات الثلاثة الأخیرة. فإذا كان معظم الملیار والثلاثمائة ملیون مسلم لا یعتنقون آراء متشددة؛ فمعنى ذلك أنّ الأمیركیین(والغربیین) یستطیعون التعاوُن مع الأكثریة المعتدلة، لمواجهة القلة المتشددة والعنیفة. ومعنى ذلك أیضاً أنّ الدبلوماسیة تملك حظوظاً، ولا حاجة للقلق من »صراع الحضارات«. وفی هذه الحالة یمكن أیضاً تحمُّل المخاطر التی یتضمنها الانفتاح السیاسی على بعض أنظمة الحكم، إذ سیكون تجاوُزها سریعاً وممكناً. أمّا إن حدث العكس، بمعنى أنّ التشدد الذی تصاعد فی السنوات الأخیرة سوف یستمر؛ فإنّ الدبلوماسیة لن تكون مُجْدیة، كما أنّ الصِدام الحضاریَّ سیُصبح مُرجَّحاً؛ فی حین أنّ التحالُف الأمیركی والأوروبی مع الأنظمة الأقلّ دیمقراطیة یُصبح الأكثر ملاءمة!قبل عقدٍ أو عقدین ما كان سؤال التشدد مطروحاً بهذه الصیغة. وذلك رغم حدوث الثورة الإسلامیة فی إیران، ووجود المتشددین عَقَدیاً والذین كانوا یلتزمون جانب الهدوء. وما كان أحدٌ مستعداً لمناقشة إمكان صیرورة الرادیكالیین أكثریةً سائدةً طبعاً. ویحدث عكسُ ذلك على مستوى النقاش منذ مدة: هناك السخط الناجم عن ظروف الفقر والتعاسة والإحساس بالظلم. وهناك ازدیاد قدرة الناس على الاطّلاع والتعبیر عن التذمُّر بسبب التعلیم ووسائل الإعلام. وهناك النزوع التمدینی، والذی جلب معه صیغاً من التدین أكثر رسمیةً وشكلانیةً على حساب التقالید والأعراف وأشكال التدین الشعبی. وهناك الثوران على المادیة (الغربیة) ذات النزوع الاستهلاكی؛ والتی ازدادت نفوذاً بانقضاء الحرب الباردة وانطلاق العولمة. وهناك القدرة على تحشید السخط السیاسی من طریق وسائل الإعلام. وهناك أخیراً السیاسات العنیفة التی سلكتْها الولایات المتحدة بعد أحداث سبتمبر (2001م) الفاجعة.بید أنّ الضجیج الحادث نتیجة هذه الأمور كلّها، لا ینبغی أن یجعلنا نخضع لانطباع الكثرة والقوة. فستظل بعض أحداث العنف تحدث هنا وهناك وفی البلاد ذات الكثرة المسلمة، كما فی البلدان الغربیة. غیر أنّ التتبُّعَ الدقیق للأوضاع الثقافیة والدینیة فی العالم الإسلامی لا تدفع للتشاؤم. فصحیحٌ أنّ المتشددین ینفخون كلَّ یوم فی أبواق الویل والثبور وعظائم الأمور؛ لكنّ كلَّ الإشارات والدلائل تضعُنا فی بیئاتٍ أخرى مختلفة تماماً.الصَخَب والغضب: اعتاد الغرب أن ینظر للعالم الإسلامی من قریبٍ أو بعیدٍ فیراه حیناً مظلماً صامتاً مجلَّلاً بالجمود والسواد، وطوراً شدید الصخب والغضب، مثل ضَخَب ومَوَران أسواقه الأسطوریة، والتی یدفعُ ضجیجُها باتجاه السُخْط والانفجار. وهكذا فإن العالم الإسلامی أو عالم الإسلام تَرَاوحَ بین الصمت والجهر؛ ولا شكَّ أنّ فترة الصمت التی بدأت أواخر الخمسینات كانت نتاج مشكلاتٍ داخلیة. ونحن على یقین أنّ تلك الفترة قد انقضت وأنّ الجهر عاد لیكتسب الید العلیا منذ عقدٍ من الزمان أو أكثر؛ والمشاركون فی هذه العَلَنیة كُثُرٌ وأُناسٌ من نوعٍ جدید. وهناك عدة أسبابٍ لهذه العلنیة المتصاعدة؛ بید أنَّ أهمَّها ثلاثة: الأول الجهود الكبیرة فی التعلیم، والتی آتت ثمارَها، بحیث ما عادت النقاشات حتى الدینیة حكراً على رجال الدین، كما أنَّ النقاشات العامة ما عادت حكراً على البیروقراطیة القاعدة فی حضن الظروف السائدة. وساعد التمدین والحشد الجماهیری فی المدن الجدیدة والقدیمة، وتزاید أعداد أبناء الطبقات الوسطى على تبلور إسلام آخر لجمهورٍ جدید. ثم إنه عبر القرن العشرین، مضى مئات الألوف إلى الغرب للتعلیم، وقد عاد أكثر هؤلاء بتوجهاتٍ وأفكارٍ جدید. والسبب الثانی الضعف الذی نال من السلطات، لمعاناتها من مسائل الشرعیة؛ ومن ثَمَّ فقدها لاحتكار الإعلام. فقد زالت ظروف الحقبة الأولى التالیة للاستعمار، وبرزت مصادرُ أخرى للسلطة الثقافیة وللاستعلام والخبر والرأی، وجمعیات ثقافیة، واتحادات مهنیة ونقابات أعمال. وظهر أیضاً، وهذا أمرٌ شدید الأهمیة ما صار یُعرف بالفضائیات التی لا یمكن الحیلولة دون أخبارها، كما ظهرت الصحف المتعددة الطبعات، والمجلاّت. والسبب الثالث أنه قبل خمسة عشر عاماً كان عدد الناس فی المشرق الذین یدخلون على الإنترنت 3،5 ملیون؛ لكنْ منذ ذلك الحین فإنّ هذا العدد صار یبلغ الخمسة أضعاف. وفی إیران وحدها یقال إنّ 6 ملیون یدخلون إلى الإنترنت كل یوم. وفی العام 1997م كانت هناك فضائیتان كلتاهما تبثان بالعربیة ولساعاتٍ محدودة. أما الیوم ففی المنطقة حوالی الخمسین فضائیة بـ 11 لغة وعلى مدى الأربع والعشرین ساعة، وما عادت ما تبثُّه مملاً أو مُعاداً مكروراً. وهناك زیادة ملحوظةٌ فی عدد الصحف وتوزیعها. وفی بلدٍ مثل العراق بعد سقوط الحكم السابق، یمكن اعتبار تلك الزیادة تاریخیة، أمّا فی بلدان أخرى فتدل الزیادة الهادئة لكنْ المطَّردة على التطور الطبیعی، والتنمیة التی لا تعرف توقفاً أو تردداً. وبالطبع فإنّ هذا الجهر الذی نتحدثُ عنها لا یمسُّ الـ50% من المسلمین الذی یتحركون ویتفاعلون بنفس الدرجة أو العُمق. بید أنّ إشارتنا إلى التعددیة فی الأجواء، تعنی أیضاً أنّ الحركیة والنقاشات ما عادت قاصرةً على المراكز الثلاثة التی اعتادت أن تحدد كلَّ شیء فی الشرق الأوسط: مصر وتركیا وإیران؛ باعتبارها قلب العالم الإسلامی. فإندونیسیا أكبر بلاد الإسلام من حیث عدد السكان، بعیدة عن القلب، لكنها صارت تؤثّر وتفعل. وحتى بلدان مثل لیبیا وسوریا، كانت تحاول البقاء مغلقة، ما عادت كذلك بعد موجات الأخبار والأفكار والصُوَر التی اخترقت كلَّ الحُجُب.وبسبب هذا التطور فی وسائل الإعلام، ووسائل الاتصال؛ فإنّ مسلمین كثیرین خارج »دار الإسلام« صاروا یتفاعلون ویتأثرون ویؤثرون وبخاصةٍ أنّ أعدادَهم خارج بلدان الأكثریات تتجاوز الـ 400 ملیون نسمة. وهذا یُتیح التواصُل عبر القارات والثقافات واللغات والمساحات الجغرافیة والسیاسیة. وبدون وعیٍ أحیاناً فإنّ كثیراً من هؤلاء یشكّلون بسلوكهم وأفكارهم المتغیرة تحدیاتٍ للمؤسسات التقلیدیة القائمة مثل المسجد والحسینیة والحوزة والتكیة واللویاجیرغا والدیوانیة. وهكذا وبدون مبالغةٍ فإنَّ كل شیءٍ فی هذا العالم التقلیدی یهتز ویتغیر. وهذا التغیر لیس سطحیاً كما یتحدث الذین یكرهون الغرب؛ بل هو تغیرٌ عمیقٌ، بحیث یمكن القول إنّ هذا الجهر هو غیر الجهر الذی عرفه المسلمون فی بعض فترات تاریخهم الحدیث.الإیمان والقوة: أول مظاهر التغییر وأهمُّها أنّ النقاشات الجاریة هی نقاشاتٌ حول مشكلات هذا العالم وحول النجاح فیه، ولیست نقاشاتٍ أُخرویة. فی أواخر القرن التاسع عشر، كتب السیاسی الإیرانی المعروف میرزا ملكم خان قائلاً أو ناصحاً الإصلاحیین: كل شیء جدیدٍ تریدون قوله قولوه بلغةٍ دینیة. وإذا كان الأمر یتعلق مثلاً بنظّارة، وجاء مُلاّ لیقول لكم إنها ما كانت معروفةً أیام النبی، فقولوا له : نحن نحتاج إلیها لقراءة القرآن! على أنّ هذه النصیحة ما عادت ضروریة. فاللغة الدینیة صار لها مكانها ومناسبتها، وللأمور الدنیویة لغاتها ومناسباتها. وما عاد المأثور الدینی كافیاً لإقفال النقاش، لأنّ جمهوراً متزایداً صار یستطیع التفكیر بمفرده، ودونما حاجةٍ للتطریز بالنصوص. وهناك سببٌ آخر، فَعِلْمُ العقیدة أو أصول الدین تجمَّد منذ القرن الثانی عشر المیلادی، وأوكل الأمر كلُّه إلى الفقهاء الذین تضاءل لدیهم الاجتهاد، وصار مقصوداً على الحاشیة القصیرة أو الفتاوى السریعة وفی الشؤون الشعائریة فی الأكثر. ومنذ عقودٍ یحاول العلماءُ العودة إلى أحضان العصر والمستقبل بدون نجاحٍ كبیرٍ لأنّ الإصلاح الدینیَّ لم یحصل، ولیس هناك حتى الیوم علم كلامٍ أو عقیدةٍ حی ومتداخل مع قضایا العصر. وقد ازداد علمُ اللغات الإسلامیة العربیة والفارسیة والتركیة والأوردو بدخول ألوف الكلمات من اللغات العصریة الحیة إلیها. والكلمات الجدیدة تعبّر عن أفكارٍ ومُثُلٍ غربیة. كیف یستطیع مثقفٌ مسلمٌ الیوم مناقشة مسائل حقوق الإنسان والمجتمع المدنی والتعددیة والمحاسبة والانتخابات والدیمقراطیة والحكم الصالح وحكم القانون والعدالة الاجتماعیة، دونما تجاوُزٍ للمصطلحات والمفاهیم الموروثة أو التقلیدیة؟! ولذلك فحتى رجال الدین یلجأون للمفردات المترجمة عندما یتحدثون فی الشأن العام أو ما یقاربُه. والرئیس الإیرانی السابق محمد خاتمی، وهو رجلٌ دینٍ معتبر، یستعمل أسماء هوبز وهیغل ولوك، أكثر مما یستعمل أسماء ومصطلحات رجال الدین القُدامى أو المُحدَثین.ثم إنّ النقاش فی العالم الإسلامی لیس دنیویاً وحسْب؛ بل هو سیاسیٌّ فی الأغلب الأعم. عندما ینظر المرء نظرةً سطحیةً من الخارج، یظن أنّ العالم الإسلامیَّ واحد. وهو فی الحقیقة حاشدٌ بآلاف الآراء والتوجهات والاختلافات. إنه دار تتضمن آلاف المنازل، تماماً مثلما هو علیه الأمر فی الكاثولیكیة. هناك مشتركاتٌ بین السنة والشیعة مثلما هناك مشتركاتٌ بین الكاثولیك والإنجیلیین الجدد! ثم إنّ الطائفتین تعجان باتجاهاتٍ كثیرةٍ ویحدُثُ التوتُّر فیما بینها فی غالب الأحیان. أما الاتجاه السیاسی للنقاش فهو لتجنُّب الاختلافات العقدیة، ثم لأنّ المسلمین یعتبرون المشكلات السیاسیة أساسیة، ویمكن الوصول إلى إجماعٍ فیها مثل مُعاداة الغرب أو إسرائیل. إنّ هذا التسییس یظهر حتى فی خُطَب الجمعة بما فی ذلك خطبة الجمعة ببروكلین (نیویورك). بید أنّ المسلمین ما عادت تستهویهم الإثارات السیاسیة فی الشعائر الدینیة. ذلك أنّ الإنسان إنما یلتمس الدین من أجل السكینة والطمأنینة والسعادة واستیعاب مشكلات الشباب فی الأُسرة؛ ولیس من أجل نصرة هذا الاتجاه السیاسی على ذاك.النقاشات الجدیدة: ما انتهى الصراع على قلوب وعقول المسلمین؛ بل الأحرى القول إنه بدأ. فعندما تنتهی هذه الجولة من المخاض الكبیر الدائر، سوف نصل إلى حقائق جدیدة مع العالم من خلال تلاؤمٍ متجدد. وبالنسبة لغیر المسلمین فإنّ ذلك سیُظهر نوعاً جدیداً من أنواع الجهر الذی یتجلى وجهه الحقیقی. قبل جیلین كان البارز مجموعتین اثنتین: مجموعة القومیین، ومجموعة الیساریین على اختلاف فِرَقهم. ومن هاتین المجموعتین فی الأربعینات والخمسینات خرج الفنانون والأدباء والمفكرون بتركیا وإیران والبلاد العربیة. أما الیوم، وباستثناء العراق حیث یوجد ببرلمانه بعض الشیوعیین؛ من الصعب أن نلاحظ شیوعیاً فی الحیاة الفكریة أو العامة؛ وكذلك الأمر مع القومیین. أما الثوران القومی لدى الأكراد فسببه عدم وجود دولةٍ وطنیةٍ عندهم. وهناك بعض القومیین فی إیران الذین یحاولون منافسة الخمینیة؛ لكنهم أزیحوا إلى الهامش وفقدوا أهمیتَهم؛ فی حین ما یزال هناك قومیون متطرفون بتركیا. ومع تواری الشیوعیین وتضاؤل القومیین حلَّت محلَّهم فرقتان جدیدتان: الإسلامیون بالمعنى العام والذین یسوَّدون كلَّ شیء ومجموعة صغیرة ممن یمكن تسمیتهم »علمانیین«. أمّا المعسكر الإسلامی فیسیطر فیه الاعتقاد أنّ الخیار الإسلامی خیارٌ تاریخیٌّ، وإذا أُتیحت له الفرصة فیستطیع أن یعرض بدیلاً للثقافة الغربیة فی القرن الواحد والعشرین. وفی هذا المعسكر ثلاثة اتجاهات: اتجاه الجهاد والفتح، والذی یظن المراقبون الغربیون السطحیون أنه الاتجاه الغالب. والاتجاه العقلانی. وأخیراً الاتجاه التقلیدی المُسالم، أما الاتجاه المناضل فی القرن العشرین فیجد رائدین له هما أبو الأعلى المودودی(1903-1979م)، والمصری سید قطب (1906-1966م). ولهذا الاتجاه المقاتل تنظیماتٌ سریةٌ وشبكات وجمعیات من مثل القاعدة والجهاد الإسلامی والجماعة السلفیة للدعوة والقتال. ویجد هذا الاتجاه تمویلاً وتسلیحاً من بعض الأفراد الأثریاء، كما أنّ له صُحفاً وقنوات تلفزیونیة ناجحة لتلاعُبها بعواطف الناس، تدعمهم أو تقول بأفكارهم. أما اتجاه »العقلانیة والدعوة« فإنه یعود بجذوره إلى جمال الدین الأفغانی (1838-1897م) وتلمیذه المصری محمد عبده (1849-1905م). وحدیثاً یذهب البعض إلى اعتبار السلفیین جزءًا من هؤلاء. لكنْ فی الواقع السلفیون مستقلون الیومَ، وبعضٌ منهم صار أمیل إلى تیار الجهاد والفتح. وقد تبنى »الإخوانُ المسلمون« العقیدة السلفیة، وكذلك ورثة المودودی (الجماعة الإسلامیة)، بید أنّ تیار العقلانیة والدعوة ینتشر أیضاً فی أوساط علماء الشیعة مثل سید حسین نصر وهو أمیركی من أصل إیرانی، وهاشم آغا جاری وعبد الكریم سروش. وكلا هذین الاتجاهین (العقلانی والجهادی) یقف فی وجههم التقلیدیون المسالمون، الذین یذهبون إلى أنّ هؤلاء إنما أساءوا للإسلام حین أسرفوا فی تسییسه. وهذا التیار أعداد أتباعه أعلى بكثیرٍ من التیارین الآخرین؛ لكنّ أولئك الأتباع أقلّ فعالیةً وأقلّ اهتماماً بالشأن العامّ، كما أنهم بالطبع أقلّ تنظیماً. ولا شكَّ أنّ تلك التیارات تتنافس، وخصومها الألدّاء هم بداخل الإسلام، ولیس العلمانیین. وخارج هذه التیارات الثلاث هناك قوى كثیرة غیر حزبیة أو أنها لا تعمل بشكلٍ منظَّم. والدلیل على وجود هذه القوى أنّ كبار المثقفین والكتّاب من بینها، ولیس من أی تیاراتٍ من تیارات الإسلامیین الثلاثة.إن الإسلام الإحیائی أو الأصولی حاضرٌ بقوةٍ فی وسائل الإعلام، لكنه لیس حاضراً فی النقاشات الجادّة حول قضایا العصر والمستقبل. ولنذكر مثلاًَ على ذلك الكاتب الإیرانی اللیبرالی »داریوس شایغان« الذی تُرجمت كتبه إلى لغاتٍ كثیرة. ولنذكر »فریدون هویدا« الذی یعرفُه القراء العرب أیضاً أكثر مما یعرفون بعض الإحیائیین. ولدى هؤلاء من العرب والترك والإیرانیین طبقةٌ تتنامى من القراء المهتمین؛ فی حین صارت أدبیاتُ الإسلامیین المتشددین نادرة الجمهور خارج إثارات وسائل الإعلام. فهل نرفض العالم المعاصر باعتباره معادیاًٍ للإسلام؟ یجیب الأصولیون: نعم! ویجیب العلمانیون: لا! أمّا التقلیدیون فیذكرون أنَّ الأمر نسْبی! الرادیكالیون یزعمون أن الظروف المعاصرة مشابهةٌ للجاهلیة العربیة قبل الإسلام. لكنْ عندما ینقدون الحداثة فإنهم یستمدون الكثیر من النقد من نقّاد العصر والرأسمالیة والعولمة من الغربیین. فهم أنفسهم لا یملكون قراءات نظریة معتبرة. ثم إنّ أولئك الرادیكالیین لا یترددون فی الاعتماد على تكنولوجیا الغرب ومنهجیاته فی حیاتهم وتصرفاتهم.قوة التقلید وسلطته: لا یمیل التقلیدیون بطبیعتهم للتغییر. لكنّ التقلید نفسه لا یبقى إنْ لم یتغیر. كل ما فی الأمر أنّ التقلیدیین ملكوا القدرة على الاحتفاظ بالجوهر أو ما یسمونه الثوابت فی خضمّ المتغیرات. وهذا التوازن بین الثابت والمتغیر هو الذی یملك حظوظاً من النجاح المستنیر بین ضغوط العلمانیین من جهة، والطهوریین من جهةٍ ثانیة. ولنذكر مثلاً على ذلك فی مسألة المساواة، والتی یخشاها الأصولیون باعتبارها قیمةً غربیة، ویدافع عنها العلمانیون بدون حرارة. ولا شكّ أنّ بعض اللیبرالیین والمتشككین هم الذین ینهضون الیوم ببعض مسائل حقوق الإنسان. لكنْ معظم الـ400 جماعة لحقوق الإنسان فی العالم الإسلامی تتكون من مسلمین مؤمنین بقول الإسلام بالمساواة فی القیمة الإنسانیة، وهم یعملون للتلاؤم مع الإعلان العالمی لحقوق الإنسان؛ بما فی ذلك المساواة بین الرجل والمرأة؛ وهو موضوعٌ شدید الحساسیة. إنّ موضوع المرأة ملتهبٌ فی العالم الإسلامی الیوم، وفی بلدان إسلامیة كبرى یزید عدد التلامیذ من الفتیات على عدد الشبان. وبعض الجمعیات النسائیة تتدخل فی مسائل حقوق الإنسان، وفی القضایا السیاسیة. لكننی لستُ متفائلاً بشأن المستقبل القریب لهذا الملف رغم جدیة العاملین والعاملات فی نطاقه. بید أنّ الرادیكالیین لن ینجحوا فی النهایة، لأنّ نجاحهم فی الفصل بین الجنسین یعنی الجمود الاقتصادی، والانحدار الاجتماعی. وهناك نقاشٌ حادٌّ الیوم بشأن النقاب للنساء، وتعودُ حدّتُهُ إلى أنه لا دلیل علیه من القرآن. فقد ازدادت الثقافة حول القرآن، والسنة فی سائر الأوساط، وما عاد یمكن لأحدٍ احتكار المعرفة بالدین. ومصیر هذا النقاش مرتبط بمصیر التنویر الذی سینتصر فی العالم الإسلامی كما انتصر فی الثقافة الأوروبیة. وإذا غادرنا مسألة المرأة إلى التقدم الاجتماعی والاقتصادی، نجد أنّ خطواتٍ واسعةً تحقّقت دونما جدالٍ كثیر. وحتى مسائل »الاقتصاد الإسلامی« تطورت باتجاه التلاؤم مع الاقتصاد الدولی وآلیاته، وصارت القضایا التی تعالجها منظمة العمل الدولیة، ومنظمة التجارة العالمیة، هی القضایا التی تشغل الاقتصادیین الجدیین بما فی ذلك الإسلامیون منهم. وقد فقد الإسلامیون أیضاً رغم رؤاهم فی الحاكمیة وولایة الفقیه السیطرة على الملفّ الأخطر ملفّ الدولة الحدیثة. ما عادت الخلافة العالمیة تجتذب إلا الحالمین من »حزب التحریر«، وكذلك الأمر مع »ولایة الفقیه« التی تجتذب الدائرین حول السلطة السائدة فی إیران. بید أنّ جماعة الخلافة والإمامة إنما هم قلةٌ صغیرةٌ بین المسلمین. وقد قبلت كثرة كاثرةًُ من النُخَب الإسلامیة السنیة والشیعیة فكرة الدولة الحدیثة وآلیاتها فی المشروعیة. وقد دخلت آلیات الاقتراع والانتخاب إلى العالم الإسلامی أواخر القرن الماضی. لكنها الیوم بدأت تلقى قبولاً جماهیریاً عاماً، وصار الطغاة أیضاً یعتبرون الانتخابات والاستفتاءات غطاءً ضروریاً. وفی نفس الاتجاه تمضی النقاشات بشأن موقع العلم من الدین والمجتمع. والجدالات بشأن أهمیة الحساب الفلكی فی الصوم والفطر، ولجوء بعض كبار رجال الدین إلى الحساب بدلاً من الرؤیة دلیلٌ على ذلك. والواقع أنّ عدم وجود سلطة فی الإسلام سهَّل اللجوء إلى الحلول البراغماتیة فی مسائل إشكالیة حتى فی المجتمعات الغربیة مثل الإجهاض والتخدیر وبحوث الجینات والخصوبة والاستنساخ. وهناك الیوم بحوثٌ تُجرى فی موضوعات شائكة فی بلدان إسلامیةٍ محافظة، وهی ما تزال تلقى عقبات فی بعض البلدان العربیة. وما تزال ممارسة تعدد الزوجات مشروعةً فی سائر البلدان باستثناء تونس؛ لكنها ممارسةٌ تقلُّ تدریجیاً وتتضاءل خارج بلدان الخلیج ونواحٍ أخرى قلیلة فی العالم الإسلامی. وقوانین مدونات الأحول الشخصیة تتغیر وتتطور باستمرار، وباتجاه إعطاء المرأة المزید من الحقوق والحریات وبموافقة الفقهاء واستناداً إلى اجتهاداتهم. ولا یُعتبر الشذوذ الجنسیُّ مستساغاً فی بلدان العالم الإسلامی؛ لكنّ أحداً لم یعد یتحدث عن عقوبة الإعدام للمثلیین والمثلیات.إنّ هذه الأمور كلّها لا تعنی أنّ الصعوبات التی أحدثتها الموجة الدینیة انتهت أو كادت. فهناك من لا یزال یعتقد أنّ الإعلان العالمی لحقوق الإنسان إنما هو مؤامرةٌ یهودیة. وهناك مَنْ لا یزال یناقش الموضوع الفلسطینی / الإسرائیلی بتعابیر دینیة. وكذلك الأمر مع الدیمقراطیة التی ما تزال مشكلةً حتى لدى رجل مثل مهاتیر محمد رئیس وزراء مالیزیا السابق. لكنّ هذه الموضوعات ما عادت من شأن التیار الرئیسی أو من مسلَّماته. ثم إنّ العداء للسامیة وللغرب یستمدُّ حُجَجَهُ من الغرب الرادیكالی الآخر، ولیس من التاریخ الإسلامی. وعلینا أن نلاحظ أنّ العداء وحُججه یستندان إلى مظالم حقیقیة مرتكبة من جانب الولایات المتحدة ومن جانب إسرائیل عبر العقود الماضیة، ولا تحتاج فی الحقیقة إلى مستندات دینیة.فی استطلاعٍ أُجرى مؤخراً قال ثلث الشبان الذی سئلوا إنهم یریدون أن یعیشوا تحت حكم الشریعة. لكنّ قلةً قلیلةً عرفت شیئاً جدیاً عندما سُئلت عن تفاصیل شرعیة. هؤلاء الناس وُلدوا غاضبین ومحبطین، ثم راحوا عندما كبروا یتساءلون عن أسباب غضبهم ویجدونها. فی المجتمعات غیر الإسلامیة یملك الشبان المسلمون أسباباً للغضب مختلفة؛ أمّا فی مجتمعات الأكثریات الإسلامیة فإنّ الغضب تتنوع أسبابه؛ لكنّ الأحادیث عن دولة دینیةٍ یتراجع. فالإسلامیة الجدیدة لا تستطیع تقدیم تفسیر متماسك لمشكلات المسلمین وطرائق الخروج منها. ولذلك، وفی السنوات المقبلة، ستفقد الكثیر لصالح التقلیدیین الداعین للتدرُّج، ولصالح العلمانیین المعتدلین.