مناظرات الإمام الكاظم ( عليه السلام )
للإمام الكاظم ( عليه السلام ) مناظرات واحتجاجات هامّة وبليغة مع خصومه المناوئين له ، كما جرت له مناظرات أخرى مع علماء النصارى واليهود ، وقد برع فيها جميعها وأفلج الجميع بما أقامه من الأدلّة الدامغة على صحّة ما يقول ، وبطلان ما ذهبوا إليه ، وقد اعترفوا كلّهم بالعجز والفشل معجبين بغزارة علم الإمام ، وتفوّقه عليهم ، منها :
1ـ مناظرته ( عليه السلام ) مع أبي يوسف القاضي :
أمر هارون الرشيد أبا يوسف أن يسأل الإمام ( عليه السلام ) بحضرته ، لعلّه يبدي عليه العجز ، فيتّخذ من ذلك وسيلة للحطّ من كرامته ، ولمّا اجتمع ( عليه السلام ) بهم ، وجّه إليه أبو يوسف السؤال التالي : ما تقول في التظليل للمحرم ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لا يصح ) .
قال : فيضرب الخباء في الأرض ، ويدخل البيت ؟ قال ( عليه السلام ) : ( نعم ) .
قال : فما الفرق بين الموضعين ؟ قال ( عليه السلام ) : ( ما تقول في الطامث ، أتقضي الصلاة ؟ ) قال أبو يوسف : لا.
قال ( عليه السلام ) : ( أتقضي الصوم ؟ ) قال : نعم ، قال ( عليه السلام ) : ( ولمَ ؟ ) قال : هكذا جاء ، قال ( عليه السلام ) : ( وهكذا جاء هنا ) .
فسكت أبو يوسف ، ولم يطق جواباً ، وبدا عليه الخجل والعجز ، فقال هارون : ما أراك صنعت شيئاً ، قال أبو يوسف : رماني بحجر دامغ .
فتركهما الإمام ( عليه السلام ) وانصرف ، بعد أن خيّم عليهما الحزن والشقاء .
2ـ مناظرته ( عليه السلام ) مع أبي حنيفة :
دخل أبو حنيفة على الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، فقال له : رأيت ابنك موسى يصلّي والناس يمرّون بين يديه ، فلم ينههم عن ذلك ؟ فأمر ( عليه السلام ) بإحضار ولده موسى ( عليه السلام ) ، فلمّا مثل بين يديه ، قال له : ( يا بني ، إنّ أبا حنيفة يذكر أنّك كنت تصلّي ، والناس يمرّون بين يديك ؟ ) .
فقال ( عليه السلام ) : ( نعم ، يا أبتِ وإن الذي كنت أصلّي له أقرب إليّ منهم ، يقول الله عزّ وجل : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) .
عندها فرح الإمام الصادق ( عليه السلام ) وسرّ سروراً بالغاً ، لما أدلى به ولده من المنطق الرائع ، فقام إليه وضمّه إلى صدره ، وقال مبتهجاً : ( بأبي أنت وأمّي يا مودع الأسرار ) .
3ـ مناظرته ( عليه السلام ) مع علماء اليهود :
قصد وفد من علماء اليهود الإمام الصادق ( عليه السلام ) ليحاججوه في الإسلام ، فلمّا مثلوا بين يديه انبروا إليه يطلبون منه الحجّة والدليل على نبوّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، قائلين : أي معجز يدل على نبوّة محمّد ؟
أجابهم ( عليه السلام ) : ( كتابه المهيمن ، الباهر لعقول الناظرين ، مع ما أعطي من الحلال والحرام وغيرهما ، ممّا لو ذكرناه لطال شرحه ) ، فقالوا : كيف لنا أن نعلم هذا كما وصفت ؟
فانطلق الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، وكان آنذاك صبياً قائلاً لهم : ( وكيف لنا بأن نعلم ما تذكرون من آيات الله لموسى على ما تصفون ؟ ) قالوا : علمنا ذلك بنقل الصادقين .
قال لهم : ( فاعلموا صدق ما أنبأتكم به بخبر طفل لقّنه الله تعالى من غير تعليم ، ولا معرفة عن الناقلين ) ، فبهروا وآمنوا بقول الإمام الكاظم الصبي ( عليه السلام ) ، الذي هو المعجز بحق ، وهتفوا معلنين إسلامهم قائلين : نشهد أن لا اله إلاّ الله ، وإنّ محمّداً رسول الله ، وإنّكم الأئمّة الهادون ، والحجج من عند الله على خلقه .
ولمّا أدلى الإمام ( عليه السلام ) بهذه الحجّة وأسلم القوم على يده ، وثب إليه والده ( عليه السلام ) فقبّل ما بين عينيه ، وقال له : ( أنت القائم من بعدي ) ، ثمّ أمره بكسوة لهم وأوصلهم ، فانصرفوا وهم شاكرون .
4ـ مناظرته ( عليه السلام ) مع علماء النصارى :
جاء قطب من أقطاب النصارى ومن علمائها النابهين ، يدعى بريهة ، كان يطلب الحق ويبغي الهداية ، اتصل بجميع الفرق الإسلامية ، وأخذ يحاججهم فلم يقتنع ، ولم يصل إلى الهدف الذي يريده ، حتّى وصفت له الشيعة ، ووصف له هشام بن الحكم ، فقصده ومعه نخبة كبيرة من علماء النصارى ، فلمّا استقر به المجلس سأل بريهة هشام بن الحكم عن أهم المسائل الكلامية والعقائدية ، فأجابه عنها هشام .
ثمّ ارتحلوا جميعاً إلى التشرّف بمقابلة الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، وقبل الالتقاء به اجتمعوا بالإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، فقصّ عليه هشام مناظراته وحديثه مع العالم النصراني بريهة .
فالتفت ( عليه السلام ) إلى بريهة ، قائلاً له : ( يا بريهة كيف علمك بكتابك ؟ ) قال : أنا به عالم .
فقال ( عليه السلام ) : ( كيف ثقتك بتأويله ؟ ) قال : ما أوثقني بعلمي به !
فأخذ ( عليه السلام ) يقرأ عليه الإنجيل ويرتّل عليه فصوله ، فلمّا سمع ذلك بريهة آمن بأنّ دين الإسلام حق ، وإنّ الإمام من شجرة النبوّة ، فانبرى إليه قائلاً : إيّاك كنت أطلب منذ خمسين سنة .
ثمّ إنّه أسلم وأسلمت معه زوجته ، وقصدوا جميعاً والده الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، فحكى له هشام الحديث ، وإسلام بريهة على يد ولده الكاظم ، فسرّ ( عليه السلام ) بذلك ، والتفت قائلاً له : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .
وانبرى بريهة إلى الإمام الصادق ( عليه السلام ) قائلاً : جعلت فداك ، أنّى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء ؟! قال ( عليه السلام ) : ( هي عندنا وراثة من عندهم ، نقرؤها كما قرأوها ، ونقولها كما قالوها ، إنّ الله لا يجعل حجّة في أرضه يسأل عن شيء ، فيقول : لا أدري ) .
وبعدها لزم بريهة الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، وصار من أخلص أصحابه ، ولما انتقل الإمام إلى دار الخلود اتصل بالإمام الكاظم ( عليه السلام ) حتّى توفّي في عهده .
5ـ مناظرته ( عليه السلام ) مع راهب نصراني :
كان في الشام راهب معروف تقدّسه النصارى وتعظّمه ، وتسمع منه ، وكان يخرج لهم في كل يوم يوماً يعظهم ، التقى به الإمام الكاظم ( عليه السلام ) في ذلك اليوم الذي يعظ به ، وقد طافت به الرهبان ، فلمّا استقر المجلس بالإمام التفت إليه الراهب قائلاً : يا هذا ، أنت غريب ؟ قال ( عليه السلام ) : ( نعم ) .
فقال : منّا أو علينا ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لست منكم ) .
فقال : أنت من الأمّة المرحومة ؟ قال ( عليه السلام ) : ( نعم ) .
فقال : أمن علمائها أمن جهّالها ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لست من جهّالها ) .
فاضطرب الراهب ، وتقدّم إلى الإمام ( عليه السلام ) يسأله عن أعقد المسائل عنده ، قائلاً : كيف طوبى أصلها في دار عيسى عندنا ، وعندكم في دار محمّد ، وأغصانها في كل دار ؟ قال ( عليه السلام ) : ( إنّها كالشمس يصل ضوؤها إلى كل مكان وموضع ، وهي في السماء ) .
قال الراهب : إنّ الجنّة كيف لا ينفذ طعامها وإن أكلوا منه ؟ وكيف لا ينقص شيء منه ؟ قال ( عليه السلام ) : ( أنّه كالسراج في الدنيا ، ولا ينقص منه شيء ) .
قال الراهب : إنّ في الجنّة ظلاً ممدوداً ، ما هو ؟ قال ( عليه السلام ) : ( الوقت الذي قبل طلوع الشمس ، هو الظل الممدود ) ، ثمّ تلا قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ) .
قال الراهب : إنّ أهل الجنّة يأكلون ويشربون ، كيف لا يكون لهم غائط ولا بول ؟ قال ( عليه السلام ) : ( إنّهم كالجنين في بطن أمّه ) .
قال الراهب : إنّ لأهل الجنّة خدماً يأتونهم بما أرادوا بلا أمر ؟ قال ( عليه السلام ) : ( إنّ الإنسان إذا احتاج إلى شيء عرفت أعضاؤه ذلك ، فتعرفه الخدم فيحقّقون مراده من غير أمر ) .
قال الراهب : مفاتيح الجنّة من ذهب أو فضة ؟ قال ( عليه السلام ) : ( مفاتيح الجنّة قول العبد : لا اله إلاّ الله ) ، قال الراهب : صدقت ، ثمّ أسلم هو وقومه .
6ـ مناظرته ( عليه السلام ) مع المهدي العباسي :
قال علي بن يقطين : سأل المهدي أبا الحسن ( عليه السلام ) عن الخمر ، هل هي محرّمة في كتاب الله تعالى ، فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها ، ولا يعرفون التحريم ؟ فقال ( عليه السلام ) له : ( بل هي محرّمة في كتاب الله عزّ وجل ) .
قال المهدي : في أي موضع هي محرّمة في كتاب الله عزّ وجل يا أبا الحسن ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( قول الله عزّ وجل : ( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .
فأمّا قوله ( مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) يعني الزنا المعلن ، ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواحش في الجاهلية ، وأمّا قوله عزّ وجل : ( وَمَا بَطَنَ ) يعني ما نكح الآباء ، لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبي ( صلّى الله عليه وآله ) إذا كان للرجل زوجة ومات عنها ، تزوّجها ابنه الأكبر من بعده إذا لم تكن أمّه ، فحرّم الله عزّ وجل ذلك .
وأمّا ( الإِثْمَ ) فإنّها الخمرة بعينها ، وقد قال الله تعالى في موضع آخر : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) ، فأمّا الإثم في كتاب الله فهو الخمر والميسر ، فإثمهما كبير ، كما قال عزّ وجل ) .
فقال المهدي : يا علي بن يقطين هذه والله فتوى هاشمية .