لقد قدّس الإسلام العمل، وكرّم العاملين والمنتجين، واعتبره شرفاً وجهاداً وصورة مُعبِّرة عن ذات الإنسان واستعداداته، فبالعمل يؤدِّي الإنسان رسالته الإعمارية في هذه الأرض، وبالعمل يتطابق مع دعوة القرآن إلى الإعمار والإصلاح في هذه الأرض. قال تعالى:
(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود/ 61).
وإنطلاقاً من هذه الدعوة، راحَ الإسلام يحثّ على العمل ويُحارب الكسَل والإتكالية، ويدعو إلى الجدِّ وبذل الجهد من أجل تحصيل الرِّزق والإنتفاع بطيِّبات الحياة وإعمار الأرض وإصلاحها.
وقد ضربَ الرسول (ص) وخلفاؤه أروع الأمثلة في الجدِّ وممارسة العمل والنزول إلى ميدان الحياة، فلم يستخفّوا العمل ولم يحتقروا العاملين، بل كرّموا العمل والعاملين واستنكروا الخمول والإتكالية والكسل؛ لأنّ العمل في عُرف الإسلام هو بذل الجهد من أجل إشباع حاجة إنسانية محلّلة، وهو ضرب من ضروب العبادة وتحقيق لإرادة الله وحكمته في الأرض والسّعي لبناء الحياة وفقَ مشيئته تبارك وتعالى.
ولكي يُحقِّق الإسلام فكرته هذه، جعل إشباع الحاجات الشخصية واجبة من حيث الأساس على الإنسان نفسه، لكي لا يتوانى عن الكسب ومباشر العمل بنفسه، فإن هو عجزَ عن توفير حاجاته
كاملة، انتقلت مسؤولية إشباع هذه الحاجات إلى الدّاخلين معه في علاقات النّفقة والتكافل؛ كالآباء والأبناء، فإذا تعذّر النهوض بمسؤولية الكفالة هذه وإشباع الحاجات الضرورية، انتقلت المسؤولية إلى المجتمع والدولة الإسلامية.
ولكي يتجلّى للقارئ إهتمام الإسلام بالعمل والإنتاج، نستعرض جملة من النصوص والمواقف التي تؤكِّد حرص الإسلام عليهما وحثِّه على تنمية الثروة لإعمار الأرض وإنماء الحضارة والإستمتاع بطيِّبات الحياة وإسعاد الإنسان وربط كلّ ذلك برباط الإيمان والتوجّه الشّكور إلى الله سبحانه، قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة/ 10).
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (المُلك/ 15).
وقال رسول الله (ص):
"إنّ أصنافاً من أُمّتي لا يُسْتجاب لهم دعاؤهم: رجلٌ يدعو على والديه، ورجلٌ يدعو على غريمٍ ذهبَ له بمالٍ فلم يكتب عليه ولم يُشهِد عليه، ورجلٌ يدعو على امرأتِهِ وقد جعل الله عزّ وجلّ تخلية سبيلها بيده، ورجلٌ يقعد في بيته ويقول: رَبِّ ارزقني، ولا يخرج ولا يطلب الرِّزق، فيقول الله عزّ وجلّ له: عبدي، ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة، فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطّلبِ لاتِّباع أمري، ولكيلا تكون كلاً على أهلك، فإن شئتُ رزقتُكَ وإن شئتُ قتّترتُ عليكَ، وأنتَ غير معذور عندي".
عن أبي عبدالله (ع) قال: قال رسول الله (ص): "ملعونٌ مَنْ ألقى كلّه على النّاس".
وعن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (ص): "العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال".
وعن الإمام الصادق (ع):
"لا خَيْرَ في مَنْ لا يحبُّ جمع المال من حلال، يكفُّ به وجهه، ويقضي به دَينه، ويَصِلُ به رَحمَه".
وروى الإمام أبوالحسن عليّ بن موسى عن أبيه (ع)، قال: "قال أبي لبعض وُلْد: إيّاكَ والكَسَل والضّجَر فإنّهما يمنعانك من حظِّكَ من الدنيا والآخرة".
وقال الإمام الصادق (ع):
"الكادُّ على عيالِهِ كالمُجاهد في سبيل الله".
عن أبي الحسن (ع)، قال:
"قال رسول الله (ص): إنّ النّفسَ إذا أحرزَت قوّتها استقرّت".
ولم تكن هذه الأقوال الرائعة التي تُقدِّس العمل وتدفعه إلى مستوى الجهاد والعبادة، شعارات وأقوالاً قيلَت لتُحفَظ في بطون الكتب أو في أذهان الحفّاظ، بل هي اُسس ومبادئ تشريعية وأخلاقية تقوم على قواعد عقائدية إيمانية وُضِعَت ليقوم عليها بناء الحياة المعاشية، وتُشاد على هديها حضارة الإنسان المسلم، ويتكون على هداها مفهومه عن العمل والمال والثروة وإعمار الأرض وإصلاح الحياة وملئها بمظاهر النّشاط وعطاء الخير المثمر.
وقد جسّد عظماء الإسلام هذه الأفكار حقيقة عمليّة في ساحة العمل، فمارسوا الأعمال والأشغال بأيديهم، فحرثوا الأرضَ وسقوا وزرعوا واحتطبوا ومارسوا الكثير من الأعمال، فما أنفوا من عمل حلال وما ترفّعوا عليه وإن كان متواضعاً بسيطاً في أعين الناس؛ لأنّ هؤلاء العظماء لم يعدّوا نوع العمل أو ضعته، بل عرفوا قيمة الإنسان في ذاته، وفهموا العمل المُباح وسيلة للكسب وإدامة الحياة وإنعاشها؛ ليكونوا قدوة للأُمّة المسلمة التي أراد الله لها أن تكون أُمّة مُنتِجة مُعطاءة لا تعرف الكسل ولا تركن إلى الإتِّكالية والخمول؛ لئلّا يتدهور كيانها وتضعف مكانتها.
وننقل فيما يلي بعضاً من الشواهد التاريخية الحيّة للعبرة والإقتداء، ولعلّ خير هذه الشواهد ما كان يمارسه رسول الله (ص) من عمل التجارة ورعي الغنم في حياته قبل النّبوّة، وممارسته للزّراعة وغرس النخيل في المدينة أيّام النبوّة، ومثلها أيضاً ما رواه القرآن الكريم عن تأجير النبي موسى (ع) لنفسه ثمان سنوات يشتغل فيها أجيراً في بيت شعيب (ع).
وقد حفظ لنا التاريخ شواهد لا تحصى من هذا النوع، نذكر منها:
(إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كانَ يُخرج ومعه أحمال النّوى، فيُقال له: يا أبا الحسن، ما هذا معك؟ فيقول: نخل إن شاء الله، فيغرسه فلم يغادر منه واحدة).
وروى أحد أصحاب الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، قال: (رأيتُ أبا الحسن يعمل في أرضٍ له قد استنقعت قدماه في العرق، فقلتُ له: جُعِلْتُ فداك، أين الرِّجال؟ فقال: ... رسول الله (ص) وأمير
المؤمنين وآبائي (ع) كلّهم كانوا قد عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيِّين والمُرسَلين والأوصياء والصّالحين).
وروى عبدالأعلى أحد أصحاب الإمام الصادق (ع)، قال: (استقبلتُ أبا عبدالله "جعفر الصادق" في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحرِّ، فقلت:
جُعِلْتُ فداك، حالكَ عند الله عزّ وجلّ وقرابتك من رسول الله (ص)، وأنتَ تجهد نفسكَ في مثل هذا اليوم؟ فقال:
يا عبدالأعلى، خرجتُ في طلبِ الرِّزق لأستغني عن مثلك).
ويُروى أنّ الإمام علي (ع) كان يعمل ويكسب ويُحرِّر العبيد، فقد رُوي أنّه أعتقَ ألف مملوك من ماله وكدِّ يده.
وروى أحد أصحاب الإمام الصادق (ع)، قال: (رأيت أبا عبدالله (ع) وبيده مسحاة، وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له، والعرق يتصابّ عن ظهره، فقلتُ له: جُعلِلْتُ فداك، اعطني أكفك. فقال لي: إنِّي أحبّ أن يتأذّى الرّجل بحرِّ الشمس في طلبِ المعيشة).
هذه قبسات من المواقف والنصوص الإسلامية التي تشرح رأي الإسلام في العمل والإنتاج، وتحارب الكسِل والخمول والإتِّكالية التي تقود الأُمم إلى السقوط والانحلال.