الاتحاد والتزاوج عند الجمادات
سنة التزاوج في النظام الكوني
لقد خلق الله سبحانه من كل شيء زوجين في نظام متقن لهذا الكون الواسع الفسيح ، وعلى امتداد هذا العالم فإن الزوجيّة في كل شيء انما هي حقيقة لا استثناء فيها ; وقد أخبر عنها القرآن الكريم قبل أن يتوصل لها العلم البشري والدراسات العلمية وذلك في آيات عديدة منها الآية التاسعة والاربعون من سورة الذاريات مؤكداً ان هذه الحقيقة تشمل كائنات هذا العالم جميعاً سواءً الجمادات أو الحيوانات أو الانسان .
ونظراً إلى ان هذا الإخبار العظيم والتصريح العلمي وهذا البيان الجلي فيما يخص الكائنات التي تعتاش في هذا العالم وهذه الارض يعود إلى قرون متطاولة سبقت النهضة العلمية ، ونزل في منطقة ـ مكة والمدينة ـ كانت تخلو ممن يعرف القراءة والكتابة والكتب والمدارس فإنّه يعد من معاجز القرآن الكريم ودليلاً قاطعاً على اصالته وبرهاناً دامغاً على علميته وحجةً بالغة على صدق نبوة خاتم الأنبياء ((صلى الله عليه وآله)) .
وفي القرآن الكريم ثمة آيات تتناول غير ذلك من شؤون الخلق تقف أمامها العقول البشرية المعاصرة حائرة مندهشة يلفّها الذهول ، ولا تدع لأحد من بني الانسان وأياً كان مستواه ومنزلته مجالاً بان يشك في احقيتها وكونها نبراساً لهداية البشر . يقول تعالى :
( الم * ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ )(1) .
لقد أودع الباري تعالى برحمته وفضله في صلب الأزواج ومن كل جنس التجاذب وعلاقة من الود والتقارب المتبادل ، كي يؤول ذلك وفي ظل نظام خاص وظروف معينة سواءً في الجانب التكويني أو التشريعي إلى التزاوج والتناسل والتكاثر النوعي ، ومن خلال ذلك يحافظ نظام الخلق على بقائه وتنال جميع المخلوقات ـ ومن كل الأجناس ـ السعادة والهنا في حياتها وتتمتع بوجودها ووجود الآخرين .
ان علاقة التكاثر والتناسل في عالم الجماد وباىِّ نحو كانت تتم بصورة اتحاد عنصر مع عنصر آخر وفي النتيجة ينتج عنصر ثالث ، كما في اتحاد الا وكسجين مع الهيدروجين ، فاحدهما يشتعل والآخر يساعد الى الاشتعال ، فتكون نتيجة اتحادهما ماءً بارداً تتوقف عليه الحياة والنشاط ، أو يحدث ذلك بشكل جاذبية تتبعها نتائج جمّة ، أو على هيئة تيارين احدهما موجب والآخر سالب ينتج عنهما ما لا يُعد ولا يُحصى من العجائب الكونية وتدرّبه رحمة الله على الناس .
والعلاقة بين عنصرين أو عدة عناصر وحالة الميل المتبادل ، وباختصار حالة العشق السائدة بين الجمادات هي التي تؤدي إلى التكاثر في النسل والاستمرار بالنوع ، واقامة النظام الشامخ لعالم الخلق واضفاء الجمال على عالم الوجود .
أيُّ قدرة جبارة وارادة عظيمة هذه التي تقيم مثل هذا التآلف والانشداد وحالة العشق بين عنصرين احدهما يشتعل والآخر يساعد على الاشتعال حيث ينتج عن ذلك التزاوج ماء فرات يشكل انهاراً جارفة وبحاراً متلاطمة ومحيطات شاسعة ويتكون منه المطر اللطيف ؟ ! !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ البقرة : 1 ـ 2 .
أىُّ قوة عجيبة هذه التي تؤدي إلى ان تتحد عناصر متعددة مع بعضها بين ثنايا الارض اليابسة وفي جوف الصخور الصماء واعماق طبقات القير التي تفوق في سوادها ظلمة الليل البهيم فيخرج من ذلك معدن الالماس ؟ !
وأي ارادة قاهرة تلك التي تُخرج لنا من اتحاد عدة مواد من معادن اليمن عقيقاً احمراً ، ومن طيات التراب في نيشابور الفيروز الازرق ، وتهب لنا آلاف المواد التي يحتاجها البشر وذلك من خلال امتزاج التراب مع فضلات الحيوانات ؟ !
وأي رحمة تلك التي تمنحنا محصولاً نافعاً مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد من خلال اتحاد الاحجار مع التراب ومواد اخرى مع الحجر ؟ !
أي ارادة وحكمة هذه التي تهب عبادالله كل هذه النعم بواسطة اتحاد وتزاوج العناصر فيما بينها ؟ وأي ارادة وحكمة هذه التي أودعت كل هذا التآلف والوئام والانسجام بين الشمس وعناصرها الملتهبة وبين الأرض حيث ينتج عن اتحاد عناصر الشمس وعناصر الأرض وتزاوجهما نِعمٌ نعجز عن أحصائها كما أكد ذلك القرآن الكريم حين قال : ( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهَ لاَ تُحْصُوهَا ) .
إنّه ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالاَْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّـمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الاَْنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِن كُلِّ مَا سَأَلْتُـمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهَ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الاِْنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ابراهيم : 32 ـ 34 .
ان مستوى الجاذبية بين العناصر وايجابيتها أو سلبيتها والعلاقة الحميمة القائمة بينها لغرض التكاثر والتناسل كل ذلك يقوم على أساس نظام محدد وقوانين ومقررات عادلة ، والجاذبية هذه خارجة عن نطاق الافراط والتفريط ، وهذه العلاقة لا يعتريها الفتور ابداً ولا معنى للجفاء والتخاصم والاختلاف في هذا العالم الجميل الوادع ولا وجود للانفصال بعد هذه التزاوج الروحي .
فلو كان وجود للاختلاف والجفاء والانفصال في هذا العالم فلا شك في ان الفساد والافساد سيلقي بظلاله ويعقّد الاُمور ويضرب باطنابه في أساس هذا العالم .
ان للعناصر المكونة لعالم الجماد حجماً ووزناً معينان وفواصل محددة ونمواً يتناسب مع وضعها ، واتحاد كل منهما مع الآخر يقوم على أساس الكفاءة ، فلا تتمرد العناصر على النظام المحدد لها ولا تبادر إلى المشاكسة والتخاصم فيما بينها ، بل تحافظ على القانون وحدود وجودها اينما كانت في هذا النظام .
( لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُونَ )(1) .
وفي تقدير وزن الاجرام في الفضاء الخارجي وحجمها وطولها وعرضها وعمقها ولونها ومواصفاتها والمسافات التي تفصل بينها ـ ومنها المسافة بين الشمس والكرة الارضية التي تناهز ( 000/000/150 ) كم ولا تتغير هذه المسافة على الاطلاق حيث ان زيادتها تعني تجمد كافة الكائنات على وجه الارض ، ونقصانها يعني احتراق ما على الارض ـ لا يُري شيء سوى علم الله سبحانه وحكمته الازلية التي تقوم على أساس ارادته ومشيئته في جميع الكائنات ، ومتى ما نظر اهل البصائر والمنصفون واصحاب الضمائر الحيّة والصالحون إلى نظام الكون ببصائرهم وبقلوب واعية حينذاك ستخشع قلوبهم لذكر مبدع هذا الخلق والكون ويرددون من اعماقهم :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يس : 40 .
( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً )(1) .
نعم ، ان النظام والقانون والحقيقة تتجلي في ظاهر وباطن عناصر عالم الوجود قاطبة ، واسماء الله وصفاته تعلو كافة الكائنات ، وان صورتها وايحاءاتها من الوضوح بحيث تتيسر قراءتها وادراكها لكل بسيط وامىٍّ من البشر ، والأعجب من ذلك كله ان هذه المخلوقات جميعاً تسير سيراً حثيثاً بنظام خاص من أجل الوصول إلى محبوبها ومرادها وهو رب العالمين ، وهذا ما يؤيده قوله تعالى :
( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى )(2) .