ان عملية التزاوج والتوالد والتناسل في عوالم الجماد والنبات والحيوان تسير وفقاً للقوانين التكوينية والتوجيه الصحيح للغرائز ، بيد ان هذه العملية المهمة وهذه السنّة الطبيعية السامية يجب ان تأخذ مجراها في عالم الانسان على ضوء القوانين والأحكام الشرعية والاوامر الالهية الواردة في القرآن الكريم والروايات الواردة عن الأنبياء والأئمة الطاهرين ((عليهم السلام)) .
فقد اودعت بذور هذه النزعة في نفس الرجل والمرأة على شكل غريزة ورغبة ومحبة ورحمة ، بناء على ما اقتضته ارادة الحق عزوجل ، يقول تعالى :
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ )(1) .
ويقول أيضاً :
( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً )(2) .
ان اختيار الزوج في نظر الثقافة الاسلامية يعد بحد ذاته امراً مستحباً ومحبذاً للغاية وعملاً حسناً ، الا ان ما يترتب على المرء إذا ما بقي اعزباً ان لا يلوث الحياة بالمعصية والرذيلة والفحشاء والمنكرات ، وفي غير ذلك يصبح الزواج امراً ضرورياً ومسؤولية لا مفر منها .
وهنا لا مناص من تنفيذ الاوامر الالهية بشأن الزواج بكل ما اوتي المرء من قوة وان لا يدع الخوف من المستقبل يتسرب إلى نفسه لا سيّما فيما يتعلق بالاُمور المادية وتكاليف الحياة فإن ذلك من احابيل الشيطان وناشىء عن وهن في النفس وفقدان الثقة ببارىء الكون ومدبره .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الروم : 21 .
2 ـ الفرقان : 54 .
وفي الآية التالية من سورة النور تلمسون الامر الالهي بشأن الزواج وتكفله بتأمين تكاليف الحياة الزوجيّة ، إذ يقول تعالى :
( وَأَنكِحُوا الاَْيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )(1) .
و( وَأَنكِحُوا ) من الناحية النحوية فعل أمر ، وهذا الأمر موجه إلى ابناء المجتمع فرداً فرداً رجالاً ونساءً ، ويستفاد من هذه الآية الكريمة وجوب الزواج لمن هم بحاجة له ولا يتسنى لهم المحافظة على سلامتهم وطهارتهم الاّ من خلال هذه الطريق ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ضرورة مبادرة العوائل لا سيما الوالدين ومَنْ تتوفر لديهم القدرة المالية إلى تسخير امكانياتهم في هذا المجال من اجل بناء الحياة الزوجيّة لابنائهم وبناتهم .
لا تتشددوا في الزواج
ان حاجة الرجل للمرأة وحاجة المرأة للرجل لا سيّما أوان تفتح براعم الغرائز والشهوة ، واشتدادها وتصاعد قوتها حين الحاجة إلى الزواج ، هي من الاُمور الطبيعية والانسانية المهمة ولا يمكن لأي انسان انكارها .
فالآمال والرغبات والتطلعات المشروعة الكامنة في نفوس الشباب ذكوراً كانوا أم اناثاً ازاء المستقبل وفي مقدمتها بناء الحياة الزوجيّة ، هي من الحقائق الواضحة للجميع كوضوح الشمس في رابعة النهار لا سيّما الوالدين ممن لديهم ابناء وبنات في سن الزواج .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النور : 32 .
والأهم من ذلك كلّه ، ان السبيل الامثل والمنهج الاسمى للحد من الموبقات ، واقوى تدبير لصيانة المجمتع من الانحدار في مستنقع الفحشاء والمنكرات هو تزويج الابناء والبنات في الوقت المناسب لحاجتهم إلى ذلك ، وهذه حقيقة لا يتوقع انكارها الاّ من قبل الحمقى والجهلة وفاقدي الشعور .
بناءً على ذلك فإن المسؤولية تقع في بداية الأمر على الوالدين والاقربين ومن لهم دور في مسألة زواج أبناء الاُسرة وبناتها ، وذلك يتمثل في تيسير مقدمات هذه السنّة الالهية وتوفير الارضية الملائمة للزواج بأيسر السبل واحسن الطرق ، ومن ثم يأتي دور الابناء والبنات ممن توفرت لديهم الرغبة في الزواج ، إذ يتعين عليهم تجنب الطموحات غير المبررة وفرض الشروط المرهقة ، كي تأخذ الرغبات والغرائز والطموحات طريقها الطبيعي بيسر وسهولة ، ويوضع حجر الاساس للحياة السعيدة، ويُشيّد البناء الذي يُرتجى منه خير الدنيا والآخرة.
مما لا شك فيه واستناداً للآيات القرآنية والروايات والاخبار ان الله سبحانه سيتسامح مع الذين يتسامحون في شؤون الحياة لا سيما قضية زواج ابنائهم وبناتهم ، وييسر اُمورهم في الدنيا والآخرة وبالذات عند الحساب وتطاير الكتب والميزان في عرصات يوم المحشر ، وان الغضب الالهي في الدنيا والآخرة وسوء الحساب وعذاب جهنم سيحيق بالمتزمتين والمعرقلين لهذا الأمر ويتسببون في ان يئن ابناؤهم وبناتهم تحت وطأة الغرائز والشهوات ، ويبتلون بالامراض العصبية والنفسية ، وتسوء اخلاقهم ويتلوثون بالمعاصي والموبقات ، ومن ثم تذهب امالهم وطموحاتهم ادراج الرياح .
ان التدقيق الزائد في مسألة الزواج يجر الانسان إلى التشدد دون علم منه ، فالتزاوج بين اثنين في النظام الكوني يجري بسهولة بالغة ، فلو كان التزاوج في عالم الحيوان صعباً وعسيراً لفقد النظام القائم حالياً رونقه وصورته المشرقة .
فيا ايها الاباء والامهات ، وايها الابناء والبنات ! لا تتشددوا في تمهيد مقدمات هذه السُنّة الالهية ، من قبيل فرض المهر واقامة المراسيم واجراء احتفال عقد القران والزفاف والتمسك بالعادات والتقاليد ، ولا تفرضوا ما هو خارج عن طاقة اسرتي العريسين كي يجري الزواج بسهولة ويمن عليكم الباري تعالى بتيسير اُموركم في الدنيا والآخرة .
تعالوا واقتدوا بمنهاج اهل التقى ، وخذوا من منابع الخير والبركة تلك درساً وعبرةً وشيّدوا حياتكم على أساس سيرة اولئك الأولياء ، إذ ان السعادة والهناء وبلوغ خير الدنيا والآخرة ، والحصول على الشرف والكرامة ، كل ذلك انما يتأتى في ظل الاستلهام من اولئك الذين عشقوا الجمال الازلي ، يقول أميرالمؤمنين ((عليه السلام)) واصفاً المتقين :
« أنفسهم عفيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وخيراتهم مأمولة ، وشرورهم مأمونة »(1) .
على اية حال ، الحري بالقائمين على أمر الزواج أن يتجنبوا الطموحات غير المبررة وفرض الشروط المرهقة ، واتباع الهوى والميول النفسية ، والتمسك بالتقاليد والاعراف الخاطئة ، وتقليد الآخرين والتشدد في شؤون الزواج ، وعليهم اقامة بناء الزوجيّة منذ الوهلة الاولى على أساس التقوى والخير والصلاح وتيسير الاُمور وان يجعلوا غايتهم نيل رضى الباري تعالى .
بعد ان تنتهي مراسيم الزفاف يتعين على الزوج مواصلة الحياة الزوجيّة مع المرأة التي سبق أن التقى بها اثناء الخطبة ورضيها زوجة له وابرم معها عقد النكاح ، وان يعمل على ضمان استمرار المودة والرحمة الالهية القائمة بينهما ، ويتوجب على الزوجة ان تفتح امام زوجها ـ الذي كانت قد التقته قبل اجراء عقد الزواج ـ ابواب الرأفة والتسامح وان ترعى حقوقه على كافة الاصعدة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هداية العلم : 651 .
ان المحافظة على الشأنية لا تكمن في المهر الباهض والاحتفالات المكلّفة وكثرة المدعوين والتمسك بالتقاليد والاعراف الخاطئة المنافية للمنطق ، والتشدد في الشروط ، بل تكمن في اختيار الكفو واجراء المراسيم على بساطتها ، ومراعاة الاخلاق الاسلامية من قبل كلتا الاسرتين ، والمحافظة على الحقوق الالهية والانسانية من قبل الزوجة والزوج ازاء بعضهما البعض ، والعمل على استمرار اجواء المحبة والمودة من قبل الزوجين بغية استمرار الحياة الزوجيّة ، والنأي بحياتهما عن الفوضى والاضطراب والعوامل التي من شأنها اثارة الامراض العصبية والنفسية .
ان الحياة الزوجيّة التي عاشها أميرالمؤمين ((عليه السلام)) وفاطمة الزهراء ((عليها السلام)) تمثل افضل درس في الحياة بالنسبة لكل مسلم ومسلمة ، فقد كانت فاطمة ((عليها السلام)) مصدر الاستقرار لاسرتها لا سيما بالنسبة لزوجها ، وراسية لدعائم الحياة في البيت ، وكان علي ((عليه السلام)) مثلاً اعلى للزوج والاب ، والمربي الرؤوف لاولاده ، ومعيناً حريصاً في تسيير شؤون البيت والعائلة ، فلم يأبَ يوماً عن انجاز الاعمال اليسيرة في البيت من قبيل التنظيف واعداد الخبز ومد يد العون الابنائه ، ولم يدع زوجته تشقى في انجاز اعمال البيت وتقع جميع شؤون العائلة على كاهل الزهراء ((عليها السلام)) لوحدها .
ينبغي للزوج والزوجة ان يراعي كلٌ منهما حقوق الآخر وان يساعد احدهما الآخر في جميع شؤون الحياة ، ولا يتصوروا ان اطلاق صفة الظلم ينحصر فيما فعله فرعون والنمرود وسائر الطغاة على مر التاريخ ، بل ان كل عمل يرتكز على الباطل من شأنه خدش مشاعر الآخرين فهو ظلم ، وان الله سبحانه يبغض الظلم والظالمين ولا يرضى باي نوع من الظلم مهما قلَّ وأياً كان مصدره .
سنشير ان شاء الله تعالى خلال كلامنا واحاديثنا المقبلة إلى جميع ما يرتبط بنظام الاُسرة في الاسلام ، وفي هذا المقطع من الحديث نكتفي بنقل بعض الروايات المهمة الواردة في الكتب المعتبرة والمتعلقة بالزواج واهميته وفوائده ومكانة الاُسرة وبنائها واهميتها في الثقافة الاسلامية ، وندعوكم إلى التأمل فى هذه الروايات كي تقفوا على قوة الاحكام الالهية ويتبين لديكم خلو جميع الثقافات الاخرى من المفاهيم التي تتضمنها الثقافة الاسلامية .