عربي
Sunday 28th of April 2024
0
نفر 0

الأمة الإسلامیة والعولمة

تحولت العولمة کسائر المفاهیم التی تنتشر وتشیع فی فترة خاصة، إلی مصطلح متداول وشائع بعد انفصالها عن نطاق العلوم الاجتماعیة، واکتسبت معان مختلفة فی شتی المجالات الإقتصادیة والسیاسیة والدینیة. وقدّم عنها الباحثون تعاریف عدیدة. ویمکن القول باختصار إنّ العولمة هی أن یشیع نمط خاص من الحیاة بشکل بحیث یشمل ویغطی جمیع الشعوب علی وجه الأرض. وهی تیار یؤدی إلی ظهور التعامل والارتباط فی العلاقات المتبادلة بین الحقائق ووجهات النظر والمفاهیم وأبناء البشر. وأسلوب یخلق الارتباط المتبادل الذی لا یقتصر علی الارتباط الفکر المتبادل بل إنه یخلق أیضاً الارتباط السیاسی والاقتصادی والتنظیمی أیضاً فی عالم الیوم.
وبالطبع فإن العولمة لیست ظاهرة تاریخیة جدیدة، فقد حدثت مراراً فی تاریخ حیاة البشریة، فعندما سیطرت الإمبراطوریة الرومانیة علی الیونان القدیمة فی 146 ق.م، تحقق نموذج من العولمة فی شکل الهیلینیة
Hellenization فی الجوانب الثقافیة المختلفة، ومنها: الفلسفة والدین والفن وغیرها. وإذا ما استثنینا التشریع والإرادة التنفیذیة والشؤون العسکریة، فقد خضع الغزاة من الناحیة الثقافیة لتأثیر نفوذ وجاذبیة الحضارة الأکثر تفوقاً. وبعبارة أخری فقد أضحت روما عالمیة والتی اکتسبتها عبر أثینا، وجرّبت ثورة ثقافیة، ونشرت بدورها العلم والفکر الیونانی عن طریق الإمبراطوریة. وکانت النتیجة أنّ جمیع المنتمین إلی الطبقات المثقفة فی جمیع أرجاء إنجلترا وألمانیا وإیطالیا کانوا حتی أواسط القرن العشرین یتقنون اللغة الیونانیة القدیمة واللاتینیة. ومن النماذج الأخری للعولمة، سیطرة الثقافة والحضارة الإسلامیة علی أوروبا فی القرون الوسطی عن طریق المسلمین فی الأندلس. فنحن جمیعاً نعلم أن أبواب الحضارة الإسلامیة انفتحت علی علوم الیونان فی القرن الهجری الثانی مع بدء حرکة الترجمة، ولکن المسلمین لم ینهاروا أبداً أمام هذا الغزو الثقافی، ولم یسلموا أنفسهم له دون تفکیر. ومن جهة أخری فإنهم لم ینتهجوا سیاسة الرفض، بل إنهم تعاملوا معه من موقع القوة والاقتدار مستندین الی ثقافتهم الأصیلة
والغنیة المتمثلة فی تعالیم الکتاب والسُنّة، فأخذوا العناصر المفیدة والقیّمة، وهضموها فی نظامهم الثقافی، ثم طوّروا حضارتهم وثقافتهم وارتقوا بهما فی ظل هذا الأخذ والهضم والعطاء. ولم تمر فترة طویلة حتی اکتسبت الثقافة والحضارة الإسلامیتان جمیع العناصر الإیجابیة للثقافة المتفوقة بعیداً عن کل نوع من الخرافات والأباطیل.
وقد فتحت أوروبا أبوابها لهذه المعطیات الضخمة عن طریق الأندلس، وتلقت أفکار أرسطو وطب العرب والتجریبیة العلمیة والآلات والتقنیات الزراعیة ونظام الأرقام العربی وقانون إدارة البلاد من الشرق الأدنی عبر إسبانیا. وبذلک تغلبت التقنیة الأکثر تفوقاً علی الثقافة الأدنی، وکان لها آثار بعیدة المدی وملفتة للنظر. وقد أسهمت فلسفة ابن رشد إسهاماً کبیراً فی حدوث نهضة أوروبا فی القرنین 16 و 17 م فی قالب الأفلاطونیة الحدیثة التی کان لها بدورها تأثیر کبیر فی حلول عصر النهضة الذی نشهد الآن نتائجه بوضوح فی کل مکان.
وبناء علی ذلک، یمکن أن نستنتج إستناداً إلی الأسس التجریبیة أن العولمة لیست مشروعاً یمکننا أن نجیب علیه بالقبول أو الرفض، وهی لیست أیضاً حادثة إعجازیة، بل هی ظاهرة طبیعیة، فالثقافة الأکثر تفوقاً والتقنیات المرتبطة بها تتسرب بسهولة کالماء من أعلی مستوی إلی أدناه، ولا یمکن لأی شخص أن یفعل شیئاً حیال ذلک. ففی ذلک الیوم الذی أدرک فیه أصحاب المکاتب الأوروبیون سعة ودقة نظام الأعداد العربی، ولم یکن بمستطاع أیة حکومة أن تضع قانوناً ناجحاً لحفظ نظام الأعداد الرومانیة الشائک والمعقَّد، ولذلک فإنه سرعان ما هجره المجتمع لیفسح المجال للأعداد العربیة.
وعلی أساس هذه الأسس التجریبیة فی العالم المعاصر، فقد أصبحت العولمة مصدر أمل للبعض، وقلق للبعض الآخر، فالغرب یری نفسه الأکثر تفوقاً والقوة العظمی من حیث القوی السیاسیة والتقنیة، وقد أصبح ینظر بعین الأمل إلی العولمة علی أمل أن یغطی بثقافته جمیع أرجاء العالم. وعلی العکس من ذلک فإن المجتمعات الضعیفة تنتابُها هواجس القلق والخوف من تغلب الغزاة الثقافیین علیها. وهذا الخوف هو ظاهرة طبیعیة ذلک أن الأمواج العالیة الشاملة للمنتجات والأنماط الغربیة محسوسة ومشهودة بشکل کامل، وآلیة هذا
التیار متماثلة کما کانت دائماً. وبعبارة أخری فإن هذا التیار لیس ولید قرار أشخاص معینین بل إن تیار العولمة الحالی ناجم عن سیطرة العلم والتقنیة الغربیة التی یعبّر عنها بالسلطة والجاذبیة الثقافیة. ففی خلال ثلاثة قرون حدثت فی الغرب جمیع الثورات العلمیة ومنها التطورات فی مجال الفیزیاء الجزئیة والفیزیاء الکلیّة والعلوم النوویة والریاضیات المتطورة والبحوث فی مجال الدماغ وجمیع المجالات الطبیة وعلوم الکومبیوتر وتقنیات المعلومات وغیرها.
من الجدیر بالذکر طبعاً أننا لا نقصد من المجتمعات الضعیفة العالم المسمّی بالعالم الثالث فقط، ذلک لأن العولمة هی فی رأیی ظاهرة داخلة فی ترکیبة المجتمع الغربی
intraaccidental. فقد شعر الأوروبیون ومن قبلهم الفرنسیون منذ فترة بالتهدید الناجم عن الأمرکة (Americanization) من خلال أفلام هولیود. وقد تمسک الأوروبیون منذ أکثر من خمسین سنة مضت بتقالیدهم ولغتهم الأم وقرابتهم خوفاً من فقدان هویتهم. ویبدو أن الحرکات القومیة التی أخذت تحدث أخیراً فی أوروبا هی رد فعل یظهر من خلال ذلک إزاء هذا التیار. والاعتراضات الشدیدة التی تطالعنا فی اجتماعات البنک المرکزی وصندوق النقد الدولی فی أرجاء العالم تدور فی هذا النطاق. وهذا القلق یبدو منطقیاً بشکل کامل فی أوروبا فکیف یستطیع الأوروبیون أن یتحملوا أن تکون الجامعات الأمیرکیة الیوم قبلة أهل العلم والفلسفة فی العالم بشرقه

 

وغربه فی حین أنّ روّاد العلم والفلسفة خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرین مثل عما نوئیل کانت، وهیجل، وأوغست کانت، وفویر باخ، ومارکس، وإنشتاین، ونیتشه، وغیرهم کانوا کلهم أوروبیین؟!
المسلمون والعولمة: وعلی أی حال فإن العولمة هی حقیقة تواجهها الأمة الإسلامیة، والمسلمون سوف یواجهون هذه الظاهرة شاؤوا أم أبوا، ولکن علیهم أن یحاولوا الخروج من هذه المواجهة من خلال موقف حکیم.
ومن أجل الانتصار فی هذه المعرکة علینا أن ندرک مفهوم العولمة بشکل دقیق، وأن ندرس جوانبها الأساسیة والبالغة الأهمیة، وتأثیرات العولمة علی الثقافات، ودور الأدیان بشکل عام وخاصة الإسلام فی مواجهة العولمة، وحینذ یمکننا أن نتوقع اتخاذ اجراءات أکثرتأثیراً لمواجهتها.
وفیما یلی نشیر إلی عدد من الملاحظات المهمة فیما یتعلق بالجوانب الأساسیة للعولمة :

 

1 ـ الخصوصیة الإیجابیة التی یطرحها أنصار العولمة، والمتمثلة فی جانب توسیع المشارکة. ولکن من الضروری الالتفات إلی أن العولمة ورغم أنها توسّع المشارکة فی جهة، إلاّ أنها تخلق من جهة أخری حالة الإحتکار. وبعبارة أخری فإن العولمة تتضمن مفهومین متناقضین نشهدهما الیوم، ونحن نری هذه الحقیقة فی الحیاة السیاسیة المعاصرة. فمن جهة نری أن الدول تجتمع لتتبادل وجهات النظر فی المجالات السیاسیة، وهذا ما یشجع علی المشارکة فی الظاهر، ولکن القوی الکبری تنجح من جهة أخری فی فرض نفسها علی البلدان الضعیفة. فالعولمة تشجّع من جهة الشعوب الضعیفة علی المشارکة فی الحیاة الإقتصادیة، ولکن هذه الشعوب تزداد حرماناً من النواحی الإقتصادیة من جهة أخری، وتسیطر الشعوب القویة علی الإقتصاد العالمی.

 

2 ـ نری أنّ العولمة تدمر الهویات، وتنشر العالمیة علی حساب القضاء علی الخصوصیات المحلیة، فهی فی الحقیقة تبتلع هویة البلدان الصغیرة.

 

3 ـ وبرأینا أنّ العولمة تستنزف سلطة الحکومات وتحدّ منها، والدول الکبری ترید من خلال العولمة أن تَنْفُذَ فی البلدان الضعیفة، وتهیمن علی سلطتها السیاسیة.

 

4 ـ صحیح أنّ العولمة تزید من الطاقة الإنتاجیة للبشریة، ولکنها فی ذات الوقت تؤدی إلی تقویض دعائم المجتمع البشری، لأن البشریة سوف تفقد سیطرتها علی البیئة والاقتصاد والحیاة والسیاسة والثقافة الذاتیة، بل وعلی نفسها ببساطة.

 

5 ـ إنّ العولمة تسلبنا القدرة علی إصدار الأحکام بشأن القیم وتدمّر التقالید والقیم الدینیة، وهی تخلق فی الحقیقة مجتمعاً جدیداً تماماً من خلال ممارسة التأثیر علی ماهیة الحیاة البشریة، وهو المجتمع الذی یصطلح علیه الیوم باسم «المجتمع الشبکی»، وفی مثل هذا المجتمع تتغیر ذهنیاتنا وأفکارنا ونفوسنا ونمط حیاتنا وإدراکنا لذاتنا، بحیث نبتعد عن أنفسنا وعن خالقنا، لیُصْنَع إنسان جدید فی عالم جدید.

 

6 ـ إنّ العولمة جعلت ثقافات الشعوب فی أنحاء العالم المختلفة عرضة للهجوم والاجتیاح،
وجعلتها تواجه أزمة کبیرة. وهی تقود عالماً بأکمله إلی ثقافة واحدة (الثقافة الأحادیة)، فتخضع ثقافات برمتها لسیطرة الثقافة العالمیة، وبالتالی فإن الثقافة العالمیة الواحدة ستکون هی الغالبة.
والثقافة الغالبة هی بالطبع من إنتاج الغرب، وهی ثقافة تقودها المبادئ المادیة والعلمانیة، وتحمل قیمها الخاصة بها، القیم التی هی کلها من إنتاج الشرکات العالمیة التی یُهیمن علیها الإتجاه الاستهلاکی. وهی تری أنّ ما نعتبره قیماً روحیة وأخلاقیة ودینیة لا أساس له. والمقیاس فی هذه الثقافة هو الإنتاج والتطور التنافسی. ولا مکانة فیها لمفاهیم مثل الإیمان والأمل والأخلاق والوحی والوقار والتقوی. إن هذه الثقافة تبعد البشریة عن اللّه ، لأنها تؤکد علی محوریة الإنسان، أی إنها تنکر الدور المحوری للّه فی خلق الإنسان والکون، وتنسب القوة الخارقة إلی مُنتَجٍ بشری. فالإقتصاد والتکنلوجیا والاتصالات هی أسس سلطة هذه الثقافة العالمیة، ولیست القوة الإلهیّة.
وفی ظل هذه الثقافة یسعی الإنسان لأن یفقد الشعور بالارتباط والتعلق بالحقیقة المطلقة والمتسامیة، ویجعل نفسه غنیاً عن الآخرین، بل والأسوأ من ذلک أن یحل محل اللّه ، ویضع علی کفّه الخلق کلّه، لیعتبر نفسه الخالق. کما یمکن القول إن البشریة اتجهت إلی شرک جدید، وتحولت إلی مصنوعات بشریة لآلهة هذه الثقافة الجدد، وتغلبت علیها هذه الآلهة، وهی نفسها بشکل ما محتاجة إلی هذه الآلهة ومرتبط بها، حیث أنها خضعت لطاعتها وسیطرتها المطلقة، وأصبحت المصداق البارز للعبودیة فی الثقافة الإلهیة التقلیدیة، کما عبّر عن ذلک القرآن الکریم فی مخاطبته للمشرکین فی أکثر من موضع حیث یقول: «أتعبدون ما تنحتون » (1) ؟

 

7 ـ إن الثقافة العالمیة المهیمنة، أی الثقافة الغربیة، هی حصیلة التحولات الصناعیة فی القرون الأخیرة. فقد حقق العلم فی هذه الثقافة نجاحاً کاملاً فی هدفه المتمثل فی محو القدسیة من العالم، فالبحار والجبال والغابات وغیرها لا تمثل بالنسبة إلی هذه الثقافة آیات اللّه ومظهر عظمته. والبشریة تری نفسها منتصرة فی معرکتها مع الطبیعة، فها هی الآن منهمکة فی تبذیر وهدر الموارد الطبیعیة، ولوَّثت بذلک بیئتها الطبیعیة إلی درجة بحیث لم یتبقَ
لها مجال للتنفس. فهی لا تصغی إلی وصیّة اللّه القائلة: «ولا تفسدوا فی الأرض بعد إصلاحها » (2)، ممعنة فی تخریب وتدمیر بیئتها: «ظهر الفساد فی البرّ والبحر بما کسبت أیدی النّاس » (3).
إنّ ما استعرضناه آنفاً، کان خلاصة للجوانب الهامة من العولمة. والآن لنرَ ماهی مسؤولیة المجتمعات الدینیة إزاء هذا الغزو الثقافی؟
علینا أن نقول قبل کل شیء إن العولمة هی عدوة النقاط المشترکة بین الأدیان الإلهیة، أی الاعتقاد باللّه وتوحیده، رغم أنها تتضمن مجالات مختلفة عن بعضها بشکل کامل. ذلک لأن الثقافة العالمیة ـ کما قلنا ـ تؤکد من جهة علی محاربة الإیمان باللّه وتنشر الإلحاد، وتدعو من جهة أخری إلی نوع من الشرک الجدید والمعاصر. علینا الیوم أن ندعو علی لسان القرآن الکریم جمیع الأدیان الإلهیة، ونقول: «تعالوا إلی کلمة سواء بیننا وبینکم أ لاّ نعبد إلاّ اللّه » (4).
وفی ظل هذه النقطة المشترکة علینا أن نحارب جمیع مظاهر وقیم الثقافة العالمیة المهاجمة التی لا تتلاءم مع القیم الأخلاقیة الأولیة للأدیان الإلهیة. وفی هذا الصراع علینا أن نتبع الأسلوب الذی أخذ به الأنبیاء الإلهیون فی الأیام الاُولی من مواجهتهم للثقافة المهیمنة فی عصورهم.
إنّ الأدیان الإلهیة تنقد أولاً القیم المخالفة وغیر المتلائمة مع الأخلاق الدینیة، وعلی مفکّری الأدیان الإلهیة الیوم أن یوجهوا نقدهم إلی ثلاثة عناصر أساسیة فی قیم الثقافة العالمیة المهیمنة وهی: النزعة الإستهلاکیة، والنزعة المادیة، والعلمانیة. ونحن نری أن الأدیان هی المسؤولة عن تغیر الثقافات وخلاصها؛ خلاصها من هذه العناصر الثلاثة وخاصة عنصر المادیة الذی یتجلی فی أشکال مختلفة. ومن بین مظاهر المادیة، الإتجاه الإنسانی المحرّف. فالثقافة العالمیة تنسب الیوم إلی نفسها الصفات الخاصة باللّه ، ومنها الغنی، فاللّه غنی بالذات، ونحن کلّنا محتاجون إلیه: «یا أیّها النّاس أنتم الفقراء إلی اللّه » (5).
ومن بین معطیات العولمة، أنها تجعل کلّ شیء فی متناول ید الإنسان، بحیث یشعر الإنسان بالإکتفاء الذاتی المطلق، فی حین أن الدور الرئیس للأدیان الإلهیة هو أن توجه
الإنسان إلی اللّه ، وتذکّره بأن البشریة مرتبطة ومعتمدة علی قوة غیبیة سامیة تتمثل فی اللّه ، وأن الإنسان یفقد معناه دون حضور اللّه لأن جمیع ما سوی اللّه هو عین الارتباط والتعلق به. والبشریة لا یمکن أن تعیش من غیر الاحساس بالحاجة والتعلق بحقیقة سامیة.
إن الثقافة العالمیة تسعی لأن تقضی علی عالم ماوراء الإنسان، فی حین أن الأدیان تری أن الإله الذی یعنیه الإنسان ویهدف إلیه لا یوجد فی الإنسان نفسه بل ما فوق الإنسان.
ومن بین الأدیان الإلهیة سوف یتخذ الإسلام والأمة الإسلامیة موقفاً خاصاً حیال الثقافة العالمیة. وإذا تعاملت معها بحکمة ومنطق فإنها سوف تخرج من تلک المواجهة منتصرة ومرفوعة الرأس بالتأکید.
علی الأمة الإسلامیة أن تؤمن بهویتها وقیمها. وفی هذه الحالة علیها أن تقرر الحفاظ علیها، وحینئذ سوف تنتصر حتماً علی الثقافات المهاجمة. وهذا وعد إلهی أطلقه اللّه ـ تعالی ـ فی قوله: «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن کنتم مؤمنین » (6). والمخاطب فی هذه الآیة هو الأمة الإسلامیة، حیث اعتبرت الإیمان شرطاً لعلو المسلمین وغلبتهم علی الآخرین.
إن العولمة فی مجال المحاربة من أجل السیطرة علی قلوب البشر وأذهانهم تستهدف القیم أکثر من المعتقدات. فضعف دعائم المسیحیة فی الغرب لیس مصدره عدم إمکانیة تقدیم تفسیر معقول لمفاهیم عقیدیة مثل ربوبیة المسیح والتثلیث وما إلی ذلک، بل إن مصدره علی نطاق أوسع اضمحلال الکنیسة بسبب فقدانها لقیمتها ومکانتها باعتبارها تمثل الدعائم الأخلاقیة للمجتمع، وبالطبع فإن ذلک یعود إلی ضعف الإیمان وتزلزله.
ولحسن الحظ فإن الکثیر من المفکرین الغربیین یَعون بشکل کامل الأزمة الأخلاقیة القائمة فی الغرب ذلک لأن العولمة سوف تنتهی إلی فراغ أخلاقی بشأن قضایا مثل الشذوذ الجنسی وإجهاض الجنین مع ضعف الدعائم العقیدیة والإیمانیة للکنیسة. ولحسن الحظ أیضاً، فإن هناک فی عصرنا فرصاً کثیرة للحرکات الإسلامیة الإصلاحیة داخل وخارج العالم الإسلامی. وعلی المسلمین أن یدرکوا من صمیم قلوبهم ویؤمنوا بأن الإسلام هو الحلّ الوحید الموجود لإنقاذ الحضارة العالمیة. إن علیهم أن یحرّکوا بروح وثابة الأسس والقیم
التي تتضمنها قیمهم الإسلامیة، ویصروا علیها، تلک الأسس والأصول والقیم التی تمتد جذورها فی القرآن والسنّة. وفیما یلی نشیر إلی نماذج من هذه التقالید والقیم الإسلامیة التی سوف تکون فی حالة مواجهة مباشرة مع الثقافة العالمیة :

 

1 ـ تعزیز الأسرة ودعمها: بموجب الآیة الکریمة «ومن آیاته أَنْ خلق لکم من أنفسکم أزواجاً لتسکنوا إلیها وجعل بینکم مودة ورحمة » (7)، فإن الأسرة المسلمة تقوم علی ثلاثة أسس :
أ ـ السکن والاستقرار: فالمسلم یتمتع براحة البال إلی جانب أسرته، ویعیش وفق أسلوب بعید عن کل مسعیً وجهد.
ب ـ أساس المودة: إنّ العلاقة بین أفراد أسرة الزوج والزوجة ثم الأولاد هی علاقة ودّ وحبّ. صحیح أنّ مبدأ: «الرجال قوامون علی النساء » (8). هو مبدأ قانونی، وأن الرجل هو ربّ الأسرة، ولکن المودة هی التی تؤدی الدور الرئیس فی العلاقة بین الزوجین.
ج ـ أساس الرحمة: حیث أن هذا الأساس فی الأسر یؤدی إلی الصفح والتغاضی عن الهفوات. والعولمة من شأنها أن تضعف رباط الأسرة ذلک لأن وجوده یحول دون الکثیر من أهدافها.

 

2 ـ صلة الأرحام: حیث تؤدی إلی إنسجام الأسرة وتماسکها. وهذا التماسک لا یقتصر علی الأب والأُم والأولاد، بل یشمل جمیع الأقارب. وهذه قیمة فقدها المجتمع الغربی الیوم، ولکن المجتمعات الإسلامیة ظلت محافظة علی هذه الوحدة الاجتماعیة الهامة عملاً بالحدیث الشریف: «صلة الرحم تعمر الدیار وتزید فی الأعمار»(9). وإن مبدأ صلة الرحم یؤدی إلی التضامن المتبادل واحترام الکبار والتعامل مع الأطفال الیافعین بعطف وحنان، وقد حافظ المسلمون علی ذلک عملاً بوصیة النبی (ص): «وقّروا کبارکم وارحموا صغارکم». وصلة الرحم تحول دون التمزق الثقافی، فی حین أن العولمة تؤکد علی التمزق الثقافی. وقد اعتبر القرآن الکریم قطع عوامل الترابط أحد عوامل الفساد فی الأرض: «الذین یقطعون ما أمر اللّه به أن یوصل، ویفسدون فی الأرض » (10).

 

3 ـ مبدأ تجنب الإسراف والتبذیر والترف: إن الثقافة تدعو ـ کما قلنا ـ إلی النزعةالاستهلاکیة والترف، وهی توصی الإنسان بتوسیع الاستهلاک واللاّأبالیة. فی حین أن المسلمین تعلموا من القرآن الکریم والسنة النبویة استغلال الموارد الطبیعیة فی حدود الحاجة: «کلوا واشربوا ولا تسرفوا » (11)، «انّ المبذّرین کانوا إخوان الشیاطین » (12).
وبموجب هذه الآیة فإن المصادر الطبیعیة التی هی جزء من الملکیة التکوینیة للّه تعالی، مُنحت إلی جمیع البشریة علی الأرض دون أن یحدها زمان خاص ومحدود، کی یتمتع کلّ واحد من أبناء البشریة فی حدود حاجته. والاستغلال المبالغ فیه هو إسراف، أی انّه تعدٍّ علی حقوق الآخرین ومن مصادیق الکبائر. وهدر الموارد هو أیضاً تبذیر من عمل إخوان الشیاطین.
ومن بین الوصایا النبویة الاحتیاط فی الأکل وتجنب الشره. فقد کتب علی (ع) فی کتابه إلی عمثان بن حنیف، أحد ولاته، قائلاً: «وما خلقت لیشغلنی أکل الطیّبات کالبهیمة المربوطة همّها علفها أو السائمة المرسلة شغلها تقمّمها»(13).
وقد اعتبر القرآن الکریم الترف إحدی الصفات الرذیلة. والمجتمع المؤمن یسلک فیه المؤمنون سبیل التفکّر والتدبّر والحصافة والرصانة فی ذات الوقت الذی یبتعدون فیه عن الإسراف: «الذین یتفکرون فی خلق السّموات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً » (14)، و «عباد الرحمن الّذین یمشون علی الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً » (15).
وأسلوب المؤمنین هو الاعتدال: «الذین إذا أنفقوا لم یسرفوا ولم یقتروا وکان بین ذلک قواماً » (16).

 

5 ـ مبدأ العبادات الیومیة والذکر الدائم للّه : «أقم الصّلاة لدکوک الشمس إلی غسق اللیل » (17)، و «سبّحوه بکرة وأصیلاً » (18)، «وسبّح بحمد ربک قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن اللیل فسبّح وأطراف السجود » (19).

 

6 ـ مبدأ صمیمیة العلاقات الإنسانیة والتراحم فیها: إن الثقافة العالمیة تبنی البشر وکأنهم قطع من الآجر التی لا یوجد أی ترابط بینها. ولکن القرآن الکریم جعل العلاقة بین أفراد المجتمع الإیمانی، علاقة ولاء: «المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولیاء بعض » (20)،
وقال رسول اللّه (ص): «مثل المؤمنین فی توادّهم وتراحمهم کالجسد الواحد إذا اشتکی منه عضو تداعی له سائر الأعضاء بالسهر والحُمی»(21).
والأخوّة هی أقوی علاقات القرابة، وهذه العلاقة هی السائدة بین أفراد المجتمع المؤمن: «إنّما المؤمنون إخوة » (22)، ونحن نری أن مفهوم الحصر فی هذه الآیة الکریمة والتمثل فی إنّما یوحی بأن هذه العلاقة هی من خصائص الثقافة الإیمانیة الإسلامیة، وأن أیة ثقافة أخری لا یمکن أن تشتمل علی مثل هذه العلاقة. وقد حددت هذه الآیة الکریمة فی نهایتها مسؤولیة جمیع الأفراد فی السعی من أجل إقرار الصلح وإشاعة المحبة بین أفراده: «فأصلحوا بین أخویکم » (23).
وجاء فی آیة کریمة أخری: «ولن یجعل اللّه للکافرین علی المؤمنین سبیلاً » (24)، علماً أن مفاد هذه الآیة الکریمة لیس تعیین حکم تکلیفی ووضعی استنتجه الفقهاء وحسب بل هو فی الحقیقة بیان لحقیقة هی أن اللّه لم یجعل للکافرین علی المؤمنین سبیلاً للغلبة. فقد قال رسول اللّه (ص): «الإسلام یعلو ولا یُعلی علیه»(25). فمفاد هذا الحدیث لا یقتصر علی حدود استنتاجات الفقهاء العظام فی أحکامهم الفقهیة بل أن المقصود منه أن الإسلام أکثر نجاحاً من أی دین آخر فی مسیرة التکوین والاصطدامات والتناقضات العملیة والاجتماعیة. ذلک لأنه أقوی من حیث المنطق النظری، وحجته أکثر إحکاماً من الحجج الأخری: «فللّه الحجة البالغة » (26)، کما أنه أکثر فائدة للبشریة من الأدیان الأخری، ولذلک فإنه باق، والمذاهب العقیمة زائلة : «فأمّا الزبد فیذهب جفاء وأما ما ینفع الناس فیمکث فی الأرض » (27).

 

والإسلام نفسه یطرح العولمة، وهو یخاطب جمیع البشریة. فکتاب اللّه نزل لهدایة الناس «هدیً للنّاس » (28)، ومستقبل العالم والبشریة وفقاً للرؤیة الإسلامیة الکونیة قائم علی الصلاح والخیر ولیس علی الفساد والشر. وعاقبة المفسدین فی الأرض الزوال والهلاک، وسوف یعم الأرضَ العدلُ والقسطُ. وسیحکمها المؤمنون والصالحون. والآیات القرآنیة تدل علی هذه الحقیقة: «وعد اللّه الّذین آمنوا منکم لیستخلفهم فی الأرض کما استخلف الذین من قبلهم ولیمکنّن لهم دینهم الذی ارتضی لهم » (29). «ولقد کتبنا فی الزبور من
بعد الذکر أنّ الأرض یرثها عبادی الصالحون » (30).

 

وهذا المستقبل الزاهر والمشرق، أی انتصار الإسلام وغلبته علی الکفر العالمی، یقوم علی تفوق المنطق والرؤیة الکونیة الحکیمة وحسب، لا علی إجراءات القمع، فقد جاء فی القرآن الکریم: «ادع إلی سبیل ربّک بالحکمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتی هی أحسن » (31).
وقد حددت هذه الآیة الکریمة أسلوب دعوة الآخرین بثلاث طرق:

 

1 ـ المنطق والحکمة

 

2 ـ الموعظة الحسنة

 

3 ـ الحوار بالتی هی أحسن، أی من خلال الإلتزام بمبادئ الحوار ومقاییسه. ولا یوجد طریق رابع. ومن خلال هذه الطرق الثلاثة یجب علی المؤمنین أن یواجهوا الآخرین ویتعاملوا معهم.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

كلمات سيد القائد في يوم القدس العالمي
الإيمان وعلامات المؤمن
ادعية السفر
الولاء والبراءة‌ بالموقف‌ والعمل‌ وليس‌ ...
أنهم من نور واحد
ادعية مستجابة
أخلاق وصفات الإمام علي بن الحسين السجاد عليه ...
الجمالیة فی أدعیة الامام السجاد(ع)[القسم الثاني]/ ...
دعوة إبراهيم و إسماعيل عند رفع القواعد من البيت
المنهج التثقيفي عند الإمام محمد الباقر عليه ...

 
user comment