عربي
Thursday 26th of December 2024
0
نفر 0

الحبّ في القرآن والروايات


الحبّ  لغةً  وإصطلاحاً :

الحبّ  لغةً :

هو الوداد والميل الشديد ويقابله البغض والتنفّر ، ويأتي على معان . فيقال : أحببت الشيء فهو محبّ واستحببته مثله ، ويكون الاستحباب بمعنى الاستحسان ، وحاببته حباباً من باب قاتل ، والحِبّ اسمٌ منه ، فهو محبوب وحبيب وحِبّ ، والاُنثى حبيبة ، وجمعها حبائب ، وجمع المذكّر أحبّاء ، وحباب الماء تكسّر الموج الصغار ، والحُباب ضرب من الحيّات ، ويقال أحبّ البعير إحباباً إذا لصق بالأرض فلم يبرح ، والحبّة بذر والحَبُّ معروف من الحنطة والشعير ، والحَبُّ بزور الرياحين ومن هذا الباب : حبّة القلب سويداءه ، ويقال ثمرته ، ويأتي وصف القِصَر ، فالحبحباب الرجل القصير ، والحَبَب تنضّد الأسنان ، والحَباب من الماء النفاخات ، والمحبّة أبلغ من الإرادة ، والاستحباب أن يتحرّى الإنسان في الشيء أن يحبّه.

والحبّ مجرّداً : استعماله الصحيح في الفصيح أن يكون لازماً ، كالتعب والبغض ، يقال : تَعِبَ وبَغُض وحَبَّ أي صار تعباً وبغيضاً وحبيباً . وبهذا المعنى استعملت في الآيات الكريمة ، كقوله تعالى :

( رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ )[1].

( وَمَساكِنَ تَرْضَوْنَها أحَبُّ إلَيْكُمْ )[2].

( لَيُوسُفُ وَأخوهُ أحَبُّ إلى أبينا مِنَّا )[3].

أي أشدّ في كونه حبيباً.

( قَدْ شَغَفَها حُبَّاً )[4].

أي قد شغفها الفتى من كونه حبيباً لها.

( وَتُحِبُّونَ المالَ حُبَّاً جَمَّاً )[5].

أي من جهة كونه حبيباً.

ويأتي الحبّ بمعنى الإحباب ، فهو متعدٍّ بمعنى جعله حبيباً ، وميله إليه مع العلاقة ، والإحباب من الله تعالى لطف وتوجّه وإحسان وإكرام وإفضال ، وعدمه منه تعالى قطع تلك الألطاف والمراحم ، نعوذ به منه.

( إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدينَ )[6].

( وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ )[7].

( وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّار أثيم )[8].

( فَإنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الكافِرينَ )[9].

( وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ )[10].

( إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالا فَخوراً )[11].

( إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أثيماً )[12].

( لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ )[13].

وأمّا التحبيب فهو إحباب إذا كان النظر إلى جهة الوقوع . وأمّا الحَبّ فهو من ذلك المعنى ، من جهة كونه حبيباً للزارع ، ونتيجة عمله ، ومنتهى مقصده ، وميله وتوجّهه . وأمّا اللزوم والثبات واللصوق فمن لوازم المحبّة ، وسائر المعاني كلّها مجازات بمناسبات مخصوصة[14].

وأمّا  الحبّ  اصطلاحاً :

فهو الميل الباطني والقلبي نحو المحبوب ، ويقابله البغض والكراهة.

وقيل : الحبّ عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذّ ، فإن تأكّد ذلك الميل وقوى سمّي عشقاً.

وقيل : ميل الطبع إلى الملائم الملذّ ، ولا يتصوّر حبّ إلاّ بعد معرفة وإدراك ، وكذلك لا يتّصف بالحبّ جماد . ولا يحبّ الإنسان ما لا يعرفه ولم يدركه ، فالحبّ من خاصّية الحيّ الدرّاك ، بعد حصول الإدراك بالفعل.

ثمّ لمّـا كانت المدركات منقسمة إلى ما يوافق طبع المدرك ويلذّه ، وإلى ما يخالفه ويؤلمه ، وإلى ما لا يؤثّر فيه بإلذاذ وإيلام ، فالقسم الأوّل يكون مرغوباً عند المدرك ، ويسمّى رغبة ، وميله إليه حبّاً ، والقسم الثاني يكون منفوراً عنده ، وتسمّى نفرته عنه كراهة وبغضاً ، والثالث لا يوصف بميل وكراهة ، فلا يوصف بكونه محبوباً ولا مكروهاً.

ثمّ اللذّة لمّـا كانت عبارة عن إدراك الملائم الملذّ ونيله ، فالحبّ هو الميل والرغبة إليه ، لا يخلو عن لذّة محقّقة أو خياليّة ، وعلى هذا فيمكن أن تعرف المحبّة بأ نّها ابتهاج النفس بإدراك الملائم ونيله ، ثمّ المدرك إن كان ممّـا يستحسن حبّه شرعاً وعقلا ، كان كراهته وبغضه من الرذائل وحبّه من الفضائل ، وإن كان ممّـا يذمّ حبّه ، كان بالعكس من ذلك.

ثمّ الحبّ والكراهة لمّـا كانا تابعين للإدراك ، فإنّهما ينقسمان بحسب انقسام القوّة المدركة ـ التي هي الحواسّ الخمسة الظاهرة ـ والحواسّ الباطنة ، والقوّة العاقلة ، فمن الأوّل الصور الجميلة المرئيّة والنغمات الموزونة والروائح الطيّبة والملبوسات الليّنة وما شابه ذلك ، ومن الثاني كالصور الملائمة الخياليّة والمعاني الجزئيّة الملائمة بالنسبة إلى المتخيّلة والواهمة ، ومن الثالث كالمعاني الكلّية والذوات المجرّدة ، ولا ريب أنّ الثالث منها أقوى اللذات وأبلغها ، فإنّ البصيرة الباطنة أقوى وأنفذ من البصيرة الظاهرة ، والعقل أشدّ إدراكاً من الحسّ ، فالجمال الباطني أكثر لذّةً من الجمال الظاهري ، والمعرفة الباطنيّة أقوى من الظاهريّة.

ومن هذا المنطلق جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الصلاة أبلغ المحبوبات عنده في الدنيا حيث قال : « حُبّب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء ، وجعلت قرّة عيني في الصلاة » ، فالالتذاذ بالطيب لذّة شمّية ، وبالنساء نظرية ولمسيّة ، وهما من مقدّمات الصلاة ، وإنّ الالتذاذ بها لذّة عقليّة تفوق اللذات فكانت قرّة عين الرسول (صلى الله عليه وآله).

ثمّ الحبّ بحسب مباديه المتعدّدة ينقسم على أقسام : كحبّ الإنسان وجود نفسه وبقاءه وكماله ، وكحبّه لغيره لأجل أ نّه يلتذّ منه لذّة حيوانيّة ، كحبّ الرجل للمرأة وبالعكس لأجل المقاربة ، وحبّ المأكولات والملبوسات وهو سريع الحصول وسريع الزوال ، وكحبّه للغير لأجل نفعه وإحسانه ، والإنسان عبد الإحسان ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « اللهمّ لا تجعل لفاجر عليّ يداً فيحبّه قلبي » ، وهو قابل للزيادة والنقصان بمقدار الإحسان ، وكحبّ الشيء لذاته ، لا لحظٍّ يناله منه وراء ذاته ، كحبّ الجمال والحسن ، فإنّ كلّ جمال محبوب عند مدركه وذلك لعين الجمال[15] ، ومن هذا القسم حبّ الناس للأنبياء والأوصياء وبذل النفس والنفيس من أجل دينهم ومذهبهم ، وكمحبّة بعض لبعض لمناسبة خفيّة أو مجانسة معنويّة ، فإنّ الأرواح جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ـ كما ورد في الخبر النبويّ الشريف ـ وكالحبّ لمن حصل بينه وبينه الاُلفة والاجتماع في بعض المواضع ، وكالمحبّة لمن يشاركه في وصف ظاهر ، كميل الصبيّ إلى الصبيّ لصباه ، والتاجر إلى التاجر لتجارته ، ووجب كلّ سبب وعلّة لمسبّبه ومعلوله وبالعكس ، كحبّ الأب لولده وبالعكس ، وكحبّ المعلّم لتلميذه وبالعكس ، وكمحبّة المتشاركين في سبب واحد بعضهم لبعض ، كمحبّة الإخوان والأقارب ، وكلّما كان السبب أقرب كانت المحبّة أوكد ، وقد يجتمع بعض أسباب المحبّة أكثرها في شخص واحد فيتضاعف الحبّ ، وقد تكون قوّة الحبّ بقدرة قوّة السبب[16].

هذا « وقد أنكر بعض العلماء إمكان محبّة الله عزّ وجلّ ، وذلك لندرة الإيمان بها ، وقال : لا معنى لها إلاّ المواظبة على طاعة الله عزّ وجلّ ، وأمّا حقيقة المحبّة فمحال إلاّ مع الحسن والمثال ، ولمّـا أنكروا المحبّة أنكروا الاُنس والشوق ولذّة المناجاة وسائر لوازم الحبّ وتوابعه »[17].

يقول المحقّق الفيض الكاشاني في محجّته البيضاء :

ونحن نذكر في هذا الكتاب بيان شواهد الشرع في المحبّة ، ثمّ بيان حقيقتها وأسبابها ، ثمّ بيان أن لا مستحقّ للمحبّة إلاّ الله عزّ وجلّ ، ثمّ بيان أنّ أعظم اللذّات ، لذّة النظر إلى وجه الله تعالى ، ثمّ بيان سبب زيادة لذّة النظر في الآخرة على المعرفة في الدنيا ، ثمّ بيان الأسباب المقوّية لحبّ الله تعالى ، ثمّ بيان السبب في تفاوت الناس في الحبّ لله ، ثمّ بيان السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله عزّ وجلّ ، ثمّ بيان معنى الشوق ، ثمّ محبّة الله عزّ وجلّ للعبد ثمّ القول في علامات محبّة العبد لله تعالى ، ثمّ بيان معنى الاُنس بالله عزّ وجلّ ، ثمّ بيان معنى الانبساط في الاُنس ... ثمّ بيان حكايات المحبّين وكلمات للمحبّين متفرّقة . راجع كلامه رفع الله مقامه.

إنّ الحبّ من المعاني الإضافيّة فهو رابط بين المحبّ وحبيبه ، والإنسان يمتلك غرائز ، منها غريزة الحبّ ، ويتجلّى هذا الحبّ وهذه الغريزة في سلوكه وحركاته وسكناته ، وبهذا المعنى ومن هذا المنطلق ينقسم باعتبار متعلّقاته إلى الحبّ المذموم والحبّ الممدوح ، كما ينقسم إلى الحبّ المجازي والحبّ الحقيقي ، وله مراتب طوليّة وعرضيّة ، فإنّ مفهومه كلّي مشكّك كالنور ، فإنّ بداية النور الحسّي ما يتبقّى من رأس عود الكبريت بعد إخماده ، ونهايته نور الشمس في رائعة النهار ، فبداية الحبّ هو الميل الباطني الجزئي الذي يوجد في تمام المخلوقات المتكاملة ، فكلّها محبّة في ذاتها تتحرّك بحركة جوهريّة للوصول إلى كمالها المنشود فيها ، فالنواة تطوي مراحل كمالها ، لتكون نخلة باسقة ، والنطفة تسبح في تكاملها لتكون إنساناً سميعاً بصيراً ، فكلّ ما في الكون يسبح ويسبّح بحمد ربّه ، ليصل إلى الكمال المودع في ذاته.

ونهاية الحبّ إلى الحبيب الذي لا نهاية له في ذاته وصفاته وأسمائه ، ( فإلى الله المنتهى ، وإليه تصير الاُمور ، وإنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه ، وإليه راجعون ).

ويدلّ على مراتب الحبّ ـ حتّى حبّ الله ـ قوله تعالى :

( وَالَّذينَ آمَنوا أشَدُّ حُبَّاً للهِ )[18].

فهو دليل على إثبات الحبّ لله ، وإثبات التفاوت فيه.

فكمال المحبوب هو الله سبحانه مطلق الكمال والكمال المطلق ، وإله من وَلَهَ بمعنى العشق والحبّ ، وإنّه المعشوق والمحبوب . فالمؤمن ولهان في عبادة ربّه وحبّه ، ولا يرى معبوداً وإلهاً وحبيباً سوى الله سبحانه وتعالى : ( فقولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا ) فإنّ النجاح والفلاح والصلاح في الحبّ الإلهي والعشق المقدّس ، لا العشق المجازي المذموم في الآيات والروايات ، فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) لمّـا سئل عن العشق المجازي ـ كعشق قيس العامري وليلى ـ قال (عليه السلام) : « قلوب خَلَت عن ذكر الله فأذاقها الله حبّ غيره »[19].

فالحبّ ميل باطني وقلبي نحو المحبوب ، ويتولّد منه الشوق ، وهو الميل والرغبة إلى الشيء المحبوب عند غيبته ، وهو يكون فيما أدرك الشيء من وجه ولم يدرك من وجه آخر ، فما لا يدرك أصلا لا يشتاق إليه ، إذ لا يتصوّر أن يشتاق أحد إلى شخص لم يره ولم يسمع وصفه ، وما أدركه بكماله لا يشتاق إليه أيضاً : فالشوق يختصّ تعلّقه بما أدرك من وجه دون وجه ، وذلك فيما يتّضح الشيء اتّضاحاً ما ولم يستكمل الوضوح ، فاحتاج إلى استكماله ، فيكون الشوق إلى ما بقي من المطلوب ممّـا لم يحصل ، هذا وجه ، والوجه الآخر أن يدرك بعض كمالات المحبوب ، ووصل إليه وعلم إجمالا أ نّه له كمالات اُخر ، فيكون له شوق إلى إدراك تلك الكمالات.

وأفضل مراتب الشوق هو الشوق إلى الله سبحانه وإلى لقائه وهي المظنّة إلى الوصول إليه ، وإلى حبّه واُنسه والتقرّب إليه ، وهو رأس مال السالكين ، ومفتاح أبواب السعادة للطالبين ، الوجهان الموجبان للشوق متصوّران في حقّ الله سبحانه ، بل هما ثابتان وملازمان لجميع العارفين ، فلا يخلو عارف من الشوق إلى الله عزّ وجلّ ، ولا يسكن قطّ شوقه ، وما من عبد إلاّ ويرى فوق درجته ، درجات كثيرة لا نهاية لها :

( نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أيْديهِمْ وَبِأ يْمانِهِمْ يَقولونَ رَبَّنا أتْمِمِ لنا نورنا )[20].

وفي بعض الكتب السماوية : « طال شوق الأبرار إلى لقائي ، وأنا إلى لقائهم لأشدّ شوقاً ».

وفي أخبار داود (عليه السلام) : « إنّي خلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعّمتها بجلالي ».

وفيها أيضاً : « أ نّه تعالى أوحى إلى داود : يا داود ، إلى كم تذكر الجنّة ولا تسألني الشوق إليَّ ؟ قال : يا ربّ ، من المشتاقون إليك ؟ قال : إنّ المشتاقين إليَّ الذين صفّيتهم من كلّ كدر ، ونبّهتهم بالحذر ، وخرقت من قلوبهم إليّ خرقاً ينظرون إليّ ، وإنّي لأحمل قلوبهم بيدي فأضعها على سمائي ، ثمّ أدعو بملائكتي ، فإذا اجتمعوا سجدوا لي ، فأقول : إنّي لم أجمعكم لتسجدوا لي ، ولكن دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إليّ ، واُباهي بهم إيّاكم ، فإنّ قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتي كما تضيء الشمس لأهل الأرض ، يا داود إنّي خلقت قلوب المشتاقين من رضواني ، ونعّمتها بنور وجهي ، فاتّخذتهم لنفسي محدّثين ، وجعلت أبدانهم موضع نظري إلى الأرض ، وقطعت من قلوبهم طريقاً ينظرون به إليّ ، يزدادون في كلّ يوم شوقاً ».

وأوحى الله إليه أيضاً : « يا داود ، لو يعلم المدبورون عنّي كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم ، لماتوا شوقاً إليّ ، وتقطّعت أوصالهم عن محبّتي ».

وفي بعض الأخبار القدسيّة : إنّ لي عباداً يحبّونني واُحبّهم ، ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم ، ويذكرونني وأذكرهم ، وأوّل ما اُعطيهم أن أقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عنّي كما اُخبر عنهم ، ولو كانت السماوات والأرض وما فيهما في موازينهم لاستعدبها لهم ، واُقبل بوجهي عليهم ، ولا يعلم أحد ما اُريد أن اُعطيه لهم »[21].

ثمّ حقيقة الدين والإيمان هو الحبّ كما ورد في الخبر الشريف : « هل الإيمان إلاّ الحبّ والبغض »[22] فسبحانه وتعالى هو المحبوب الأصيل والأوّل ، ونحبّ كلّ شيء عليه اسم الله عزّ وجلّ بالتبع ، كما جاء في المناجاة : « اللّهم ارزقني حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ كلّ عمل يوصلني إلى قربك ».

فالحبّ الحقيقي حبّ اُويس القرني قد مدحه الله ورسوله ، ويعطي للإنسان حركةً ونشاطاً نحو الإيمان الكامل والعمل الصالح.

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : المشتاق لا يشتهي طعاماً ، ولا يلتذّ شراباً ، ولا يستطيب رقاداً ، ولا يأنس حميماً ، ولا يأوي داراً ، ولا يسكن عمراناً ، ولا يلبس ثياباً ، ولا يقرّ قراراً ، ويعبد الله ليلا ونهاراً ، راجياً بأن يصل إلى ما يشتاق إليه ، ويناجيه بلسان الشوق معبّراً عمّـا في سريرته ، كما أخبر الله تعالى عن موسى بن عمران في ميعاد ربّه بقوله :

( وَعَجَلـْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى )[23].

وفسّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن حاله : « أ نّه ما أكل ولا شرب ولا نام » . فإذا دخلت ميدان الشوق فكبر على نفسك ومرادك من الدنيا ، وودّع جميع المألوفات ، واصرفه عن سوى مشوّقك ، ولبّ بين حياتك وموتك ، لبّيك اللهمّ لبّيك ، أعظم الله أجرك ، ومثل المشتاق مثل الغريق ليس له همّة إلاّ خلاصه ، وقد نسي كلّ شيء دونه . وما ورد في الأدعية من المعصومين (عليهم السلام) من طلب الشوق أكثر من أن يحصى ، والظواهر القرآنية والروائية المثبتة للمحبّة والاُنس الإلهي تثبت الشوق أيضاً[24].

فالحبّ تارةً يكون عاملا هدّاماً من ورائه الانحطاط والرذالة والهلاك والنار ، كما هو أساس الذنوب والآثام في العالم على مرّ العصور والأحقاب ، ويعلم ذلك من هذه الرواية الشريفة :

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أوّل ما عُصي الله تبارك وتعالى بستّ خصال : حبّ الدنيا وحبّ الرياسة وحبّ الطعام وحبّ النساء وحبّ النوم وحبّ الراحة[25].

واُخرى يكون الحبّ عاملا للتكامل والاعتلاء والتقدّم والازدهار ، وذلك لو كان لله سبحانه وفي الله عزّ وجلّ ومن الله وإلى الله وبالله جلّ جلاله.

قال الله تعالى :

( وَالَّذينَ آمَنوا أشَدُّ حُبَّاً للهِ )[26].

وعن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) : لا يمحض رجلٌ الإيمان بالله حتّى يكـون الله أحبّ إليه مـن نفسـه وأبيـه واُمّه وأولاده وأهله وماله ومن الناس كلّهم.

وفي الدعاء الشريف : أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سواك ... ماذا وجد من فقدك ، وما الذي فقد من وجدك ، لقد خاب من رضي دونك بدلا.

وفي الخبر الشريف : إنّ موسى ناجى ربّه بالوادِ المقدّس فقال : يا ربّ إنّي أخلصت لك المحبّة منّي ، وغسلت قلبي عمّن سواك ـ وكان شديد الحبّ لأهله ـ فقال الله تبارك وتعالى :

( إخْلَعْ نَعْلَيْكَ )[27].

أي انزع حبّ أهلك من قلبك إن كانت محبّتك لي خالصة ، وقلبك من الميل إلى من سواي مغسولة.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : القلب حرم الله ، فلا تسكن حرم الله غير الله.

وما أجمل وأروع هذا الحديث الشريف ، فإنّه من جوامع الكلم ، فإنّ الله يقول في حديث قدسيّ : « لا تسعني سمائي ولا أرضي ، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن » ، فما أعظم الإنسان هذا الكائن الذي لا زال مجهولا ، والذي يزعم أ نّه جرم صغير ، ولكن انطوى فيه العالم الأكبر ، وكان قلبه عرش الله وحرمه ـ الله أكبر ـ .

طوبى لمن عرف قدر نفسه ، وقيمة كلّ امرئ ما يحسنه ، فقيمه الإنسان في الدنيا والآخرة بمعرفته وعلمه ، وإنّه بطاعته يمكن أن يصل إلى هذا المقام العظيم ، والمنزلة الرفيعة ، حتّى يكون قلبه حرم الله سبحانه وتعالى يناجيه ربّه في سرّه ـ أي في نفسه وقلبه ـ يتكلّم مع ربّه.

فما أجمل الدنيا حينئذ ، وإنّها والله مزرعة الآخرة ومتجر أولياء الله سبحانه . فلا بدّ لنا أن نمنع الأغيار من دخولهم قلوبنا ، وسيّد الأغيار النفس الأمّارة بالسوء ، فإنّ أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك ، فمن عرف نفسه فقد عرف ربّه ، والقلب السليم أن يلقي الله سبحانه وتعالى ، وليس فيه سوى الله سبحانه ، ولا يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم.

فلا بدّ أن نجلس على أبواب قلوبنا ، ونمنع غير الله ، فإنّ القلب حرم الله ، ولا تسكن حرم الله غير الله ، اللّهم اجعل قلبي بحبّك ميتّماً.

ومن دعائه (عليه السلام) : صلّ على محمّد وآلِ محمّد واشغل قلبي بعظيم شأنك وأرسل محبّتك إلَيَّ حتّى ألقاك وأوداجي تشخب دماً.

وفي الخبر : من طلبني وجدني ، ومن وجدني عشقني ، ومن عشقني قتلته ، ومن قتله فأنا ديته.

وأيضاً في الدعاء الشريف : اللّهم إنّي أسألك أن تملأ قلبي حبّاً لك وخشيةً منك ، وتصديقاً لك ، وإيماناً بك ، وفرقاً منك ، وشوقاً إليك . اللّهم اجعل حبّك أحبّ الأشياء إليّ ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي ، واقطع عنّي حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك.

والأدعية والأوراد والأذكار من الرسول المختار والأئمة الأطهار (عليهم السلام)المشحونة بالحبّ الإلهي ، وطلب حبّه منه سبحانه ، فإنّه من النعم التي يختصّ به الله أوليائه من عباده.

هذا غيض من فيض في جلالة وعظمة حبّ الله سبحانه ، وأمّا ما يورث حبّه وكيف لنا أن نصل إلى محبّته ، فقد جاء في الأخبار عن الأئمة الأبرار (عليهم السلام) ذلك ، وإليكم بعض النماذج :

قيل لعيسى (عليه السلام) علّمنا عملا واحداً يحبّنا الله عليه ، فقال : أبغضوا الدنيا يحببكم الله.

وفي حديث المعراج ، قال الله تعالى مخاطباً نبيّه الأكرم وحبيبه الأعظم : يا محمّد ، وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ ، ووجبت محبّتي للمتعاطفين فيّ ، ووجبت محبّتي للمتواصلين فيّ ، ووجبت محبّتي للمتوكّلين عليّ ، وليس لمحبّتي عَلَم ولا غاية ولا نهاية ، وكلّما رفعت لهم علماً وضعت لهم علماً.

وعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : من أكثر ذكر الموت أحبّه الله.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : طلبت حبّ الله عزّ وجلّ فوجدته في بغض أهل المعاصي.

وعنه (عليه السلام) : إذا تخلّى المؤمن عن الدنيا سما ، ووجد حلاوة حبّ الله وكان عند أهل الدنيا ، كأ نّه قد خلولط ، وإنّما خالط القوم حلاوة حبّ الله ، فلم يشتغلوا بغيره.

قال رجل للنبيّ (صلى الله عليه وآله) : يا رسول الله ، علّمني شيئاً إذا فعلته أحبّني الله من السماء ، وأحبّني الناس من الأرض فقال له : ارغب فيما عند الله عزّ وجلّ ، يحبّك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس.

وأمّـا مـن يحبّهم الله سبحانه فقـد قـال في كتابه الكريم في مبرم خطابه المجيد :

( إنَّ اللهَ يُحِبُّ الُمحْسِنينَ )[28].

( إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ )[29].

( فإنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ )[30].

( وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرينَ )[31].

( إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلينَ )[32].

( إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ )[33].

( إنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقاتِلونَ في سَبيلِهِ صَفَّاً كَأ نَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصوصٌ )[34].

( قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعونِّي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنوبِكُمْ )[35].

لقد تكرّرت لفظة ( يحبّ ) في القرآن كثيراً ، فما معنى حبّ الله تعالى ؟ لا يخفى أنّ المولى ليس بجسم ولا يمكن أن تطرأ عليه سبحانه ما يطرأ على الأجسام من صفات وخصوصيّات ، فحبّه تعالى عبارة عن إيجاده لآثار ذلك الحبّ ، لا حصول صفة في ذاته كما تحصل للإنسان صفة نفسانيّة ، فالمولى عندما يحبّ فإنّه يوجد ويخلق آثاراً لذلك الحبّ لتدلّ عليه ، وهكذا في الغضب ، فإنّ الانتقام والبطش والبلاء دليل على غضبه ، كما أنّ الهناء والرخاء والسعادة والاطمئنان دليل على حبّه ، وهكذا ... ولذا قالوا في هذا المورد : « خذ الغايات واترك المبادئ » فالقرآن يعدّد صفات كثيرة يحبّها الله ويحبّ من يتّصف بها مثل :

يحبّ المقسطين[36] ، يحبّ التوّابين والمتطهّرين[37] ، يحبّ المتّقين[38] ، يحبّ المحسنين[39] ، يحبّ الصابرين[40] ، يحبّ المتوكّلين[41] ، يحبّ الذين يقاتلون في سبيله[42] ، وغيرها كثير ، كما ذكرنا نماذج منها.

وهذه الصفات كلّها نجدها في المحبّين لله سبحانه ، وفي ساداتهم الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) ، فهذه الصفات تتجلّى كلّها في أمير المؤمنين (عليه السلام) ، بل وأكثر . الأمر الذي دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقول عن فضائله أ نّها لا تحصى أبداً ، وإذا كان عليّ محبوباً عند الله تعالى لأ نّه جسّد الصفات التي يحبّها الله تعالى فيكون أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مورد حصول آثار الحبّ الإلهي ، فلا غرابة أن نجد صفة الشجاعة والقوّة الخارقة للعادة في الإمام عليّ (عليه السلام) ، لأ نّه في مقام القرب وفي مقام العندية وفي مقام الحبّ الإلهي ، ولا غرابة أن نجده جامع الأضداد ، فذلك كلّه من آثار الحبّ الإلهي له . لأنّ عليّاً سيّد المحبّين وعشّاق الله قد وضع نفسه في دائرة يحبّ ما يحبّه الله ويبغض ما يبغضه الله تعالى ، فمن جهة نراه قد جسّد الصفات التي يحبّها الله تعالى ، وأنكر وابتعد وأبعد أصحابه عن تلك الصفات التي لا يحبّها الله تعالى كالإثم والخيانة والكفر والإسراف والعدوان والظلم والاستكبار ... فكان لا بدّ من ظهور آثار الحبّ الإلهي عليه لوجود المقتضي وارتفاع المانع ...

ولا يخفى أنّ لكلّ صفة يحبّها الله أثراً خاصّاً بها وليست هي كلّها متساوية الرتبة في الآثار فبعض الآثار ما يتّصل بجانب الروح والقلب والعقل ، وبعضها يتّصل بجانب البدن وإلى غير ذلك . فيظهر أنّ وجود الاُمور العجيبة والغريبة والخارقة للعادة في شخصيّة الإمام عليّ أمر طبيعي جدّاً ، لأ نّه مورد عناية الله تعالى بفضل ما حقّقه وأنجزه في طريق الكمال[43].

وفي حديث الإمام الباقر (عليه السلام) : « إنّ الله يحبّ المداعب بالجماعة بلا رفث ، المتوحّد بالفكرة ، المتحلّي بالصبر ، المساهر بالصلاة ».

وقال (عليه السلام) : إنّ الله يحبّ كلّ قلب حزين ، ويحبّ كلّ عبد شكور.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ثلاثة يحبّهم الله عزّ وجلّ : رجلٌ قام من الليل يتلو كتاب الله ، ورجلٌ تصدّق بيمينه يخفيها عن شماله ، ورجل كان في سريّة ، فانهزم أصحابه فاستقبل العدوّ.

وأمّا الذين لا يحبّهم الله ، فقال سبحانه في كتابه المجيد :

( إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدينَ )[44].

( وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّار أثيم )[45].

( وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ )[46].

( إنَّ اللهُ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالا فَخوراً )[47].

( وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدينَ )[48].

( إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُسْرِفينَ )[49].

( إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخائِنينَ )[50].

( إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرينَ )[51].

( إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ )[52].

( إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الكافِرينَ )[53].

( لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ )[54].


--------------------------------------------------------------------------------

[1]يوسف : 33.

[2]التوبة : 24.

[3]يوسف : 8 .

[4]يوسف : 30.

[5]الفجر : 20.

[6]البقرة : 190.

[7]البقرة : 205.

[8]البقرة : 276.

[9]آل عمران : 32.

[10]آل عمران : 140.

[11]النساء : 36.

[12]النساء : 107.

[13]النساء : 148.

[14]مقتبس من ( لسان العرب ) و ( تاج العروس ) و ( مجمع البحرين ) و ( مفردات الراغب ).

[15]مقتبس من جامع السعادات 3 : 136 ، ولكلام المصنّف تفصيل ، فراجع.

[16]جامع السعادات 3 : 141 ، وراجع في تفصيل ذلك المحجّة البيضاء ، المجلّد الثامن.

[17]المحجّة البيضاء 8 : 5.

[18]البقرة : 165.

[19]ميزان الحكمة 6 : 214 . وقد تعرّضت لهذا المعنى بالتفصيل في ( رسالة في العشق ) ، وهو مطبوع ، فراجع.

[20]التحريم : 8 .

[21]جامع السعادات 3 : 126.

[22]ميزان الحكمة 1 : 330.

[23]طه : 84 .

[24]جامع السعادات 3 : 133 ، والمحجّة البيضاء 8 : 55.

[25]المواعظ العددية : 175.

[26]البقرة : 165.

[27]طه : 12.

[28]البقرة : 195.

[29]البقرة : 222.

[30]آل عمران : 76.

[31]آل عمران : 146.

[32]آل عمران : 159.

[33]المائدة : 42.

[34]الصفّ : 64.

[35]آل عمران : 31.

[36]المائدة : 42.

[37]البقرة : 222.

[38]آل عمران : 76.

[39]المائدة : 13.

[40]آل عمران : 146.

[41]آل عمران : 159.

[42]الصفّ : 4.

[43]عظمة أمير المؤمنين (عليه السلام) : 53 ـ 55.

[44]البقرة : 190.

[45]البقرة : 276.

[46]آل عمران : 57.

[47]النساء : 26.

[48]المائدة : 64.

[49]الأنعام : 141.

[50]الأنفال : 58.

[51]النحل : 23.

[52]القصص : 76.

[53]الروم : 45.

[54]النساء : 148.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ذكرى اغتيال و إستشهاد الامام الرضا عليه السلام
خطبة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) أمام نساء ...
قاعدة إتباع عموم العلة
أقسام القاعدة المقصدية من حيث موضوعها
نشوء وتطوّر مناهج التفسير
زيارة وزوار الامام الحسين (عليه السلام) في ...
الإمام الحسن (ع)
اُسلوب التعامل مع المنافقين
احاديث أصحاب المعصومين
من هو المؤمن

 
user comment