قال الشيخ أبو حامد الغزالي (ره): ((فإن الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، وإنها لمستكّنة في طي الفؤاد، استكنان الجمر تحت الرماد، ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد كاستخراج الحجر النار من الحديد، وقد انكشف للناظرين بنور اليقين أن الإنسان ينزع منه عرقٌ إلى الشيطان اللعين، فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حيث قال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) الأعراف/ 12، فإن شأن الطين السكون والوقار، وشأن النار التلظي والاستعار، والحركة والاضطراب.
ومن نتائج الغضب الحقد والحسد، وبها هلك من هلك، وفسد من فسد، وفيهما مضغة إذا صلت صلح معها سائر الجسد، وإذا كان الحقد والحسد والغضب مما يسوق العبد إلى مواطن العطب فما أحوجه إلى معرفة معاطبه ومساوئه ليحذر ذلك ويتقيه، ويميطه عن القلب إن كان وينفيه، ويعالجه إن رسخ في قلبه ويداويه فإن مَن لا يعرف الشر يقع فيه، ومَن عرف فالمعرفة لا تكفيه ما لم يعرف الطريق الذي به يدفع الشر ويقصيه.
ـ ذم الغضب:
قال الله تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) الفتح/ 26. ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب بالباطل ومدح المؤمنين بما أنزل الله عليهم من السكينة.
وروى أبو هريرة أن رجلاً قال: ((يا رسول الله مرني بعمل وأقلل قال لا تغضب ثم أعاد عليه فقال: لا تغضب)).
وقال ابن عمر: ((قلت لرسول الله (ص) قل لي قولاً وأقلله لعلي أعقله فقال: لا تغضب فأعدت عليه مرتين كل ذلك يرجع إلي لا تغضب)).
وعن ابن مسعود قال النبي (ص): ((ما تعدون الصرعة فيكم قلنا الذي لا تصرعه الرجال قال: ليس ذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب)).
قال الحسن: يا ابن آدم كلما غضبت وثبت ويوشك أن تثب فتقع في النار.
وعن ذي القرنين أنه لقي ملكاً من الملائكة فقال: علمني علماً ازداد به إيماناً ويقيناً قال: لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فرد الغضب بالكظم وسكته بالتؤدة، وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك وكن سهلا ليناً للقريب والبعيد ولا تكن جباراً عنيداً.
وعن وهب بن منبه أن راهباً كان في صومعته أراد الشيطان أن يضله فلم يستطع فجاءه حتى ناداه، فقال له افتح فلم يجبه، فقال: افتح فإني إن ذهبت ندمت فلم يلتفت إليه، فقال: إني أنا المسيح، قال الراهب: وإن كنت المسيح فما أصنع بك أليس قد أمرتنا بالعبادة والاجتهاد وعدتنا القيامة فلو جئتنا اليوم بغيره لم نقبله منك؟ فقال: إني الشيطان وقد أردت أن أضلك فلم أستطع فجئتك لتسألني عما شئت فأخبرك فقال: ما أريد أن أسألك عن شيء قال فولى مدبراً فقال فسمع الراهب: ألا تسمع قال بلى، قال أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم قال: الحدة، إن الرجل إذا كان حديداً قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة ..
وقال خيثمة: الشيطان يقول: كيف يغلبني ابن آدم وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه.
وقال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر.
وقال بعض الأنصار: رأس الحمق الحدة، وقائده الغضب، ومَن رضي بالجهل استغنى عن اللم، والحلم زين ومنفعة والجهل شين ومضرة والسكوت عن جواب الأحمق جوابه.
وقال مجاهد: قال إبليس ما أعجزني بنو آدم فلن يعجزوني في ثلاث: إذا سكر أحدهم أخذنا بخرامته فقد تاه حيث شئنا وعمل لنا بما أحببنا، وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم ونبخله بما في يديه ونمنيه بما لا يقدر عليه.
وقيل لحكيم: ما أملك فلاناً لنفسه قال: إذاً لا تذله الشهوة ولا يصرعه الهوى ولا يغلبه الغضب.
وقال بعضهم: إياك والغضب فإنه يصيرك إلى ذلة الاعتذار، وقيل اتقوا الغضب فإنه يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل.
وقال عبدالله بن مسعود: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه وأمانته عند طمعه وما علمك بحلمه إذا لم يغضب، وما علمك بأمانته إذا لم يطمع.
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى عامله أن لا تعاقب عند غضبك على رجل فاحبسه فإذا اسكن غضب فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه ولا تجاوز خمسة عشر سوطاً.
وقال علي بن زيد: أغلظ رجل من قريش لعمر بن عبدالعزيز القول فأطرق عمر زماناً طويلاً ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً.
وقال بعضهم لابنه: يا بني لا يثبت العقل عند الغضب كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل الناس غضباً أعقلهم فإن كان للدنيا كان دهاء ومكراً، وإن كان للآخرة كان حلماً وعلماً فقد قيل الغضب عدو العقل والغضب غول العقل، وكان عمر (رض) إذا خطب قال في خطبته: ((أفلح منكم مَن حفظ من الطمع والهوى، والغضب.
وقال بعضهم: مَن أطاع شهوته غضبه قاداه إلى النار.
وقال الحسن: من علامات المسلم قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وعلم في حلم، وكيس في رفق، وإعطاء في حق وقصد في غنى، وتجمل في فاقة، وإحسان في قدرة، وتحمل في رفاقة، وصبر في شدة لا يغلبه الغضب، ولا تجمع به الحمية ولا تغلبه شهوة ولا تفضحه بطنة ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نيته فينصر المظلوم، ويرحم الضعيف، ولا يبخل ولا يبذر ولا يسرف ولا يقترف، يغفر إذا ظلم، ويعفو عن الجاهل، نفسه منه في عناء والناس منه في رخاء.
وقيل لعبدالله بن المبارك: أجمل لنا حسن الخلق في كلمة فقال: ترك الغضب.
وقال نبي من الأنبياء لمن تبعه: مَن يتكفل لي أن لا يغضب فيكون معي في درجتي ويكون بعدي خليفتي فقال شاب من القوم: أنا، ثم أعاد عليه فقال الشاب: أنا أوفي به، فلما مات كان في منزلته بعده وهو ذو الكفل سمي به لأنه تكفل بالغضب، ووفى به.
وقال وهب به منبه: للكفر أربعة أركان: الغضب، والشهوة، والخرق، والطمع.
ـ حقيقة الغضب:
اعلم أن الله تعالى لما خلق الحيوان معرضاً للفساد والموتان بأسباب في داخل بدنه وأسباب خارجه عنه أنعم عليه بما حميه عن الفساد ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه. أما السبب الداخل فهو أنه ركبه من الحرارة والرطوبة، وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة لا تزال الحرارة تحلل الرطوبة وتجففها وتبخرها حتى تصير أجزاؤها بخاراً يتصاعد منها، فلو لم يتصل بالرطوبة عدد من الغذاء يجبر ما أنحل وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان.
فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء كالموكل به في جبر ما انكسر وسد ما انثلم ليكون ذلك حافظاً له من الهلاك بهذا السبب.
وأما الأسباب الخارجية التي يتعرض لها الإنسان فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها فافتقر إلى قوة وحمية تثور من باطنه فتدفع المهلكات عنه فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطينة فمهما صد عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثوراناً يغلى به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن كما يرتفع النار وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه الدم فيحمر الوجه والعين والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها، وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه فإن صدر الغضب على مَن فوقه، وكان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزناً ولذلك يصفر اللون.
وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب.
وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاث في أول الفطرة من التفريط والإفراط والاعتدال.
أما التفريط فبفقده هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم وهو الذي يقال فيه إنه لا حمية له.
وأما الإفراط فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكر ولا اختيار بل يصير في صورة المضطر، وسبب غلبته أمور غريزية وأمور اعتيادية فرب انسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب، لأن الغضب من النار، وإنما مردودة المزاج تطفئه وتكسر سورته.
وأما الأسباب الاعتيادية فهو أن يخالط قوماً يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب ويسمون ذلك شجاعة ورجولية فيقول الواحد منهم: أنا الذي لا أصبر على المكر والمحال، ولا أحتمل من أحد أمراً، ومعناه لا عقل فيَّ ولا حلم ثم يذكره في معرض الفخر بجهله فمن سمعه رسَّخ في نفسه حسن الغضب وحب التشبه بالقوم فيقوى به الغضب ومهما اشتدت نار الغضب وقوي اضطرامها أعمت صاحبها وأصمته عن كل موعظة، فإذا وعظ لم يسمع بل زاده ذلك غضباً وإذا استضاء بنور عقله وراجع نفسه لم يقدر إذ ينطفئ نور العقل وينعم في الحال بدخان الغضب فإن معدن الفكر (الرأس) ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان وظلم إلى (الرأس) يستولي على معادن الفكر وربما يتعدى إلى معادن الحسن فتظلم عينه حتى لا يرى بعينه، وتسود عليه الدنيا بأسرها ويمكن دماغه على مثال كهف اضطرمت فيه نار فاسودّ وجهه، وحمي مستقره، وامتلأ الدخان جوانبه وكان فيه سراج ضعيف فانمحى أو انطفأ نوره فلا تثبت فيه قدم ولا يسمع فيه كلام ولا نرى فيه صورة ولا يقدر على إطفائه لا من داخل ولا من خارج بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق فكذلك يفعل الغضب بالقلب (والرأس) وربما تقوى نار الغضب فتفنى الرطوبة التي بها حياة القلب فيموت صاحبه غيظاً كما تسوّى النار في الكهف فينشقت وتنهد أعاليه على أسفله وذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه.
فهكذا حال القلب عند الغضب، وبالحقيقة فالسفينة في ملتطم الأمواج عند اضطراب الرياح في لجة البحر أحسن حالاً وأرجى سلامة من النفس المضطربة غيظاً إذ في السفينة مَن يحتال لتسكينها وتدبيرها وينظرها ويسوسها. وأما القلب فهو صاحت السفينة وقد سقطت حيلته إذ أعماه الغضب وأصمه، ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون وشدة الرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته، واستحالة خلقته وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن، وإنما قبحت صورة الباطن أولاً ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانياً فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن فقس الثمرة بالمثمرة فهذا أثره في الجسد.
ـ أثر الغضب في اللسان والأعضاء:
وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحيي منه ذو العقل ويستحي منه قائله عند فتور الغضب، وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ. وما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته لسبب ما وعجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوب نفسه ولطم وجهه وقد يضرب بيده الأرض ويعدو عدو الوالِه السكران والمدهوش المتحير، وربما يسقط سريعاً لا يطيق العدو والنهوض بسبب شدة الغضب ويعتريه مثل الغشية، وربما يضرب الجمادات الحيوانات فيضرب (القصعة) مثلاً على الأرض، وقد يكسر المائدة إذا غضب عليها، ويتعاطى أفعال المجانين فيسم البهيمة والجمادات ويخاطبها ويقول إلى متى منك هذا كأنه يخاطب عاملاً حتى ربما عامل حيواناً كأنه انساناً.
ـ أثر الغضب في القلب:
وأما أثره في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإضمار السوء والشماته بالمساآت والحزن بالسرور والعزم على إفشاء السر وهتك الستر والاستهزاء وغير ذلك من القبائح.
فهذه ثمرة الغضب المفرط، أما ثمرة الحمية الضعيفة فقلة الأنفة مما يوقف منه من التعرض للحرم والزوجة واحتمال الذل من الإخساء وصغر النفس والقماءة وهو أيضاً مذموم إذ من ثمراته عدم الغيرة على الحرم وهو خنوثة، قال (ص): ((إن سعداً لغيور وأنا أغير من سعد وإن الله أغير مني)) أ.هـ.
ـ الحكمة في خلق الغضب:
وإنما خلقت الغيرة لحفظ الأنساب، ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب، ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها، ومن ضعف الغضب الخور والسكوت عند مشاهدة المنكرات.
قال تعالى: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) النور/ 2، بل مَن فقد الغضب عجز عن رياضة نفسه إذ لا تتم الرياضة إلا يتسلط الغضب على الشهوة حتى يغضب على نفسه عند الميل إلى الشهوات الخسيسة، ففقد الغضب مذموم وإنما المحمود غضب ينتظر إشارة العقل والدين فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث يحسن الحلم وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده وهو الوسط الذي أشار إليه الخبر ((خير الأمور أوساطها)) أ.هـ.
فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه، ومَن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور واقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب، ويقف على الوسط الق بين الطرفين فهو الصراط المستقيم، وهو أرق من الشرعة وأحد من السيف، فإن عجز عنه فليطلب القرب منه، قال تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) النساء/ 129، فليس كل مَن عجز عن الإتيان بالخير كله ينبغي أن يأتي بالشر كله، ولكن بعض الشر أهون من بعض وبعض الخير أرفع من بعض فهذه حقيقة الغضب ودرجاته نسأل الله حسن التوفيق لما يرضيه إنه على ما يشاء قدير.
ـ دوافع الغضب:
قد عرفت أن علاج كل علة حسب مادتها وإزالة أسبابها، فلابد من معرفة أسباب الغضب.
وقد قيل ليحيى ولعيسى (ع): أي شيء أشد؟ قال: غضب الله، قال فما تقرب من غضب الله، قال أن تغضب، قال فما يبدئ الغضب وما ينبته، قال عيسى: الكبر والفخر والتعزز والحمية.
ودوافع الغضب هي: الزهو والعجب والمزاح والهزل والتعيير والمماراة والمجانة والغدر، وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعاً ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلابد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها، فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع وتميت العجب بمعرفتك بنفسك.
وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد، وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتاً، فبنو آدم جنس واحد، وإنما الفخر بالفضائل، الفخر والعجب والكِبَرُ أكبر الرذائل، وهي أصلها ورأسها، فإذا لم تتخل عنها فلا فضل لك على غيرك، فلم تفتخر وأنت من جنس عبدك من حيث البنية والنسب والأعضاء الظاهرة والباطنة، وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر.
وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة والعلوم الدينية التي تبلغك إلى سعادة الآخرة، وأما الهزل فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك، وأما التعيير فالحذر عن القول القبيح صيانة للنفس عن مر الجواب.
وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلباً لعز الاستغناء وترفعاًَ عن ذل الحاجة.
وكل خلق من هذه الأخلاق، وصفة من هذه الصفات يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة، وحاصل رياضاتها يرجع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها، وتنفر عن قبحها ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس، فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل، وتخلصت أيضاً من الغضب الذي يتولد منها.
ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة ورجولة وعزة نفس وكبر همة وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلاً حتى تميل النفس إليه وتستحسنه وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح والشجاعة والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر فيهيج الغضب إلى القلب بسببه ونسمي هذا عزة نفس وشجاعة، جهلاً بل هو مرض قلب ونقصان عقل وهو الضعف النفسي ونقصانها وآية ذلك أنه لضعف النفس ترى المريض أسرع غضباً من الصحيح والمرأة أسرع غضباً من الرجل، والصبي أسرع غضباً من الرجل الكبير، والشيخ الضعيف أسرع غضباً من الكهل، وذو الخلق السيئ والرذائل القبيحة أسرع غضباً من صاحب الفضائل، فالبذيء يغضب لشهوته إذا فاتته اللذة ولبخله إذا فاتته اللقمة حتى إنه يغضب على أهله وولده وأصحابه بل القوي من يملك نفسه عند الغضب كما قال (ص) بل ينبغي أن يعالج هذا الجاهل بل تتلى عليه حكايات أهل الحلم والعفو وما استحسن منهم من كظم الغيظ فإن ذلك منقول عن الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وأكابر الملوك الفضلاء، وضد ذلك منقول عن الأكراد والأتراك والجهلة والأغبياء الذين لا عقول لهم ولا فضل فيهم.
ـ علاج الغضب:
ما ذكرناه هو حسم لمواد الغضب، وقطع لأسبابه حتى لا يهيج فإذا جرى سبب هيجه فعنده يجب التثبت حتى لا يضطر صاحبه إلى العمل به على الوجه المذموم وإنما يعالج الغضب عند هيجانه بمعجون العلم والعمل، وأما العلم فهو ستة أمور:
الأول: يتفكر في الأخبار التي وردت في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال فيرغب في ثوابه فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكاظم عن التشفي والانتقام وينطفئ عنه غيظه.
وقال مالك بن أوس بن الجدثان: غضب عمر على رجل وأمر بضربه، فقلت: يا أمير المؤمنين (خذ العفو وأمر بالعرف وأَعرض عن الجاهلين) الأعراف/ 199، فكان عمر يقول: ((خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)) فكان يتأمل في الآية وقافاً عند كتاب الله مهما تلى عليه كثير التدبر فيه فتدبر فيه، وخلى الرجال.
وأمر عمر بن عبدالعزيز بضرب رجل ثم قرأ قوله تعالى: (والكاظمين الغيظ) فقال لغلامه: خل عنه.
الثاني: أن يخوف نفسه بعقاب الله وهو أن يقول: قدرة الله عليَّ أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه عليَّ يوم القيامة وأنا أحوج ما أكون إلى العفو، فقد قال تعالى في بعض الكتب القديمة: ((يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق)).
وقيل: ما كان في بني إسرائيل ملك إلا ومعه حكيم إذا غضب أعطاه صحيفة فيها: ارحم المسكين واخش الموت واذكر الآخرة، فكان يقرؤها حتى يسكن غضبه.
الثالث: أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام وتشمر العدو لمقابلته والسعي في هدم أغراضه والشماتة بمصائبه وهو لا يخلو عن المصائب فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا إن كان لا يخاف من الآخرة وهذا يرجع إلى تسليط شهوة على غضب، وليس هذا من أعمال الآخرة ولا ثواب عليه فإنه متردد على حظوظه العاجلة يقدم بعضها على بعض إلا أن يكون محظوره أن تتشوش عليه في الدنيا فراغته للعلم والعمل، وما يعينه على الآخرة فيكون مثاباً عليه.
الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب بأن يتذكر صورة غيره في حالة الغضب ويتفكر في قبح الغضب في نفسه ومشابهة صاحبه للكلب الضاري والسبع العادي، ومشابهة الحليم الهادي التارك للغضب بالأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء، ويخير نفسه بين أن يتشبه بالكلاب والسباع وأراذل الناس وبين أن يتشبه بالعلماء والأنبياء في عاداتهم لتميل نفسه إلى حب الاقتداء بهؤلاء إن كان من قوم تقي معه مسكة من عقل.
الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام ويمنعه من كظم الغيظ ولابد وأن يكون له سبب مثل قول الشيطان له: إن هذا يمل منك على العجز وصغر النفس والذلة والمهانة وتصير حقيراً في أعين الناس فيقول لنفسه: ما أعجبك تأنفين من الاحتمال الآن؟ ولا تأنفين من خزي يوم القيامة؟ والانتصاح إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منه، وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة والنبيين فمهما كظم الغيظ فينبغي أن يكظمه لله، وذلك يعظمه عند الله فما له وللناس وذل من ظلمه يوم القيامة أشد من ذله لو انتقم الآن .. أفلا يحب أن يكون هو القائم إذا نودي يوم القيامة: ((ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا))، فهذا أو أمثاله من معارف الإيمان ينبغي أن يكرره على قلبه.
السادس: أن يعلم أن غضبه من تعجبه من جريان الشيء على وفق مراد الله لا وفق مراده فكيف يقول: مرادي أولى من مراد الله، ويوشك أن يكون غضب الله عليه أعظم من غضبه.
وأما العمل فإن تقول بلسان: أعوذ بالله من الشيطان، هكذا أمر رسول الله (ص) أن يقال عند الغيظ. أ.هـ.
ـ الحقد يثمر الحسد:
الحقد يثمر الحسد، والحسد يؤدي إلى غضب المولى سبحانه، والحقد ثمرة الغضب إذ إن الغضب عادة ما يلزمه كظم من الإنسان ولكنه أحياناً يعجز عن الكظم فيرجع إلى نفسه ويشتد في الاحتقان والنفرة فيصير حقداً.
والحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغضة له والنفار عنه، وأن يدوم ذلك.
والحقد يثمر ثمانية أمور:
أولها: الحسد، وهو أن يملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغتم بنعمة إن أصابها، وتسر بمعصية إن نزلت به، وهذا من فعل المنافقين والعياذ بالله.
ثانيها: أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن فتشمت بما أصابه من البلاء.
ثالثها: أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه، وإن طلبك وأقبل عليك.
رابعها: وهو دونه أن تعرض عنه استصغاراً له.
خامسها: أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر، وهتك ستر وما إلى ذلك.
سادسها: أن تحاكيه استهزاء به وسخرية منه.
سابعها: إيذاؤه بالضرب وما يؤلم به.
ثامنها: أن تمنعه حقه من قضاء دين