وصلى الله على محمد واله الهداة الميامين
الشفاعة من المسائل المهمة التي ترتبط ببحث المعاد إذ أن الشفاعة في يوم القيامة هي من الأمور المتفق عليها بين جميع المسلمين لورودها في الذكر الحكيم بصورة واضحة وجلية غير قابلة للإنكار أو التشكيك، قال تعالى: (( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ))[1]
مفهوم الشفاعة
الشفاعة مشتقة من مادة (الشفع) أي (الزوج وما يضم إلى الفرد)، قال ابن منظور:(شفع : الشفع : خلاف الوتر، وهو الزوج، تقول: كان وترا فشفعته شفعا، وشفع الوتر من العدد شفعا : صيره زوجا... وشفع لي يشفع شفاعة وتشفع: طلب، والشفيع: الشافع، والجمع شفعاء ، واستشفع بفلان على فلان وتشفع له إليه فشفعه فيه ،وقال الفارسي : استشفعه طلب منه الشفاعة أي قال له كن لي شافعا، وفي التنزيل: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها . ....وقد تكرر ذكر الشفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، والمشفع: الذي يقبل الشفاعة، والمشفع: الذي تقبل شفاعته)[2]
وتستخدم عند العرف: بان يطلب شخص له مكانة اجتماعية أو دينية أو م شابه ذلك إلى شخص آخر بيده أمر من أمور الناس كالحكام ، أن يعفو عن مخالف ، أو أن يقضي لشخص حاجة وهكذا وإنما يتقبل الشخص شفاعة الشفيع، بسبب خشيته من أنه إذا لم يقبل شفاعته، فسوف يتأذى الشفيع ، وبذلك يحرم من لذة معاشرته، بل ربما أدى عدم قبوله لشفاعته، أن يلحقه بعض الأذى، والضرر من جانب الشفيع.أما في الاصطلاح: فهي ليست ببعيدة عن المعنى اللغوي كثيرا، إذ الشفاعة هي: ( السؤال في التجاوز عن الذنوب )[3] ، أو هي : (عبارة عن طلبه من المشفوع إليه أمرا للمشفوع له ، فشفاعة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أو غيره عبارة عن دعائه الله تعالى لأجل الغير وطلبه منه غفران الذنب وقضاء الحوائج ، فالشفاعة نوع من الدعاء والرجاء)[4] .
الشفاعة في القرآن الكريم
وردت مادة الشفاعة في القرآن الكريم في كثير من الآيات الشريفة، وكل هذه الايات يظهر منها الشفاعة بمعنى رفع العقاب عن المذنبين، ثم أن بعضها يثبت الشفاعة وبعضها ينفيها ولكن لا بشكل مطلق بل أن النفي جاء بصورة خاصة متعلقا بفئة معينة من الناس ممن حددهم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بمواصفاتهم ، فالثابت هو أن قسما معينا من الناس ممن يدخلون في مفهوم (الكفار) بكل معنى من معانيه هم المحرومون من الشفاعة، والقرآن الكريم حين ينفي استحقاق مجموعة معينة من الناس للشفاعة فإنه من جهة ثانية يؤكد وجودها لصنف آخر من الناس ممن يرتضيهم الله سبحانه وتعالى، كقوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون )[5] ، وقوله: ( لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ) [6] ، أو قوله عز شأنه :( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ) المتقدمة ، وكقوله تعالى: ( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون )[7].
فهذه الآيات الشريفة وغيرها كثير تصرح بوجود الشفاعة يوم القيامة، غاية الأمر أن القرآن الكريم يصف الشفعاء بعدة صفات، فمنهم ( من اتخذ عند الرحمن عهدا )، ومنهم ( من أذن له الرحمن )، ومنهم ( من شهد بالحق وهم يعلمون ) وأصحاب هذه الصفات وغيرها قد أعطاهم الله سبحانه وتعالى المنزلة العالية التي تجعلهم قادرين على أن يشفعوا فيمن يرتضي الرحمن الشفاعة فيهم .
وخلاصة القول: إن الشفاعة موجودة بصريح القرآن الكريم، وغاية الأمر أنها محدودة بحدود في طرف الشفعاء وفي طرف المشفع فيهم ، ولذلك فهي ل تنال قسما من الناس.
ضوابط الشفاعة
كما ذكرنا أن هناك شرائط لشفاعة الشفيع تظهر من الآيات الكريمة السابقة ولكن الشرط الأساس لشفاعة الشفيع، أو قبول الشفاعة في حق المشفوع له، هو الإذن الإلهي، كما جاء في قوله تعالى ذلك في الآية (من ذا الذي يشفع عنه إلا بإذنه)[8].وهناك آيات يمكن التوصل من خلالها إلى شروط أكثر وضوحا يلزم توفرها في الطرفين: الشفعاء والمشفوع لهم، ومنها قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) المتقدمة.
وربما كان المراد من قوله (من شهد بالحق) شهداء الأعمال، الذين يعلمون أعمال العباد ونواياهم بتعليم من الله سبحانه وتعالى، ويمكنهم أن يشهدوا على كيفية أعمالهم وقيمتها، كم انه يمكن القول إن الشفعاء يلزم أن يتمتعوا بمثل هذا العلم، حتى يمكنهم أن يحددوا الأفراد الذين يستحقون التشفع لهم، ثم إن القدر المتيقن من الشفعاء الذين تتوفر فيهم هذه الشروط هم المعصومون (عليهم السلام).
ومن جانب آخر: يستفاد من بعض الآيات أن المشفوع لهم لابد أن يكونوا مرضيين عند الله، كما جاء ذلك في الآية الكريمة: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)[9]، وكذلك قوله تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى)[10].
ومن الواضح أنه ليس المراد من كون المشفوع له مرضيا عند الله، أن تكون أعماله كلها مرضية، فانه لو كان كذلك لما احتاج للشفاعة بل المراد أن يكون الشخص نفسه مرضيا من حيث دينه وإيمانه.
هذا وللحديث تتمة تأتي في العدد القادم إن شاء الله تعالى
والحمد لله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]: طه: آية 109
[2]: لسان العرب: ج8 ص183.
[3]: التعريفات للجرجاني : ص56، والنهاية في غريب الحديث، لابن الأثير:ج2 ص485، والكليات، لأبي البقاء: ص536.
[4]: كشف الارتياب، للسيد محسن الأمين:ص 196 .
[5]: الأنبياء: آية 28
[6] : مريم: آية 87
[7] : الزخرف:86
[8] : البقرة :255
[9] :الأنبياء:28
[10]:النجم:26
الشفاعة في الحديث الشريف:
تقدم الكلام في البحث السابق عن الآيات الشريفة التي تناولت موضوع الشفاعة ، وأما الحديث الشريف ، فمن لاحظ كتب الحديث يقف على مجموعة كبيرة من الروايات الواردة في الشفاعة توجب الإذعان بأنها من الأصول المسلمة في الشريعة الإسلامية، وإليك نماذج منها:
1ـ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)(1).
2ـ عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ثلاثة يشفعون إلى الله عز وجل فيشفعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء)(2).
3ـ عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: (اللهم صل على محمد وآل محمد، وشرف بنيانه، وعظم برهانه، وثقل ميزانه، وتقبل شفاعته)(3).
4- عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، واني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة من مات منهم لا يشرك بالله شيئا)(4).
5- وعنه (صلى الله عليه وآله) قال : (أعطيت خمسا وأعطيت الشفاعة، فادخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله)(5).
الشفاعة المطلقة والمحدودة:
تتصور الشفاعة بوجهين:
1- المطلقة: بأن تشمل الشفاعة مطلق العاصي يوم القيامة وإن فعل ما فعل، وهذا أمر مرفوض في منطق العقل والوحي.
2- المحدودة: وهي التي تكون الشفاعة مشروطة بأمور في المشفوع له، هي بشكل مجمل أن لا يقطع الإنسان العاصي جميع علاقاته العبودية مع الله وصلاته الروحية مع أهل الشفعة، وهذا هو القدر المتيقن من آيات وروايات الشفاعة وهو بعد أمر مقبول عقلا.
وبذلك يتضح الجواب عما يشكل على الشفاعة من كونها توجب الجرأة على المعاصي وتحيي روح التمرد في لدى المجرمين، إذ أن ذلك من لوازم الشفاعة المرفوضة وهي المطلقة ، لا المحدودة المقبولة.
الحكمة من الشفاعة:
والحكمة من تشريع الشفاعة هو عين الحكمة من تشريع التوبة التي اتفقت الأمة على صحتها، وهو منع المذنبين عن القنوط من رحمة الله وبعثهم نحو الابتهال والتضرع إلى الله رجاء شمول رحمته إياهم وعودتهم إلى الطريق الصحيح في المجتمع الإسلامي ، فإن العاصي لو اعتقد بأن عصيانه لا يغفر قط ، فلا شك أن ذلك يؤدي إلى حصول حالة نفسية لديه تدفعه إلى أن يتمادى في اقتراف السيئات لأنه يعتقد أن ترك العصيان لا ينفعه في شيء، وهذا بخلاف ما إذا أيقن بأن رجوعه عن المعصية يغير مصيره في الآخرة، فإنه يبعثه الطمأنينة التي تساعده على ترك العصيان والرجوع إلى الطاعة.
وكذلك الحال في الشفاعة، فإذا اعتقد العاصي بأن أولياء الله قد يشفعون في حقه إذا لم ينهمك في المعاصي ولم يبلغ إلى الحد الذي يحرم من الشفاعة، فعند ذلك ربما يحاول تطبيق حياته على شرائط الشفاعة حتى لا يحرمها.
شرائط شمول الشفاعة:
قلنا أن الشفاعة المقبولة عقلا وشرعا هي الشفاعة المقيدة بشروط، وقد عرفت مجمل تلك الشروط، وينبغي لنا الآن أن نذكر أهم تلك الشروط تفصيلا على ما ورد في الآيات و الروايات:
1- عدم الشرك بالله تعالى: قال تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما )(6)
2- عدم كونه ناصبيا: فعن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال: (إن المؤمن ليشفع لحميمه إلا أن يكون ناصبا، ولو أن ناصبا شفع له كل نبي مرسل وملك مقرب ما شفعوا)(7).
3- عدم الاستخفاف بالصلاة: فعن الإمام الكاظم (عليه السلام)انه قال: (إنه لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة)(8).
4- عدم التكذيب بشفاعة النبي (صلى الله عليه وآله): فعن الإمام علي بن موسى الرض (عليه السلام) انه قال: (قال أمير المؤمنين عليه السلام: من كذب بشفاعة رسول الله لم تنله)(9).
اثر الشفاعة:
إن الشفاعة عند الأمم يراد منها حط الذنوب ورفع العقاب، وهي كذلك عند الإسلام كما يوضحه قوله (صلى الله عليه وآله): (ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) المتقدم(10).
قال الشيخ المفيد(رحمه الله): (اتفقت الإمامية على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أمته، وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأن أئمة آل محمد (صلى الله عليه وآله) يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين، ووافقهم على شفاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) المرجئة سوى ابن شبيب، وجماعة من أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعمت أن شفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) للمطيعين دون العاصين وأنه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين)(11).
وقال أبو حفص النسفي: (والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار)(12).
هل يجوز طلب الشفاعة؟:
ذهب ابن تيمية وتبعه محمد بن عبد الوهاب - مخالفين الأمة الإسلامية جمعاء - إلى أنه لا يجوز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة ولا يجوز للمؤمن أن يقول: (يا رسول الله اشفع لي يوم القيامة).
وإنما يجوز له أن يقول: (اللهم شفع نبينا محمدا فينا يوم القيامة).
واستدلا على ذلك بوجوه:
منها: أنه من أقسام الشرك، أي الشرك في العبادة، والقائل بهذا الكلام يعبد الولي(13).
والجواب عنه ظاهر، بما تقدم في الأبحاث السابقة في حقيقة الشرك في العبادة، وهي أن يكون الخضوع والتذلل لغيره تعالى باعتقاد أنه إله أو رب، أو أنه مفوض إليه فعل الخالق وتدبيره وشؤونه، لا مطلق الخضوع والتذلل.
ومنها : أن طلب الشفاعة من النبي(صلى الله عليه واله) يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة، يقول سبحانه: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله)(14).
وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير(15).
ويرده أن المعيار في الحكم ليس هو التشابه الظاهر بل هو حقيقة الأعمال والنوايا الباطنة، وإلا لوجب أن يكون السعي بين الصفا والمروة والطواف حول البيت شركا، لقيام المشركين به في الجاهلية، وهؤلاء المشركون كانوا يطلبون الشفاعة من الأوثان باعتقاد أنها آلهة أو أشياء فوض إليها أفعال الله سبحانه من المغفرة والشفاعة.
وأين هذا ممن طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء بما أنهم عباد الله الصالحون، فعطف هذا على ذلك جور في القضاء وعناد في الاستدلال.
3- إن طلب الشفاعة من الميت أمر باطل.
ويرده أن الإشكال ناجم من عدم التعرف على مقام الأولياء في كتاب الله الحكيم، والقرآن يصرح بحياة جموع كثيرة من الشهداء وغيرهم، ولو لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله) حياة فما معنى التسليم عليه في كل صباح ومساء وفي كل صلاة: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)؟!
والمؤمنون لا يطلبون الشفاعة من أجساد الصالحين وأبدانهم, بل يطلبونها من أرواحهم المقدسة الحية عند الله سبحانه.
والحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من لا يحضره الفقيه : 3/ 376. 2 الخصال للشيخ الصدوق: باب الثلاثة، الحديث169) 3 الصحيفة السجادية: الدعاء 42 . 4 صحيح البخاري: 8/ 33، صحيح مسلم : 1/ 170. 5 صحيح البخاري: 1/ 42 ، مسند أحمد: 1/ 301. 6 النساء: 48 . 7 ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: 251 .
8 الكافي: 3/ 270، 6/ 401. 9 عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 2/ 66. 10 سنن أبي داود: 2/ 537، سنن الترمذي: 4/ 45. 11 أوائل المقالات: ص 54. 12 شرح العقائد النسفية: 147. ولاحظ أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 152، مفاتيح الغيب للرازي: 3/ 56، مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية: 1/ 403، تفسير ابن كثير: 1/ 309. 13 الهدية السنية: 42 14 يونس: 18. 15 كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب: 6.