علم الحسنين عليهما السلام وما حدثا به عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) :
روى صاحب تاريخ بغداد 9/366: بسنده عن مجاهد قال: جاء رجل الى الحسن والحسين عليهما السلام فسألهما فقالا: ان المسألة لا تصلح الا لثلاثة، لحاجة مجحفة، أو لحمالة مثقلة، أو دين فادح، فأعطياه، ثم أتى ابن عباس فأعطاه ولم يسأله، فقال له الرجل: أتيت ابنى عمك فسألانى ولم تسألنى فقال ابن عباس: أنبأنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنهما كانا يغران العلم غرا، أقول: يغران العلم غرا، أى: يزقان العلم زقا، وغر الطير فرخه أى زقه الطعام. (مجمع الزوائد: 3/100، المعجم الصغير للطبرانى: 1/184ـ185، ترجمة الامام الحسين (عليه السلام) من تاريخ دمشق: ص 138 ح 176).
الامام علي بن الحسين (زين العابدين) (عليه السلام):
(22)
وصف ابن حجر فى كتابه الصواعق المحرقة، الامام على بن الحسين بقوله: (زين العابدين هو الذى خلف أباه علما وزهداً وعبادة). (أهل البيت، توفيق أبو علم).
وعن أبى حازم وسفيان بن عيينة كان كل منهما يقول: (ما رأيت هاشميا أفضل من على بن الحسين، ولا أفقه منه)(ابن الجوزى، تذكرة الخواص).
ان مثل هذه الشخصية الفذة المرموقة التى كانت تحتل موقع الامام والأستاذية والأعلمية، لحرية أن يصفها العلماء بمثل هذه الأوصاف، ويركن اليها المسلمون فى اخذ الحديث والفقه والتفسير والعقيدة، وسائر علوم الشريعة المقدسة.
وقد قلد الامام السبط الشهيد الحسين بن على (عليهما السلام) الوسام وشهادة الاعتراف بالامامة والزعامة الدينية لولده (على زين العابدين)، وفى ذلك أوضح دليل على مقام هذاالامام والأخذ بما صدر عنه من علوم ومعارف ورواية...الخ.
فقد ورد عن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (ان الحسين (عليه السلام) لما سار الى العراق استودع أم سلمة رضى الله عنها الكتب والوصية فلما رجع على بن الحسين (عليه السلام) دفعتها اليه) (الطبرسى، اعلام الورى باعلام الهدى ص 252).
ومن المحقق أن أول من ألف ودون فى دنيا الاسلام هم أئمة أهل البيت، فهم الرواد الأوائل الذين خططوا مسيرة الأمة الثقافية وفجروا ينابيع العلم والحكمة فى الارض، وممن ألف من الأئمة الطاهرين الامام زين العابدين فقد كانت مؤلفاته نموذجا رائعا لتطور الفكر الاسلامى وتقدم الحركة الثقافية والعلمية، فقد انشغل المسلمون فى عصر الامام بالحروب والثورات ضد حكام الجور مما سبب تفكك المجتمع، ولكن وجود الامام فتح أفاقا مشرقة من العلم لم يعرفها الناس من ذى قبل، فقد تعرض لعلوم الشريعة الاسلامية من الحديث والفقه والتفسير وعلم
(23)
الكلام والفلسفة.
ومن هذه الكتب التى ألفها (الصحيفة السجّادية) فهى من ذخائر التراث الاسلامى، ومن مناجم كتب البلاغة والتربية والأخلاق والأدب فى الاسلام.
ومن المؤلفات القيمة للامام زين العابدين (المناجاة الخمس عشرة)، وهى من القيم الروحية فى الاسلام فقد عالج بها الامام كثيرا من القضايا النفسية كما فتح بها آفاقا مشرقة للاتصال بالله تعالى.
ومنها (رسالة الحقوق) وهى من المؤلفات المهمة فى الاسلام التى وضعت المناهج الحية لسلوك الانسان وتطوير حياته وبناء حضارته على أسس تتوفر فيها جميع عوامل الاستقرار النفسى، ووقايته من الاصابة بأى لون من ألوان القلق والاضطراب، بعد أن نظر أبعاد حياته وعلاقاته مع خالقه ونفسه وأسرته ومجتمعه وحكومته ومعلمه وغير ذلك. ليتم بذلك انشاء مجتمع اسلامى تسوده العدالة الاجتماعية والعلاقات الوثيقة بين أبنائه من الثقة والمحبة.
يقول الامام زين العابدين مبينا سعة علومه وأنواره:
يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل لى أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال صالحون دمى يرون أقبح ما يأتونه حسنا
(راجع كتاب الاسلام وطن ـ للامام السيد محمد ماضى أبى العزائم ص 70).
وروى سفيان بن عيينة عن الزهرى قال: دخلت على علي بن الحسين فقال: يا زهرى، فيم كنتم؟ قلت: كنا نتذاكر الصوم، فأجمع رأيى ورأى أصحابى على أنه ليس من الصوم شىء واجب، الا شهر رمضان، فقال: يا زهرى، ليس كما قلتم، الصوم على أربعين وجها: عشرة منها واجب كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها
(24)
حرام، وأربع عشرة منها صاحبها بالخيار، ان شاء صام، وان شاء أفطر، وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب. قال الزهرى: قلت: فسرهن يا ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله).
قال: أما الواجب: فصوم شهر رمضان، وصوم شهرين متتابعين فى قتل الخطأ لمن لم يجد العتق، وصيام ثلاثة أيام كفارة اليمين لمن لم يجد الاطعام، وصيام حلق الرأس، وصوم دم المتعة لمن لم يجد الهدي، وصوم جزاء الصيد، يقوم الصيد قيمته ثم يقسم ذلك الثمن على الحنطة.
وأما الذى صاحبه بالخيار: فصوم الاثنين والخميس، وستة أيام من شوال بعد رمضان، وصوم عرفة، ويوم عاشوراء، كل ذلك صاحبه بالخيار.
وأما صوم الاذن: فالمرأة لا تصوم تطوعا الا باذن زوجها، وكذلك العبد والأمَة. وأما صوم الحرام: فصوم الفطر والأضحى، وأيام التشريق، ويوم الشك، نهينا أن نصومه لرمضان، وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر، وصوم الضيف لا يصوم تطوعا الا باذن صاحبه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا الا باذنهم». ويؤمر الصبى بالصوم اذا لم يراهق تأنيساً وليس بفرض، وكذلك من أفطر لعلة من أول النهار ثم وجد قوة فى بدنه امر بالامساك وذلك تأديب الله عز وجل وليس بفرض. وكذلك المسافر اذا اكل من اول النهار ثم قدم أمر بالامساك.
وأما صوم الاباحة: فمن أكل أوشرب ناسياً أجزأه صومه وأما صوم المريض والمسافر فقال قوم: يصوم، وقال قوم: لا يصوم وقال قوم: ان شاء صام وان شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر فى الحالين، فان صام فى السفر والمرض فعليه القضاء. (البداية والنهاية، ج 5 ص 153 ـ 154).
الامام محمد بن على الباقر (عليه السلام):
(25)
أما ولده محمد بن على الذى لقب بالباقر لتوسعه فى العلوم والمعارف فهو كأبيه اشهر من عرف المسلمون فى الورع والزهد والعلم والمعرفة وبذلك يشهد العلماء والرواة والمحدثون، ويروى الصحابى الجليل جابر بن عبدالله الانصارى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره بأنه سيدرك ولده محمد الباقر (عليه السلام) وامره أن يقرئه السلام.
فقد روى هذا الصحابى الجليل: (قال لى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآله يوشك أن تبقى حتى تلقى ولدا لى من الحسين يقال له: محمد، يبقر العلم بقرا، فاذا لقيته فاقرئه منى السلام) (ابن الصباغ فى الفصول المهمة واليعقوبى فى تاريخه والشبلنجى فى نور الابصار وابن الجوزى فى تذكرة الخواص).
وقد ادرك هذا الصحابى الامام الباقر (عليه السلام) وهو صبى وأبلغه تحية جده رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ان فى هذه الشهادة النبوية وفى التعريف الكفاية للاعتراف بمقام هذا الامام والاعتماد عليه، والرجوع اليه، والاخذ عنه وتشكل حياته وحياة ولده جعفر الصادق أغنى فترة من فترات التاريخ الاسلامى فى الحديث والرواية والتعريف بعلوم الاسلام.
وقد كان العلماء والرواة والمفسرون وطلاب المعرفة الاسلامية فى تلك الفترة يرون فى الامام الباقر قمة لا تدانيها قمة، وعلما لا يرتفع الى جانبه علم.
فقد وصفه ابن العماد الحنبلى بقوله: (ابو جعفر محمد الباقر كان من فقهاء اهل المدينة، وقيل له: الباقر; لانه بقر العلم اى شقه وعرف أصله وتوسع فيه). (شذرات الذهب ج 1 ص 149).
ونقل ابن الجوزى عن احد اعلام التابعين عطاء قوله فى الامام محمد الباقر (عليه السلام): ما رايت العلماء عند احد أصغر علما منهم فى مجلس أبى جعفر
(26)
الباقر.
الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام):
أما ولده جعفر الصادق (عليه السلام) فقد أسهب العلماء فى الثناء عليه وعلى آبائه واعظام مقامهم، نذكر من هذه الأقوال ما نصه:
نقل العلامة المحقق السيد محسن الأمين: أن الحافظ ابن عقدة الزيدى جمع فى كتاب رجاله أربعة آلاف رجل من الثقات الذين رووا عن جعفر بن محمّد فضلا عن غيرهم وذكر مصنفاتهم.
ونقل ابن شهرآشوب فى كتابه مناقب آل أبي طالب عن كتاب الحلية لأبى نعيم ما نصه:
إن جعفراً الصادق حدث عنه من الأئمة والأعلام: مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، وسفيان الثورى، وابن جريج، وعبدالله بن عمرو، وروح بن القاسم، وسفيان بن عيينة، وسليمان بن بلال، واسماعيل بن جعفر، وحاتم بن اسماعيل، وعبد العزيز بن المختار، ووهب بن خالد، وابراهيم بن طحان، وآخرون غيرهم، قال: أخرج عنه مسلم فى صحيحه محتجا بحديثه، وقال غيره: وروى عنه مالك، والشافعى، والحسن بن صالح، وأبو أيوب السختيانى، وعمر بن دينار، وأحمد بن حنبل، وقال أنس بن مالك: ما رأت عين ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلا وعلما وعبادة وورعا.
وتحدث الأستاذ الشيخ محمود أبو زهرة من علماء الأزهر الشريف عن الامام الصادق فى مقدمة كتابه (الامام الصادق) ص3 فقال: أما بعد فاننا قد اعتزمنا بعون الله وتوفيقه أن نكتب عن الامام جعفر الصادق، وقد كتبنا فى سبعة من الائمة الكرام، وما أخرنا الكتابة عنه لأنه دون أحدهم، بل ان له فضل السبق على أكثرهم،
(27)
وله على الأكابر منهم فضل خاص، فقد كان أبو حنيفة يروى عنه ويراه أعلم الناس باختلاف الناس، وأوسع الفقهاء احاطة، وكان الامام مالك يختلف اليه دارسا راويا، وكان له فضل الأستاذيه على أبى حنيفة ومالك، فحسبه ذلك فضلا، ولا يمكن أن يؤخر عن نقص، ولا يقدم غيره عليه عن فضل، وهو فوق هذا حفيد على زين العابدين الذى كان سيد أهل المدينة فى عصره، فضلا وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزهرى، وكثيرون من التابعين، وهو ابن محمد الباقر الذى بقر العلم ووصل الى لبابه، فهو ممن جمع الله تعالى له الشرف الذاتى والشرف الاضافى بكريم النسب، والقرابة الهاشمية والعترة المحمدية.
وكان عمرو بن المقدام يقول: اذا نظرت الى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين.
ووصفه المؤرخ الشهير اليعقوبى بقوله: وكان أفضل الناس وأعلمهم بدين الله، وكان أهل العلم الذين سمعوا منه اذا رووا عنه قالوا أخبرنا العالم. (تاريخ اليعقوبى ج 2 ص381).
وهذا قبس من تعريف العلماء والرواة والمحدثين وشهاداتهم تكشف عن مقام أهل البيت (عليهم السلام) وموقعهم العلمى والايمانى الفريد.
كان الامام جعفر الصادق من رجال التصوف، وكان واحداً من رجال السلسلة الذهبية.. وهى السلسلة المتصلة من مدينة العلم (صلى الله عليه وآله)، إلى بابها الأعظم سيدنا على كرم الله وجهه..الى سيد شباب أهل الجنة..وسيد الشهداء الامام الحسين.. الى الامام على زين العابدين الى ولده الامام محمد الباقر الى الامام جعفر الصادق، الى أن تلتقى مع السلاسل الأخرى.
فالامام الصادق سلطان دولة العارفين، وكعبة يقصدها أقطاب المرشدين والمسترشدين.. وبحراً لكنه ما حوى غير الدرر.. وشمساً ولكن لم يستفد من
(28)
نورها الا كل قمر، هو فرع من فروع الدوحة المحمدية.. وغصن من أغصان شجرة الأصل النورانية.
فى مجلسه تتلمذ ـ كما يقول أرباب الاحصاءات ـ أربعة آلاف من الرواة وكتب عنه أربعمائة كاتب كلهم يقول: قال جعفر بن محمد.
فأى مجلس كان ذلك المجلس؟ تتراءى فيه أشياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله)بعضه مادى يجرى فى أصلاب رجل بعد رجل، وبعضها معنوى يتراءى فى معانيه وفحوى مقولاته لكل هؤلاء.. وليس بالمجلس لجاجة ولا حجاج عقيم.. يقول لتلاميذه: من عرف شيئاً قل كلامه فيه.. وانما سمى البليغ بليغاً لأنه يبلغ حاجته بأدنى سعيه.
سفيان الثورى:
دخل عليه سفيان الثورى وقال: علمنى يا ابن رسول الله مما علمك الله. قال: يا ثورى خذ عنى ثلاثاً:
1 ـ اذا أردت النعمة فأدم شكرها لأن الله تعالى يقول: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (ابراهيم: 7).
2 ـ اذا استبطأت رزقك فأكثر من الاستغفار لأن الله تعالى يقول : (فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) (نوح: 10 ـ 12).
3 ـ واذا حزبك أمر.. أى شغلك فأكثر من قول: (لا حول ولا قوة الا بالله) فانها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنة.
قال الثورى: هذه ثلاث.. وأى ثلاث؟
والثورى هو مضرب الأمثال فى عصره فى الورع والسنن والفقه، للعراق
(29)
كافة، وكانت له فى مجابهة الخليفة مواقف لا يمل الحديث عنها.
مالك بن أنس:
وكان من تلاميذ الامام الصادق امام المدينة مالك بن أنس الذى وصف مجلس الامام الصادق بقوله: كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم، فاذا ذكر عنده النبى اخضر واصفر. ولقد اختلفت اليه زمانا فما كنت أراه الا على الطهارة ولا يتكلم فيما لا يعنيه. وكان من العلماء والعباد والزهاد الذين يخشون الله. وما رأيته قط الا ويخرج وسادة من تحته ويجعلها تحتى.
لقد كان الامام مالك يجد ريح الرسول فى مجلس ابن ابنته.. ويحس، أو يكاد يلمس، شيئا ماديا، يتسلسل من الجد لحفيده، وأشياء غير مادية تملك اللب والقلب، فالرؤية متعة والسماع نعمة، والجوار ـ مجرد الجوار ـ تأديب وتربية.. وفى كل أولئك طرائق قاصدة الى الجنة.
وكان من تلاميذ الامام الصادق المحدثون العظماء.. يحيى بن سعيد محدث المدينة، وابن جريج وابن عيينة محدثا مكة.. وابن عيينة هو المعلم الأول للشافعى فى الحديث.
عمرو بن عبيد:
ويجيء للمناظرة عمرو بن عبيد زعيم المعتزلة، الذى لم يضحك أبو حنيفة طول حياته بعد أن قال له عمرو ـ اذ ضحك مرة فى ابان مناظرته ـ: يا فتى تتكلم فى مسألة من مسائل العلم وتضحك ؟ ! والذى يبلغ من وقاره أن يراه الرائى فيحسبه أقبل من دفن والديه. فاذا انتهى الكلام قال عمرو للامام: هلك من سلبكم تراثكم ونازعكم فى الفضل والعلم.
(30)
عبدالله بن المبارك:
ويجىء امام خراسان عبدالله بن المبارك وهو امام فقه، وبطل معارك، تتلمذ للامام الصادق زمانا ولأبى حنيفة، فتعلم ما جعله يخفى بطولاته فى الفتوح وهو القائل فى حق الامام الصادق:
أنت يا جعفر فوق الـ مدح والمدح عناء
انما الأشراف أرض ولهم أنت سماء
جاز حد المدح من قد ولدته الأنبياء
لولا العامان لهلك النعمان:
أما أبو حنيفة النعمان امام الفقه فكان له حال عجيب ومواقف غريبة مع الامام، حيث يقول أبو حنيفة: قال لى الخليفة أبو جعفر المنصور: يا أبا حنيفة ان الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد، فهيأ له أربعين مسألة، والتقى الامامان بالحيرة فى حضرة المنصور، ويقول أبو حنيفة فى اللقاء: أتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلتنى الهيبة لجعفر الصادق بن محمد ما لم يدخلنى لأبى جعفر المنصور، فسلمت عليه، وأومأ فجلست، ثم التفت اليه، وقال: هذا أبو حنيفة، قال: نعم، ثم التفت الى وقال: يا أبا حنيفة ألق على أبى عبدالله من مسائلك، فجعلت ألقى عليه فيجيبنى، فيقول أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا، وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعا، حتى أتيت على الأربعين مسألة. ثم قال أبو حنيفة، ان أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.
ويقول أبو حنيفة جئت الى المدينة واستأذنت عليه فحجبنى. وجاء قوم من
(31)
أهل الكوفة استأذنوا لهم فدخلت معهم. فلما صرت عنده قلت: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو أرسلت الى أهل الكوفة فنهيتهم أن يشتموا أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فانى تركت فيها أكثر من عشرة آلاف يشتمونهم! فقال: لا يقبلون منى، فقلت: ومن لا يقبل منك وأنت ابن رسول الله؟ فقال الصادق: أنت أول من لا يقبل منى. دخلت بغير اذنى. وجلست بغير أمرى. وتكلمت بغير رأيى. وقد بلغنى أنك تقول بالقياس. فقلت: نعم أقول به.. فقال: ويحك يا نعمان أول من قاس ابليس حين أمر بالسجود لآدم فأبى وقال: خلقتنى من نار وخلقته من طين.
هل قست رأسك يا نعمان؟ فقلت: كيف؟ فقال: لماذا كان ماء العين ملحا؟ وماء الأذن والأنف مرا؟ ولم كانت الحرارة فى المنخرين؟ وفيهما شعيرات كالغربال؟ ولم كانت العذوبة فى الشفتين؟ فقلت: لا أدرى !
قال: أليست هذه الحواس فى رأسك؟ فقلت: علمنى يا ابن رسول الله ! فقال: أما العينان فهما شحمتان.. ولولا الملح فيهما لذابتا. والماء المر فى الأذنين حجاب من الحشرات والهوام كالنمل والبرغوث، ولو دخلت لأتلفت المخ والأعصاب، والحرارة فى المنخرين.. ومرارة الماء فيهما تحفظ الدماغ من النتن.. أما الشعيرات فانها تدخل الهواء على الرئتين فتدفئه ان كان باردا وترطبه ان كان هواء حارا حتى لا تتأثر الرئتان.. أما عذوبة الشفتين فلكى تستطعم بهما الطعام والشراب وتميز بهما الحلو من الحامض، وليعرف الناس حلاوة منطقك.
يا أبا حنيفة أى الذنبين أعظم.. قتل النفس أم الزنا؟ فقلت: القتل، قال: فلم قبل الله شاهدين فى قتل النفس، ولم يقبل فى الزنا الا أربعة شهود؟ أيقاس هذا؟ قلت: لا.
قال: فأيهما أكبر البول أم المنى؟ قلت: البول. قال: فلماذا أمر فى البول بالوضوء، وأمر فى المنى بالغسل؟ أيقاس هذا؟ قلت: لا.
(32)
قال: أيهما أكبر الصلاة أم الصوم؟ قلت: الصلاة، قال: فلم وجب على الحائض أن تقضى الصوم، ولا تقضى الصلاة؟ أيقاس ذلك؟ قلت: لا.
قال: فأيهما أضعف المرأة أم الرجل؟ قلت: المرأة، قال: فلم جعل الله للرجل سهمين فى الميراث وللمرأة سهما؟ أيقاس ذلك؟ قلت: لا.
قال: وقد بلغنى أنك تقرأ آية من كتاب الله: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم).. أنه الطعام الطيب والماء البارد فى اليوم الصائف. قلت: نعم. قال: لو دعاك رجل وأطعمك وسقاك ماء باردا، ثم امتن عليك. ما كنت تنسبه اليه؟ قلت: البخل. قال: أفبخل علينا؟ قلت: فما هو؟ قال: حبنا أهل البيت.
ثم تناول أبو حنيفة الطعام مع الامام الصادق، فرفع الامام يده حمداً لله، ثم قال: اللهم هذا منك ومن رسولك.. قال أبو حنيفة: يا أبا عبدالله أجعلت مع الله شريكا؟ قال الامام: ان الله يقول فى كتابه: (وما نقموا الا أن أغناهم الله ورسوله من فضله)، فقال أبو حنيفة: لكأنى ما قرأتها قط فى كتاب ولا سمعتها الا فى هذا الموقف.
وانقطع أبو حنيفة الى مجالس الامام طول عامين قضاهما بالمدينة، وفيهما يقول: (لولا العامان لهلك النعمان) وكان لا يخاطب الامام الصادق الا بقوله: جعلت فداك يا ابن بنت رسول الله.
جابر بن حيان:
وتتلمذ على يد الامام الصادق العالم الكيميائى جابر بن حيان والمؤرخون متفقون على تلمذته للامام، وعلى صلته أو تأثره به فى العلم والعقيدة.. وينقل ابن النديم قوله: (ألفت ثلاثمائة كتاب فى الفلسفة وألفا وثلاثمائة رسالة فى صنائع مجموعة، وآلات الحرب، ثم ألفت فى الطب كتابا عظيما.. ثم ألفت كتبا صغارا
(33)
وكبارا.. وألفت فى الطب نحو خمسمائة كتاب أخرى.. ثم ألفت فى المنطق على رأى أرستطاليس، ثم ألفت كتاب الزيج أيضا نحو ثلاثمائة ورقة.. ثم ألفت كتابا فى الزهد والمواعظ.. وألفت كتبا فى العزائم كثيرة حسنة، وألفت فى الأشياء التى يعمل بخواصها كتبا كثيرة.. ثم ألفت بعد ذلك نحو خمسمائة كتاب نقضا على الفلاسفة ثم ألفت كتابا فى الصنعة يعرف بكتاب الملك. وكتابا يعرف بالرياض).
وجابر بن حيان يعتبر الامام الصادق هو صاحب المدد والالهام له فى كل هذه العلوم فيقول: (وحق سيدى ـ الامام الصادق ـ لولا أن هذه الكتب باسم سيدى لما وصلت الى حرف من ذلك الى الأبد).
الامام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام):
أما الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) فهو ابن الامام جعفر الصادق (عليه السلام)، تربى فى كنف أبيه فاكتسب منه العلم والورع ومكارم الأخلاق، لذا شهد له أبوه بجلالة قدره وعظيم مكانته، انه ولده موسى، هو سيد أهل البيت (عليه السلام)، والامام الذى يرجع اليه فى أخذ العلوم والمعارف.
فقد ورد عنه (عليه السلام) أنه قال لأحد أصحابه: (ان ابنى هذا الذى رأيت لو سألته عما بين دفتى المصحف لأجابك فيه بعلم).
ووصفه علماء الرجال والسير بأنه العالم الصادق، والمتعبد المشهور بالورع والتقوى، وعظمة الشأن، وسمو الخلق، نذكر من هذه الشهادات ما قاله الحافظ الرازى فى موسوعته الرجالية بقوله: (موسى بن جعفر بن محمد بن على ابن الحسين بن على بن أبى طالب روى عن أبيه، روى عنه ابنه على بن موسى وأخوه على بن جعفر، سمعت أبى يقول ذلك عبدالرحمن، قال: سئل أبى عنه فقال: ثقة صدوق، امام من أئمة المسلمين). (الحافظ الرازى، الجرح والتعديل، ج
(34)
8، ص 139).
وقال فيه محمد بن أحمد الذهبى: كان موسى من أجود الحكماء ومن عباد الله الأتقياء. (ميزان الاعتدال ج 3 ص 209).
وقال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعى: هو الامام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكبير المجتهد الجاد فى الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعة، المشهور بالكرامات، يبيت الليل ساجدا وقائما، ويقطع النهار متصدقا، وصائما، ولفرط حلمه، وتجاوزه عن المعتدين عليه دعي كاظما. (مطالب السؤول ص 18).
وقال مؤمن الشبلنجى: كان موسى الكاظم (رضي الله عنه) أعبد أهل زمانه، وأعلمهم. (نور الأبصار ص 218).
الامام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام):
أما ولده على بن موسى الرضا (عليه السلام) فقد كان كآبائه فى العلم والورع وكمال الأخلاق، وقد تولى الزعامة الدينية ومهمة الامامة من بعد أبيه، وقد بلغ من المجد والمكانة ما أرغم الخليفة العباسى المأمون أن يعهد له بالخلافة من بعده، رغم الصراع والعداء المستحكم بين العلويين والعباسيين.
وقد شهد العلماء والفقهاء والفلاسفة فى مجالس العلم والحوار، وفى كتب الرجال والسير بمكانة الامام على الرضا (عليه السلام) العلمية، ومقامه الكريم، وما اتسم به من الورع والتقوى.
ننقل من هذه الأقوال: قال الواقدى: كان ثقة، يفتى بمسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)وهو ابن نيف وعشرين سنة، وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة. (ابن الجوزى، تذكرة الخواص، ص 198).
(35)
أما أبوه موسى بن جعفر الذى عرفنا مكانته العلمية، وورعه وتقواه، فانه يشهد له بالعلم، ويرشد الى الأخذ عنه بقوله لأبنائه: هذا أخوكم على بن موسى، عالم آل محمد، فسلوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم.
الامام محمد بن على الجواد(عليه السلام):
أما الامام الجواد(عليه السلام) فهو كآبائه وأسلافه الأطهار فى العلم والزهد والتقى.
قال سبط ابن الجوزى: محمد الجواد، وهو محمد بن على بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، وكنيته: أبو عبدالله، وقيل أبو جعفر، ولد سنة خمس وتسعين ومائة، وتوفى سنة مائتين وعشرين، وكان على منهاج أبيه فى العلم والتقى والزهد والجود. (تذكرة الخواص، ص 202).
وروى محمد بن عمار قال: كنت عند على بن جعفر بن محمد جالسا بالمدينة، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمع من أخيه ـ يعنى موسى بن جعفر الكاظم ـ اذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن على الرضا المسجد، مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فوثب على بن جعفر بلا حذاء ولا رداء، فقبل يده، وعظمه. فقال له أبو جعفر: يا عم اجلس رحمك الله. فقال: يا سيدى كيف أجلس وأنت قائم؟ فلما رجع على بن جعفر الى مجلسه، جعل أصحابه يوبخونه، ويقولون له: أنت عم أبيه، تفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا، اذا كان الله عز وجل ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهل هذه الشيبة وأهل هذا الفتى، ووضعه حيث وضعه، أأنكر فضله؟! نعوذ بالله عما تقولون، بل أنا عبد له. (مدينة المعاجز ص 454).
وقال محمود بن وهيب البغدادى الحنفى: محمد الجواد بن على الرضا، كنيته أبو جعفر، ثم قال: وهو الوارث لأبيه علما وفضلا، وأجل اخوته قدرا وكمالا. (جوهر الكلام ص 147).
(36)
الامام عليّ بن محمد الهادي (عليه السلام):
أما الامام على الهادى (عليه السلام) بن الامام محمد الجواد (عليه السلام) فكان له من عظيم الفضل ورفيع الشأن، علما وورعا، ما كان لآبائه الكرام، ويكنى بأبى الحسن العسكرى.
قال مؤمن الشبلنجى: ومناجاته (رضي الله عنه) كثيرة، قال فى الصواعق: كان أبو الحسن العسكرى وارث أبيه علما وسخاء. (نور الأبصار ص 155).
قال عبد الحى بن العماد الحنبلى: أبو الحسن على بن محمد بن على الرضا ابن الكاظم موسى بن جعفر الصادق، العلوى، الحسينى، المعروف بالهادى، كان فقيها اماما متعبدا. (شذرات الذهب ج 2 ص 129).
قال الحافظ عماد الدين أبو الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير: وأما أبو الحسن على الهادى فهو ابن محمد الجواد بن على الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين الشهيد بن على ابن أبى طالب أحد الأئمة الاثنى عشر، وهو والد الحسن بن على العسكرى، وقد كان عابدا زاهدا، نقله المتوكل الى سامراء، فأقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر، ومات بها هذه السنة ـ أربع وخمسين ومائتين. (البداية والنهاية ج 11 ص 15).
وروى عن يحيى بن هرثمة الذى أرسله المتوكل العباسى لجلب الامام على الهادى من المدينة الى سامراء: فذهبت الى المدينة، فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجا عظيما، ما سمع الناس بمثله، خوفا على عليّ، وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسنا اليهم، ملازما للمسجد، لم يكن عنده ميل الى الدنيا، فجعلت أسكنهم، وأحلف لهم أنى لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله، فلم أجد الا مصاحف وأدعية، وكتب العلم، فعظم فى عينى. (ابن الجوزى، تذكرة
(37)
الخواص، ص 202).
الامام الحسن بن على العسكرى (عليهما السلام):
أما الامام الحسن العسكرى بن على الهادى (عليهما السلام) فهو أيضا كآبائه الكرام فى العلم والمعرفة والورع والجهاد. وقد شهد العلماء وأصحاب السير له بذلك، نذكر من هذه الأقوال:
1 ـ قال شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزاغلى سبط ابن الجوزى: كان عالما ثقة، روى الحديث عن أبيه عن جده. (تذكرة الخواص ص 203)
2 ـ قال على بن الصباغ المالكى: مناقب سيدنا أبى محمد الحسن العسكرى دالة على أنه السرى ابن السرى، فلا يشك فى امامته أحد ولا يمترى، واعلم أنه ان بيعت مكرمة فسواه بايعها وهو المشترى، واحد زمانه من غير مدافع، ونسيج وحده من غير منازع، وسيد أهل عصره، وامام أهل دهره، أقواله سديدة، وأفعاله حميدة. (الفصول المهمة ص 290).
الامام محمد بن الحسن (عليهما السلام):
ان الأحاديث التى وردت عن طريق أئمة الحديث والرواية من مختلف مذاهب المسلمين كثيرة جداً، وتجمع على أن اسم المهدى هو محمد، وأنه من أهل بيت النبوة، واختلفوا فى تحديد شخصه، والذى ثبت عند اتباع أهل البيت أنه الامام محمد بن الحسن العسكرى بن على الهادى بن محمد الجواد بن على الرضا ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين السبط الشهيد بن على بن أبى طالب، وأنه ولد فى النصف من شعبان سنة 255 هـ فى سر من رأى، وأنه بقدر الهى ما زال موجوداً وغائباً، وأن ظهوره
(38)
سيكون فى وقت كما ورد فى الحديث الشريف، تملأ فيه الأرض ظلماً وجوراً ليملأها قسطا وعدلا، وأن عيسى (عليه السلام) يصلى خلفه.
هذا تعريف مختصر بأئمة أهل البيت عليهم السلام ومقامهم ومكانتهم، وهم المرجعية العلمية للأمة، فعنهم أخذ الفقه والحديث والتفسير وعلوم العقيدة والشريعة وغيرها.