عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

أهل البيت (عليهم السلام) في الحياة الإسلامية

نظرية الإمامة:

وفيما يتعلق ببيان (النظرية)، يلاحظ بأن الرسالات الإلهية السابقة كانت تعتمد في إدامتها واستمرارها وبقائها على مجموعة من الأنبياء الذين يأتون بعد كل نبي من الأنبياء اُولي العزم، يتحملون مسؤولية هذه الرسالة على مستوى الإدامة والتطبيق والتفسير، ولكن الرسالة الخاتمة التي هي أعظم هذه الرسالات وأفضلها، وأراد الله لها الإستمرار والبقاء إلى آخر الحياة البشرية، يلاحظ فيها أنها رسالة لا يوجد فيها نبي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لما نص عليه القرآن من قوله تعالى ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبًآ أَحَد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ... )(1)، وكذلك ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتواتر عنه (صلى الله عليه وآله)لدى المسلمين من قوله لعليٍّ (عليه السلام)  :

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأحزاب  : 40.

(4)

( ...  أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي )(1).

إذن، فهذه الرسالة ـ من ناحية ـ هي أعظم الرسالات الإلهية، وأُريد لها الإستمرار والدوام أكثر مما أُريد للرسالات الإلهية الأخرى، ومن ناحية أخرى فهل نجد أن هذه الرسالة لم توضع لها ضمانات للإستمرار والبقاء، كما وضعت ضمانات للرسالات السابقة التي جاء بها الأنبياء اُولو العزم، حيث كانوا يقومون بمهمة إدامة زخم تلك الرسالة ومتابعة الإشراف على تطبيقها ودعوة الناس إليها؟، أو أنَّ الله تعالى وضع ضمانة من نوع آخر؟

هذا السؤال هو الذي يفرض الحديث عن وجود الإمامة، وموقع ودور أئمة أهل البيت (عليهم السلام) منها، وأنَّ الله تعالى شاء أن يكون استمرار الرسالة الخاتمة عن طريق (الامامة)، وأن تكون هذه الإمامة في أهل البيت سلام الله عليهم.

وهذا الموضوع وإن كان يحتاج إلى بحث وشرح واسع، ولكن سوف أشير إليه في حدود الإثارة وبعض خطوطه العامة فيما يأتي من البحث ـ إن شاء الله تعالى ـ حيث نحاول معالجة سؤالين حوله  :

الأول  : ما هي ضرورة وجود الإمامة في الرسالة الخاتمة.

الثاني  : لماذا كان استمرار الإمامة في الرسالة الخاتمة في خصوص أهل البيت (عليهم السلام)؟ ولم يوضع هذا الدوام بصيغة أوسع وأشمل من هذه الأسرة الشريفة وهم (أهل البيت)، ووضعت الإمامة والإختصاص في خصوص (آل النبي محمد  (صلى الله عليه وآله)).

وجواب كل واحد من هذين السؤالين يحتاج إلى بيان بعدين  :

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ البحار 21  : 208، حديث 1، مستدرك الحاكم 3  :109، صحيح البخارى 3  : 58، راجع كتاب المراجعات  : 119، مراجعة رقم 28، وقد ذكر فيه مصادر علماء المسلمين.

(5)

أحدهما  : تفسير هذه الظاهرة، لأن الظواهر الإلهية والإسلامية بصورة عامة ليست ظواهر اعتباطية، أو مجرد قضايا تعبدية، وإنما هي ظواهر لابد أن تكون وراءها حكمة ومصالح تفسر هذه الظواهر، وهو بُعد من البحث ذو طابع جديد نسبياً.

والبعد الآخر  : هو الإستدلال بالطرق العلمية المتبعة على ثبوت هذه الظاهرة في الإسلام واختصاصها بأهل البيت (عليهم السلام).

ولكن سوف نقتصر في البحث على البعد الأول لاستمرار النبوة وهو التصور النظري لها.

فأولاً  : نحتاج بالنسبة إلى النظرية أن نتبين دور الإمامة وضرورتها في الرسالة الخاتمة من أجل ملأ هذا الفراغ الرسالي، ببيان خصوصيات ما يملأ فراغ ضرورة استمرار الرسالة، حيث اُريد لهذه الرسالة الخاتمة أن تكون رسالة أبدية تنتهي بعمر البشرية.

وثانياً  : نحتاج أن نتبين اختصاص أهل البيت (عليهم السلام) بهذا الدور دون غيرهم من الناس، وتفسير هذا الاختصاص، وهل أنه هو مجرد اصطفاء غيبي دون وجود تفسير له علاقة بحركة البشرية والحياة الاجتماعية، أو أن هذا الإصطفاء له علاقة بهذه الحياة البشرية، ومن ثمَّ وجود الإرتباط بين الأمر الأول والثاني.

وسوف نتناول ذلك كله في مدخل وفصلين.

أما المدخل  : فهو في بيان مفهوم (الإمامة).

الفصل الأول  : في ضرورة (الإمامة) وموقعها في الرسالة الإسلامية.

الفصل الثاني  : في اختصاص (الإمامة) بخصوص (أهل البيت (عليهم السلام)).

 

 

(6)

 

نظرية الإمامة

 

المدخل

 

مفهوم الإمامة:

أشرنا في التقديم، إلى أنَّ مفهوم الإمامة في الثقافة الإسلامية العامة الرسمية المعروفة يتبادر منه الولاية والحكم، ويمثل هذا الفهم لهذا المفهوم تصوراً تحريفياً لمفهوم الإمامة، إذا أردنا أن نرجع فيه إلى المصادر الإسلامية الأصيلة، كالقرآن الكريم والسنة النبوية.

ولعل السبب في هذا التحريف لهذا المفهوم هو فرض الأمر الواقع في التاريخ الإسلامي، وجعله مبرراً لاستنباط هذا المفهوم وتحريفه، حيث أن مدرسة تبرير الأمر الواقع فرضت نفسها على الكثير من المفاهيم والتلقي والاستنباط للنصوص الإسلامية، وما يعبر عنه بالإجتهاد في مقابل النص، أو التفسير بالرأي، وذلك بتحميل النص العناصر الذاتية والميول الخاصة أو الظروف السياسية والاجتماعية وتفسيره بها، بحيث يتحول الأمر الواقع والسلوك الخاص لهذه الجماعة وتلك حقيقة يقاس ويفهم بها النص الإسلامي.

بدل أن يؤخذ النص الإسلامي بصورة موضوعية، ويفهم من خلال مداليل الكلام لغة، ومن خلال القرائن الحالية والمقالية التي أحاطت به، ويصبح بذلك ـ مع الأسف ـ السلوك الاجتماعي للإنسان مفسراً وموجهاً للنص الإسلامي، بدل أن يكون النص الإسلامي هادياً وموجهاً للسلوك الاجتماعي.

(7)

وقبل الإستغراق بذلك، يحسن بنا الرجوع إلى النصوص القرآنية التي تعتبر أفضل مصدر لفهم مدلول (الإمامة)، ثم نستعين بالنصوص النبوية في هذا الفهم، لنخرج بذلك بمفهوم صحيح عن (الإمامة).

ولعل أفضل نص يمكن أن نتعرف من خلاله على مفهوم الإمامة، هو الآية الكريمة التي تحدثت عن جعل الإمامة لإبراهيم (عليه السلام)، والذي تؤيده مجموعة نصوص قرآنية أُخرى.

( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَ هِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـت فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّـلِمِينَ )(1).

حيث يمكن أن نفهم من هذا النص عدة أبعاد لمفهوم الإمامة  :

الأول  : أنَّ الإمامة هي هداية الناس إلى الله تعالى من خلال تقدمهم في المسيرة الربانية عملياً.

وقوله تعالى  : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِايَـتِنَا يُوقِنُونَ )(3)، وكذلك ما ورد في سورة الأنعام في معرض الحديث عن الأنبياء منذ نوح (عليه السلام) إلى عيسى  (عليه السلام)  : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُواْ بِهَا بِكَـفِرِينَ * أُوْلَئِكَ

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ البقرة  : 124.

2 ـ الأنبياء  : 73.

3 ـ السجدة  : 24.

(8)

الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَ هُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَـلَمِينَ )(1).

ويبدو من هذه الآيات الكريمة أنَّ الهداية ليست مجرد الموعظة والإرشاد وبيان الحقائق الإلهية، (بل هي الهداية التي تقع بأمر الله تعالى، وهذا الأمر هو الذي بين حقيقته في قوله تعالى  : ( إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَـنَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ))(2). ولعله بذلك كانت هذه الإمامة مجعولة من قبل الله تعالى ( ... إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... )(3).

الثاني  : أنَّ الإمامة عهد إلهي إلى عباده الصالحين ـ كما تصرح بذلك الآية الكريمة ـ ( ... قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّـلِمِينَ )، ويفهم ذلك من قوله تعالى  : ( ... إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... )، والسر في ذلك ـ ما أشرنا إليه ـ من أنها هداية بأمر الله تعالى.

ولذلك لابد أن نفترض فيها جانب من الاصطفاء والإجتباء من ناحية كما تشير إليه الآيات الكريمة التي تحدثت عن الاصطفاء، مثل قوله تعالى  : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وَءَالَ إِبْرَ هِيمَ وَءَالَ عِمْرَ نَ عَلَى الْعَـلَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(4).

كما افترضنا فيها ـ في الوقت نفسه ـ درجة خاصة من الهداية العملية، بحيث تكون هداية بأمر الله تعالى، لا بأمر الإنسان ومبادراته واجتهاداته وفهمه للدين، من

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الآية  : 89 ـ 90.

2 ـ يـس  : 82 ـ 83، الميزان 1  : 272.

3 ـ البقرة  : 124.

4 ـ آل عمران  : 33 ـ 34.

(9)

خلال الإكتساب للعلم والتفقه في الدين وقيامه بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الثالث  : أنَّ الإمام لا يمكن أن يكون ظالماً ـ كما تصرح بذلك الآية الكريمة ـ ( ... لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّـلِمِينَ )، ولابد أن يكون انتفاء الظلم عن الإمام بدرجة عالية لما تقتضيه عدة قرائن حالية ومقالية، ثم تناولها في أبحاث التفسير(1)، ترجع في نهايتها  :

إما إلى مناسبات الحكم والموضوع، حيث أن السؤال أو الطلب من إبراهيم  (عليه السلام) لإمامة ذريته، إنَّما يتناسب مع سؤال أو طلب الإمامة للمؤمن من ذريته، وحين يأتي النفي لوصول العهد إلى الظالم فهو نفي للظالم المؤمن، وهذا يدل على النقاء المطلق.

أو إلى أنَّ طبيعة هذه الهداية الربانية العملية التي تكون بأمر الله تعالى وباصطفائه وجعله، إنَّما تناسب الإنسان الذي يكون سعيداً ومهتدياً بذاته، دون أن يكون بحاجة إلى هداية غيره، وهذا يعني بلوغ درجة العصمة العالية التي تؤهله لهذه الهداية.

أو أن هذا الجعل الإلهي للإمامة والهداية الخاصة بعد الابتلاء والامتحان، إنَّما يتناسب مع هذا المستوى العالي الراقي من التكامل الإنساني، والذي تمَّ تأكيده بقوله تعالى  : ( ... لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّـلِمِينَ ).

الرابع  : أنَّ الإمامة هي مرتبة عالية أعلى من درجة النبوة التي كان عليها إبراهيم (عليه السلام) عند مخاطبته بهذا الجعل الإلهي، كما يبدو ذلك من بعض القرائن القرآنية من مخاطبته بها بعد الإبتلاء والامتحان، وهو ما تحقق بعد النبوة، ومن

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ يمكن مراجعة بحث هذه الآية في كتاب تفسير الميزان 1  : 273 ـ 274، للعلامة الطباطبائي (قدس سره).

(10)

سؤال أو طلبه الإمامة لذريته، ولم تكن له ذرية إلاَّ في آخر عمره.

وهو ما تشير إليه الآيات الكريمة التي تحدثت عن الأنبياء السابقين، من أنَّ هذا الجعل كان بعد نبوتهم، وما تنص عليه بعض الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام)، مثل ما رواه الكافي عن الصادق (عليه السلام)  : ((إنَّ الله عز وجل اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإن الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وأن الله اتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً، فلما جمع له الأشياء قال  : ( ... إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... )، قال (عليه السلام)  : فمن عظمها في عين إبراهيم قال  : ( ... وَمِنْ ذُرِّيَتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّـلِمِينَ )، قال (عليه السلام)  : لايكون السفيه إمام التقيّ))(1).

وعندما تكون الإمامة أعلى درجة من النبوة، فلابد أن تجتمع فيها أبعاد النبوة ومسؤولياتها بأعلى درجاتها، بل يمكن أن نقول  : بأن الإمامة تمثل تطوراً وسمواً في حركة النبوة، يتناسب مع تطور الإنسان في إدراكه وفهمه للحياة والمشاكل التي تواجهه في هذا الفهم، وتطور المجتمع الإنساني في علاقاته ومشاكله الحياتية، بحيث يتحول دور النبي فيها من دور الإخبار وبيان الحقائق وحمل الرسالة الإلهية إلى الناس وإبلاغها لهم، إلى دور أعظم وهو  : دور التجسيد العملي الاجتماعي لهذه الرسالات، بحيث يصبح هادياً لهم من خلال ذلك أيضاً، ودور التزكية والتطهير والتعليم وإقامة الحق والعدل بين الناس، وحل مشاكلهم والحكم في ما يختلفون فيه.

الخامس  : إنَّ هذه الإمامة هي إمامة عالمية وللناس جميعاً، وليس خاصة بالقوم والجماعة أو المنطقة والإقليم، بل هي للناس ( ... إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ وروي هذا المعنى بأسانيد أُخرى عن الباقر والصادق(عليهما السلام)، وللعلامة الطباطبائي (قدس سره)بحث روائي جميل ومفيد حول هذا الحديث، الميزان 1  : 276 ـ 279.

(11)

إِمَامًا ... ).

وهذا جانب آخر من تطور النبوة في مساحة عملها وحركتها الخارجية، وليس في آفاقها النظرية، إذ يمكن أن نفترض أنَّ النظرية كانت عامة، ولكن لم تأخذ طريقها إلى الواقع من خلال حركة النبوة الخارجية.

وهذا البعد يلقي بظلاله على محتوى ومفهوم هذه الإمامة، بحيث تكون قادرة على الوفاء بجميع هذه الحاجات الإنسانية.

 

أبعاد الإمامة في نظر أهل البيت (عليهم السلام):

وانطلاقاً من هذا الفهم للنصوص القرآنية، يمكن أن نلخص أبعاد الإمامة في نظر أهل البيت (عليهم السلام)، بحيث تمثل نظرية الإمامة في مدرسة أهل البيت  :

الأول  : بُعد الاصطفاء والإجتباء والإختيار من قبل الله تعالى للإمام، كما هو الحال في النبوة ـ أيضاً ـ وذلك من أجل القيام بالمهمات الخاصة التي اصطفى الله سبحانه وتعالى من أجلها الأنبياء والأولياء، والتي أشار إليها القرآن الكريم في مواضع عديدة مثل  : الشهادة والهداية وإبلاغ الرسالات والبشارة والإنذار والتزكية والتعليم وإقامة القسط والعدل بين الناس.

ولكن الإمامة في الحالات التي تنفصل فيها عن النبوة، قد تكون أدنى من النبوة في بعض هذه المجالات، كمجال إبلاغ أصل الرسالة الإلهية عن الله تعالى، ولأنَّها ميزة النبوة، وهي أرقى من النبوة في بعض المجالات الأُخرى كالتزكية والتعليم وإقامة القسط والعدل بين الناس.

وهذا البعد يمكن أن نفهمه من الجعل والاصطفاء للأنبياء، كما ذكرنا سابقاً.

الثاني  : الاستمرار والامتداد لمهمات الرسالة الإلهية، عندما لا يتسع زمان الرسول صاحب الشريعة للوفاء بالقيام بمهماته كاملة، لأن عمر الرسول ـ عادة ـ

(12)

يكون أقصر من عمر الرسالة، وبذلك قد تستمر الرسالة من خلال الأنبياء التابعين للأنبياء أولو العزم، أو من خلال الأئمة عندما تنقطع النبوة، كما في الرسالة الخاتمة، أو عدم الحاجة إليها في بُعد الإبلاغ.

ويمكن معرفة هذا البُعد من آية (إمامة إبراهيم (عليه السلام))، فيما تبادر إلى ذهن إبراهيم من بقاء الإمامة واستمرارها، مما أثار السؤال عن استمرارها في ذريته، حيث جاء الجواب الإلهي مؤكداً لذلك، كما سوف نشرحه في توضيح النظرية.

الثالث  : الإمتياز بالعلم والأخلاق والصفات الروحية المكتسبة ـ عادة ـ من خلال الممارسة والتجربة والامتحان والابتلاء، بحيث يكون المتقدم في ذلك على أهل زمانه، فهو أعلمهم وأفضلهم في صفات الكمال.

وليس من الضروري أن تكون هذه الصفات مكتسبة، بل قد تكون منحة إلهية ـ كما سوف نشير ـ ولكن من الضروري أن تكون ثابتة فيه، ليكون مؤهلاً لهذه الإمامة.

وهذا البُعد يمكن أن نستفيده مما أشارت إليه الآية وغيرها، من أنَّ هذا الاستحقاق بسبب هذا التأهيل  : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَ هِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـت فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... )، إذ يفهم منه أنَّ الابتلاء بالكلمات كان السبب في هذا الجعل والتأهيل له.

وكذلك ما ورد من قوله تعالى  : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ ... )، حيث يفهم منه أنَّ الصبر كان وراء هذا الاستحقاق.

ويؤكد ذلك ما يفهم من الآية وورود التصريح به، وفي روايات أهل البيت  (عليهم السلام)، من أن الإمامة أعلى درجة من النبوة.

الرابع  : الولاية والحكم والإدارة لشؤون الناس، لإقامة الحق والعدل والقسط بينهم، لأنَّ من يتقدم الناس في هذا الأمر، ويتصدى له منهم ويتحمل

(13)

مسؤوليته بالاصطفاء الإلهي له، لابد أن يكون مستحقاً لهذه الولاية والإدارة والحاكمية.

وهو بُعد يمكن أن نستنبطه من الآية الكريمة، ومن الآيات الأُخرى التي أكدت وجوب الطاعة للرسول ولأولي الأمر، وذكرت قيام الناس بالقسط والحكم فيما يختلفون فيه هدفاً لإرسال الرسل وبعثة الأنبياء، قال تعالى  : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَـتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ... )(1)، وقال تعالى  : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَ حِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُواْ فِيهِ ... )(2).

الخامس  : وجوب الحب والولاء والمودة الخاصة والتقديس والتعظيم للإمام بما يتناسب مع مواصفاته الإيمانية الممتازة ومسؤوليته الإلهية الخطيرة، كما تشير إلى ذلك الآيات الكثيرة التي دلت على حب الرسول، وأنه حب لله تعالى وولائه وتقديسه وتعظيمه ...

السادس  : أنَّ الإمامة والإمام يمثل التكامل الإنساني في مسيرة البشرية، والهدف الذي خلق الله الإنسان على الأرض من أجل تحقيقه والدرجة العليا في المصير الأخروي، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة وتذكره بصورة أوضح آية جعل الخلافة للناس على الأرض، في قوله تعالى  : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الاَْرْضِ خَلِيفَةً ... )(3)، وكذلك الآيات التي تتحدث عن السبب في خلق الإنسان والجن، قوله تعالى  : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِْنسَ إِلاَّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الحديد  : 25.

2 ـ البقرة  : 213.

3 ـ البقرة  : 30.

(14)

لِيَعْبُدُونِ )(1).

وذلك لأنَّ الإمام هو الذي يتقدم مسيرة الإنسانية كلها ليهديها إلى هذه الأهداف، فلابد أن يكون المثال الكامل الذي نقتدي به في هذا الطريق.

إنَّ هذه الأبعاد التي يمكن أن نستنبطها من القرآن الكريم تمثل أبعاد نظرية أهل البيت (عليهم السلام)، وهو موضوع بحثنا الذي سوف نتناوله ـ بإذن الله ـ بقسميه  :

الأول  : استعراض النظرية وتصورها.

الثاني  : الاستدلال عليها.

 

 

والله  ولي  التوفيق  والسداد

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الذاريات  : 56.

(15)

 

نظرية  الإمامة

 

الفصل الأول

 

ضرورة الإمامة :

السؤال الأول  : لماذا كان من الضروري أن تستمر الرسالة الإسلامية من خلال (الإمامة)، مع أن هذه الرسالة هي رسالة خاتمة، ثم لماذا لم يكن هذا الإستمرار بهذه الصورة في الرسالات السابقة، بل كان من خلال النبوات التابعة؟

أما عدم الإستمرار من خلال النبوات التابعة، فلأن الاستمرار للنبوة في الرسالات السابقة كان أمراً طبيعياً، وذلك للوصول بالرسالة والإنسانية معاً إلى مرحلة التكامل الرسالي والإنساني، فكان من الضروري أن يأتي أنبياء تابعون للرسالة الإلهية التي يرسل الله تعالى بها نبياً من الأنبياء أولي العزم، لأن الرسالات الإلهية كانت تتعرض إلى التحريف فيها لدرجة تفقدها دورها الرسالي المطلوب من ناحية، كما أن الرسالات لم تبلغ التكامل الرسالي المفروض الذي بلغته في الرسالة الخاتمة من ناحية أخرى، والإنسانية لم تبلغ مرحلة التكامل الرسالي في ثبات الأصول والمبادىء الأساسية للرسالات الإلهية في مسيرتها من ناحية ثالثة، فنحتاج إلى هذه النبوات التابعة التي قد يندمج فيها دور النبوة والإمامة في بعض الأحيان، وقد ينفصل حسب طبيعة المرحلة والزمان، فنشاهد  :

أنبياء دون إمامة لإبلاغ الرسالة وبيان أو كشف ما تعرضت له من تحريف.

أو أوصياء دون نبوة، ليكون دورهم هو مواصلة دور النبوة السابقة المحدود.

(16)

أما في الرسالة الخاتمة وبعد فرض تكاملها الرسالي والإنساني معاً، سواء على مستوى النظرية أو ثبات الأصول والمبادىء الأساسية للرسالة، فنحن لسنا بحاجة إلى أنبياء تابعين يبلغون الرسالة، ولذا أنقطعت النبوة في الرسالة الإسلامية(1).

وأما لماذا كان هذا الإستمرار من خلال خط الإمامة في الرسالة الخاتمة دون النبوة؟

فقد أشرنا في حديثنا إلى أن الحاجة في الرسالة الخاتمة إلى الإستمرار والبقاء ـ بسبب أهميتها وجلالتها وسموها وامتيازاتها على الرسالات السابقة ـ أكثر من الحاجة بالنسبة إلى الرسالات السابقة، لأنها الرسالة الأهم والأعظم، فكيف لا تحتاج إلى من يتابعها، مع أن الرسالات الأقل إحتاجت إلى مثل هذه المتابعة؟!

ولكن هذه المتابعة ليست على مستوى مواصلة إبلاغ الرسالة، أو المحافظة عليها من التحريف، والسبب في ذلك  :

إما على مستوى إبلاغ الرسالة، فإنَّ الرسالة قد أصبحت من حيث مضمونها ومحتواها الرسالي رسالة خاتمة وكاملة، ولا تحتاج عندئذ إلى متابعة على مستوى (الأنبياء) لبيان أصل الرسالة وتثبت الأصول لها، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) أكملها في بلاغها وعرضها على الناس، وقد صرح القرآن الكريم بذلك  : ( ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ا ْلإِسْلـ َمَ دِينًا ... )(2)، إذن، فالرسالة الخاتمة من هذه الناحية لا تحتاج إلى إكمال ومتابعة على مستوى البلاغ

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ عالجنا هذا الموضوع في بحثنا حول خصائص الرسالة الإسلامية (العالمية، الخاتمية، الخلود)، ولمزيد من التوضيح يمكن مراجعة البحث المذكور.

2 ـ المائدة : 3.

(17)

والتبشير والإنذار الذي يتحمله الأنبياء التابعون عادة، لمعالجة الإنحرافات وتثبيت الأصول والأسس، نعم قد تحتاج إلى إكمال بيان بعض التفاصيل، ولكن ذلك وحده لا يفسر الحاجة إلى (الإمامة) ودورها الكبير في النظرية الإسلامية.

وأما على مستوى المحافظة عليهامن التحريف، فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تختص الرسالة الإسلامية من بين الرسالات الأخرى بضمانات ووسائل الحفظ من الضياع والتحريف المطلق في مضمونها، وذلك من خلال عدة عناصر أساسية ومهمة، يأتي في مقدمتها القرآن الكريم، والمحافظة عليه من التحريف والزيادة والنقصان، ببركة قيام النبي (صلى الله عليه وآله) بتدوينه، وكذلك وجود العدد الكبير من الصحابة الأفذاذ الصالحين وفي مقدمتهم الإمام علي (عليه السلام)، الذين تمكنوا من حفظ القرآن في الصدور، وغير ذلك من الأسباب الغيبية أو المادية ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ )(1)، ولاشك أن لوجود أهل البيت (عليهم السلام)دور مهم وعنصر أساس ـ أيضاً ـ في ذلك(2).

وهي بذلك لم تعد بحاجة إلى نبوات تابعة كما ذكرنا.

ولكن مع ذلك كله، تبقى الرسالة الإسلامية الخاتمة بحاجة إلى وجود متابعة لهاعلى مستويات أخرى مهمة، ومن أجل ذلك كان وجود الإمامة وإستمرار الرسالة من خلالها ضرورة لازمة.

ولتوضيح ذلك، أشير إلى ثلاث نقاط رئيسية، لابد من الإهتمام بها ومتابعتها وبحثها بدقة  :

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الحجر  : 9، عالجنا هذا الموضوع في بحث ثبوت النص القرآني من كتابنا علوم القرآن  : 99.

2 ـ أشرنا إلى هذا الدور في بحث التفسير عند أهل البيت (عليهم السلام) الذي نشر جانب منه في كتابنا علوم القرآن  : 307.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا
ملامح شخصية الإمام جعفر الصادق عليه السلام
أحاديث في الخشية من الله (عزّ وجلّ)
أقوال علماء أهل السنة في اختصاص آية التطهير ...
فاطمة هي فاطمة.. وما أدراك ما فاطمة
معرفة فاطمة عليها السلام
علي مع الحق - علي مع القرآن - شبهة وجوابها - خلاصة ...
صدق الحدیث
السيد الشاه عبدالعظيم الحسني رضوان الله عليه
كلمات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القصار

 
user comment