الحزبية السياسية في القديم والحديث هي قيام تكتل يضم جماعة من الناس لهم مصالح متقاربة وافكار متناسقة ولهم غايات موحدة ناجمة عن وضع موحد.
كذلك \"فالحزب جند الرجل جماعته المستعدة دوماً للقتال ونحوه. وحزب الرجل أصحابه الذين على رأيه\".
أما عصر الرسول لم يشهد نشوء أحزاب سياسية واضحة بل نواة حزبية أو بداية تكتلات في المجتمع الإسلامي فكان المسلمون من مهاجرين وأنصار آنذاك يدينون للنبي بالطاعة المطلقة وكانت كلمته القول الفصل في كل المسائل الدينية والاجتماعية والتشريعية، إليها يرجع المؤمنون، اذا طرأ خلاف بينهم، فلم يكن من مجال لنشوء الفرق واختلاف المذاهب. وهذا ما عبر عنه البغدادي بقوله \"كان المسلمون عند وفاة الرسول (صلعم) على منهاج واحد في اصول الدين وفروعه غير من اظهر وفاقاً وأضمر نفاقاً\".
ولكن الخلاف نشأ بين المسلمين بعد وفاة الرسول، والاختلاف امر طبيعي بين البشر وقد عبر عن ذلك الرسول (صلعم) بقوله: \"ليأتين على امتي ما اتى على بني اسرائيل تفترق بنو اسرائيل على اثنتين وسبعين ملة وستفترق امتي على ثلاث وسبعين ملة تزيد عليهم ملة كلهم في النار إلاّ واحدة\".
وما دام الخلاف طبيعياً في المجتمعات البشرية، فلابد من ان تمر الامة الاسلامية بمراحل من النزاع وفترات من الخلاف. ولا غرابة في اختلاف المسلمين بعد وفاة النبي (صلعم) وإن كانت بذور الخلاف الأولى قد بدأت عند مرض النبي ووفاته ودفنه.
ولكن النزاع ظهر بين المسلمين منذ بدأوا يفكرون عملياً في من يخلف رسول الله \"فقد كانت المسألة التي اختلف فيها المسلمون بعد النبي هي مسألة الخلافة أو الإمامة\" وكانت من اعظم العوامل على الإطلاق في ظهور الأحزاب السياسية في ذلك الحين ومن ثم في نشوء الفرق الاسلامية. فمسألة الخلافة هي مسألة سياسية لا علاقة للدين بها. فالمسلمون لم يختلفوا في أركان الاسلام ومبادئه بل تركزت خلافاتهم في موضوع الخلافة أو الإمامة ذي الصبغة السياسية.
فأول حركة سياسية بعد وفاة الرسول كانت مبادرة الأنصار من الأوس والخزرج الى عقد اجتماع في سقيفة بني ساعدة للتشاور في أمر خلافة الرسول ودعوا الى عقد الأمر لسعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، وقد علم بأمر اجتماعهم عمر بن الخطاب وأخبر أبا بكر بالأمر فاصطحبا ابا عبيدة بن الجراح ومضيا مسرعين نحوهم. والتقى المهاجرون والأنصار في سقيفة بني ساعدة وطبيعي أن يحدث التنافس والصراع على السلطة والإمارة بينهم، فهم جميعاً مسلمون ولم يختلفوا في الدين ولكن بعض العصبية القبلية كانت لا تزال كامنة في نفوس كثير منهم، فقد عبرت هذه الروح عن نفسها في تصرفات طائفة من الذين ظهروا على المسرح السياسي في المدينة بعد وفاة الرسول بساعات وتحكمت في سير الأحداث ومجرى الامور التي توالت بسرعة مذهلة.
ففي هذه الفترة من حياة الدولة الإسلامية برزت في الساحة ثلاثة احزاب لكل منها وجهة نظر خاصة فيمن يخلف الرسول. \"فعندما قبض رسول الله (صلعم) في شهر ربيع الاول سنة عشر من الهجرة افترقت الأمة ثلاث فرق: فرقة منها سميت الشيعة وهم شيعة علي بن ابي طالب عليه السلام ومنهم افترقت صنوف الشيعة كلها، وفرقة منهم ادعت الامرة والسلطان وهم الانصار ودعوا الى عقد الامر لسعد ابن عبادة الخزرجي وفرقة مالت الى بيعة ابي بكر بن ابي قحافة\".
فأما حزب الأنصار فقد قوضت خطبة أبي بكر أركان الوحدة فيه، وهذا الحزب لم يخلق فجأة يوم توفي الرسول بالذات، بل اننا نرى ان اجتماع السقيفة الذي كان عن سابق تصور وتصميم قد انتهى بجماعة الأنصار إلى اتخاذ هذه الخطوة يوم وفاة النبي. والذي يؤيد هذا الرأي ما ورد عن الرسول (صلعم) من اقوال مما جعل الانصار يشعرون بانهم سيضطهدون بعده. من ذلك قول الرسول للناس اثناء مرضه الذي توفي فيه \"ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض\" كذلك وصيته للمهاجرين بالأنصار: \"أما بعد يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيراً، فإن الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد، وانهم كانوا عيبتي التي أويت اليها، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم\".
وكان لصدور مثل هذه الأقوال النبوية أثر في نفوس الأنصار الذين شعروا بالخوف من المصير السيء، فجمعهم هذا الشعور المشترك بالخطر على معنى واحد يعملون له متحدين وهم دعم مركزهم في الجماعة الاسلامية مما يجعلهم بمأمن من عدوان قريش وغير قريش ممن يضمرون لهم الضغينة ويظهرون لهم غير ما تكنه صدورهم.
فموقف سعد بن عبادة الذي طمح إلى الإمارة يوم السقيفة قبل ان تنتزعها منه قريش لأبي بكر، يعدُّ امتداداً لموقفه من قريش يوم فتح مكة. فعندما مر بأبي سفيان زعيم قريش نظر إليه سعد وقال: \"اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم اذل الله قريشاً\" ذلك أنه اراد يوم فتح مكة ان يستأصل شأفة القرشيين الذين لم يدخلوا بعد في الإسلام.
كذلك هناك موقف ثان يجسد المشاعر غير الودية التي كانت لدى سعد بن عبادة وقومه من الأنصار تجاه قريش قوم الرسول عقب غزوة حُنين وقسمة غنائمها \"حين اعطى رسول الله من تلك الغنائم قريشاً ولم يعط الأنصار شيئاً فوجدوا في انفسهم حتى قال قائلهم لقي رسول الله قومه\".
ولكنه بمرور الأيام أخذ الأنصار يشعرون بأن القرشيين الذين اجتلبوهم أصبحوا أقوى منهم فقاموا بمحاولات لكي يظهروا أنهم سادة في ديارهم وأنهم لا يحبون أن يرضوا بكل ما يفعله ضيوفهم. فعند وفاة الرسول قاموا بحركة قوية لكي يحصلوا على حقهم في السيادة في مدينتهم او ليحافظوا على الأقل على استقلالهم فيها. ولكنهم نسوا ان المدينة منذ زمن بعيد لم تعد مدينتهم بل صارت مدينة الرسول التي جعل منها عاصمة جزيرة العرب وعاصمة الإسلام. وهكذا فقد ظهر الصراع بين المهاجرين والأنصار وكان عامل الخوف هو السبب الأول لظهور حزب الأنصار وقد كان هذا العامل في جملة ما احتج به اعضاء هذا الحزب لحقهم في الخلافة.
أما حججهم التي استندوا اليها لدعم موقفهم في سقيفة بني ساعدة فتتألف كما يظهر من خطبهم من ثلاثة أمور:
1_ ان دارهم هي دار الهجرة في قول الحباب بن المنذر: \"يا معشر الأنصار أنتم أهل الايواء والنصرة، واليكم كانت الهجرة، وأنتم أصحاب الدار والإيمان\".
2_ انهم بذلوا في سبيل الدعوة الإسلامية دماءهم وأموالهم ونذروا أنفسهم للكفاح في سبيلها والدفاع عنها. يدلك على ذلك قول الحباب بن المنذر في السقيفة: \"وأنتم أحق بهذا الأمر فإن باسيافكم دان الناس بهذا الدين\".
3_ خوفهم من قريش ان تصير اليها السلطة وتملك زمام الأمر فتنتقم منهم وتوقع بهم وقد قتلوا رجالها في حروب الإسلام. ويدلك على هذا قول الحباب بن المنذر يوم السقيفة \"منا امير ومنكم أمير، فان عمل المهاجري في الأنصاري شيئاً، رد عليه، وإن عمل الأنصاري في المهاجري شيئاً رد عليه\".
كذلك فبعد مبايعة ابي بكر وتحول الامارة عن الانصار، نرى الحباب بن المنذر يقول: \"فعلتموها يا معشر الانصار، أما والله لكأني بابنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفهم ولا يسقون الماء. قال أبو بكر: أمنا تخاف يا حباب؟ قال ليس منك أخاف ولكن ممن يجيء بعدك. إذا ذهبت انا وانت جاءنا بعدك من يسومنا الضيم\".
هذه هي حجج الأنصار التي احتجوا بها حول أحقيتهم بالخلافة. ولكن أبا بكر استطاع أن يوقظ العصبية القبلية الكامنة في نفوس فريقي الأنصار من الأوس والخزرج حين قال مخاطباً الأنصار: \"إن هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وان تطاولت إليه الأوس لم تقصر عن الخزرج. وقد كان بين الحيين قتلى لا تنسى وجراح لا تداوى، فان نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي اسد يضغمه المهاجري ويجرحه الأنصاري\". وهذا ما جعل الأنصار ينقسمون الى فريقين ويندفع اسيد بن حضير سيد الأوس يقول لأصحابه: \"والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت بهم عليهم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً\".
ففي سقيفة بني ساعدة إذن برزت العصبية القبلية في نفوس جماعتي الأنصار (من الأوس والخزرج) والتي لم يستطع الإسلام محوها نهائياً. فقد انقسم الأنصار وقام بشير بن سعد وكان حاسداً لسعد بن عبادة وكان من سادة الخزرج فقال: \"يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين؛ ما أردنا به إلاّ رضا ربنا وطاعة نبينا؛ والكدح لأنفسنا؛ فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا؛ فإن الله ولي المنة علينا بذلك؛ الاّ ان محمداً (صلعم) من قريش، وقومه أحق به وأولى. وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم\".
ومن ثم بادر بشير بن سعد فبايع أبا بكر ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد قام اسيد بن حضير وهو رئيس الأوس فبايع سعداً بدافع الحسد والمنافسة فبايعت الأوس كلها لما بايع اسيد.
ولم يغب عن أبي بكر أن الدافع للأنصار للقيام بهذه الحركة هو عامل الخوف فلمح في خطبته إلى ما يقتلع هذا الوهم من أنفسهم ويبعث الأمن والطمأنينة في نفوسهم حين قال: \"وأنتم يا معشر الانصار من لا ينكر فضلكم في الدين ولا سابقتكم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله انصاراً لدينه ورسوله، وجعل اليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه واصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم؛ فنحن الأمراء وانتم الوزراء لا تُفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور\".
والحزب الثاني هو حزب المهاجرين؛ وهو الحزب الذي تمت له الغلبة في الميدان السياسي فاحرز السيادة حين تمت البيعة لابي بكر خليفة للمسلمين اما وجهة نظر هذا الحزب في خلافة النبي فقد \"تآولت ان النبي لم ينص على خليفة بعينه وانه جعل الأمر الى الأمة تختار لنفسها من رضيته واعتل قوم منهم برواية ذكروها أن رسول الله (صلعم) أمر ابا بكر في ليلته التي توفي فيها بالصلاة بأصحابه فجعلوا ذلك الدليل على استحقاقه اياه وقالوا، رضيه النبي (صلعم)، لأمر ديننا ورضيناه لأمر دنيانا وأوجبوا له الخلافة بذلك\".
اما منطلق هذا الحزب فيستند إلى دعامتين: السبق والقرابة. فهذا ابو بكر يحتج على الأنصار بقوله: \"فهم (يعني المهاجرين) أول من عبد الله في الارض وآمن بالله وبالرسول؛ وهم اولياؤه وعشيرته، واحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك الاّ ظالم\"، كذلك فان الحق لقريش وحدها في خلافة الرسول (صلعم) كما يقول عمر بن الخطاب: \"ومن ذا ينازعنا سلطان محمد وامارته، ونحن اولياؤه وعشيرته إلاّ مُدلّ بباطل، او متجانف لاثم، ومتورط في هلكة\"، وها هو يرد على الحباب بن المنذر في دعواه \"منا أمير ومنكم أمير\"، أي من قريش امير ومن الأنصار امير وهو الحل الوسط الذي عرضته الانصار في تلك المناورة السياسية. \"ولكن هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين\". وكان من نتيجة هذه المناظرة السياسية المثيرة \"ان سكتت الأنصار عن دعواها لرواية أبي بكر عن النبي عليه السلام الأئمة من قريش\".
وقد تناول بعض المستشرقين موضوع خلافة الرسول بالكثير من التجني والمغالاة في تصوير الأحداث. فالاب لا منس في مقاله: \"الحكومة الثلاثية\" يتهم ابا بكر وعمر وابا عبيدة باتفاقهم في حياة الرسول على تولي الخلافة بالترتيب؛ وأنهم كانوا يعملون منذ أمد طويل في موضوع خلافة الرسول، وانهم احتاطوا للأمر بشكل دقيق للوصول اليها\".
ولكنه يبدو من العسير علينا أن ننفي أو نثبت أمر الاتفاق الثلاثي الذي اكده الأب لامنس وحاول دعمه بالكثير من الروايات والوقائع التي كانت عرضة للمناقشة والرد من قبل الدكتورة زاهية قدورة في كتابها \"عائشة ام المؤمنين\" خاصة فيما يتعلق بدور عائشة في هذا الاتفاق حيث يتهمها بانها بدأت نشاطها السياسي منذ زمن الرسول وأنها كانت تنصر ما يسمى بالحكومة الثلاثية بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، في أن يتولوا الخلافة بالترتيب السابق وأنها كانت تهيء الجو لنجاح هذا الاتفاق في منزل الرسول، فهم حاولوا إخراج الرسول في أثناء مرضه الاخير من بيت ميمونة إلى بيت عائشة وبقيت عائشة الشاهدة الوحيدة في الأسبوع الاخير لمرض الرسول فهي تعتبر ان جميع هذه الادعاءات ينقصها الدليل وأن جميع الأقوال التي رويت عن عائشة في بيعة ابي بكر قد \"رويت عن الرسول بعد وفاته وبعد ان بويع ابو بكر وذلك تقوية لمركزه في الخلافة بعد ان وجدت نفسها امام الامر الواقع وتمهيداً لاستخلافه عمر. وبالتالي يكون ادعاء لا منس في انها لعبت دوراً مهما في استخلاف ابيها وحبكت المؤامرات من اجل ذلك غير صحيح\".
ومهما يكن من امر هذا الحزب فأقطابه من الرجال الثلاثة، ابو بكر وعمر وابو عبيدة الكتلة الثلاثية التي أدارت شؤون المسلمين والإسلام بعد في المهد واستطاعت بفضل ما أوتيت من وعي ويقظة وحدب على الدعوة من خنق الفتنة في مهدها تلك الفتنة المتمثلة في الصراع على السلطة بين الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة، والتي كانت ولا شك ستؤدي إلى هدم وحدة المسلمين وتقويض أركان الدولة الاسلامية الفتية. وهذا ما عبر عنه ابو بكر بقوله: \"لم أجد من ذلك بداً خشيت على امة محمد (صلعم) من الفرقة\".
وهناك من يعتبر خلافة أبي بكر \"مثالاً لعادة عربية قديمة ينتقل بحسبها منصب رئاسة القبيلة عندما يموت شيخها إلى من كان يتمتع في القبيلة بأعظم النفوذ، فينتخب كبار القبيلة أحدهم لاملاء المكان الشاغر ويكون محترماً اما لسنه أو لنفوذه او لخدماته المجيدة للصالح العام\". فابو عبيدة يخاطب عليا بقوله \"انك حديث السن وهؤلاء مشيخة قريش قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى ابا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك، واشد احتمالاً له واضطلاعاً به\".
أما الحزب الثالث فهو الحزب الهاشمي \"وهم فرقة علي بن ابي طالب عليه السلام المسمون شيعة علي في زمان النبي (صلعم) وبعده معروفون بانقطاعهم اليه والقول بإمامته\". وهو كحزب المهاجرين يذهب الى ان خلافة الرسول منحصرة في قريش ولكنه لم يذهب في التعميم بل كان يرى أن حق الخلافة منحصر في بني هاشم وعلى التخصيص في علي بن ابي طالب فهو ابن عم الرسول وهو اول الناس إسلاماً وزوج فاطمة بنت النبي (صلعم) هذا بالاضافة الى جهاده وفضله وعمله التي وضعها في خدمة الدعوة الإسلامية. كذلك فإن اصحاب علي رأوا ان الخلافة ميراث ادبي ولو كان النبي يورث في ماله لكان أولى به قرابته فكذلك الإرث الادبي.
وقد كان عنصر القبيلة في حزبي الانصار والمهاجرين قوياً كما رأينا من تكوينهما العام ومن جدلهما في الميدان السياسي اما أعضاء الحزب الهاشمي فكانوا عناصر متباينة المنبت لا تجمع بينها اية وحدة قبلية بخلاف الحزبين السابقين فمنهم الكندي كالمقداد بن الاسود والعبد كسلمان الفارسي والغفاري كأبي ذر جندب بن جنادة الغفاري وعمار بن ياسر العنسي\". الى جانب غيرهم من عيون المهاجرين والأنصار.
والحزب الهاشمي كالحزبين الآخرين لم يكن ابن ساعته ولو فكرياً على الأقل فقد بدأ التفكير في امر خلافة الرسول اثناء مرضه الاخير كما تشير المصادر. \"فالعباس بن عبد المطلب كان قد لقي علياً فقال: إن النبي يقبض، فاسأله إن كان الأمر لنا بَيَّنه وان كان لغيرنا أوصى بنا خيراً\". فالتفكير في الخلافة كان يشغل أذهان المسلمين نظراً لأهمية هذا المركز من الناحيتين الدينية والسياسية.
ورجال هذا الحرب يستندون في تأييد وجهة نظرهم إلى أحاديث ينسبونها الى النبي (صلعم) منها \"ان النبي (صلعم) قد نص عليه وأشار اليه باسمه ونسبه وعينه وقلد الامة امامته ونصبه لهم علماً وعقد له عليهم إمرة المؤمنين وجعله أولى بالناس منهم بأنفسهم في مواطن كثيرة مثل غدير خم وغيره واعلمهم ان منزلته منه منزلة هارون من موسى صلى الله عليهما الاّ انه لا نبي بعده فهذا دليل امامته\".
وبينما الهاشميون في شغل عما يحدث بين الحزبين السابقين في سقيفة بني ساعدة من الجدل واخذ المبايعة \"كانوا يهتمون بتجهيز الرسول. تقرر مصير الخلافة الاسلامية بمبايعة ابي بكر في السقيفة دون أن يعلم احد من اعضاء الحزب الهاشمي بشيء مما تمّ حينذاك حتى اذا خرج القوم من السقيفة إلى المسجد، أتاهم نبأ ما توصل إليه المجتمعون. ومما لا شك فيه أن عليا ومن معه فوجئوا بهذا النبأ كأنهم اخذوا على حين غرّة من حيث لم يكونوا يتوقعون ذلك. الاّ العباس بن عبد المطلب فانه كما يبدون لنا من خلال إلحاحه على ابن اخيه علي بن ابي طالب في طلب الخلافة دون ابطاء كانه يحس بان في الجو شيئاً، وبأن الأمر يوشك ان يفلت من ابن اخيه، فهو يقول لعلي: \"امدد يدك أبايعك، يبايعك الناس\".
وتختلف الأحاديث حول مبايعة علي لأبي بكر بالخلافة. ففي رواية \"ان عليا كان في بيته اذ أتي فقيل له: قد جلس ابو بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه ازار ولا رداء، عجلاً، كراهية أن يبطىء عنها، حتى بايعه\". وفي رواية اخرى عن الزهري \"قال رجل للزهري: أفلم يبايعه علي ستة أشهر! قال: لا، ولا أحدٌ من بني هاشم؛ حتى بايعه عليٌ\". والأرجح أن بيعة علي قد تأخرت بعض الوقت وذلك بسبب سوء العلاقة التي نشات بين فاطمة وابي بكر بشأن ميراثها من فدك وخيبر وذلك حين ذكر أبو بكر ما سمعه عن الرسول (صلعم) \"لا نورث ما تركنا فهو صدقة، انما يأكل آل محمد في هذا المال... فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت\".
والمصادر تذكر الجدل الذي دار بين الحزب الهاشمي ممثلاً بعلي وحزب المهاجرين حول موضوع الخلافة والصراع على السلطة بمفهومها السياسي وحول أحقية كل فريق في خلافة النبي (صلعم). فعلي كان يرى أن القوم قد عدوا على حق له، فسلبوه اياه فيقول مخاطبا ابا بكر: \"انا احق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، اخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي وتأخذونه منا أهل البيت غصباً، ألستم زعمتم للانصار، إنكم أولى بهذا الأمر منهم، لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الامارة. وانا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار\"، كذلك قوله \"احتجوا بالشجرة واضاعوا الثمرة\" من جملة ما احتج به علي على خلافة أبي بكر يريد ان المهاجرين احتجوا بانهم من شجرة النبي (صلعم) فاولى بالاحتجاج من يجمعهم والنبي أنهم من ثمرة قريش وهم قرابته. وسواء صح هذا القول من علي أم لم يصح فهو تعبير صادق عما في نفسه.
وقد استند الحزب الهاشمي كحزب المهاجرين بالسبق والقرابة حول احقيته بالخلافة، وكان السلاح الذي شهره علي في سعيه لانتزاع الخلافة من \"تيم\" رهط أبي بكر واعادتها الى بيت الرسول وآله، وذلك باستخدامه الرباط المقدس الذي يجمعه بفاطمة ابنة النبي فيربطه بالرسول ويجعله من آل بيته. \"فكان يخرج ليلاً راكباً حماراً ويطوف بها على مجالس الأنصار واحيائهم تسألهم النصرة لعلي في قضية الخلافة ولكنهم كانوا يقولون لها \"يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل\" فالأنصار كانوا قد بايعوا أبا بكر، والبيعة عند العربي عهد يعطيه فيملكه ولا يستطيع منه فكاكاً، وهي تدل على ما للكلمة من حرمة وقدسية عند العربي.
وكان التزاحم والصراع على السلطة هو المؤثر والمحرك الفعال في كل هذه الاحداث وقد شغلت تلك المسألة السياسية تفكير المسلمين في ذلك العصر، كما كان للعصبية القبلية الدور الفعال في هذه الاحداث والتي حاول الرسول جهده في محوها من النفوس واحلال الرابطة الدينية مكانها، ولكننا نراها بعد وفاته قد برزت سافرة عن وجهها، وعادت لتتحكم في مجرى الأحداث.
كذلك فالعصبية القبلية هي التي دفعت أبا سفيان إلى أن ينادي بعيد وفاة الرسول (صلعم) \"ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش\" يقصد بني مرة رهط ابي بكر. فزعامة قريش كانت في آل عبد مناف أعز قريش قبيلاً واكثرها عدداً على اختلاف ذات بينها من هاشمية واموية. اما تيم بن مرة رهط ابي بكر فكان كما عرفها أبو سفيان أقل حي في قريش. فأبو سفيان الذي حارب ابن عمه الرسول فيما سبق، انما كانت دعواه بداعي العصبية، فهو كان ينظر إلى الرسول ومركزه بين قومه نظرة زعيم عربي إلى ابن عم منافس له في الزعامة قد توارثا المنافسة على الزعامة منذ الجاهلية. أما الآن فهو لا يرى أن تخرج الزعامة من بيت ابن عمه إلى بيت قصي عنه، بعد أن خرجت من بيته لذلك فهو يقول لعلي:
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم
ولا سيما تيم بن مرة أو عــدي
فمـا الامر إلاّ فيكم واليكُـــم
وليس لهـا الاّ أبـو حسن علـي
ويقول لعلي ايضاً: ابا حسن ابسط يدك حتى أبايعك فهو الآن يحقق المثل الشعبي المعروف: \"مع اخيه وابن عمه على الغريب\" ولكن التفاهم عاد فتمَّ بين ابي سفيان وبين الحزب الحاكم، بعد تعيين ابنه يزيد اميراً على الجيش الغازي سورية فقيل له: \"انه قد ولى ابنك؛ قال: وصلته رحم\".
ولعل اجماع المسلمين يومئذ على جعل الخلافة في قريش كان في سبيل المصلحة العامة، ذلك ان العرب كانت تقرُّ لقريش تقدمها ورئاستها والمقصود من اختيارها حين ندبت للخلافة العصبية، لأنها كانت صاحبة العصبية أي الكلمة المسموعة.
وهكذا فاننا نرى أن مشكلة الخلافة الإسلامية في ذلك العصر قد فتحت ابواب الصراع بين المسلمين على السلطة بمفهومها السياسي وإن كان الدين ستاراً صبغ هذه الخلافات \"فأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الامامة في كل زمان\" وهكذا \"فان بيعة ابي بكر كانت فلتة... غير ان الله وقى شرها\"، وكانت مقدماتها الأولى كنتائجها ذات طابع سياسي، يتلخص في اختيار شخص دون آخر لتسلم مقاليد زمام الخلافة، وأدت من ثم إلى ظهور الأحزاب السياسية في المجتمع الاسلامي. وكانت العصبية سيدة الموقف فيها.