مقدّمة :
لم تكن مسألة انتظار المصلح من مبتكرات مذهب التشيّع ومختصّاته ، بل وليس من مختصّات الإسلام ؛ وإنّما هي سُنّة إلهيّة جَرَتْ في جميع الأديان السماوية ، فقد اقتضتْ الإرادة الإلهيّة أنْ تكون هذه السُنّة جارية في جميع الرسالات ؛ لِمَا في ذلك من مصلحة عظيمة ، ولذلك فإنّ الرسل والأنبياء عليهم السلام كانوا دائماً يبشّرون بما يأتي بعدهم من أنبياء ورسل وديانات ، وتصدر منهم الأحاديث والتوصيات في ضرورة اتّباع الديانة القادمة ، وتكون هذه التوصيات بمثابة الدعاية لتلك الديانة المرتقّبة أو النبي المنتظر ، والتي سوف تترك أثرها الكبير على الخطّين المتنازعين في هذه الأرض ، خطّ الله تعالى وخطّ الشيطان ، خطّ الهدى وخطّ الضلال ، خطّ الحقّ وخطّ الباطل ، فإنّها من جهة تبعث الأمل في نفوس أصحاب الحقّ وتجعلهم على استعداد تام لاستقبال المصلِح القادم والتفاعل مع دعوته ، الأمر الذي يهيّئ له الأرضيّة الصالحة لنجاح دعوته المقدّسة ، ومن جهة أخرى فإنّ مثل هذه الأخبار التي تطمئنّ لها نفوسُ الصالحين لصدورها عن منبع الحكمة والحقّ واليقين عن الله تعالى وأولياءه ، وتجزع منها نفوس الطالحين ، وتزرع في قلوبهم الرعب والهزيمة ، خصوصاً إذا تركّزتْ في نفوسهم أنّ المصلح المرتقب سوف يكون على يده انهيار عروشهم الواهية ، المبنيّة على مجموعة من الأوهام والخزعبلات ، التي يصوّرها الظالمون على أنّها حقائق ثابتة ، فوجود مثل حالة الرعب هذه سوف يكون لها الأثر الكبير في انتصار المصلح القادم ؛ لأنّ ذلك يعني أنّ العدو المقابل يعيش حالة الانهزام مقدّماً ، ممّا سيؤدّي إلى تحقيق النصر بأقلّ جهود وأقصر وقت لأنّ العدو يعين على نفسه بخوفه ويساعد في تحقيق هزيمته .
والذي يريد أنْ يقطع بأنّ مسألة انتظار المصلح سُنّة إلهيّة جُعِلَتْ لِمَا فيها من مصالح عظيمة ، لا يحتاج إلاّ مراجعة بسيطة لكتب تاريخ الديانات السماويّة ليرى كيف خاف فرعون من موسى قبل ولادته بسنين ، وماذا ترتّب من آثار على التبشير بالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، ثمّ العهد المسيحي وما شهده من حملة تبشير واسعة جدّاً بنبوّة النبي محمّد صلّى الله عليه وآله ، كما صرّح القران الكريم بذلك حيث قال تعالى : ( .. وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ .. ) (1) .
ومن ذلك نقطع بوجود هذه السُنّة في الأديان التي سبقتْ الدين الإسلامي الحنيف ، ولم يتخلف الإسلام عن جريان هذه السُنّة الإلهية ، فقد صرّحت النصوصُ الكثيرة وأشارتْ الأُخرى إلى وجود هذه السُنّة ، وذلك بالتبشير المستمر بأنّ ختام هذا الأمر بعد زمن قد يطول وقد يقصر سيكون على يد المصلح العالمي إمام الزمان المهدي الموعود عجّل الله فرجه الشريف .
إذن ، نحن ننتظر ومعتقدون بأنّ هذا الأمر لابدّ أنْ يأتي يومه الموعود ، ولكن لنا أنْ نتساءل ما هي حقيقة الانتظار ؟ الانتظار معنىً وحقيقةً : مهما تحدّثنا لنْ نفي بالغرض ؛ وذلك لضعف البنان وبساطة البيان من جهة ، ولعظمة الموضوع وتعدّد أبعاده من جهة أُخرى ، ولكن ما لا يُدْرَك كلُّه لا يُتْرَك جُلُّه . نحن في هذه الفترة الراهنة نواجه تحدّيات كبرى وهجومات خطيرة تستهدف الإسلام ومبادئه ، وبالخصوص النيل من عقائد المؤمنين ، بإثارة الشبهات الفكرية والعقائدية ، ومِن أكبر حملات الكفر العالمي على العقائد الحملةُ الموجّهة للنيل من عقيدة الانتظار ؛ لِمَا تحمله هذه العقيدة من قدرة على تعبئة الجماهير المؤمنة ضد الكفر وأهله ، ومِن تلك الحملات ما جرى من كتابات لأقلام مأجورة نالتْ مِن حرمة الساحة المقدّسة للإمام المنتظر ( عجّل الله فرجه الشريف ) ، فمنها ما جاء في كتابات أحمد الكاتب ، ومنها ما جاء في نشرة ( موج ) التي نشرت في جامعة طهران ، وقد تصدّى العلماء لهذه الحملة بقوّة . فنحن إذنْ نعيش هذه الأيّام فرحة ميلاد الإمام المنتظر (عج) ، نودّ أنْ نبيّن جانب من مسؤولية الإنسان المؤمن في هذه المرحلة الحسّاسة من حياة الأُمّة ، فعلينا أوّلاً أنْ نحدّد محتوى الانتظار لكي نتسلّح بسلاح الإيمان الواعي لمواجهة الحملة الشرسة ، التي تريد سَلْب عقيدة الانتظار من نفوس المؤمنين بسلب عقيدة المنتظر عليه السلام أو الانتقاص منها ، فنقول : الانتظار لغةً واصطلاحاً : في اللغة يُقال : انتظره ، كأنّه ينظر إلى الوقت الذي يأتي فيه . ويُقال : انتظره : ترقّبه ـ توقّعه . (2) . إذن ، الانتظار في اللغة يعني الترقب والتوقع لأمر مستقبلي الوقوع . أمّا اصطلاحاً : فقد عُرّف الانتظار بأنّه : التوقع الدائم لتنفيذ الغرض الإلهي الكبير ، وحصول اليوم الموعود الذي تعيش فيه البشرية العدل الكامل ، بقيادة وإشراف الإمام المهدي عليه السلام (3) . حقيقة الانتظار : وممّا يستحقّ الإشارة إليه في هذا المضمار أنّ الانتظار واقع بين حالتي السلب والإيجاب ، ولكلّ حالة من هاتين أهلها ومروّجوها ، وإنْ كان شياع وانتشار السلب أقلّ بكثير من الإيجاب ، فما هما هاتان الحالتان ؟ ومع مَن يجب أنْ نتخندق ؟ وللجواب على السؤالَين معاً نتحدّث عن كلا الاتجاهين ـ الذي يتبنّى الحالة السلبية ، والذي يتبنّى الحالة الايجابية ـ ، بشيء من التفصيل . * أوّلاً : الاتّجاه السلبي : وأصحاب هذا الاتجاه يرون أنْ ننتظر الإمام عليه السلام نياماً راغدين ، تدغدغ أسماعنا أصوات الموسيقى الناعمة ، وعليه ـ هو بأبي وأُمّي ـ أنْ يأتي لنا بالنصر على صهوة جواده إلى حيث نغطّ في أعماق النوم القاتل ، والسبات الشامل ، وحين ذاك ننتفض من غفوتنا لِنَنْعم بحلاوة النصر الإلهي للدولة المهدويّة ، إشباعاً منّا لغريزة الحرية والانعتاق من نير الظلم والظالمين ، وبقية الغرائز الأخرى . ويرى أصحاب هذا الاتّجاه السلبي عدم جواز أو ـ على الأقل ـ عدم جدوى العمل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمن الغيبة ؛ لأنّ ذلك يعتبر عند بعضهم ممّا يسبّب تأخير الظهور ، لأنّه عليه السلام لا يظهر إلاّ عندما تُمْلأ الأرض ظلماً وجوراً ، مستفيدين ذلك بزعمهم من الروايات التي تقول : إنّ الفرج يأتي بعد تحقّق ذلك في أرجاء المعمورة ، ومِن هنا لابدّ أنْ نسكت على ظلم الظالم ، وفسق الفاجر ، واستهتار المستهتر بدماء ومقدّرات الأُمّة ؛ لكي يعمّ الظلم ، لأنّهم يعتبرون ذلك مقدّمة لظهور الإمام عليه السلام . ومِن الواضح أنّ ردّ مثل هذا القول ، وإثبات بطلان هذا الفهم للانتظار لا يحتاج إلى كثير مؤنة ، فإنّه يكفي في ردّه عدم توافقه مع أحكام الكتاب المبين ، وشريعة سيّد المرسلين ( صلّى الله عليه وآله ) ، القاضية بوجوب أنْ يكون المؤمن عاملاً فعّالاً ، بالخصوص في وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولإتمام الحجّة نشير إلى نقطة واحدة من نقاط الخلل في هذا الاتجاه وهي : إنّ هذا الاتّجاه بنى فكرته على أساس غير سليم في فهم الروايات التي تحدّثتْ عن انتشار الظلم في آخر الزمان ، وذلك أنّهم فهموا منها أنْ يعيش الإنسان السلبية في التعامل مع الأحداث ، وأنْ ينزوي بعيداً عن مواجهة الظلم والظالمين ، وعن أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بينما أنّ المتدبّر في هذه الأخبار لا يصل إلى ما وصل إليه أصحاب هذا الاتّجاه ، بل يقطع بأنّ الروايات جاءت لتخبرنا أّن الأوضاع العامّة للبشرية إبّان ظهور الإمام عليه السلام سوف تكون عبارة عن مصاديق صارخة للظلم والجور ، وهذه الأوضاع ليس بمثابة الشرط في تحقّق الظهور ، بمعنى أنّ عدمها يعني عدم الظهور ، بل على العكس ، فإنّ غياب الإمام كان بسبب انتشار الجور وقلّة الأنصار ، وظهوره يحتاج إلى وجود النخبة الخيّرة وتوفّرها على الوعي المناسب لمرحلة تطبيق الشريعة تطبيقاً تامّاً وشاملاً في جميع أرجاء المعمورة ، وبذلك فإنّ الروايات التي استفاد منها أصحاب هذا الاتّجاه فهمهم للانتظار ، لا تدلّ على أكثر من الإخبار عن الأوضاع العامّة لحالة الناس في آخر الزمان ، والتي هي علامات تدلّ على قرب اليوم الموعود ، وتفاؤل المؤمن بذلك لا يعني رضاه بالباطل وسكوته عنه ، بل هو ناشئ من صحّة تطابق الأخبار مع الواقع الدال على أنّ الفرج بات قريباً ، فلا تنافي بين عملنا لأداء التكليف ووجود مثل هذه الأخبار ، ما دامتْ هي عبارة عن إخبارات بالمستقبل تبيّن الحالة العامّة للبشريّة . ولمزيد من الإيضاح في هذه النقطة نذكر ما بيّنه السيّد محمّد الصدر ( قدّس سرّه ) في مناقشته لهذا الفهم السلبي ، فإنّه بعد أنْ يذكر أنّ الفتن المذكورة في الروايات والتي تدعو المؤمن أنْ يتجنّبها معناها الكفر والانحراف ، يقول إنّ هناك أطروحتين لفهم هذه الروايات ، وهما : الأطروحة الأُولى : إنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) يشير إلى زمان مستقبل بالنسبة إلى عصره ، تَحْدث فيه الفتن ، وينصح المسلمين بالانصراف عنها والانعزال عن تيّارها ، والقعود عن العمل معها أو ضدّها ، بل اللازم هو اللجوء إلى ملجأ أو الخروج إلى البوادي والأطراف ، هرباً من التدخّل في الفتنة . وإذا صحّتْ هذه الأطروحة ، تكون الأخبار موافِقة للقواعد التي عرفناها عند وجوب العزلة ، ومخالِفة لها عند وجوب العمل والجهاد ، حيث نرى هذه الأخبار تأمر بالعزلة على كلّ حال . الأطروحة الثانية :
إنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) يشير إلى الفتن نفسها ، بقوله : ستكون فتن . لا أنّه يشير إلى الزمان الذي تقع فيه ، كما هو الوجه الأوّل في الأطروحة ، فإنّه لا ذِكْر للزمان في هذه الروايات أصلاً ، فيكون المراد : أنّ القاعد عن تأجيج الفتن وإثارتها والمشاركة فيها خير من القائم ، والقائم خير من الساعي ، فإنّ المشاركة فيها كلّما كانت أقل كان أفضل . ومعه يكون مضمونها صحيحاً ومطابقاً للقواعد ، فإنّ المشاركة في الفتنة مستلزم للانحراف والفساد لا محالة ، وهو ممّا لا يرضاه النبي ( صلّى الله عليه وآله ) لأُمّته ، وينصح بالتجنّب عنه ، وهذا في غاية الوضوح ، ومعه تخرج هذه الروايات عن كونها آمرة بالعزلة ، وإنّما هي تأمر بالانعزال عن الفتن لا عن العمل ضدّها ، بل قد يقال : إنّ فيها دلالة على جواز العمل ضدّ الفتن بل وجوبه ، فإنّ هذا العمل قد يكون هو الملجأ الوحيد للتخلّص من الفتن ، وقد أمر ( صلّى الله عليه وآله ) أنّ : ( مَنْ وَجَدَ فِيْهَا مَلْجَأً فَلْيَعذْ بِهِ ) . بعد هذا يبيّن السيّد محمّد الصدر ( قدّس سرّه ) المقصود من الملجأ والمهرب ، فيقول : إنّ الملجأ لا ينبغي أنْ نفهم منه خصوص المكان المنزوي أو البعيد ، بل نفهم منه كلّ منقِذٍ من الفتنة وما هو مُبْعِد عنها ، ومن المعلوم أنّ الارتباط بأهل الحقّ ، واتّخاذ العمل الإسلامي ، خيرُ ملجأ . ـ انتهى كلامه رحمه الله ـ (4) . إذنْ ، تبيّن لنا بهذا الموجز ضعف وخواء هذا الفهم السلبي للانتظار ، وكونه مبنيّاً على فهم أصحابه الخاطئ لروايات الفتن ، وكون آخر الزمان ينتشر فيه الظلم والفساد والجَور . * ثانياً : الاتّجاه الإيجابي : وأصحاب هذا الاتّجاه يرون الانتظار داعياً وعاملاً مساعداً باعثاً على الحيويّة والنشاط في العمل الإسلامي ؛ لذلك جعل الانتظار من أفضل الأعمال كما جاء في الحديث النبوي : ( أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي انْتِظَارُ الفَرَج ) (5) . ولكن كيف يمكن أنْ نجعل الانتظار أمراً إيجابياً ؟ وهذا يحتاج أنْ نلفت الأنظار إلى أنّ الإنسان الذي يكون على موعد مع أحد ، وأفرض أنّ هذا الأحد ذو مقام وشأنيّة عنده وعند المجتمع ، أَلَيْسَ مِن الجدير بالطَرَفِ الذي يَنتظر أنْ يتهيّأ لاستقبال مَن يُنتظَر ، كلّما أحسّ بقرب الموعد تكون استعداداته أكثر جدِّيّة ، ومِن المعيب عليه أنْ يأتي صاحبه إليه وهو لم يستعد ، بل يغطّ في نوم عميق . ونحن على موعد للقاء الإمام عليه السلام ، ولا نشكّ في أنّنا سوف نلاقي ذلك اليوم الموعود ؛ لأنّه وعد الله تعالى والله لا يخلف الميعاد ، كما أنّنا ندّعي الشوق لذلك اللقاء ، إذا كان كذلك أَلاَ يجدر بنا ويجب علينا أنْ نكون على أُهبة الاستعداد ؟! أَلَمْ يغيب الإمام (عج) منذ (1164 سنة) ، ومِن أسباب غيبته انتشار الظلم وقلّة الأنصار ، فهل من المعقول أنْ يخرج الإمام عليه السلام مع انتشار الظلم وقسوة الظالمين وأنصاره نيام . هل يمكن أنْ يأتي ـ روحي فداه ـ ليفتح العالم بأجمعه ولا زال بغير ناصر ولا معين ، إذا كان الحديث عن الإمكان والقدرة الإلهية وإيجاد المعجزة فقط ، فلماذا لم يجري الله المعجزة ويخسف الأرض بالظالمين لحدّ الآن ، وقدرة الله تعالى هي هي في أيّ زمان ومكان ، وهو القادر المطلق ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (6) ، نعم ، إنّ الله تعالى قادر إلاّ أنّه أبى أنْ يجري الأُمور إلاّ بأسبابها ، وللمعجزة ظروفها الخاصّة ، ومن الأسباب الطبيعية التي تساعد القائد على الوصول لهدفه وغايته ، أنْ تكون معه أُمّة تَعِي المسؤولية ، ومعبّأة لتحمّلها ، وكذلك طائعة لقائدها أطوع من بَنَانِهِ . ولأجل أنْ نكون كذلك لابدّ من العمل الجادّ لتوعية أبناء الأُمّة ، حتّى تعرف الأُمّة قدر مسؤوليّتها تِجاه قائدها المنتظر عليه السلام ، وتعرف أَهمّية دورها في التغيير العالمي ، فلا تحتقر نفسها ، ولابدّ من العمل المستمرّ لإزالة العقبات التي تكتنف طريق إيصال الأُمّة إلى هذا المستوى . وكل خطوات العمل بدأ بإصلاح النفس وتوعية الأُمّة ، ووَضْع برامج العمل والمواجهة مع الظالمين والمستكبرين ، مروراً بمراحل التنفيذ والتي طالما غطّتها المصاعب والمتاعب ، هي طور من أطوار الانتظار الايجابي . إذنْ ، أصحاب هذا الاتّجاه يرون أنّ الانتظار الحقيقي إنّما هو المقرون بالعمل ، وأنّ نفس مفهوم الانتظار يدعو بأنْ يكون المنتظر إنساناً فعّالاً في الحياة وفي جميع المجالات . وممّا لا شكّ فيه أنّ لهذا الفهم السليم للانتظار آثاراً إيجابية عظيمة ، على الفرد والمجتمع وفي مختلف مجالات الحياة . آثار الفهم السليم لحقيقة الانتظار : لعقائد الإنسان ظاهر وباطن ، ولا يكون المؤمن مؤمناً حقيقياً ما لم يحمل العقيدة ظاهراً وباطناً ، ومعرفة الظاهر أمر سهل ، ولكنّ الجانب المهم هو أنْ تكون العقيدة راسخة عند هذا الإنسان باطناً ، ويمكن معرفة ذلك من انعكاس عقائده على سلوكه العام ، فأنّ المُتَدَيِّن يكون الطابع العام لسلوكه موافقاً لعقيدته ، وتظهر آثار اعتقاده على حياته بشكل بيّن وواضح . وانتظار ظهور الإمام عليه السلام من الأمور العقائدية المهمّة ، والتي عمل النبي والأئمّة عليه وعليهم السلام على ترسيخها في نفوس أبناء المجتمع ، فمَن اعتقد بهذه الحقيقة وفهمها الفهم السليم لابدّ وأنْ تظهر عليه آثارها كنتائج عملية يسطّرها في الواقع الحياتي اليومي ، ونحن نحاول أنْ نشير إلى بعض هذه الآثار المتوخّى تحققها فيمن عاش الانتظار عقيدةً ، وفهمه فهماً سليماً ، لنميّز المنتظر الحقيقي من غيره أوّلاً ، وثانياً ليتّضح أنّ الإيمان بظهور الإمام ( عجّل الله فرجه ) ليس أمراً لا فائدة من وراءه ، بل الخير كلّه فيه ، وهذه الآثار يمكن أنْ نبيّنها في المحاور التالية : * الأوّل : الآثار الشخصية : الفرد هو اللَبِنَة الأولى في بناء المجتمع الإنساني ، فبناءه بناءً سليماً يعني بناء المجتمع السليم ؛ لذلك أكّد الإسلام كثيراً على الاهتمام ببناء الفرد طفلاً ويافعاً وكهلاً وشيخاً ، وجعل للعقيدة الأثر الأكبر في بناءه ، ومن مفردات العقيدة التي تؤثّر في بناء الفرد والمجتمع عقيدةُ انتظار الإمام المهدي عليه السلام ، فإنّها سوف تترك آثاراً جمّة على هذا الكيان الشخصي ، منها : 1 ـ إنّ الاعتقاد بضرورة ظهور الإمام (عج) المبني على الأدلّة القاطعة بمعرفته وتشخيصه روحي فداه ، يُخْرِج المعتقد قبل الظهور وبعده من الحيرة والضلال . 2 ـ إنّ الفهم الصحيح للانتظار يزرع في النفس الاستعداد الكامل لتطبيق الأطروحة الإلهية العادلة والكاملة عليه كواحد من البشر على أقلّ تقدير ، إنْ لم يكن من الدعاة إليها والمضحّين في سبيلها . وهذا يتطلّب منه أنْ يكون عادلاً في سلوكه وتعامله مع الآخرين لتعتاد نفسه على العدالة ، فلا ينفر منها إذا ما جاء أوان تطبيقها العام التام على يد الإمام عليه السلام ؛ لأنّ المنتظر للإمام عليه السلام منتظر للعدل والحق ، والنفس ذات الأفق الضيّق لا تستطيع تحمّل الحق ، لذلك ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله المشهور : ( مَا تَرَكَ لِي الحَقّ مِنْ صَدِيْقٍ ) (7) ، فإذا علم المؤمن أنّه ينتظر دولة الحقّ والعدالة ، فسوف يعمل على ممارسة الحقّ لجهتَين : الأولى : أداءً للتكليف ، والثانية : لتعتاد نفسه على الانصياع للحق ، فلا تستوحش منه ، بل يكون الإنسان من المستبشرين به ، الطالبين لتحقيقه . إذنْ الانتظار السليم يخلق الإنسان العادل في المجتمع ، الذي يحافظ على حرمة الآخرين وحقوقهم . 3 ـ الالتزام الكامل بتطبيق الأحكام الإلهية السارية في كلّ عصر على سائر علاقات الفرد وأفعاله وأقواله ، حتى يكون متّبعاً للحقّ والهدى الصحيح ، فيكتسب الإرادة القوية والإخلاص الحقيقي الذي يؤهّله للتشرّف بتحمّل طرف من مسؤوليّات اليوم الموعود ، وعليه فلابدّ أنْ يعمل على تزكية نفسه من الرذائل وتحليتها بالفضائل ، وفي ذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال : ( مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُوْنَ مِنْ أَصْحَابِ القَائِمِ ، فَلْيَنْتَظِرْ وَلْيَعْمَلْ بِالوَرَعِ وَمَحَاسِنِ الأَخْلاَقِ وَهُوَ مُنْتَظِرٌ ، فَإنْ مَاتَ وَقَامَ القَائِمُ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ مِن الأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ أَدْرَكَهُ ، فَجِدُّوا وَانْتَظِرُوا هَنِيْئَاً لَكُمْ أَيَّتُهَا العِصَابَة المَرْحُوْمَة ) (8) . ويترتّب على ذلك أنْ يكون الإنسان من الذين يجلبون الخير إلى الأمّة الإسلامية عامّة ، بل والبشرية جمعاء ؛ باعتبار أنّ إعداد نفسه إعداداً صالحاً يشارك في تهيئة شرط اليوم الموعود بمقدار تكليفه وقدرته ، وإيجاد شرط الظهور خيرٌ عامٌّ للبشرية جميعاً . 4 ـ إنّ الفرد بمساهمته في توفير شرط الظهور ( وهو وجود النخبة الصالحة القادرة على تحمّل المسؤوليّات ) يساهم في إرضاء الإمام عليه السلام وجلب راحته ، وذلك بزيادة المؤمنين وقلّة العاصين ، والمشاركة الحقيقية في الإعداد للهدف الكبير . هذه بعض الأمور التي يتركها الفهم السليم لحقيقة الانتظار على الفرد ، والتي تجعل منه عنصراً فعّالاً ومؤثّراً في المجتمع ، فتنفعه دنياً وآخرة ، فالإنسان المنتظِر إذن إنساناً صالحاً وعاملاً لِمَا فيه خير البشريّة . * الثاني : الآثار الاجتماعية : ممّا لا شكّ فيه أنّ صلاح الفرد وتأثير فهم الانتظار على سلوكه ينعكس بالنتيجة على المجتمع ككل ، فإذا صلح الأفراد صَلُحَ المجتمع ، وانتشار هذا الفهم الايجابي تكون له ثمار اجتماعية مهمّة ، منها : 1 ـ لا شكّ أنّ الأُمّة مجموعة أفراد ، فإذا كانت الأفراد بالصورة التي تقدّمتْ سوف تكون هذه الأُمّة أُمّة قويّة مرتبطة بمصدر القوّة الحقيقي ، ومِن خلال تفاعل أفرادها سوف تعيش هذه الأُمّة بصورة راقية اجتماعياً ؛ لأنّ صورة المجتمع سوف تكون مأخوذة من خصوصيات أفراده ، الذي يغلب عليهم طابع حب الخير والانشداد للكمال والنور والسعي في تحصيله ، فسيكون مجتمعاً نورانيّاً قائماً على توفير السعادة والرُقِيّ ، ويسعى كلُّ فرد فيه إلى خدمة مجتمعه ومعاونة الأفراد الآخرين للوصول إلى غايتهم في المشروع الاجتماعي الأكمل . مِن هنا يظهر أنّ الانتظار الحقيقي يغذّي الأُمّة بالطاقة لبلوغ أهدافها ، ووصول المجتمع إلى سلوك اجتماعي أرقى يؤهّلهم لقبول النظرية الإلهية الكاملة . 2 ـ تكاتف المجتمع وتوحّده ورصّ صفوفه أمر مهمّ في عملية التغيير المرتَقَبَة ، فإنّ المجتمع المتفكّك والذي تنخره الخلافات ، وتعبث فيه الأهواء ، مجتمع خاوٍ لا يستطيع دَفْع الذباب عن أنفه ، فكيف بإقامة الدولة العالمية الكبرى ، فالمنتظِرون يجب أنْ يتّصفوا بالتكاتف والتحابّ فيما بينهم ، ولأهمِّيّة هذا التكاتف في عملية التغيير يعمل الأعداء ليل نهار من أجل القضاء على أيّ تكاتف يمكن أنْ يحصل بين المسلمين . 3 ـ العمل الجادّ بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا الأمر مِن أهمّ العوامل المؤثّرة في صلاح المجتمع ، فالإنسان الصالح لابدّ أنْ يدعو للصلاح ، والأُمّة الصالحة أيضاً لابدّ أنْ تدعو الأُمم للصلاح : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (9) ، مع مراعاة شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، المبيَّنة في كتب الفقه . 4 ـ السعي الدائم للظلم والظالمين بالإمكانيات المتوفّرة وحسب القدرة الآنيّة ، ليكون مستعدّاً للتضحية من أجل إقامة العدل متى ما أعلن قيامها ؛ لأنّ مَن يعتاد الراحة والدعة والاستسلام لا يمكنه التحرّك إذا اقْتَضَتْ الضرورة . 5 ـ ومن فوائد الإيمان الصادق بالإمام عليه السلام والفهم السليم لانتظاره على الأُمّة ، شعورُ أبناءها بالعزّة والكرامة والاطمئنان النفسي ، بأنّ الكافرين والفاسقين مهما أتوا مِن قوّة وعاثوا في الأرض فساداً ، فإنّ العاقبة للمتّقين ، وسوف يذهب الزَبَد جُفَاء ، ويمكث في الأرض ما ينفع أهلها في النَشْأَتَيْنِ وعداً إلهيّاً غير مكذوب . وهذا الشعور من أهمّ خصائص الانتظار ؛ لأنّ المهدي عليه السلام هو القوّة الغيبيّة المدّخرة لإصلاح العالم ، فَمَن ارتبط به فسوف يستمدّ القوّة من إمامه الذي تجلّتْ له حقيقة الذِكْر : ( لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم ) ، حقيقةً ، فصار هو المصداق الذي تجلّتْ فيه القوّة الإلهية ؛ لذلك نجده عليه السلام يصف نفسه في بعض فقرات دعاء الندبة بالمعدّ لقطع دابر الظلمة ، والمنتظر لإقامة الأمْتِ والعِوَج ، والمرتجى لإزالة الجوَر والعدوان ، والمدّخر لتجديد الفرائض والسُنَن ، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تَنمّ عن قوّته عليه السلام الملائِمة للمهمّة التي اختاره لها ربّ العزة والجلال . فالفرد إذا ارتبط بهذه القوّة معنويّاً سوف يستشعر القوّة حقيقة ، فتتحوّل هذه القوّة إلى طاقة تحرك مفاصل حياته وتنقله من عالم الضعف نتيجة الضغوطات التي يتعرّض لها سياسية أو اقتصادية أو غيرها ، إلى عالم القوّة والفاعلية ، فيكون عنصراً مؤثّراً في تهيئة لوازم الخريطة الإلهيّة لمستقبل العالم ، والأُمّة التي يكون أفرادها من هذا النوع تعيش القوّة والعزّة والكرامة والصمود أمام الضغوطات ، لتخرج من جميع الامتحانات مرفوعة الرأس . 6 ـ ومن النتائج العظيمة لهذا الفهم السليم لحقيقة الانتظار الشعور بالمسؤولية تجاه بعضنا البعض ، وتجاه الهدف الذي سيظهر الإمام من أجله ، وهذا الشعور يدعونا قطعاً إلى التفاهم والتشاور لمعرفة صحّة خطواتنا وكيفية الرُقِي بها إلى المستوى المطلوب ، الأمر الذي يوفّر للمجتمع وحدة الكلمة ورصّ الصفوف من جهة ، ودقّة الحسابات في التعامل مع المتغيرات من جهة أخرى ، ممّا يعود على الأُمّة بتوفير النظم في جميع مجالات حياة المؤمنين ، ويتصرّفون ضمن الحدود المطلوبة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة وغير ذلك . * الثالث : الآثار الاقتصادية : إنّ للانتظار الإيجابي الحقيقي خصوصية أُخرى عجيبة وهي أنّه يعطي للفرد والمجتمع رؤية فريدة من نوعها تتقوّم في أنّ النظر يكون أوّلاً إلى المصلحة العامّة للمجتمع ، وتحقيقها من خلال تضافر جهود الأفراد المخلِصة ، ويترتّب على ذلك تربية الفرد على نكران الذات وبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق الهدف والحصول على القوّة الاقتصادية للأُمّة ؛ لأنّ هذه الأُمّة سوف تكون مهمّتها مستقبَلاً مهمّة كبيرة جدّاً في إصلاح العالم ونشر العدل ، وهذا المشروع يجب أنْ يُدعم مادّيّاً ، وتتوفّر عناصر القوّة كالتسلّح والتقنية الحديثة ، وكل ذلك يحتاج بطبيعة الحال إلى القدرة الاقتصادية ، والأُمّة التي ترى أنّ رُقِيّها الاقتصادي يؤهّلها إلى خدمة هدف إمامها الموعود عليه السلام ، تندفع إلى سدّ ثغراتها الاقتصادية أوّلاً ، وثانياً تسعى إلى أنْ يعيش الفرد فيها قوّة اقتصادية من خلال القضاء على الفقر والتخلّف الاقتصادي ، فيكون الفهم السليم بذلك دافعاً على العمل والحيوية في مجال الاقتصاد أيضاً . وهذه جولة سريعة في النتائج التي تترتّب على الفهم الصحيح للانتظار ، ومنها نتوصّل إلى حقيقة الغاية والهدف من الاعتقاد بالغيبة والانتظار ، فبالإضافة إلى التسليم لله وأولياءه ، فإنّ الهدف خَلْق الفرد الناجح والأُمّة الفاعلة الحيّة المتحرّكة بنجاح على كل الأصعدة ، فعقيدة الانتظار ليست عقيدة تخدير واسترخاء ، بل هي عقيدة عمل ونشاط وحيوية إيجابية تصنع الروح العالية عند أبناء الأُمّة ، وتتجاوز بهم حدود الذات والأنانية إلى حدود الأُمّة والجماعة . وختاماً نتوجّه إلى المولى الجليل سبحانه وتعالى ليمنّ علينا بالتوفيق ، لأنْ نكون من الذين فهموا وعملوا وأخلصوا ، وأنْ يكتبنا من الممهّدين للظهور المقدّس للإمام عليه السلام ، وأنْ لا يحرمنا رؤيته والفوز بصحبته وشفاعته ، إنّه أرحم الراحمين