عربي
Monday 25th of November 2024
0
نفر 0

تكوين الأسرة المسلمة



إن الأسرة هي الخلية الأساسية التي يتركب منها جسم المجتمع الكبير، وما المجتمعات إلا مجموعة أسر تعيش معاً، ترتبط فيما بينها بقوانين وأنظمة تحكمها، وبذا تتكون الدولة ويكون الوطن.
فإذا كانت الخلية الأساسية (الأسرة) سليمة قوية كان المجتمع كله سليماً قوياً، وإذا كانت الأسرة مفككة في علاقاتها، متباينة في الفكر والسلوك، انعكس ذلك كله على المجتمع فاصبح مفككاً مهزوزاً ومهزوماً، ولقد اهتم ديننا الحنيف بمراحل بناء الأسرة حتى تستقيم مهامها وتؤتي ثمارها كخلية صالحة في المجتمع ليصلح المجتمع كله.
وأول مراحل بناء الأسرة هو اختيار الزوجة، فقد وجهنا الشرع الحنيف عند العزم على تكوين الأسرة أن نحرص على اختيار الزوجة، حيث إنها أهم ركن من أركان الأسرة، إذ أنها المنجبة للأولاد، وعنها يرثون كثيراً من المزايا والصفات، وفي أحضانها تتكون عواطف الطفل وتتربى ملكاته، ويكتسب كثيراً من عاداته وتقاليده، ويتعرف دينه، ويتعود منها السلوك الاجتماعي إلى حد كبير.
وإن رسول الله (ص) قد أرشدنا لأن ننتقي الأزواج فنختار الأفضل منهن، صاحبة الدين والخلق، قال عليه الصلاة والسلام: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
ومعنى ذلك إن الناس يقصدون في العادة من المرأة هذه الخصال الأربع، فاحرص أنت على ذات الدين واظفر بها واحرص على صحبتها والزواج منها.
فاختيار الزوجة الصالحة أول خطوات السير الصحيح لبناء الأسرة القوية المتحابة المترابطة، القادرة على تنشئة الأبناء نشأة سليمة، حيث تربيهم على أدب الاسلام وتصقلهم بالإيمان، وبمثل هذه الأسرة يقوم المجتمع كله على أساس كريم وبناء متين، يضطر كل من يعيش فيه أن يتخلق بعاداته ويتأدب بآدابه.
ولما كانت تربية الأطفال هي الخطوة الأولى التي تبدأ بها الأسرة مهماتها، لذا فلا بد من العناية التامة بتلك الغراس الصغيرة واللبنات اللينة حتى تشب على أساس متين وفكر سليم وسلوك قويم، وصدق رسول الله (ص) في قوله: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)).
فالطفل بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين.
والأولاد والزوجة إنما هم أمانة عن الآباء، وفي صحائفهم يكتب ما يفعلون، وإنهم عند الله تعالى عنهم المسؤولون، فحذار من ضياعهم وإهمالهم. قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون، واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم)) (سورة الأنفال 27 / 28).
ولكي يكون البيت مسلماً حقاً والأسرة التي تملؤه قوية متحابة، لا بد أن تكون أعمالهم نموذجاً عملياً لما يطلبه الاسلام، وقدوة حسنة لمن جولهم من الجيران، وعلى المسلم أن يستشعر عظم مسؤوليته تجاه أهل بيته وإنهم أمانة في عنقه، وعليه أن يتقي الله فيهم رعاية وعناية وتربية وسلوكاً.
وبما أن الأمر بهذه الخطورة فإليك بعض التوصيات الخاصة بالبيت المسلم في مختلف الجوانب، آملين أن يتدارسها الآباء والأبناء والأمهات بعناية ودقة، ويقوموا بالعمل على تحقيقها في بيوتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، راجين أن يكون فيها الفلاح والصلاح في الدنيا والآخرة.
ـ ففي الجانب التعبدي:
ـ أن يقوم الأفراد المكلفون بأداء الفرائض في أوقاتها، وأن تؤدي الصلوات في جماعة في بيوت الله ما أمكن، لقوله تعالى: ((إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر)) (التوبة آية 18).
ـ أن يخصص كل فرد في الأسرة من البالغين كل يوم وقتاً لتلاوة جزء من كتاب الله تعالى، لوصية رسول الله (ص): ((اقرؤوا القرآن في شهر)) قال رجل: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: ((اقرأه في اسبوع...)) فعلى المسلم أن يقرأ في كل يوم جزءاً، فإذا تعسر ذل يتلو بعضه، وعلى مسمع من أهل البيت جميعاً لكسب الثواب وبركة القرآن الكريم.
ـ أن يعتاد أفراد الأسرة على صيام التطوع ولو يوماً في الأسبوع على الأقل.
ـ أن يعود الرجل أهله على قيام الليل ولو مرة في الاسبوع كذلك.
ـ أن يكون الرجل قدوة لزوجه وأبنائه وسائر أهله في الالتزام بالعبادات والمداومة عليها في أوقاتها.
ـ أن يعلم الرجل أهله وأبناءه بعض الأذكار الواردة عن رسول الله (ص) في المساء والصباح وحين الحاجة، مع صدق التوجه إلى الله تعالى عند الدعاء، والاستعانة بالله وحده لا شريك له.
ـ أما في الجانب السلوكي:
ـ فيلزم رب الأسرة أن ينفر أهله ويحذرهم من سائر العيوب الاجتماعية السارية والتي حذر منها الاسلام، كالغيبة والنميمة والشتم والسخرية من الآخرين وإيذائهم والكذب وغير ذلك، لقوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلموا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)) (الحجرات آية 11).
ـ إلزام أهل بيته من الاناث بارتداء الزي الشرعي الكامل والظهور بمظهر القدوة الحسنة للناس وتعويدهن على ذلك منذ الصغر، والأدلة على ذلك ظاهرة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله.
ـ تعويد أهل بيته الآداب الاسلامية في الأكل والشرب، كالأكل باليمين والبدء باسم الله، لتوجيه رسول الله (ص) لأحد أصحابه: ((سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك))، وكذلك تعليمهم أدب المعاملة مع الآخرين، مثل طرح السلام والإحسان إلى الناس وصلة الأرحام واحترام الكبير والعطف على الصغير وأدب الاستماع ونحو ذلك.
ـ أن يعود أهل بيته الصدق والصراحة في القول مع مراعاة الأدب في ذلك، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)) (التوبة آية 119).
ـ أن يحذرهم المجالس المختلطة ويرشدهم إلى الابتعاد عنها ما أمكن، ويراقب سلوك الأبناء خارج البيت ويتابع تصرفاتهم ويسأل عنهم ويتعرف على أقرانهم وأصدقائهم ونوعايتهم، فيحذرهم من مخالطة الأشرار ويحثهم على مصاحبة الأخيار حفاظاً على أخلاقهم وسلوكهم.
ـ في الجانب التثقيفي:
ـ على رب الأسرة أن يعمل على تزويد بيته بمكتبة ثقافية هادفة تتناسب مع مستوى الزوجة والأبناء ما أمكن، فيحرص على تزويدهم بالمجلات الاسلامية النافعة والكتب الثقافية الهادفة، إضافة إلى كتب في الفقه الميسر والحديث الشريف والسيرة النبوية.
ـ تخصيص وقت في الاسبوع ولو مرة واحدة تلتقي فيه الأسرة على مدارسة موضوع فقهي أو تربوي هادف.
ـ أن يكون الأب ضابطاً حازماً عند استخدام جهاز التلفاز بحيث يمنع مشاهدة ما تضر مشاهدته من برامج وأفلام وأغان لا تتناسب مع أدب الاسلام وأخلاقه.
ـ أن يعود أهله على استماع الأخبار المحلية والدولية لتكوين وعي عام عندهم عما يجري في العالم، وكذلك يحثهم على سماع البرامج العلمية والثقافية الهادفة.

ويتكامل القانون الاسلامي مع الدوافع والنوازع الفطرية والغريزة والحاجة الفعلية للانسان في مجال تكوين الأسرة ..
فالرسالة الاسلامية قامت بتنظيم الأسرة على أسس قانونية وأخلاقية، وبشكل يتوافق ويتناغم مع الفطرة، ودوافع الغريزة الطبيعية ..
فالاسلام ينظر إلى الجنس والعلاقة الجنسية نظرة إيجابية بنّاءة ويفتح لها المجال الطبيعي للإشباع .. مقدراً أهمية الغريزة الجنسية، والأحاسيس الجنسية في حياة الانسان .. لذا شرع الزواج، ووضع له أسسه القانونية والأخلاقية.
وحثّ عليه واعتبره من الحاجات الأساسية للانسان .. إنّ الأسرة تقوم على أساس نظام الزوجية بين رجل وامرأة محللة .. والزوجية تقوم على أساس (العقد) .. وهكذا فإن أساس بناء الأسرة هو الأساس العقدي .. أي تطابق الإرادات على الاقتران الزوجي بين رجل وامرأة محللة .. وتوافق اختيار الطرفين .. وبالعقد يباح لكل من الرجل والمرأة الاستمتاع بالآخر .. فالعقد يبيح لكل منهما ما كان محرماً من أنواع الاستمتاع، وتترتب على عقد الزوجية آثار قانونية وأخلاقية كثيرة، كالنفقة على الزوجة والتوازن بينهما والبنوة، وحرمة الزواج من بعض أقارب الزوجين .. الخ.
وبعد أن اتّضح لنا مفهوم الزوجية في القرآن .. وأنّ الزواج والاقتران العقدي المقنن بين الرجل والمرأة المحللة هو الطريق في الاسلام لانشاء الأسرة .. ونظراً لأهمية الأسرة في بناء المجتمع فلنستقرئ منهج الاسلام في بناء الأسرة وصيانتها وتنظيمها ..
إنّ بناء الأسرة في الاسلام يبدأ من الحث على الزواج والتشجيع عليه، وتسهيل طرق الاقتران بين الزوج والزوجة، ورفع العقبات التي تحول دون انشاء الزوجية، أو القضايا التي تمنع من سير الحياة الزوجية وفق روح المحبة والاحترام والتعاون بين شركاء الحياة في الأسرة: الزوج وزوجته .. فالاسلام يعتبر رابطة الزوجية رابطةً مقدّسةً، فهي شركة الروح والمشاعر والعواطف والمصير، كما هي شركة الحياة الغريزية والمادية والاجتماعية ..
من هنا كان الاهتمام بها وصيانتها بالغاً .. ولتسهيل إيضاح الفكرة نثبت الخطوات الآتية:
1 ـ الحث على بناء الأسرة.
2 ـ رفع الموانع والعقبات وتسهيل بناء الأسرة.
3 ـ تحديد المواصفات الجيدة للزوج والزوجة.
4 ـ اعتبار رضى الطرفين ركناً أساساً في عقد الزوجية، وانشاء العقد على هذا الأساس.
5 ـ فسح المجال أمام كل من الطرفين أن يضع أي شرط على الطرف الآخر، ما لم يخالف حكماً من أحكام الشريعة، القائمة على الحق والعدل ومصلحة العباد ..
6 ـ توصيف الأسس النفسية والعاطفية،وتثبيت قواعد العلاقة الأخلاقية والروحية بين الزوجين ..
7 ـ دعوة كلٍّ من الزوجين إلى العناية بالمظهر وبالجانب الجمالي والاهتمام بالعلاقة الجنسية بينهما ..
8 ـ تشريع الأحكام والقوانين العادلة لتنظيم الأسرة وبيان الحق والواجب فيها ..
9 ـ دعا الاسلام كلاً من الزوج والزوجة إلى بناء حياتهما وتنظيمها على أساس المنهاج الأخلاقي والقانوني والنفسي المبرمج لبناء الأسرة ..
ليعرف كل منهما حقّه وواجبه، ويتعامل مع الآخر في إطار تلك الأخلاقية والقانونية ..
10 ـ حدّد الاسلام لكل من الزوجين مسؤوليته تجاه الأبناء، وأسلوب التعامل معهم.
11 ـ ولكي يكون القانون والأخلاق الأسرية واقعية، وضع الاسلام الأسس الكفيلة بمعالجة المشاكل الأسرية، وحلّها وفق الخطوات الآتية:
أ) التفاهم والحوار لحل المشكلة.
ب) الصبر على الآخر.
ج) العفو والتسامح.
د) التحكيم والرجوع إلى القضاء.
هـ ) الطلاق.
انطلقت الرسالة الاسلامية في مشروع بناء الأسرة والمجتمع من نظرتها العامة للنوع الانساني ومهمته على هذه الأرض واستمرار وجوده خليفة عليها، ليعمرها بالعلم والعمل والعبادة والحضارة الربّانية، ويحمل الأمانة كاملة .. قال تعالى موضحاً ذلك:
(وإذ قال ربُّك للملائكة إنِّي جاعل في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها مَن يفسد فيها ويسفك الدِّماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك قال إنِّي أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة/ 30).
(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثمّ توبوا إليه إنّ ربِّي قريب مجيب ) (هود/ 61).
(إنّا عرضنا الأمانة على السّموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنّه كان ظلوماً جهولاً )(الأحزاب/ 72).
(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون ) (النحل/ 90).
والخطاب في هذه الآيات يتحدّث عن الانسان كانسان رجلاً كان أو امرأة فهو خُلق خليفة في هذه الأرض، وكلف بإعمارها، ورضي بحمل الأمانة، وإقامة العدل والإحسان، ونُهي عن البغي والفحشاء والمنكر .. وعلى هذه الأسس تبنى الأسرة والمجتمع والدولة، ولذلك سمى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الحياة الزوجية بناء، ووصفها بأنّها أحب بناء إلى الله سبحانه في هذه الحياة .. جاء ذلك بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «وما بني بناء في الاسلام أحبّ إلى الله من التزويج».
ولكي يشيَّد هذا البناء بدأ بالحث على إقامته،والتثقيف على أهميته .. لذا نجد القرآن يحث على الزواج ويأمر به .. (وخلق منها زوجها ليسكن إليها ) وتتضح أهمية الزواج من تفسير الحديث النبوي الشريف بأن نصف سلوك الانسان تقف خلفه دوافع الجنس .. جاء ذلك في قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : «مَن تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الآخر».
«مَن أحبّ أن يتبع سنتي فإن من سنتي التزويج».
بل ويصف حياة العزوبة بأنها رذيلة، ليكرهها للانسان، ويكوِّن رؤية سلبية تجاهها.
نقرأ ذلك في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «رذّال موتاكم العزاب»، لما في العزوبة من مساوئ، وآثار سلوكية سلبية، وخروج على قانون الفطرة التي فطر الله الناس عليها .. إنّ الميل للزواج والإقبال عليه،والاقتران بزوج، هو مسألة غريزية، ودافعها غريزي .. إلى أنّ الحالة الانحرافية تدفع الكثير من الرجال والنساء بصورة عامة، إلى اللجوء للعلاقات الجنسية المحرمة (الزنا) أو (اللواط) .. الخ، بدلاً من الزواج .. لذا قام الاسلام بعملية التوعية والحث على الزواج، ودعا لتسهيل مسلتزماته .. فهو يعتبره أحب بناء في الحياة إلى الخالق العظيم .. وتارة أخرى يعتبره صيانة للاستقامة السلوكية، وثالثة يعتبره سكناً وطمأنينة واستقراراً .. كما يصف حياة العزوبة بأنّها حياة رذيلة، والفضيلة في التخلص منها بالزواج ..

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

العلاقات الزوجية الناجحة تُحسِّن مناخ الأرض
السيد محسن الأمين العاملي ( قدس سره ) ( 1284 هـ ـ 1371 ...
المرأة في القرآن
مدير قناة الجزيرة في باكستان عضو في القاعدة ...
ربط الطفل بالسلف الصالح
إصدار كتاب "المنهج الحق كتاب الله والعترة ...
الإمام الخميني رجل القرن العشرين، ورجل القرن ...
إصدار كتاب "النَّثر الفنِّي في ثورة ...
رجل ضعيف وامرأة قوية .. صراع بين قوتين
ثورة زيد بن علي بن الحسين

 
user comment