بحلول هذا العام الهجري الجديد ، يكون قد مضى على واقعة كربلاء ، قرابة 1369سنة . وخلال هذه القرون الطويلة من السنين ، قد حدث ما حدث ، وتعاقبت فيها على الحكم دول وحكومات ، وحكم فيها خلفاء ، وتملّك فيها ملوك ، وترأَّس فيها رؤساء . ولكن مع كل هذا وذاك ، فإنّ هذه الثورة العظيمة ، تجذّرت في نفوس محبِّيها وعشَّاقها ، وقد أمست هذه الثورة ـ وبحق ـ ملكاً وإرثاً إنسانياً عظيماً ، يتفاخر به الملأ من دعاة الحرية والعدل ، وتتغنَّى بها القلوب الولهى ، والمُحِبَّة للسلام ، والتائقة لمبادئ الحرية ، لا بل إنّها أصبحت ملكاً للإنسانية جمعاء ، بغض النظر عن ميولها واتجاهاتها الدينية أو العقائدية .
اللَّهُم إلاّ أولئك الذين هم على شاكلة ابن زياد وسيّده يزيد ومن لفّ لفّهما ، فهمْ ويزيد بن معاوية متساوون في كل الرذائل ، وربَّما تشابهوا حتى في اختيارهم لنوعية قرودهم التي تؤنسهم برقصها ليلاً ونهاراً . فهذا الصنف من الناس ، أو هؤلاء الطغاة ، لا يأنسون بوقوفهم إلاّ حيثما وُجد الظلم والجور ونهب أموال المظلومين والجياع ، وسلبهم لحرِّيَّاتهم ، تماماً بالضد من العدل والحق ؛ لأنّ التأريخ الطويل الذي عاشته وتعيشه البشرية ، أثبت ، وبما لا يقبل الجدل ، أنّ مسيرة الإنسانية وعبر سيرها الطويل والحثيث ، أبت إلاّ أن تكون سالكة لسبيلين لا ثالث لهما ، فهي : إمّا شاكرة وإمّا كفورة .
والسبيل الثاني هو الغالب دوماً ، على الرغم من كل ما جاءت به الرُّسُل والأنبياء من رسالات سماوية ، تهدي إلى سبيل الحق والعدل ، دون الباطل والشر . ولكن أنّى لهذا العدل أن يعمَّ ربوع البشرية ، وهذه الدنيا بمغرياتها لم تتوان قط ، ومن وراءها أبالسة الإنس قبل الشياطين ، عن تقديم إغراءاتها لهذا الإنسان الذي شرّفه الله تعالى ، بأنْ جعله خليفة له في الأرض ، فما أعظمه من تشريف ، ولكن ما أقبح جحود البعض من هؤلاء البشر .
ولكن في قبال ذلك الجحود ، ما أعظم بعض هذا البشر ، الذي سما ويسمو في كل شيء في الوجود ، إلاّ من إقراره وهو متصاغر بعبوديته لله تعالى . هذا الإقرار الذي بلغ لدى البعض من المخلصين ، درجة من الفناء المطلق في ذات الله ، حتى أصبح لا يرى شيئاً إلاّّ ويرى الله معه وبعده وقبله وفيه ، وتراه إذْ يناجي ربه قائلاً : ( عُميتْ عين لا تراك عليها رقيباً , وخسرت صفقة عبدٍ لم يكن لك فيها نصيباً ) . وهكذا هي العبودية الحقّة ، وهكذا كان هو الحسين ( عليه السلام ) ، هذا الإمام الذي فجّر ثورة عظيمة في كل شيء ... برجالها وأبطالها وبتضحياتها وبأهدافها .
لقد ضمّتْ هذه الثورة من الخصائص : الإيثار ، والتضحية ،وروح الاقتحام ، والإباء ، والشجاعة النادرة . وقَلَّ أن تجد لمثلها ثورة في تاريخ البشرية قاطبة ، من حيث المبادئ والإخلاص لله تعالى ؛ وهذا هو الذي جعل من هذا الإمام المظلوم والمنتصر في آن واحد ، مع إخوته وأهل بيته وصحبه ، يخلّدون في أعظم صفحات التأريخ وإلى الأبد .
وإنّي لأرى التأريخ وهو ينحني متصاغراً وهزِءاً من نفسه ومحتقراً لها ، إذْ هو يرى من نفسه ، أنّه لم يستطع أن يجد في صفحاته المشرقة الخالدة ، مكاناً أوفر بهاءً وأعظم منزلة ودرجة ، من تلك التي أُنزل بها الحسين ( عليه السلام ) وصحبه ، على الرغم من عظم المنزلة ؛ لأنً التأريخ يشعر بقرارة نفسه ، أنَّ درجة هؤلاء الأبطال الميامين وسيَّدهم ، لا تسعهم صفحاته المتواضعة ، لأنّ هذا التاريخ مهما عظم ، سيظل في الواقع ، أدنى منزلة من قطرة دم واحدة سالتْ من أجساد هؤلاء الأبطال الأباة .... لأنّ شخصاً كالحسين (عليه السلام) ، والذي بكته الأرض قبل ملائكة السماء ـ وأكبر من ذلك أنَّه بكاه ، وقبل استشهاده ، سيد الكائنات على الإطلاق ـ حريٌ به أنْ تكون منزلته في سويداء قلوب الأجيال المتعاقبة ، وإلى ما شاء الله من أيَّام الدنيا التي لا يعلم مداها أو عددها إلاّ الله ...
أمّا الآن ، فلنتناول جانباً من الجوانب الكثيرة والمشرقة لهذه الثورة العظيمة ، وليكن ذلك عن العوامل الرئيسية التي ساهمت ، بشكل أو بآخر ، في تفجير هذه الواقعة الأليمة ، مراعين في ذلك ضيق المساحة وعدم تناسبها مع الحجم الذي يستحقُّه الموضوع .
إنّ العوامل التي أسهمت بشكل فاعل وأثّرت في قيام نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، والتي فجّرت الموقف بوجه الدكتاتورية الأُموية الفاسدة ، يمكن إجمالها بثلاثة عوامل مهمة :
1ـ قضية البيعة ليزيد ، والمحاولات المتكرِّرة والملحَّة من سلطة يزيد الغاشمة ، لإجبار الإمام الحسين (عليه السلام) على الرضوخ لمطلبهم .
2 ـ إعلان أهل الكوفة نصرتهم للإمام من خلال آلاف الرسائل التي بعثوا بها إليه .
3 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي رأى الأمام في ضوءه ، أنّ تكليفه الشرعي يوجب عليه العمل بمحتواه لمواجهة الأوضاع الفاسدة .
أمّا العامل الأول ( البيعة ليزيد ) ، فلم يكن هذا الأمر بالجديد على الأمام ، ولا كان غائباً عن تفكيره ، فلطالما كان هذا الأمر يؤرِّق معاوية أيَّام خلافته ، وقد سعى جاهداً من أجل التمهيد لانتقال سلطة الخلافة من بعده لابنه يزيد .
والتاريخ يذكر لنا ، أنّ معاوية قد ذهب بنفسه ، أيَّام اغتصابه الخلافة ، إلى المدينة لكي يمهِّد لهذا الأمر ، بعد أن نقض شروط الصلح مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، فقام بتدبير موته بالسم ، والتقى ببعض وجهائها . وكان من أبرز مَن التقاهم : عبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، والإمام الحسين بن علي ( عليه السلام ) . وحاول من خلال ما عُرف به من دهاء ، إيصال فكرة استخلاف أبنه يزيد من بعده ، ولكنّ الوقائع التاريخية تقول إنّه أخفق في ذلك .
وبعد وفاته سارع ابنه يزيد ، بإرسال مبعوث عنه إلى المدينة ، محمّلاً إيّاه رسالتين في وقت واحد ، كانت الأُولى تحمل نبأ وفاة معاوية إلى أهل المدينة ، بينما كانت الثانية يطلب يزيد فيها من عامل المدينة ، بأن يستدعي الحسين ( عليه السلام ) ويأخذ البيعة منه عنوة وقسراً ، وإنْ رفض ذلك ، فلا خيار لك في قتله : ( خذ الحسين بالبيعة أخذاً شديداً ) .
لكن الإمام ( عليه السلام ) لم يستجب لهم ، ورفض أن يبايع ليزيد . وكان هذا الرفض من جانب الإمام الحسين ( عليه السلام ) يعني الشيء الكثير بالنسبة لمستقبل خلافة يزيد . وبعد أن تدارس الإمام ( عليه السلام ) وضعه ، قرَّر الانتقال من المدينة إلى مكَّة ، وكان في قرارة نفسه يعرف ، أنّ يزيداً سوف لا يتركه دون أن يخطِّط لاغتياله . وفعلاً كان حدس الإمام صحيحاً وفي مكانه ؛ إذْ إنّ يزيد أرسل ثلاثين رجلاً ليقوموا باغتيال الإمام ( عليه السلام ) .
أمّا رأي الإمام ( عليه السلام ) في هذه البيعة ورفضه لها ، فقد شاع خبره بين الناس : ( مثلي لا يبايع مثله أبداً ) . وفي كلام آخر للإمام (عليه السلام) فقد بيّن للناس حقيقة يزيد وما هو عليه من فساد : ( وعلى الإسلام السلام ، إذْ بُليتْ الأُمَّة براعٍ مثل يزيد ) .
أمّا العامل الثاني ، فهو دعوة أهل الكوفة للإمام ، ومؤازرتهم له ، والطلب إليه التوجُّه إلى العراق . وهم قد سمعوا حتماً أخبار رفض الإمام البيعة ليزيد ، وعدم رضوخه لسلطته الجائرة . ومن المعروف أنّ الكوفيين كانوا قد ذاقوا مرارة سياسة معاوية تجاههم ، فضلاً عن قيامه بقتل بعض الرموز البارزة من الكوفيين .
إذن ، والحال هذه ، فإنّ التكليف الشرعي يدعو الإمام الحسين ( عليه السلام ) لأن يستجيب لدعوة الكوفيين له ؛ طالما أبْدوا له تأييدهم واستعدادهم للوقوف إلى جانبه .
إضافة إلى أنّ هذه الدعوة هي بمثابة حجة على الإمام ألقاها الكوفيون في عنقه ، وعليه ينبغي الاستجابة لهذه الدعوة ؛ لأنّها تلتقي ضمنياً مع مبدأ الأمر بالمعروف الذي هو العامل الثالث من عوامل الثورة .
والحقيقة أنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تعتبر الأكثر حضوراً في ذهن وتخطيط الإمام ( عليه السلام ) ، خاصةً وهو يرصد عن وعي ما آلت إليه الأمور من الفساد والجور ، وانتهاك حدود الله ، في ظل حاكم فاسد مثل : يزيد .
والدليل على أنّ الحسين ( عليه السلام ) كان جُلّ تفكيره منصبّاً للعمل بموجب مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو ما نراه في خطاباته وحواراته في تلك الفترة ، والتي عبّرت ، بشكل أو بآخر ، عن رفض الإمام ( عليه السلام ) المطلق لسلطة يزيد اللاَّشرعية . وإنّ هذه الخطابات والمراسلات كانت تشير بوضوح ، إلى أنّه كان يتحرَّك وفقاً لمعيار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى أنّه ( عليه السلام ) قد ذكر ذلك صراحة ، معتبراً هذا المبدأ شعاره الرئيسي ، الذي ينبغي السعي إلى تحويل محتواه إلى واقع عملي ملموس . ونجد ذلك في وصيَّته لأخيه محمد بن الحنفية ، إذْ يقول : ( إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ؛ وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّة جدِّي . أُريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر ، وأسير بسيرة جدِّي وأبي ) .
وعلى العموم يمكننا في الختام أن نلمس بعض الترابط الذي يجمع ما بين هذه العوامل الثلاثة رغم خصوصية كل منهما .. فنستطيع القول :
إنّه بناءً على موقف الإمام ( عليه السلام ) الرافض وبشدة لبيعة يزيد ، وتحرُّكه من المدينة إلى مكَّة ، فهذا التحرُّك يعني من ضمن ما يعنيه ، أنّ موقف الإمام ( عليه السلام ) وفي هذا الظرف بالذات ، كان موقفاً دفاعياً عن النفس ، ولكنّه بوجهه الآخر ينطلق من موقف مبدأي للإمام ( عليه السلام ) فحواه : أنّ هذا الرفض للبيعة هو امتناع عن فعل منكر ؛ لأنّ البيعة لفاسد من أنكر المنكرات .
بينما العامل الثاني ( وأقصد به : استجابة الإمام ( عليه السلام ) لدعوة أهل الكوفة له والتوجُّه إلى العراق ؛ إذْ ناصروه من خلال آلاف الرسائل الموجَّهة إليه منهم ) ، فإنّه يعني التكليف الشرعي للإمام ( عليه السلام ) ، يجيز له قبول هذه الدعوة ؛ لأنّ هذه الدعوة تعني في أحد وجوهها : أنّها حجة ملقاة على الإمام ( عليه السلام ) ، وإنّه ليدرك ذلك تماماً .
بينما وجهها الآخر في حالة استجابته لدعوة الكوفيين ، فإنّ الإمام ( عليه السلام ) سيكون قد انتقل من محدودية ظرف العامل الأوَّل ، والتي كانت ـ كما قلنا ـ مرحلة دفاع عن النفس ، إلى مرحلة أخرى، تكون في مرتبتها الأُولى التهيّؤ والاستعداد ، بينما مراحلها اللاحقة سيكون من شأنها توفير بعض عناصر القوة التي يستطيع الإمام ( عليه السلام ) من خلالها الانتقال من مرحلة الدفاع المحض عن النفس ، إلى مرحلة الهجوم إنْ تطلَّبت المرحلة ذلك ...
أمّا العامل الثالث ( وأعني به : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ، فأنّ هذا العامل هو الحاكم على العاملين السابقين ، لا بل هو الميزان الذي يزن به الإمام كل المستجَدَّات والتطوُّرات ، وعلى كل الأصعدة ، بحيث إنّ الإمام ( عليه السلام ) جعله الشعار المركزي لنهضته ، منذ تحرُّكه من المدينة المنوَّرة ، مروراً بمكّة ، وإلى لحظة استشهاده هو وأهل بيته وصحبه ( سلام الله عليهم أجمعين ) .