عربي
Monday 25th of November 2024
0
نفر 0

من معطيات الثورة الحسينية

 

 

حريٌ بنا و نحن نعيش أيام ذكرى استشهاد أبي الأحرار الإمام الحسين( عليه السلام ) أن نستفيد في حياتنا قبل مماتنا من عطاء ثورته المباركة، حيث أن لكلِّ حركة إصلاحية و ثورة اجتماعية تغييرية معطياتها سواء أكانت سلبية أو إيجابية، ولا يخفى على كل حرٍ أبيٍ مدى المعطيات الإيجابية للثورة الحسينية ومدى استفادة الأمة الإسلامية وغيرها من هذه المعطيات، بل حديثاً قال غاندي:( تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر ).

ومع شديد الأسف نلاحظ أحياناً بعض من خطباء المنبر الحسيني يقوم بالتركيز على الجانب المأساوي من قتل الإمام الحسين(عليه السلام) وإثارة العواطف الجيًّاشة بالبكاء فقط، بدلاً من مزج تلك العواطف بالأفكار النيّرة، إثارة العقول، و إفادة الناس من هذه الثورة المباركة ومن معطياتها المتعدِّدة الأبعاد لتعود على الناس بالنفع الكثير.

وحريٌ بنا أن نركِّز في هذا المقال المتواضع على شيءٍ من معطيات الثورة الحسينية العقائدية والأخلاقية والتضحوية ولإصلاحية والمعنوية والروحية، آملين من الله التوفيق للإفادة والاستفادة.

أولاً: العطاء العقائدي

يحدثنا التاريخ المعتبر أن الإمام الحسين(عليه السلام) كما جاء في سيرته عندما رفض أن يبايع يزيد بن معاوية، وبينما هو في طوافه في موسم الحج أتاه هاتف إلهامي يأمره بأن يحلَّ من إحرامه وأن يجعل حجته عمرة مفردة وإلاًّ سوف يُقتل وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة، امتثل الإمام الحسين(عليه السلام) لهذا الهاتف، وقد كانت هناك إرهاصاتٌ بذلك، كان الإمام(عليه السلام) على علمٍ بها، وعندما كان في المدينة المنورة لزيارة جده(عليه السلام) وعند القبر بينما هو يزور غفا غفوة رأى فيها جدّه(عليه السلام) قائلاً له:((إنًّ لك منزلة عند الله لن تنالها إلاًّ بالشهادة)).

إنًّ امتثال الإمام الحسين (عليه السلام) و إحلال إحرامه وخروجه من مكة للحفاظ على حرمة الكعبة يعد قمة في إيمانه بقضاء الله وقدره مع علمه بأنه مقتول لا محالة لرفضه مبايعة يزيد وتمرده على فسقه وفجوره العلني بل على الظلم و الاستبداد .

وموقف آخر يضربه لنا الإمام(عليه السلام) في هذا الجانب، عندما رُمي عبد الله الرضيع بسهم حرملة في كربلاء، أخذ الإمام(عليه السلام) دمه و رماه إلى السماء قائلاً:(( هوّنَ عليَّ ما نزل بي إنَّه بعين الله)) يعلّمنا الإمام(عليه السلام) إنًّ كلًّ ما ينزل بنا هو من الله سبحانه وتعالى فكلّه هيّن وسهل في جنب الله وفي سبيله، وهو القائل (عليه السلام):(( رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على عظيم بلاءه فيوفينا أجور الصابرين )).

ثانياً: العطاء الأخلاقي

لقد أعطت ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) دروساً أخلاقية عظيمة، مما يجعل المرء المنصف يتوقف عندها، و يتأمل فيها ومن تلك المواقف، موقف الإمام (عليه السلام) مع الحر الرياحي وأصحابه، عندما شارفوا على الهلاك من شدة العطش والتعب وهم يسيرون في الصحراء بحثاً عن الإمام(عليه السلام) وأصحابه، وحين رآهم الإمام(عليه السلام) وهم بحالة يرثى لها وعلى الرغم أنهم من أتباع يزيد و أزلامه، أنقذهم الإمام(عليه السلام) من الهلاك حيث أمر أصحابه أن يسقوا القوم من الماء ويرشَّفوا الخيل ترشيفاً.

لاحظ عزيزي القارئ مدى أخلاقيات الإمام (عليه السلام) الإنسانية، كان باستطاعته أن يفنيهم عن بكرة أبيهم ولكنّ الأخلاق الإسلامية الرفيعة تأبى ذلك.

بل إنَّ الإمام (عليه السلام) ومع عظمته و مكانته وهيبته وهو ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله)،سقى أحدهم بيده المباركة الشريفة ،وهو علي بن الطعًّان، ومع شديد الأسف هذا اللعين نفسه شارك في قتل الإمام الحسين(عليه السلام).

وقد شملت أخلاقيات الإمام الحسين (عليه السلام) حتى الحيوان و الرفق به حيث لم ينسَ خيولهم بل أمر أصحابه أن يرشفوا الخيل ترشيفاً، هذا مع حاجة الإمام (عليه السلام) إلى الماء وهو في سفر، مما يعطينا درساً في العفو و الرحمة و الرفق و الشفقة والإنسانية، درساً عملياً تراه بعين القلب وكأنه متجسدٌ أمامك ينبض بالحيوية و الحياة مما يؤثر تأثيراً بالغاً على النفس ويصقلها صقلاً أخلاقياً جميلاً.

درسٌ آخر يعطينا إيَّاه الإمام(عليه السلام) في المساواة و التواضع ،عندما استشهد العبد جون وضع خدَّه على خدّه وهو يبكيه ويندبه تماماً كما فعل مع أبنه علي الأكبر(عليه السلام).

وموقف آخر يدلُّ على عظمة و نبل الإمام(عليه السلام) وأخلاقه العالية، كما جاء في سيرته الكربلائية، بكاؤه على أعدائه يوم المعركة في كربلاء وعندما سُئل عن بكاءه قال (عليه السلام):((أبكي على هؤلاء سوف يدخلون النار بسبب قتلي)) هذا الموقف النبيل يربينا، ويروّض أنفسنا على الرحمة والرأفة والتسامح والعفو حتى عن الأعداء كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): ((لا يحيف على من يبغض ـ أي لا يظلم من يبغض ـ ولا يأثم في من يحب))، وموقف آخر من أبي الفضل العباس(عليه السلام) عندما نزل المشرعة بعد أن أجلى الأوغاد عنها لأنهم منعوا معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) من الماء، وبينما كان العباس(عليه السلام) يملأ القربة أحسَّ ببرد الماء وهو عطشان عطشاً شديداً فملأ كفه ليشرب لكنه تذكّر عطش أخيه الحسين(عليه السلام) حين ذاك رمى الماء من كفّه وقال:(هيهات أشرب الماء و أخي الحسين عطشان) هذا الموقف العظيم يدلُّ على عظمة شخصيَّة العباس (عليه السلام) وعلى التربية الإسلامية الأصيلة التي تلقاها على يد والده الإمام علي(عليه السلام) الذي زرع فيه تلك الروح الأبية والمبادئ الإسلامية النبيلة

ثالثاً: العطاء الإصلاحي

إن مبدأ خروج الإمام الحسين(عليه السلام) على فساد وإفساد يزيد قام على أساس الإصلاح في الأمة وتطبيق أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو القائل:(( لم أخرج أشراً و لا بطراً و لا ظالماً و لا مفسداً وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي أُريد أن آ مر بالمعروف و أنهى عن المنكر)) إنّ الإمام (عليه السلام) بتقديمه الغالي والنفيس من عرضٍ ومالٍ وأهلٍ وأولادٍ وأصحابٍ وكل شيء في سبيل الله، ومن أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد رفع من أهمية هذا الأصل في عيون المؤمنين، في الوقت الذي توقف فيه الآخرون لدى تطبيقهم لهذا الأصل عند حدود منع الضرر الشخصي، وبذلك قد حطّوا من قيمة هذا الأصل و أهميته.

رابعاً: العطاء التضحوي

إن ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) تبقى على مر العصور مثالاً يُحتذى به في التضحية والجهاد والاستشهاد ومقارعة الظلم والظالمين، لقد قدَّم الحسين(عليه السلام) نفسه قرباناً في سبيل استقامة الدين الذي جاء به محمد(صلى الله عليه وآله) حتى قيل:(الإسلام محمدي الوجود حسينيُ البقاء) أي كان وجود الإسلام وظهوره بالنبي محمد(صلى الله عليه وآله) وكان استمراره وبقاؤه بتضحيات الإمام الحسين(عليه السلام)، حتى الشباب الذين كانوا في عمر الزهور اليافعة قدموا أنفسهم للاستشهاد في سبيل الحق، مثل علي الأكبر، هذا البطل الشاب الذي كان أول من استشهد من أهل الحسين(عليه السلام)، وله موقف يدلُّ على عظمته و شجاعته، وهو عندما غفا الإمام الحسين(عليه السلام) وهم في الطريق إلى العراق رأى رؤيا استرجع الإمام(عليه السلام) منها بعد غفوته، وحين سمعه علي الأكبر سأله: لمَ استرجعت يا أبي، قال:((سمعت هاتفاً يقول القوم يسيرون والمنايا تسير بهم،)) فقال علي الأكبر: ألسنا على الحق يا أبي ؟ قال:((بلى با بني،)) قال:أذن لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموت علينا.

هذا الموقف ومواقف كثيرة في كربلاء، مثل خروج القاسم بن الحسن(عليه السلام) للجهاد واستشهاده في سن لم يبلغ الحُلم، أصبحت تلك المواقف البطولية الاستشهادية نبراساً يسير عليه معظم المجاهدين في تقديم أنفسهم من أجل الإسلام العزيز ونصرته، والذي حصل في لبنان وفلسطين من عملياتٍ استشهادية مثالٌ على ذلك، بل حتى الأمهات في لبنان و فلسطين في تقديمهنًّ أبنائهنًّ للاستشهاد كنَّ يقتدين بالأمهات اللاتي قدًّمن أبنائهنَّ في كربلاء من أجل نصرة الحق.

خامساً: العطاء الروحي و المعنوي

لقد كانت ملحمة الإمام الحسين(عليه السلام) مسرحاً للعطاء الروحي و المعنوي، يقول مفكر الثورة الإسلامية الشهيد السعيد الشيخ مرتضى المطهَّري(رح):( من خلالهاـ أي الثورة الحسينية ـ يستطيع الإنسان أن يدرك عظمة القدرة الأخلاقية و الروحية و المعنوية للبشر، كما يستطيع أن يفهم ويستوعب حجم المقدرة البشرية على العطاء و التضحية و الظهور بمظهر التحرر و الدفاع عن الحق وعبادة الحق تعالى رب العباد).

أقول: والمتتبع لقضية كربلاء يلاحظ بروز معاني الصبر والتحمل والشجاعة والتضحية والإقدام وعدم التردد والحيرة و الصبر والرضا والتسليم والمروءة والكرم والنبل والإيثار والسماحة.......الخ من الصفات الروحية والمعنوية التي خلّدها الإمام الحسين(عليه السلام) و أصحابه.

كما يعجز القلم عن وصف الحالة المعنوية التي تمتعوا بها في ذلك الوقت التضحوي الصعب على الإنسان.

بعد أن عرفنا أهمية النهضة الحسينية للإسلام و أهميتها في حياتنا، ماذا علينا عمله حتى نرفع أنفسنا إلى مستوى المسؤولية في إصلاح مجتمعنا ونرفع قدرنا عند الله والرسول( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) مع الأسف الشديد إنَّ من عادة أهل المنبر الحسيني عرض و تضخيم الجانب المأساوي والتراجيدي في قضية كربلاء وإبراز جانب الظلم والقسوة التي حلت على الإمام الحسين(عليه السلام) وأهله وأصحابه عندما يريدون تضخيم القضية- وهي ضخمة بذاتها ومأساتها- بينما يفترض إبراز الجوانب المعنوية والروحية التي تعود على المرء بالفائدة الكبرى في مسيرة حياته، لهذا يجب علينا التأسّي والتأثُّر واقتباس الجوانب العظيمة والمشرقة التي سطرها الإمام الحسين (عليه السلام) بدمه وتضحياته والمضي قدماً نحو النهوض بالأمة وإصلاحها عن طريق تطبيق الأصل المنسي لذي الناس ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ) واقتباس تلك الأنوار المعنوية والروحية التي شُعّت من نور الإمام الحسين(عليه السلام) وتنوير نفوسنا منها حتى نصل إلى أكمل الإيمان ونفوز بسعادة الدارين وكما قال تعالى:(وَجِيهاً فِي الْدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ).

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

لا بدعة مع الدليل نصّاً أو إطلاقاً
ترجمة فاطمة الزهراء ( عليها السلام )
شعر الامام زين العابدين عليه السلام
الحياة السياسية في عصر الامام العسكري عليه ...
ترجمة الإمام علي الهادي ( عليه السلام )
تعرف على اهتمام الإسلام في اختيار الأسماء الحسنى ...
زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد
وصايا الإمام الحسن المجتبى(ع)
التشيّع إتجاه فكري وسياسي
الحياة العلمية والسياسية في زمن الإمام الباقر ...

 
user comment