(الله الله في القرآن، لا يسبقكم الى العمل به غيركم) الإمام علي عليه السلام.
تعتبر قضية الحقوق من أكثر القضايا حساسية، خاصة اذا تعلق الامر بحقوق الانسان، فقد اتخذت في العقود الاخيرة ابعادا سياسية فضلا عن ابعادها الاخلاقية والحقوقية، وليس تزايد المنظمات المعنية بالحقوق الا دليلٌ على الاهمية البالغة التي تكتسبها هذه القضية في عالمنا الراهن، ولكن كون اغلبية هذه المنظمات غربية المنشأ أحدث التباساً لدى شريحة كبيرة من المسلمين حتى صاروا يترقبون طلوع الشمس من (الغرب).
اننا نعتقد ان اول من وضع حجر الاساس في ميدان الحقوق هم الانبياء والرسل، وان الانطلاقات القصيرة التي قام بها الانسان لمعرفة هذه الحقوق ولإحيائها طوال القرون الماضية ليست الا اقتباسات مما اسسه الانبياء عامة والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل خاص. أجل، لقد كان عالم ما قبل الإسلام يعيش في سبات مطبق، وكان الناس يعيشون حياة أقرب إلى الوحشية، فأنزل الله سبحانه وتعالى أحكامه على يد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يندهش المرء من عظمتها، وجعل لكل شأن من شؤون الحياة آداباً ورسوماً، وجعل لحياة الإنسان أحكاماً من قبل انعقاد النطفة إلى ما بعد وفاته ودفنه، ومثلما شرّعَ أحكاماً للشؤون العبادية شرّع لشؤون الإنسان الاجتماعية والسياسية قوانين وأحكاماً أيضاً.
إن ما تمتاز به الحقوق التي جاء بها الإسلام عن تلك التي توصّل إليها التصور البشري هو طابعها الشمولي فالإسلام حينما وضع الحقوق التي تضمن للبشرية كرامتها وبقاءها، لم يتجاهل حقوق سائر الكائنات التي يتفاعل معها الإنسان، بل لم يتجاهل حتى حقوق جوارح الإنسان نفسه اذا صرفنا النظر عن الدقة المنطقية، يمكننا تقسيم هذه الحقوق الى ثلاثة أقسام، هي:
*أولا: الحقوق التي يُقرُّها الإسلام*
حينما خلق الله الإنسان ركب فيه العقل الذي هو حجة الله الباطنة كما جاء في الرواية، \"إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والانبياء والائمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول\" (1) لكن سراج هذا العقل ظل معتماً نتيجة لتلبد أدخنة الجهل وجنوده حوله؛ استمر هذا الوضع إلى أن بعث الله رسله الكرام ليثيروا للناس دفائن عقولهم كي تبدأ البشرية سيرها نحو الكمال.
يقول العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (رحمة الله عليه) في هذا الصدد: \"نحن معاشر الآدميين لما كنا نطلب بأفعالنا الاختيارية تتميم نواقص وجودنا ورفع حوائج حياتنا وكانت أفعالنا ربما طابقت سعادتنا المطلوبة لنا وربما خالفت، اضطررنا في ذلك إلى رعاية جانب المصلحة التي نذعن بأنها مصلحة، أي فيها صلاح حالنا وسعادة جدّنا، وأدى ذلك إلى الإذعان بقوانين جارية وأحكام عامة، واعتبار شرائع وسنن اجتماعية لازمة المراعاة، واجبة الاتباع لموافاتها المصلحة الإنسانية وموافقتها السعادة المطلوبة، فهذه الأحكام العملية والأمور الاعتبارية دعاوٍ اعتقادية ومخترعات ذهنية، وضعها الإنسان ليتوسل بها إلى مقاصده الكمالية وسعادة الحياة، فما كان من الأعمال مطابقاً لسعادة الحياة وصفها بالحسن ثم أمر بها وندب إليها، وما كان على خلاف ذلك وصفها بالقبح والمساءة ثم نهى عنها وحذر منها، وحسن الفعل وقبحه موافقته لغرض الحياة وعدمها\" (2).
إن الإسلام الذي أقر (حلف الفضول) الذي عقدته قريش قبل البعثة بمشاركة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يبتعد عن إعلان \"حقوق الإنسان والمواطن\"، الذي أقرته فرنسا عام 1789م، ولو في بعض بنوده، ولهذا يمكن القول بأن \"وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام\" التي أصدرتها منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1987م في طهران ليست سوى تهذيب لما جاء في \"إعلان حقوق الإنسان والمواطن\".
بقي أمر لابد من الإشارة إليه، وهو أن الإسلام لم يكتفٍ بتشريع حقوق من شأنها أن تصون كرامة الإنسان، بل جعل هذه الحقوق مقدمة حتى على حقوق الباري عز وجل، حيث يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): \"جعل الله سبحانه حقوق عباده مقدمة على حقوقه، فمن قام بحقوق عباد الله كان ذلك مؤدّيا إلى القيام بحقوق الله\" (3).
*ثانيا: الحقوق التي اختص بها الإسلام*
إذا كانت بعض الحقوق في متناول التصور البشري، حقوق لا يهتدي إليها إلا ذوو العقول النيرة التي لم تنجسها الجاهلية بأنجاسها؛ من هذه الحقوق تلك التي تزخر بها \"رسالة الحقوق\" للإمام زين العبادين علي بن الحسين (عليه السلام)، تتضمن هذه الرسالة خمسين حقلاً يستطيع الفرد من خلالها أن يعرف مدى تمسكه بالإسلام، إنها رسالة تختزن في أعماقها معالم الشخصية الصالحة التي يهدف الإسلام إلى إيجادها، ومن خصوصيات هذه الحقوق كونها غير ملزمة خارج أسوار محكمة الله ومحكمة الضمير.
قبل شروعه في تفصيل حقوق هذه الرسالة واستعراض عللها، قام الإمام (عليه السلام) بذكر هذه الحقوق بشكل مختصر في مقدمة مشوقة قال فيها: \"اعلم رحمك الله أن لله عليك حقوقاً محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنة سكنتها أو منزلة نزلتها أو جارحة قلبتها او آلة تصرفت بها؛ بعضها أكبر من بعض، وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق ومنه تفرع ثم ما أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك، فجعل لبصرك عليك حقاً ولسمعك عليك حقاً وللسانك عليك حقاً وليدك عليك حقاً ولرجلك عليك حقاً ولبطنك عليك حقاً ولفرجك عليك حقاً فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الافعال، ثم جعل عز وجل لافعالك حقوقا، فجعل لصلاتك عليك حقا ولصومك عليك حقا ولصدقتك عليك حقا ولهديك عليك حقا ولأفعالك عليك حقا، ثم تخرج الحقوق منك الى غيرك من ذي الحقوق الواجبة عليك وأوجبها عليك حقوق ائمتك، ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رحمك، فهذه حقوق يتشعب منها حقوق، فحقوق أئمتك ثلاثة أوجبها عليك حق سائسك بالسلطان، ثم سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك وكل سائس إمام وحقوق رعيتك ثلاثة اوجبها عليك حق رعيتك بالسلطان، ثم حق رعيتك بالعلم فان الجاهل رعية العالم، وحق رعيتك بالملك من الازواج وما ملكت من الايمان، وحقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة فأوجبها عليك حق أمك ثم حق أبيك ثم حق ولدك ثم حق أخيك ثم الأقرب فالأقرب والاول فالأول ثم حق مولاك المنعم عليك ثم حق مولاك الجاري نعمته عليك، ثم حق ذي المعروف لديك ثم حق مؤذنك بالصلاة ثم حق إمامك في صلاتك ثم حق جليسك ثم حق جارك ثم حق صاحبك ثم حق شريكك ثم حق مالك ثم حق غريمك الذي تطالبه ثم حق غريمك الذي يطالبك ثم حق خليطك ثم حق خصمك المدعي عليك ثم حق خصمك الذي تدعي عليه ثم حق مستشيرك ثم حق المشير عليك ثم حق مستنصحك ثم حق الناصح لك ثم حق من هو أكبر منك ثم حق من هو أصغر منك ثم حق سائلك ثم حق من سألته ثم حق من جرى لك على يديه مساءة بقول او فعل او مسرّة بذلك بقول او فعل عن تعمّد منه او غير تعمد منه ثم حق أهل ملّتك عامة ثم حق أهل الذمة ثم الحقوق الجارية بقدر علل الاحوال وتصرّف الاسباب، فطوبى لمن اعانه الله على قضاء ما اوجب عليه من حقوقه ووفقه وسدّده (4).
*ثالثا: حقوق الحيوانات والطبيعة*
لاريب أن كل ما في السماوات والارض مسخر للإنسان، اذ يقول الله عز وجل: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه) (5)، ولكن هذا التسخير لا يعني إطلاق العنان لحرية الإنسان، وإنما يعني أن للإنسان حق التصرف في كل ما سُخّر له ضمن حدود حاجياته، أي في إطار جلب المنفعة ودفع المضرة، فالحديث عن حقوق الحيوانات والطبيعة هو، في الواقع، حديث عن واجبات الإنسان تجاه هذه المخلوقات وآداب تعامله معها.
1ـ حقوق الحيوانات:
من حقوق الحيوانات التي ذكرت بالتفصيل تلك التي تختص بالدواب، فقد جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: \"للدابة على صاحبها خصال ست: يبدأ بعلفها اذا نزل ويعرض عليها الماء اذا مر به، ولا يضرب وجهها فانها تسبح بحمد ربها، ولا يقف على ظهرها الا في سبيل الله عز وجل، ولا يحملها فوق طاقتها ولا يكلفها من المشي ما لا تطيق\" (6). إلى جانب هذا الحديث الشريف وردت عدة أخبار قد نهتدي بها إلى بعض حقوق الحيوانات. منها قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): \"من قتل عصفورا عبثاً جاء يوم القيامة وله صراخ حول العرش يقول: ربّ سلْ هذا فيم قتلني من غير منفعة\" (7)، ومنها إخبار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه عن المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها.
2ـ حقوق الطبيعة:
قد يبدو الحديث عن حقوق الطبيعة غريبا للوهلة الأولى، وهذا عائد إلى قصورنا عن إدراك أسرار الطبيعة كما جاء في الآية الكريمة (تسبح له السماوات السبع والارض ومن فيهن وان من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (8)، ونتيجة لجهلنا بهذه الاسرار قد يقوم أحدنا بعمل يؤذي به الطبيعة دون أن يشعر، فعلى سبيل المثال جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: \"إن الأرض تضجّ إلى الله تعالى من بول الأغلف\" (9). انطلاقاً من هذا الحديث الشريف يمكننا أن ندرك أن للأرض حقوقاً، منها حقها في ألاَّ يتبول عليها الأغلف ـ أي الذي لم يختن ـ صحيح أن أمثال هذه الحقوق ليست في متناول العقل البشري، لذا ما علينا إلا الامتثال لأحكام الشريعة، فإذا مر علينا حكم (ككراهة التخلي تحت الشجرة المثمرة أو قطف ثمارها قبل نضجها...) ينبغي التسليم به وإدراجه في لائحة حقوق الطبيعة علينا.
كان ما تقدم مجرد محاولة لإعطاء صورة عن مكانة الحقوق في التشريع الاسلامي لاريب أن الغوص في أعماق تراثنا كفيل بإمدادنا بما يغنينا عن تشريعات غيرنا ليس في مجال الحقوق فحسب، بل في سائر المجالات أيضاً.
---------------
الهوامش:
1ـ ميزان الحكمة ج6/402.
2ـ الميزان في تفسير القرآن ج7/ص119ـ ج8/ص56.
3ـ ميزان الحكمة ج2/ص480.
4ـ رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عليه السلام).
5ـ سورة الجاثية: الآية 13.
6ـ كتاب الخصال ص 330.
7ـ بحار الأنوار ج64/ص270.
8ـ سورة الاسراء: الآية 44.
9ـ الوسائل الباب 52 من أبواب أحكام الأولاد.
*كاتب من الجزائر.