عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

الإسم: علي (عليه السلام)

اللقب: أمير المؤمنين

الكنية: أبو الحسن

اسم الأب: أبو طالب بن عبد المطلب

اسم الأم: فاطمة بنت أسد

الولادة: 13 رجب 23ق. هـ

الشهادة: 21 رمضان 40 هـ

مدّة الإمامة: 30 سنة

القاتل: عبد الرحمن بن ملجم

مكان الدفن: النجف الأشرف

الولادة المباركة:

ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) في جوف الكعبة من أبوين صالحين هما: أبو طالب عمّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومؤمن قريش. وفاطمة بنت أسد بن هاشم.

مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

نشأ علي(عليه السلام) في كنف والديه، وبعد سنوات من ولادته المباركة تعرضت قريش لأزمة اقتصادية خانقة كانت وطأتها شديدة على أبي طالب، إذ كان رجلاً ذا عيال كثيرة، فاقترح النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأخذ علي (عليه السلام) ليخفّف العبء عن أبي طالب (عليه السلام)، وكان عمره ست سنوات. فنشأ في دار الوحي ولم يفارق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حال حياته إلى وفاته، وهو القائل: ((ولقد كنت أتّبعه إتّباع الفصيل أثر أمّه. يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً. ويأمرني بالاقتداء به وقد عاش مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدايات الدعوة .. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. كما سبق إلى الإيمان والهجرة ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما)).

وفي الواقع أنّ علياً (عليه السلام) ولد مسلماً على الفطرة، ولم يسجد لصنم قط (عليه السلام) باعتراف الجميع.

علي (عليه السلام) والدعوة:

عاش علي (عليه السلام) مع الدعوة في مرحلتها السرية إلى أن نزل قوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فجمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقرباءه ودعاهم إلى كلمة التوحيد، فلم يستجب له سوى علي (عليه السلام) وكان أصغرهم سناً. فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أنت أميني ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي)) وقد اشتهر هذا القول بحديث الدار.

علي في المدينة:

هاجر علي (عليه السلام) الى المدينة المنورة ملتحقاً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما نفّذ وصيته وردَّ أماناته الى أهلها. فدخل معه المدينة وعمل الى جانبه في بناء المجتمع الإسلامي، وتركيز دعائم الدولة الإسلامية.

زواج علي (عليه السلام):

وفي السنة الثانية للهجرة تزوج علي (عليه السلام) من سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان ثمرة هذا الزواج الحسن والحسين وزينب. فشكّلت هذه الأسرة النموذجية المثل الأعلى للحياة الاسلامية في إيمانها، وجهادها، وتواضعها، وأخلاقها الكريمة.

علي (عليه السلام) في حروب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

شارك علي (عليه السلام) الى جانب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مجمل الحروب والغزوات التي خاضها باستثناء غزوة تبوك، حيث تخلف عنها بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وفي تلك الغزوة قال له (صلى الله عليه وآله وسلم): ((ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي)).

وقد كان له في كل تلك المعارك السهم الأوفى، والنصيب الأكبر من الجهاد والتضحية، ففي معركة بدر التي قتل فيها سبعون مشركا،ً قتل علي (عليه السلام) ستة وثلاثين منهم.

وفي معركة أُحُد حينما فرَّ المسلمون، وجرح النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، صمد مع ثلّة قليلة من المؤمنين يذودون عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى منعوا المشركين من الوصول إليه.

وأمّا في معركة الأحزاب فقد كان حسم المعركة لصالح المسلمين على يديه المباركتين، حينما قتل عمرو بن ود العامري، بضربة قال عنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((ضربة علي يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين)).

وفي معركة خيبر، وبعد أن فشل جيش المسلمين مرتين في اقتحام الحصن اليهودي المنيع قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((لأعطيّن الراية غداً رجلاً يحبّ اللّه ورسوله، ويحبّه اللّه ورسوله، كرّاراً غير فرّار لا يرجع حتى يفتح اللّه على يديه)) فأعطى الراية لعلي (عليه السلام)، وفتح الحصن، وكان نصراً عزيزاً بعد ما قتل (عليه السلام) مرحب.

وفي معركة حنين انهزم المسلمون من حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصمد علي (عليه السلام) وبعض بني هاشم يدافعون عن رسول الاسلام بكل شجاعة وعزيمة حتى أنزل الله نصره عليهم.

علي بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

حينما فاضت روح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بارئها. انصرف علي (عليه السلام) لتجهيزه ودفنه بينما كان بعض وجوه المسلمين يتنازعون الأمر بينهم في سقيفة بني ساعدة، حتى استقر رأيهم على تنصيب أبي بكر خليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ولعدم شرعية الخلافة لم يبايع علي (عليه السلام) في البداية حتى رأى راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فخشي (عليه السلام) إن لم يبايع أن يرى في الإسلام ثلماً أو هدماً فتكون المصيبة به أعظم. ولذلك لم يعتزل الحياة السياسية العامة فنجد في علي (عليه السلام) المدبّر، والمعالج ،والقاضي، لجميع المشاكل الطارئة طيلة عهود أبي بكر وعمر وعثمان، مما لفت أنظار الأمة انذاك إلى موقعية علي (عليه السلام) في إرجاع معالم الدين، وتصحيح الإنحراف، وتقويم الإعوجاج الذي تسبّبت به السلطة، وولاتها آنذاك ممّا دفع الناس في جميع البلاد الإسلامية إلى الثورة على الحكم المتمثل في شخص عثمان بن عفّان وانطلقوا إلى بيت علي (عليه السلام) مبايعين.

وكانت المرّة الوحيدة التي يبايع فيها الناس شخصا،ً ثم يتولى أمور الخلافة بصورة شرعية خلافاً للمرات السابقة التي كان ينصّب فيها الخلفاء أولاً، ثم يُحمل الناس على مبايعتهم.

حكومة علي (عليه السلام):

امتازت حكومة علي (عليه السلام) برجوعها الى الينابيع الأصيلة للاسلام كما أمر بها الله تعالى. ومما امتازت به حكومته (عليه السلام):

أولاً: المساواة في العطاء.

ثانياً: رد المظالم التي تسبّب بها الولاة السابقون.

ثالثاً: تشديد الرقابة على بيت مال المسلمين.

رابعاً: عزل الولاة المنحرفين، واستبدالهم بنماذج خيّرة وكفوءة.

خامساً: مراقبة الولاة، وتزويدهم بالمناهج والخطط، من أجل إقامة حكومة العدل والإسلام على الأرض.

وهذا الأمر أزعج المترفين من أغنياء المسلمين انذاك. الذين أحسّوا بالخطر يهدّد مصالحهم فأعلنوا العصيان والتمرّد.

حروب علي (عليه السلام):

إستمرّت حكومة علي (عليه السلام) خمس سنوات، عمل خلالها مجاهداً من أجل التصحيح والتقويم والعودة إلى الأصالة، وإقامة حكم الله على الأرض. وخاض خلالها حرب الجمل في البصرة مع الناكثين، الذين أزعجهم مبدأ المساواة في العطاء بين المسلمين، بالإضافة إلى رفض علي (عليه السلام) الانجرار وراء مطامعهم وإعطائهم ولاية الكوفة والبصرة، فنكثوا بيعته (عليه السلام) وطالبوه بدم عثمان وجمعوا له (30) ألف على رأسهم عائشة، وطلحة والزبير. ولم تنفع الكتب التي أرسلها (عليه السلام) لإخماد الفتنة فاضطر إلى محاربتهم، والقضاء على الفتنة من أساسها. ثم كانت حرب صفين مع معاوية، الذي كان من أشدّ الولاة فساداً ودهاءاً. وكاد الإمام أن ينتصر عليه انتصاراً ساحقاً لولا الخديعة التي اصطنعها معاوية بدعوى الاحتكام إلى كتاب الله. هذه الحيلة انطلت على قسم من جيش علي (عليه السلام) وهم المعروفون بالخوارج، الذين خرجوا عليه فأجبروه على قبول التحكيم، ثم رفضوه ورفعوا شعار (لا حكم إلاّ لله). فحاربهم علي (عليه السلام) في النهروان بعد أن وعظهم وأقام الحجة عليهم، وقضى عليهم، مبيّناً فساد شعارهم بأنّه((كلمة حق يُراد بها باطل..)) وكان عددهم (4000) خارجي.

إستشهاد علي (عليه السلام):

لم يكتب لهذه التجربة الفريدة في الحكم أن تستمر وتعطي ثمارها، حيث استشهد الإمام علي (عليه السلام) في مسجد الكوفة، عاصمة الخلافة على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم أثناء الصلاة.

وبذلك اختتم علي (عليه السلام) عبادته الكبرى، التي افتتحها في جوف الكعبة، وأنهاها في محراب الكوفة. ليقدّم للأمة المُثُل العُليا في التواضع، والشجاعة، والزهد، والطهارة، والاخلاص، والحلم، والعدل.

صفة علي (عليه السلام) في حديث ضرار:

روي أنّ معاوية بن أبي سفيان طلب من ضرار الكناني أن يصف له الامام علي (عليه السلام)، فامتنع، ولكن بعد الإلحاح الشديد من معاوية، قال ضرار:

كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجَّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة... فإن تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين... وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين...

فبكى معاوية، ونزلت دموعه على لحيته، وجعل ينشّفها بكمّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك... (والفضل ما شهدت به الأعداء).

هذا هو الإمام العظيم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي كان قدوة مثالية للمسلمين، ونبراساً رائداً للمؤمنين، وأوَّل الناس إسلاماً، وأعظمهم عبادة، وأكثرهم شجاعة.

أمير المؤمنين علي (عليه السلام)

في لحظات استشهاده

ليس الحديث عن الشهادة أو الشهيد بالأمر الهيّن ، فالمسألة هنا لا تتعلق بكلام عن أمرٍ عادي يمكن التعبير عنه بجمل منمقة وعبارات مزخرفة، بل إن الأمر يستلزم نوعاً من المشاركة الروحية كيما يتم التواصل مع عظمة الموقف والانصهار في بوتقته القدسية.

 وإذا كان هذا هو حال الحديث عن الشهادة بالمطلق، فكيف يكون الأمر إذا ما كان الحديث عن شهادة أمير المؤمنين وسيد المتقين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).

لقد قضى أمير المؤمنين (سلام الله عليه) شهيداً بالكوفة على يد شر خلق الله عبد الرحمن بن ملجم وهو من الخوارج وذلك في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، وكان له من العمر يومئذ ثلاث وستون سنة قضاها في سبيل الله ومن أجل إحلال العدل وإقامة حكم الله في الأرض.

عليٌ هذا ، هو ابن عم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخليفته وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين وأبو السبطين الشهيدين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

 وهو أول من آمن برسالة النبي ودعوته، وأول من صلى معه، كما أنه لم يسجد قط للأصنام، وهو الذي افتدى الرسول بروحه إذ بات على فراشه يوم تآمرت القبائل وتألبت لقتله.

ولقد قال فيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (( علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار )).

 وقال أيضاً: (( يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ انه لا نبي من بعدي )) .

هذه المزايا الفريدة التي تُعدُّ غيضاً من فيض الخصائص المتميزة لهذا الإمام تكشف بعض جوانب شخصيته الفذة وبلوغه قمة الكمال الإنساني، حيث أمر الله رسوله أن يوصي به خليفة على المسلمين من بعده: ( يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ ) ، وهو ما فعله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أثناء حجة الوداع في منطقة تدعى غدير خم ، حيث جمع المسلمين وخطب فيهم ، ونادى علياً وأوقفه إلى جانبه ورفع له يده , وقال : (( ألست أولى بكم من أنفسكم )) ، قالوا: بلى يا رسول الله ، فقال: (( من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللَّهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيثما دار )) .

على أن ما نريد التعرض إليه هنا هو حادثة استشهاده المفجعة وما أظهره أثناءها سيد الأوصياء (عليه السلام) من أمثولات ودروس تثير الإعجاب والإكبار.

ففي سكون الليل وهجعة الناس كان علي يقوم في جوف الليالي الحالكات يتعبد ويناجي ربه في بيت الله ، فيتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول:

 (( إلهي إنك كما أحب فاجعلني كما تحب يا رب العالمين )).

يغشى عليه المرة تلو المرة من خشية الله وتجليات عظمته.

 

سويعات الليلة الموعودة:

وفي إحدى ليالي شهر رمضان لعام أربعين للهجرة، وهي ليلة التاسع عشر منه جاءت ابنته أم كلثوم وقدمت إليه عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح خشن ، فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره ، فلما نظر إليه وتأمله حرّك رأسه وبكى بكاءً شديداً عالياً، وقال: (( يا بنية ما ظننت أنّ بنتاً تسوء أباها كما قد أسأتِ أنت إليّ )) ، قالت: وماذا يا أباه ؟ قال: (( يا بنيّة أتقدمين إلى أبيك إدامين في طبقٍ واحدٍ ؟ أتريدين أن يطول وقوفي غداً بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة أنا أريد أن أتّبع أخي وابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قدّم إليه إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله ، يا بنية ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه إلاّ طال وقوفه بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة ، يا بنية والله لا آكل شيئاً حتى ترفعي أحد الإدامين )) ، فلما رفعته تقدم إلى الطعام فأكل قرصاً واحداً بالملح الخشن ، ثم حمد الله وأثنى عليه وقام إلى صلاته فصلى ولم يزل راكعاً وساجداً ومتضرعاً إلى الله سبحانه ، ويكثر الدخول والخروج وهو ينظر إلى السماء وهو قلق يتململ، ثم قرأ سورة (يس) حتى ختمها، ثم رقد هنيئة وانتبه مرعوباً، ونهض قائماً وهو يقول: (( اللهم بارك لنا في لقائك )) ويكثر من قول: (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم )) وكان (عليه السلام)  قد رأى في هذه الليلة رؤيا حدّثت بها ابنته أم كلثوم حيث قال لأولاده: (( إني رأيت الساعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك ، وأنا والله مشتاق إليك وانك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان)) .

 قال فلما سمعوا كلامه ضجّوا بالبكاء فأقسم عليهم بالسكوت , ثم أقبل يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر ثم صلى حتى ذهب بعض الليل , ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وهو يقول: (( والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها الليلة التي وعدت بها )).

 

 

الجريمة .. والفوز بالشهادة:

وما أن لاح وقت الأذان حتى توضأ ونزل إلى الدار وكان في الدار أوز أهدي إلى الحسين (عليه السلام) ، فلما نزل خرجن وراءه ، ورفرفن وصحن في وجهه، وكان قبل تلك الليلة لم يصحن فقال (عليه السلام): (( لا إله إلاّ الله صوارخ تتبعها نوائح )) ,فلما وصل إلى الباب وعالجه ليفتحه تعلق الباب بمئزره حتى سقط فأخذه وشده وهو يقول:

 

 اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا  * * *  ولا تجزع من الموت إذا حلّ بناديكا

ولا تغتر بالدهر وان كان يواتيكا  * * *  كما أضحكك الدهر كذاك الدهر يبكيكا

 

ثم قال: (( أللهم بارك لنا في الموت ، أللهم بارك لي في لقائك)) , وسار أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى دخل المسجد، والقناديل قد خمد ضوؤها، فصلى في المسجد وحده , وكان في المسجد ثلاثة رجال أحدهم اللعين ابن ملجم قاتل الإمام أما الآخران فهما شبيب بن بحيرة ووردان بن مجالد ، فلما أذّن  (عليه السلام) ونزل من المئذنة جعل يسبح الله ويقدسه ويكبره واتجه إلى محرابه وقام يصلي فتحرك إذ ذاك ابن ملجم وقف بإزاء الاسطوانة التي كان الإمام (عليه السلام) يصلي عليها، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وركع وسجد السجدة الأولى منها ورفع رأسه ، فعند ذلك أخذ السيف، ثم ضربه على رأسه الشريف ، فوقع الإمام (عليه السلام) على وجهه ولم يتأوه بل قال: (( بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ))، ثم صاح وقال: (( قتلني ابن ملجم ، قتلني ابن اليهودية فزت ورب الكعبة ، فزت ورب الكعبة )) .

وأحاط الناس بأمير المؤمنين (عليه السلام) في محرابه وهو يشدّ الضربة ويأخذ التراب ويضعه عليها.

ثم تلا قوله تعالى: ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) طه / 55.

 

يرأف بقاتله:

ثم إن بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) قبضوا على ابن ملجم وساقوه إلى موضع للإمام فقال له الحسن (عليه السلام): (( هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك ))، ففتح أمير المؤمنين (عليه السلام) عينية ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه ، فقال له بضعف وانكسار وصوت رأفة ورحمة: (( يا هذا لقد جئت عظيماً وخطباً جسيماً أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء )) ، ثم التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: (( إرفق يا ولدي بأسيرك وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه ، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمّ رأسه ، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً )) ، فقال له الحسن (عليه السلام): (( يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به ؟! )) فقال له: (( نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلاّ كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته ، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله ، واسقه مما تشرب ، ولا تقيد له قدماً ، ولا تغل له يداً ، فإن أنامتّ فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة ، ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور ، وإن عشت فأنا أولى بالعفو عنه ، وأنا أعلم بما أفعل به ، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً )).

 

المجرم ودوافعه:

ولكن من هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي، ولماذا قتل الإمام (عليه السلام) ؟

لما بايع الناس الإمام (عليه السلام) بالخلافة بعد وفاة عثمان كان حبيب بن المنتجب والياً على بعض أطراف اليمن من قبل عثمان، فأقره علي (عليه السلام) وكتب إليه أن يأخذ بيعة المسلمين للإمام وأن يرسل إليه عشرة من ثقاتهم للتشاور، ولما وصل كتاب الإمام إلى ابن المنتجب خرج عشرة من ساعتهم وأتوا إلى الإمام (عليه السلام) وفيهم عبد الرحمن بن ملجم , فهنأوه بالخلافة، وبايعوه وبايعه ابن ملجم، فلما أدبر عنه دعاه أمير المؤمنين ثانياً فتوثق منه بالعهود والمواثيق أن لا يغدر ولا ينكث، وأقام ابن ملجم بالكوفة إلى أن خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى غزوة النهروان ، فخرج ابن ملجم معه وقاتل بين يديه قتالاً شديداً فلما رجع إلى الكوفة وقد فتح الله على يديه قال ابن ملجم: يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أتقدمك إلى المصر لأبشر أهله بما فتح الله عليك من النصر؟ فقال له الإمام: (( شأنك )) .

 فسار ابن ملجم ودخل الكوفة وجعل يخترق الشوارع ويبشر الناس فانتهى به الطريق إلى محلة بني تميم فمّر على دار قطام بنت سخينة بنت عوف وكانت موصوفة بالحسن والجمال فلما سمعت كلامه بعثت إليه وسألته النزول عندها ساعة لتسأله عن أهلها وكانت قطام على رأي الخوارج وقد قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الحرب من قومها جماعة كثيرة، منهم أبوها وأخوها وعمها، فلما سمعت منه ذلك صرخت باكية، ثم لطمت خدها , وقامت من عنده وجعلت تندب ، ثم خرجت وهي تقول: أفلا من يأخذ لي بثأري ويكشف عاري؟ فأمكّنه من مالي وجمالي فرقّ لها ابن ملجم وقال لها: زوجيني نفسك لآخذ لك بثأرك , فقالت له شرطي عليك أن تقتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم قالت: يا هذا ما يمنعك من قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) وترغب في هذا المال والجمال ؟ وما أنت بأعف وأزهد من الذين قاتلوه وكانوا من الصّوامين والقوّامين فلما نظروا إليه وقد قتل المسلمين ظلماً وعدواناً اعتزلوه وحاربوه فقتلهم بغير حجة له عليهم. فقال لها ابن ملجم: قد أفسدت ديني وأدخلت الشك في قلبي.

وهكذا أصبح ابن ملجم من الخوارج الذين رأوا أن من الواجب قتل علي (عليه السلام) ومعاوية وعمرو بن العاص حتى تستقيم الأمور ويختار الناس إماماً يرضونه وتعاهد هو ورجلين من الخوارج هما الترك بن عبد الله التميمي ، وعبد الله بن عثمان العنبري على قتل الثلاثة على أن تكون مهمة قتل الإمام  (عليه السلام) لابن ملجم.

وإذ أخفق الآخران في مهمتهما فإن ابن ملجم (لعنه الله) تمكن من قتل الإمام على النحو الذي ذكرنا.

وبعد أن أصيب الإمام بضربة ابن ملجم اللعين جمع أهله وولده وأوصى الحسن والحسين بوصية قال فيها:

 

الوصية الأخيرة:

(( أوصيكما بتقوى الله وان لا تبغيا الدنيا وان بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحق واعملا للآخرة وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً , أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم ، فإني سمعت جدّ كما (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام , الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا في حضرتكم ، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم ، ما زال يوصي بهم حتى ظننا انه سيورثهم والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم ، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم ، والله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم ، والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله ، وعليكم بالتواصل والتبادل ، وإياكم والتدابر والتقاطع ، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم أشراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم )).

 

وداع أليم .. ولقاء بالحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم):

وبدأ يغمى على الإمام (عليه السلام) ساعة بعد ساعة لتزايد ولوج السم في جسده الشريف، وقد أُغمي عليه ساعة وأفاق , فأدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال : (( أستودعكم الله جميعاً سدّدكم الله جميعاً ، حفظكم الله جميعاً ، خليفتي عليكم الله وكفى بالله خليفة )) . ثم قال : (( وعليكم السلام يا رسل ربي )) ، وقال: ( لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) (1) ( إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَوْا وَالّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ ) (2) , وعرق جبينه وهو يذكر الله كثيراً ، وما زال يذكر الله كثيراً ويتشهد الشهادتين ، ثم استقبل القبلة وأغمض عينية ومدّ رجليه ويديه وقال : (( أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )) ، ثم فاضت روحه الطاهرة (عليه السلام)، وكان ذلك في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان أي بعد ليلتين من إصابته بضربة اللعين ابن ملجم.

وبذلك انتهت حياة خير خلق الله كلهم بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد عمر قضاه في الجهاد في سبيل الله والزهد وإقامة العدل وكان مثالاً للنبل والشجاعة والطهارة والعدل والخير ورمزاً من رموز الكمال البشري على مر التاريخ

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات


 
user comment