في التاريخ، وعندما تتطلع إلى تلك المعارك التي خاضها المسلمون تجد أنّ هناك وإلى جانب العزيمة والاستبسال والإقدام جوانب رائعة من التخطيط والتنفيذ، بحيث أصبحت هناك قواعد ربما نجد بعضها واضحة في العلوم العسكرية المعاصرة، رغم أنّ تلك المعارك قد سبقت عصرنا بقرون. والآن الموضوع الذي نحن بصدده يكتسب طابعاً فنياً بحتاً، فقد تتبعنا فيه مقاطع من توجيهات وممارسات ميدانية لقائد فذّ كان لها دور كبير في تثبيت أركان الإسلام. ذلك هو بطل الإسلام وابن عم الرسول (صلّى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي تميز وبالإضافة إلى شجاعته الفريدة بقدرة عالية على إدارة المعارك، وتوجيه صفحاتها وفق أساليب علمية فنية بحتة. وفي الجانب العسكري إذ ترتبط عدّة عوامل وتتشابك لتقرير نتيجة الحرب، فإنّ العلم العسكري يفرض أنّ القوة أو العدّة تحتاج إلى تخطيط، والتخطيط يحتاج إلى قادة ميدانيين، ويضع إلى جانب ذلك كله العنصر المعنوي كشرط ضروري ملازم لكُلّ مراحل المعركة وقبلها، وإلى هذه الصورة تبرز الحاجة إلى التدقيق في كيفية خلق الاستعداد لدى المقاتل كي يخوض المعركة بصرامة واستبسال. وحسب المدرسة العسكرية الحديثة، فإنّ الجانب المعنوي يرتبط بعوامل كثيرة معظمها تطور عن واقع الحروب وقواعدها في الماضي، أمّا البعض الآخر فهو إدخالات حديثة على ضوء التطور الكبير الذي حصل في الأسلحة والفنون والوسائل والأفكار، ومن بين القضايا التي عجزت المدرسة العسكرية الحديثة عن بلوغ مستواها هي تلك الروح التي تحلى بها الجندي والقائد الإسلامي وهو يخوض معارك الفتح، والتصدّي للكفر والوثنية، وهنا تبدو النقطة المركزية في تقرير مصير المعركة، ألا وهي قيمة الفكرة التي توجه سلوك المقاتل، ومن ثُمّ قيمة أهدافها وغايتها، وكيف يمكن أن تلهب حماس المقاتل حتى يلقي بنفسه على الموت. وبعبارة أوضح أنّ المقاتل وحتى يؤمن بأهدافه إلى حدّ التضحية، لابدّ أن تكون له رسالة آمن بها، وذاب في قيمتها، وسار على هديها، هذه الرسالة تستملك روح الجندي وعقله، وعندما تبدو هذه المسألة بعيدة عن متناول الفن العسكري وليست هي من اختصاصه، فإنّ المدرسة العسكرية الحديثة لا تمتلك ما تعالج فيه تأثير الجانب الإيديولوجي، والعقيدة التي تؤثر في سلوك الجنود. ولكي تبدو هذه المسألة واضحة نفترض أنّ العلم العسكري فرغ من وضع الصيغ (المثلى) لفنون القتال والأساليب الصحيحة في التعامل مع التكنولوجيا العسكرية. لكن كيف يتسنى له ضبط الجانب المعنوي ورفع روحية المقاتلين في المعركة؟ بالتأكيد إنّ ذلك معضلة عجز عن حلها العقل الإنساني، وما يقال عن أساليب متبعة في جيوش العالم تتكفل بالجانب المعنوي هو في الحقيقة أفكار قابلة للارتفاع والانخفاض، بل تأثيرها نسبي وضئيل إذا ما قورنت بالأثر الذي تتركه العقيدة الإلهية في نفوس المدافعين عن حياض الإسلام. وعلية فإنّ القوّة إذا كانت أحد أدوات المعركة فإنّها لا تصنع النصر إذا لم تتوفر إلى جانبها عدّة عوامل تتعلق معظمها بالإنسان، والإنسان بدوره يخضع سلوكه لتأثير الأفكار التي تخلف عنده الشعور بهذا الاتجاه أو ذاك. إذن الفكرة التي تنطبع في ذهن الإنسان إذا كانت ذات قيمة فإنّها تحرّكه باتجاه فاعل يستلهم فيها العزيمة والاندفاع نحو تمكين ذات الفكرة من الواقع وتطويقه باتجاهها. ومن هنا فإنّ الإيمان يشكل القاعدة التي تؤسس عليها عوامل صنع النصر، وحيث أنّ المعارك التي خاضها الإمام علي (عليه السلام) كان تستخدم فيها أدوات حربية واحدة سواء تلك التي يمتلكها صفّ الإيمان أو صفّ الكفر، فلنتابع التفوّق العسكري للإمام علي (عليه السلام) بما هو عوامل مجتمعة ومتداخلة وفّرتها الفكرة الصالحة والقيادة الملهمة. إنّ ما يحقق النصر ويحسم المعركة وكما أشرنا قبل قليل هو جميع ما يحيط بالمعركة من نوايا وأهداف وغايات لها علاقة وثيقة بالطبع بفكر الجبهتين المتصارعتين إضافة إلى الخطط والأساليب والوسائل والتعبئة والفنون العسكرية، وهو ما يطلق عليه في المصطلح الحديث الإستراتيجية بالنسبة للأولى، والتكتيك بالنسبة إلى الثانية. هذا على أنّ التوصيف السابق يمكن اختصاره كالآتي: نعني بالإستراتيجية: الخطوط العامة للمعركة والثوابت التي تتعلق بالأهداف البعيدة. ونعني بالتكتيك: الخطوط المرحلية للمعركة. وبما أنّ الإستراتيجية والتكتيك يتداخلان ويتلازمان، فسوف لن نضع فواصل بين الموضوعات التي تدخل تحت عنوانيهما. أهداف المعركة: المعركة ذات الأهداف الواضحة والمحددة تكون عاملاً دافعاً لمن يخوض أغوارها وتمنح المقاتلين روح التفاني والاستبسال والثبت إلى آخر أشواطها، ولهذا السبب كان الإمام علي (عليه السلام) يحدد أهداف المعركة ويوضحها لأصحابه قبل أن يخوضها، ولقد قال في أحد حروبه: (ألا إنّا ندعوكم إلى الله وإلى رسوله، وإلى جهاد عدوّه، والشدّة في أمره، وابتغاء مرضاته، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت وصيام شهر رمضان، وتوفير الفيء على أهله). ووفق هذه العبارة المختصرة، فإنّ أهداف المعركة لخّصها الإمام علي (عليه السلام) في تمكين الشريعة الإسلامية وتطبيق مبادئها السامية، ولذلك عندما تضمحل المصالح الشخصية وتوضع المصلحة الإسلامية العليا هدفاً واضحاً، فإنّ الأهداف الذاتية الضيقة الملغية من التفكير والممارسة معاً تجعل المقاتل لا يحسب في تحرّكه سوى تحقيق أهداف الإسلام الكبرى حتى وإن كان خصمه أخاه، ولعلّ المقطع التالي من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) يوضح هذه الحقيقة بجلاء: (ولكنا إنّما نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج، والشبهة والتأويل، فإذا أطمعنا في خصلة يلمّ الله بها شعثنا، ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا، رغبنا فيها، وأمسكنا عما سواها). إنّ الإمام علي (عليه السلام) الذي انصهر بالإسلام، كان لا يرى مصلحة فوق مصلحة الإسلام، ولا هدفاً أهمّ من تدعيم كيان الدولة الإسلامية وتشذيب مسيرتها وهو إذا كان صارماً مع أعداء الإسلام من الكفار والملحدين، فإنّه لم يلين قط أمام الذين حاولوا استثمار الدين لصالح شهواتهم، ولذلك حارب المنحرفين الذين أرادوا تحويل الإسلام إلى ملك عضوض بنفس العزم الذي قاتل فيه الكافرين. وهو (عليه السلام) لما كان يضع جنوده وأمراء أجنحته أمام صورة واضحة للأهداف المطلوبة في القتال، فقد كان أصحابه كزبر الحديد، وصناديد لا تلين لهم عزيمة، فالأهداف واضحة، ويقاتلون تحت راية الحقّ. وقلما ذكر التاريخ جنود أشدّاء كجنود وأصحاب الإمام علي (عليه السلام). الجانب المعنوي: كنّا قد أشرنا إلى أنّ معنويات الجيش والمقاتلين هي من صناعة العقيدة، وكلما كانت العقيدة متمكنة من نفوس الجنود، كلما ارتفعت معنوياتهم، ومن هنا نجد أنّ الإمام علي (عليه السلام) يحثّ أفراده إلى التقرّب إلى الله تعالى عبر التذكير على الممارسات العبادية في كُلّ مراحل المعركة، ومن توصياته في هذا المجال قوله (عليه السلام): (ألا إنّكم ملاقو العدو غداً إن شاء الله، فأطيلوا الليلة بالقيام، وأكثروا تلاوة القرآن، واسألوا الله الصبر والنصر، وألقوهم بالجدّ والحزم، وكونوا صادقين). ولما كان الدعاء هو الطريق الأقرب إلى الله تعالى، ويغذي المقاتل بمعنويات هائلة من الثقة والاستعداد والاطمئنان، فلا يتهيب أمام الكثرة العددية للعدو ما دام متصلاً بالقوة الحقيقية وما دام آخذاً بالأسباب الموصلة لصاحب القوة وصاحب العون والمدد. فقد كان الإمام علي (عليه السلام) لا يفارق الدعاء في المعركة، ويوجه جيشه إلى مصدر الحول والقوة والنصر وهو الله تعالى ومن أدعيته (عليه السلام) في ميدان المواجهة. (اللهم إليك أفضت القلوب، ومدّت الأعناق، وشخصت الأبصار، ونقلت الأقدام، وأنضيت الأبدان، اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ، وأنت خير الفاتحين). التمثّل بالخلق الإسلامي: عرض القيم الإسلامية في واقع الحياة تطبيقياً يعكس الصورة الجاذبة للإسلام كعقيدة إلهية تضمن للبشرية سعادتها، وحتى في الحرب التي هي استثناء في الشريعة هناك آداب وقواعد يراعي استخدامها مهما كان لون العدوّ وطبيعته العدوانية. ومن مصاديق الخلق الإسلامي الرفيع في معارك الإمام علي (عليه السلام) أنّه كان يحرص دائماً على أن لا يكون البادئ في القتال (لا تقاتلوهم حتى يبدءوكم فإنكم بحمد الله على حجّة، وترككم إياهم حتى يبدءوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة للعدو بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم). لقد ترك الإمام علي (عليه السلام) قادة الجبهات المعادية ممن وقعوا في قبضته حينما انكشفت عوراتهم، وعفا عن قادة معركة الجمل بعد انتهائها. وهو كذلك الذي سمح لجيش معاوية بشرب الماء بعد أن سبق منعه على جيش الإمام (عليه السلام). ومن خصاله (عليه السلام) أنّه يقول الصدق ويلتزم به في تناوله لحقيقة المعركة، والصدق عامل مساعد من عوامل إحراز النصر العسكري. يقول ليدل هارت: (إنّ أضمن شكل من أشكال العمل التي يمكن إدراكها وتصورها وأكثرها فاعلية للانتصار على المدى الطويل، هو عمل الرجل الذي يقول الحقيقة دون لفّ أو دوران أو قيود أو تحفظات). ومن أخلاق المعركة الوفاء بالعهد، وقد وفى الإمام علي (عليه السلام) بعهده مع معاوية بعد الصلح برغم أنّ جيشه طالب بإعادة الحرب. انتخاب المقاتلين: لا أحد يزعم أنّ المجتمع يعدّ أفراداً بنفس المستوى من الشجاعة أو المروءة أو السجايا الجميلة الأخرى، وعندما يتعلق الأمر بالحرب، فإنّ الجندي الحائز على الشروط التي تجمل توفير القيم والأخلاق والشمائل الحسنة فيه هو بالتأكيد عنصر فاعل في المعركة وعامل حسم ضروري في توجيه المعركة نحو هزيمة العدو ولذا حرص الإمام علي (عليه السلام) على انتخاب الصالحين وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالقادة والأمراء. وكانت توصياته تؤكد على هذا الجانب المهم، ولعلّ نموذج مالك الأشتر، وعمار بن ياسر، وغيرهم تعكس مدى اهتمام الإمام علي (عليه السلام) بانتخاب القادة وتربيتهم وإعدادهم ليكونوا قدوات حسنة في ساحات الوغى. ففي عهده (عليه السلام) لمالك الأشتر يقول: (فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، ولا ينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف، ثُمّ الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثُمّ أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة). ولغرض توضيح هذه المسألة، ودقة الإمام في انتخاب أركان حربه نذكر هذا القول لعمار بن ياسر حيث يقول: (والله لو هزمنا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا إنّا على الحقّ وإنّهم على الباطل). المشاركة الميدانية ووحدة الأوامر: ربما لا نحتاج إلى سوق الشواهد التاريخية التي تؤكد معايشة الإمام لجنوده وقادته، بل أنّه كان في جميع المعارك التي خاضها متواجداً في القلب، حيث يحتدم القتال ويلتحم الجيشان، ويبدأ صخب المعركة وقعقعة السلاح. وقد وصفه صعصعة بن صوحان بالتالي: (كان فينا كأحدنا). إنّ ثمرة هذا التواجد الميداني إلهاب حماس المجاهدين، والتوفر على وضع المعركة والتعرف بدقة على تفاصيلها وما يجب أنّه يتخذ من قرارات هامة مصيرية فيها. هذا وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الأمر الصادر من القائد الميداني ربما لا يحتاج إلى وقت طويل كي يصل إلى المجاهدين. وهذه المركزية هي في الحقيقة من أهمّ العوامل الإستراتيجية في كسب المعركة، حيث تقطع الطريق على الفوضى والبلبلة نتيجة تأخر القرار، وتجعل الطاعة والانضباط هما السائدين في كُلّ مراحل المعركة. السرية والكتمان: (لا احتجز دونكم سرّاً إلاّ في حرب)، هذه العبارة المختصرة للإمام علي (عليه السلام) والتي صرّح بها إلى أمرائه من الجيش تلخص أهمية الكتمان في الحرب، وخطورة تسرب الأسرار إلى الجهة المعادية، والإمام (عليه السلام) عندما يحتفظ لنفسه ببعض الأمور التي لا يبوح بها حتى إلى أقرب الناس من الصحابة إنّما يلحظ خطورة الوضع العسكري وحساسيته ولذلك يأخذ الحيطة من تسرّب بعض المعلومات إلى العدوّ، حيث لا يشكّ في أمر أصحابه الأوفياء، ولكنه قد يحتمل وجود بعض المندسين في صفوف جيشه وهو أمر وارد في جميع الجيوش، حيث يعتمد على التجسس في تحصيل المعلومات المهمة حول قوة الجبهة المقابلة، وخططها، وأساليبها في القتال. وصايا ثابتة: من جملة من أمر به الإمام (عليه السلام) جيشه هو: (عضّوا على النواجذ، وأكملوا اللاّمة، وقلقوا السيوف، والحظوا الخزر، واطعنوا الشزر، ونافحوا بالظبا، وصلوا السيوف بالخطا، وعاودوا الكرّ، وعليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنب فاضربوا شبجه). وهذا النصّ الموجز يلخص دقة التعليمات الضرورية في الحرب: 1ـ فالعضّ على النواجذ، هي أقصى الأضراس، حيث يساعد على تصلب الأعصاب والعضلات المتصلة بالدماغ، وإزالة الاسترخاء. 2ـ وإكمال اللامة وهي الدرع، يعني تحصين جسد المجاهد، بإحاطة أعضائه البارزة بالحديد وهي الرأس والصدر والسواعد، إضافة إلى تهيئة وسائل الدفاع من درع ورمح وسيف. 3ـ وقلقلة السيوف أي تحريكها للتحقق من عدم تأثرها بالصدأ. 4ـ وإلحاظ الخزر هو أن ينظر المجاهد بعينه بصورة من صور الغضب. 5ـ والطعن شزراً، هو الطعن عن اليمين والشمال. 6ـ والنفح بالضبا، وهو الضرب بطرف السيف. 7ـ ووصل السيوف بالخطا هو التوازن بين حركة السيوف وخطوة المجاهد. 8ـ ومعاودة الكرّ، أي إدامة الكرّ دون تراجع. 9ـ والسواد الأعظم هو جمهور الشام المحيط بمركز القيادة والمراد منه أن يكون الهجوم على وسط مركز القيادة لأنّ ذلك يعجّل في حسم المعركة . استعدادات تسبق المعركة: هناك جملة من الاستعدادات التي عادة ما تكون بهيئة إجراءات تسبق المعركة وتشكل بطبيعتها الخطوات الأولية التي تؤثر على سير المعركة في حالة وقوع الصدام بين الطرفين وسنذكر بعضها باختصار مع شواهد تاريخية مختصر تعكس الواقع التطبيقي لهذه القواعد العسكرية التي اعتمدها الإمام علي (عليه السلام) في معاركه. أولاً: الاستطلاع. حيث هو من الضرورات التي يتمّ التعرف به على حجم قوّة العدوّ ونقاط ضعفه، والأسلوب المتتبع عنده في دخول المعركة، وبالتالي هو وسيلة جمع المعلومات ليتم الإعداد وتوقيت المعركة واختيار أسلوب ومواقع المواجهة، ولقد استخدم الإمام (عليه السلام) أربعة طرق في ذلك. أ) من خلال الأفراد القريبين من العدو. ب) من خلال أمراء الولايات والمدن. ج) نشر العيون. د) اختراق العدو. ثانياً: اختيار المواقع العسكرية المحصّنة. (فإذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم، فليكن معسكركم في قبل الأشراف، أو سفاح الجبال، أو أثناء الأنهار... واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال، ومناكب الهضاب) . ثالثاً: أخذ الحيطة والحذر. (واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، وإياكم والتفرق، فإذا نزلتم فأنزلوا جميعاً، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفّة، ولا تذوقوا النوم إلاّ غراراً). رابعاً: تجهيز السلاح. (وثب الناس إلى رماحهم وسيوفهم ونبالهم يصلحونها). خامساً: التعبئة القتالية. وهي تختلف من معركة إلى أخرى. سادساً: تقسيم القطعات العسكرية. سابعاً: الهجوم على مواقع القيادة. ثامناً: استخدام الخدعة العسكرية والتمويه والمناورة.
تبليغ الإمام عليّ ( عليه السلام ) سورة البراءة
أجمع المؤرخون أنَّه لمَّا نزلت الآيات الأُوَل من سورة التوبة على النبيّ محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) ، دفع بها مع أبي بكر ليؤدِّيها إلى المشركين من أهل مكّة يوم النحر .
فلما خرجَ أبو بكر ، نزل جبرائيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فقال : ( يَا مُحمَّد ، لا يؤدِّي عنكَ إلاَّ أنت أو رَجلٌ مِنك ) .
فبعث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) الإمام علي ( عليه السلام ) في طلب أبي بكر ، على ناقته الروحاء ـ وقيل : العضباء ـ ، وقال ( صلّى الله عليه وآله ) له : ( اِلحَقْ أبا بكرٍ ، فَخُذ براءةَ مِن يده ، وامضِ بها إلى مكّة ، وخَيِّر أبَا بكرٍ بين أن يسيرَ مع رِكَابك أو يرجع إليَّ ) .
فركب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ناقة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وسار حتى لحق بأبي بكر ، فلما رآه فزع من لُحوقه به ، واستقبله .
فقال : فيمَ جئت يا أبا الحسن ؟ أسائِرٌ أنت ، أم لغير ذلك ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( إنَّ رسولَ الله أمَرَني أن ألحقَك ، فأقبض منك الآيات من بَراءة ، وأنبذ بها عهد المشركين إليهم ، وأمرني أنْ أخيِّرَك بين أن تسير معي أو ترجع إليه ) .
فقال : بل أرجعُ إليه .
وكان ذلك في ذي حليفة ـ على الأكثر ـ وذي الحليفة : ميقات أهل المدينة ، بينه وبينها ستّة أميال ، فرجع أبو بكر إلى المدينة ، وسار الإمام عليّ ( عليه السلام ) بالآيات إلى مكّة .
فلما دخل أبو بكر على النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) قال : يا رسول الله ، إنَّك أهَّلتَني لأمرٍ طالت الأعناق إليَّ فيه ، فلما توجَّهت إليه ردَدْتَني عنه ، مالي ؟! ، أنزلَ فِيَّ قرآن ؟! .
فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( لا ، ولكنَّ الأمين جبرائيل هبط إليَّ عن الله عزَّ وجلَّ ، بأنْ لا يؤدِّي عنك إلاّ أنت أو رجل مِنك ، وعليٌّ منّي ، ولا يؤدِّي عنّي إلاّ عليٌّ ) .
وحينما وصل الإمام علي ( عليه السلام ) مكّة ، وحينها كان يوم النحر ، يوم الحجّ الأكبر .
فقام الإمام علي ( عليه السلام ) على الملأ ـ بعد الظهر ـ وقال : ( إنِّي رسولُ رسولِ اللهِ إليكم ) .
فقرأها عليهم : ( بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِين * فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) [التوبة : 1 - 2] .
أي : من عشرين من ذي الحجَّة ، ومحرَّم ، وصفر ، وربيع الأوّل ، وإلى عشرٍ من شهر ربيع الآخر .
وقال الإمام ( عليه السلام ) : ( لا يطوفُ بالبيتِ عُريَانٌ ولا عُريَانة، ولا مشرِكٌ بعد هذا العام ) .
وقال الإمام ( عليه السلام ) أيضاً : ( ومن كان له عهدٌ عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فمُدَّتُه إلى هذه الأربعة أشهر ) .
والمراد من الأشهر الأربعة للعهود التي لا مدَّة لها ، أمّا العهود المحدَّدة بِمُدَّة فأجلها إلى انتهاء مُدَّتها .
فعن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : ( خَطَبَ علي ( عليه السلام ) بالناسِ وخَرَط سيفَه ، وقال : لا يطوفُنَّ بالبيتِ عُرْيَان ، ولا يَحجُّنَّ بالبيت مُشرِكٌ ، ومَنْ كانت له مدَّة فهو إلى مُدَّتِه ، ومن لم يكن له مُدَّة فمُدَّته أربعة أشهر ، وكان خطب يوم النحر ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( يومُ النحرِ يومُ الحَجِّ الأكبر ) [تفسير الميزان : 9 / 163] .
وبلَّغ الإمام عليٍّ ( عليه السلام ) حكماً آخر وهو : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ ) [التوبة : 2] .
فلا يَطوف بالبيت ولا يحجّ البيت مُشرك بعد هذا العام .
وهناك حُكم خاصٌّ ، ذكرته بعض الروايات أنّه ( عليه السلام ) كان ينادي به ، وهو : ( لا يَدخُلُ الجَنَّةَ إلاَّ مُؤمِنٌ ) .