استلم الإمام علي ( عليه السلام ) الخلافة بعد مقتل عثمان بسبعة أيام ، ذلك في ( 25 ) ذي الحجّة عام ( 35 هـ ) ، فوجد الأوضاع متردّية بشكل عام ، وعلى أثر ذلك وضع خطّة إصلاحية شاملة ، ركّز فيها على شؤون الإدارة ، والاقتصاد ، والحكم ، وفي السطور القادمة سنتناول شواهد على ذلك البرنامج الإصلاحي بشكل مختصر :
الأول : تطهير جهاز الدولة :
أول عمل قام به الإمام ( عليه السلام ) فور توليته لمنصب رئاسة الدولة هو عَزل وُلاة عثمان الذين سَخّروا جهاز الحكم لمصالحهم الخاصة ، وأُثروا ثراءً فاحشاً مما اختلسوه من بيوت المال ، وعزل ( عليه السلام ) معاوية بن أبي سفيان أيضاً .
ويقول المؤرخون : أنّه أشار عليه جماعة من المخلصين بإبقائه في منصبه ريثما تستقر الأوضاع السياسية ثُمّ يعزله فأبى الإمام ( عليه السلام ) ، وأعلن أنّ ذلك من المداهنة في دينه ، وهو مما لا يُقرّه ضميره الحيّ ، الذي لا يسلك أيّ طريق يبعده عن الحقّ ولو أبقاه ساعة لكان ذلك تزكية له ، وإقرارا بعدالته ، وصلاحيته للحكم .
الثاني : تأميم الأموال المختلسة :
أصدر الإمام ( عليه السلام ) قراره الحاسم بتأميم الأموال المختلسة التي نهبها الحكم المُباد .
فبادرت السلطة التنفيذية بوضع اليد على القطائع التي أقطعها عثمان لذوي قُرباه ، والأموال التي استأثر بها عثمان ، وقد صودِرت أمواله حتى سيفه ودرعه ، وأضافها الإمام ( عليه السلام ) إلى بيت المال .
وقد فزع بنو أمية كأشدّ ما يكون الفزع ، فهم يرون الإمام ( عليه السلام ) هو الذي قام بالحركة الانقلابية التي أطاحت بحكومة عثمان ، وهم يطالبون الهاشميين بردّ سيف عثمان، ودرعه، وسائر ممتلكاته التي صادرتها حكومة الإمام ( عليه السلام ) .
وفزعت القبائل القرشية وأصابها الذهول ، فقد أيقنت أنّ الإمام سيصادر الأموال التي منحها لهم عثمان بغير حقّ .
فقد كتب عمرو بن العاص رسالة إلى معاوية جاء فيها : ما كنتُ صانعاً فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كُلّ مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها .
لقد راح الحسد ينهش قلوب القرشيين ، والأحقاد تنخر ضمائرهم ، فاندفعوا إلى إعلان العصيان والتمرد على حكومة الإمام ( عليه السلام ) .
الثالث : اِلتياع الإمام ( عليه السلام ) :
وامتُحِن الإمام ( عليه السلام ) امتحاناً عسيراً من الأُسَر القرشية ، وعانى منها أشدّ ألوان المِحن والخُطوب في جميع أدوار حياته .
فيقول ( عليه السلام ) : ( لقد أخافَتني قُريش صغيراً ، وأنصبتني كبيراً ، حتى قبض الله رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، فكانت الطامّة الكبرى ، والله المُستعان على ما تَصِفون ) .
ولم يعرهم الإمام ( عليه السلام ) اهتماماً ، وانطلق يؤسس معالم سياسته العادلة ، ويحقق للأمّة ما تصبوا إليه من العدالة الاجتماعية .
وقد أجمع رأيه ( عليه السلام ) على أن يقابل قريش بالمِثل ، ويسدد لهم الضربات القاصمة إن خلعوا الطاعة ، وأظهروا البغي .
فيقول ( عليه السلام ) : ( مَالي وَلِقُريش ، لقد قتلتُهم كافرين ، ولأقتلنَّهم مَفتونين ، والله لأبقرنَّ الباطل حتى يظهر الحقّ من خَاصِرَتِه ، فَقُلْ لقريش فَلتضجّ ضَجيجَها ) .
الرابع : سياسة الإمام ( عليه السلام ) :
فيما يلي عرضاً موجزاً للسياسة الإصلاحية التي اتبعها الإمام ( عليه السلام ) لإدارة الدولة الإسلامية وهي كما يلي :
أولاً : السياسة المالية :
كانت السياسة المالية التي انتهجها الإمام ( عليه السلام ) امتداد لسياسة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) الذي عنى بتطوير الحياة الاقتصادية ، وإنعاش الحياة العامة في جميع أنحاء البلاد ، بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج .
وذلك بتوزيع ثروات الأمّة توزيعاً عادلاً على الجميع .
ومن مظاهر هذه السياسة هي :
1 - المساواة في التوزيع والعطاء ، فليس لأحد على أحد فضل أو امتياز ، وإنّما الجميع على حدٍّ سواء .
فلا فضل للمهاجرين على الأنصار ، ولا لأسرة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وأزواجه على غيرهم ، ولا للعربي على غيره .
وقد أثارت هذه العدالة في التوزيع غضب الرأسماليين من القرشيين وغيرهم ، فأعلنوا سخطهم على الإمام ( عليه السلام ) .
وقد خفت إليه جموع من أصحابه تطالبه بالعدول عن سياسته فأجابهم الإمام ( عليه السلام ) : ( لو كان المال لي لَسوّيتُ بينهم فكيف ، وإنّما المال مال الله ، ألا وإنّ إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ، ويضعه في الآخرة ، ويُكرّمه في الناس ، ويهينه عند الله ) .
فكان الإمام ( عليه السلام ) يهدف في سياسته المالية إلى إيجاد مجتمع لا تطغى فيه الرأسمالية ، ولا تحدث فيه الأزمات الاقتصادية ، ولا يواجه المجتمع أي حِرمان أو ضيق في حياته المعاشية .
وقد أدّت هذه السياسة المشرقة المستمدة من واقع الإسلام وهَدْيهِ إلى إجماع القوى الباغية على الإسلام أن تعمل جاهدة على إشاعة الفوضى والاضطراب في البلاد ، مستهدفة بذلك الإطاحة بحكومة الإمام ( عليه السلام ) .
2 - الإنفاق على تطوير الحياة الاقتصادية ، وإنشاء المشاريع الزراعية ، والعمل على زيادة الإنتاج الزراعي الذي كان من أصول الاقتصاد العام في تلك العصور .
وقد أكد الإمام ( عليه السلام ) في عهده لمالك الأشتر على رعاية إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها .
فيقول ( عليه السلام ) : ( وليكُن نظرك في عِمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأنّ ذلك لا يُدرك إلاّ بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلاّ قليلاً ) .
لقد كان أهمّ ما يعني به الإمام ( عليه السلام ) لزوم الإنفاق على تطوير الاقتصاد العام ، حتى لا يبقى أي شبح للفقر والحرمان في البلاد .
3 - عدم الاستئثار بأيّ شيء من أموال الدولة ، فقد تحرّج الإمام ( عليه السلام ) فيها كأشدّ ما يكون التحرّج .
وقد أثبتت المصادر الإسلامية بوادر كثيرة من احتياط البالغ فيها ، فقد وفد عليه أخوه عقيل طالباً منه أن يمنحه الصلة ويُرَفّهُ عليه حياته المعاشية ، فأخبره الإمام ( عليه السلام ) أنّ ما في بيت المال للمسلمين ، وليس له أن يأخذ منه قليلاً ولا كثيراً ، وإذا منحه شيء فإنّه يكون مختلساً .
وعلى أيّ حال فإنّ السياسة الاقتصادية التي تَبنّاها الإمام ( عليه السلام ) قد ثقلت على القوى المنحرفة عن الإسلام ، فانصرفوا عن الإمام وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، والتحقوا بالمعسكر الأموي الذي يضمن لهم الاستغلال ، والنهب ، وسلب قوت الشعب ، والتلاعب باقتصاد البلاد .
ثانياً : السياسة الداخلية :
عنى الإمام ( عليه السلام ) بإزالة جميع أسباب التخلف والانحطاط ، وتحقيق حياة كريمة يجد فيها الإنسان جميع متطلبات حياته ، من الأمن والرخاء والاستقرار ، ونشير فيما يلي إلى بعض مظاهرها :
1 - المساواة :
وتجسّدت فيما يأتي :
أ - المساواة في الحقوق والواجبات .
ب - المساواة في العطاء .
ج - المساواة أمام القانون .
وقد ألزم الإمام ( عليه السلام ) عُمّاله وَوُلاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم .
فيقول ( عليه السلام ) في بعض رسائله إلى عماله : ( واخفضْ للرعيّة جناحك ، وابسط لهم وجهك ، وأَلِنْ لهم جانبك ، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة ، والإشارة والتحية ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ، ولا ييأس الضعفاء من عدلك ) .
2 - الحريّة :
أمّا الحريّة عند الإمام ( عليه السلام ) فهي من الحقوق الذاتية لكل إنسان ، ويجب أن تتوفر للجميع ، شريطة أن لا تستغلّ في الاعتداء والإضرار بالناس ، وكان من أبرز معالمها هي الحريّة السياسية .
ونعني بها أن تُتَاح للناس الحريّة التامّة في اعتناق أي مذهب سياسي دون أن تفرض عليهم السلطة رأيا معاكساً لما يذهبون إليه .
وقد منح الإمام ( عليه السلام ) هذه الحريّة بأرحب مفاهيمها للناس ، وقد منحها لأعدائه وخصومه الذين تخلفوا عن بيعته .
فلم يجبرهم الإمام ( عليه السلام ) ، ولم يتخذ معهم أي إجراء حاسم كما اتخذه أبو بكر ضده حينما تَخلّف عن بيعته .
فكان الإمام ( عليه السلام ) يرى أنّ الناس أحرار ، ويجب على الدولة أن توفر لهم حريتهم ما دام لم يخلوا بالأمن ، ولم يعلنوا التمرد والخروج على الحكم القائم .
وقد منح ( عليه السلام ) الحريّة للخوارج ، ولم يحرمهم عطاءهم مع العلم أنّهم كانوا يشكلون أقوى حزب معارض لحكومته .
فلما سَعوا في الأرض فساداً ، وأذاعوا الذعر والخوف بين الناس انبرى إلى قتالهم حفظاً على النظام العام ، وحفظاً على سلامة الشعب .
ثالثاً : الدعوة إلى وحدة الأمّة :
وجهد الإمام كأكثر ما يكون الجهد والعناء على العمل على توحيد صفوف الأمّة ونشر الأُلفة والمحبة بين أبنائها .
واعتبر ( عليه السلام ) الأُلفة الإسلامية من نعم الله الكبرى على هذه الأمّة .
فيقول ( عليه السلام ) : ( إنّ الله سبحانه قد امتَنّ على جماعة هذه الأمّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الأُلفة التي ينتقلون في ظلها ، ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ، لأنّها أرجح من كُلّ ثمن ، وأجلُّ من كُلّ خطر ) .
فقد عنى الإمام ( عليه السلام ) بوحدة الأمّة ، وتبنّي جميع الأسباب التي تؤدي إلى تماسكها واجتماع كلمتها ، وقد حافظ على هذه الوحدة في جميع أدوار حياته .
فقد ترك ( عليه السلام ) حَقّه وسَالَم الخلفاء صِيانة للأمّة من الفرقة والاختلاف .
رابعاً : تربية الأمّة :
لم يعهد عن أحد من الخلفاء أنّه عنى بالناحية التربوية أو بشؤون التعليم كالإمام ( عليه السلام ) ، وإنّما عنوا بالشؤون العسكرية ، وعمليات الحروب ، وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية ، وبسط نفوذها على أنحاء العالم .
وقد أولى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) المزيد من اهتمامه بهذه الناحية ، فاتخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاضراته الدينية والتوجيهية .
وكان ( عليه السلام ) يشغل أكثر أوقاته بالدعوة إلى الله ، وإظهار فلسفة التوحيد ، وبَثّ الآداب والأخلاق الإسلامية مستهدفا من ذلك نشر الوعي الديني ، وخلق جيل يؤمن بالله إيمانا عقائدياً لا تقليدياً .
فقد كان الإمام ( عليه السلام ) المؤسس الأعلى للعلوم والمعارف في دنيا الإسلام ، وقد بذل جميع جهوده على إشاعة العلم ونشر الآداب والثقافة بين المسلمين ، وكان دوماً يذيع بين أصحابه قوله : ( سَلوني قَبلَ أن تفقدوني ، سَلوني عن طُرق السَّماء ، فإنّي أبصَرُ بها من طُرُق الأرض ) .
عليٌّ يخطُب فاطمة
( عن موقع البلاغ )
وتحلّ فاطمة بدار هجرتها ، وتنضمّ إلى بيت أبيها المتواضع في أرض الإسلام الجديدة ، فتنعَم بعنايته وحبّه هناك .. .
ذلك الحُبّ ، وتلك الرعاية التي لم يحظَ بها أحدٌ من الناس سواها ، حتى أنّ زوجة أبيها عائشة كانت تتحدّث عن هذه العلاقة الأبوية الفريدة في دنيا الإنسان ، فتقول : ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول الله في قيامه ، وقعوده ، من فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، قالت : وكانت إذا دَخَلت على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قام إليها ، فقبّلها وأجلسها في مجلسه ، وكان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إذا دخل عليها قامت من مجلسها ، فقبّلته وأجلسته في مجلِسها .
وفي المدينة استمرّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في رعايته الفائقة لفاطمة ، وعنايته بها ، واكتسبت هي ، من هذه الرعاية والعناية، أدباً نبويّاً رفيعاً ، أهّلها لأن تكون في مستوىً عالٍ من الفضائل والأخلاق ، وهي بنت صغيرة بعد .
فقد رُويَ عن أمّ سَلَمة أنّها قالت : تزوّجني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعدما دخل المدينة ، وفوّض أمر ابنته إليَّ ، فكنت أؤدّبها ، وكانت ـ والله ـ آدب منّي ، وأعرف بالأشياء كلّها . وها هي فاطمة الشابّة النضِرة ، ذات الشرف والجمال ، والمجد الرفيع ، تعيش في كنف أبيها ، فتتّجه الأنظار إليها ، ويحدّث بعض الصحابة نفسه بأن يحظى بالاقتران بها ، وينال شرف الانتساب إلى أبيها ؛ فهي أعظم امرأة في شرفها ، ودينها ، ومكانتها عند بارئها ، فهذا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الناطق بلسان الوحي يخاطبها ويقول : ( يا فاطمة ، إنّ الله عزّ وجلّ يغضبُ لغضَبك ، ويرضى لِرضاك ) . ويحدّثها في مقامٍ آخر ، فيخبرها : بأنّها سيدة النساء وخيرتهن : ( ... أمَا تَرضَي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمّة ) . ويخاطب المسلمين في مقام آخر ـ معرّفاً بفاطمة ، ومخبِراً عنها ـ فيقول : ( أفضل نساء أهل الجنّة : خديجة بنت خُويلد ، وفاطمة بنت محمّد، ومريم بنت عِمران ، وآسية بنت مُزاحم ) . فإذا كانت هذه فاطمة ، وهذا مقامها عند بارئها ، وتلك مكانتها في بيت النبوّة ، فمن لا يحبّ شرف الاقتران بها من كبار الصحابة ، ووجهاء المسلمين ، والفوز بمصاهرة أبيها ؟! لذا ، فقد اتّجهت أنظار البعض منهم إلى فاطمة ، فحدّث نفسه بالمثول بين يدي أبيها ، وإعلان رغبته في التزوّج بها .. فَيُقدِم على ذلك أبو بكر، وعمر بن الخطّاب ، وغيرهما من أكابر قريش ، فيخطب كلّ واحدٍ منهم فاطمة لنفسه ، ولكنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يعتذر عن الاستجابة لطلبهم ؛ ويقول : ( لم ينزل القضاء بعد ) . وحين اعتذر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن تزويج فاطمة ، لعمر ، أو لأبي بكرٍ ، اتَّجَها إلى الإمام علي ( عليه السلام ) وهو يسقي في بُستان نخلٍ ، فقالاً : ( قد عرفنا قرابتك من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقِدَمك في الإسلام ، فلو أتيت إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فخطبت إليه فاطمة لزادك الله فضلاً إلى فضلك ، وشرفاً إلى شرفك ، فإنّا نرجو أن يكون الله ورسوله إنّما يحبسانها عليك . فانطلق ، فتوضأ ثمّ اغتسل ولَبِس كساءه ، وصلّى ركعتين ، ولبس نعليه ، وأقبل إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكان في منزل أُمّ سَلَمَة ، فسلّم عليه فردّ عليه السلام ، وجلس بين يديه ينظر إلى الأرض ، فقال له النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( أتيت لحاجةٍ ؟ قال : نعم ، أتيتك خاطباً ابنتك فاطمة ، فهل أنت مزوّجي يا رسول الله ؟ قالت أُمّ سَلَمَة : فرأيت وجه رسول الله يتهلّل فرحاً وسروراً ، ثمّ يبتسم في وجه عليّ ، ودخل على فاطمة ، فقال لها : إنّ عليّ بن أبي طالب مَن قد عرفت قرابته ، وفضله في الإسلام ، وإنّي سألت ربي أن يزوّجك خير خَلْقِه ، وأحبّهم إليه ، وقد ذكر من أمرك شيئاً ، فما ترين ؟ فسكتت . فخرج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو يقول : الله أكبر ، سُكُوتُها إقرارها ، فقال : يا عليّ ، هل معك شيءٌ أُزوّجك به ؟ قال : سَيْفِي ، ودِرعي ، وناضحي ، ( وفي رواية : وفرسي ) ، فقال : أمّا سيفك فلا غنى بك عنه ؛ تجاهد به في سبيل الله ، وتقاتل به أعداء الله ، وناضحك تنضح به على نخلك ، وتحمل عليه رحلك في سفرك ، وأمّا دِرعك فشأنك بها ) . فانطلق علي وباع دِرعه إلى عثمان بن عفّان ، بأربعمئة وثمانين درهماً ، فصبّها بين يدي النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) . وبعد أن قرّت عين رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بهذه الخطبة السعيدة ، وزوّج الله فاطمة علياً ( عليه السلام ) .. أراد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يُعلن لمجتمع المسلمين ، ولصحابته المحيطين به هذا النبأ ، فيضيف مكرِمة جديدة إلى سجلّ عليٍّ ، وفضيلة أخرى إلى فضائل فاطمة ، فأمر أنس بن مالك أن يجمع فئة من الصحابة (رض) ليعلن عليهم نبأ تزويج فاطمة لعليٍّ .. قال أنس بن مالك : فدعوتهم ، فلمّا اجتمعوا عنده كلّهم ، وأخذوا مجالسهم ، وكان عليّ غائباً في حاجة للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقُدرته ، المطاع بسلطانه ، المرهوب من عذابه وسطواته ، النافذ أمره في سمائه وأرضه ، الذي خلق الخلق بقدرته ، وميّزهم بأحكامه ، وأعزّهم بدينه ، وأكرمهم بنبيه محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، إنّ الله تبارك اسمه ، وتعالت عَظَمتُه ، جعل المصاهرة نسباً لاحقاً ، وأمراً مفترضاً ، أوشجَ به الأرحام ، وألزم الأنام ، قال عزّ مِن قائلٍ : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) ، فأمر الله يجري إلى قضائه ، وقضاؤه يجري إلى قَدَره ، ولكلٍّ قضاءٍ قَدَر ، ولكلّ قَدر أجل ، ولكلّ أجلٍ كتاب ، يمحو الله ما يشاء ويُثبِت وعنده أمّ الكتاب ، ثمّ إنّ الله تعالى أمرني أن أزوّج فاطمة بنت خديجة من عليٍّ بن أبي طالب ... ) . ثمّ دعا بطبقٍ من بَسَر فوضعت بين أيدينا ، ثمّ قال : ( انتهبوا ، فانتهبنا ) ، فبينما نحن ننتهب إذ دخل علي ( عليه السلام ) على النبيّ فتبسّم النبيُّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في وجهه ، ثمّ قال : ( إنّ الله قد أمرني أن أزوّجك فاطمة على أربعمئةِ مثقالٍ فِضة ، إن رضيت بذلك ، فقال : قد رضيت بذلك يا رسول الله ، قال أنس بن مالك ، فقال النبي : جَمع الله شمْلَكُما ، وأسعد جَدّكما ، وبارك عليكما ، وأخرج منكما كثيراً طيِّباً ) . قال أنس : فوالله ، لقد أخرج الله منها الكثير الطيب . وهذا الموقف النبويّ المرتبط بالمشيئة والوحي ـ الأمر الإلهي ـ يلفت أنظارنا ، ويستوقف خُطانا ، ويلقي سؤالاً هاماً وخطيراً علينا ، وهو : لماذا لم يرخَّص لفاطمة بتزويج نفسها ؟ بل ، ولِمَ لَمْ يرخّص لرسول الله ، وهو أبوها ، ونبيّها ، بتزويجها ـ والنبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ إلاّ بعد أن نزل القضاء بذلك ؟ ولماذا خُصّ زواج فاطمة بهذه الميزة ؟ فلا بدّ ـ إذن ـ وأن يكون هناك سرٌّ وحِكمةٌ إلهيةٌ ، ترتبط بهذا الزواج ، وتتوقّف على هذه العلاقة الإنسانية الخطيرة ، علاقة فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بابن عمّه وأخيه ، علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كما كان يسمّيه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) نفسه ، وهو الذي تربّى في بيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وعاش معه ، وشبّ في ظِلال الوحي ، ونَما في مدرسة النبوّة حتى حقّ له أن يصف هذه العلاقة بقوله : ( وقد علمتم موضعي من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يُلقمنيه ، وما وجد لي كَذبةً في قولٍ ، ولا خَطلةٍ في فعل ) . ( ... ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمّه ، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور كل سنة بحرّاء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد ـ يومئذٍ ـ في الإسلام غير رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة ... ) . إنّ هذا السرّ والإعداد لم يكن غامضاً ، وهذه العناية لم تكن مجرّد علاقة رَحمٍ وقرابة ، فالأمر ذو علاقةٍ بحياة هذه الأمّة ، والعلاقة ترتبط بامتداد فرع النبوّة ، والإمامة ، فشاء الله أن يزوّج خِيرة نساء هذه الأمّة ـ بِضعة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ بخِيرة رجالها ، فعليّ هو الذي قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيه لفاطمة : ( إنيّ سألت ربّي أن يزوّجك خير خَلَقه ) ، وقال له : ( أَمَا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ؟! إلاّ إنّه لا نبيَّ بعدي ) . وفاطمة هي التي قال لها : ( أَمَا ترضي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ) . وبذا ، كانا أحبّ الناس لرسول الله وأقربهم إلى نفسه ، ( سُئِلت عائشة : أيّ الناس أحبّ إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ؟ قالت : فاطمة . قيل : من الرجال ؟ قالت : زوّجها ، إن كان ما علمت صوّاماً قوّاماً ) . وينعقد الزواج ، ويبنى بيت أهل بيت النبوّة ، ويرعاه رسول الله ، ويعرِّف به ، ويؤكّد أنّ علياً وفاطمة وذرِّيتهما هم أهل بيته ، ومن عليٍّ وفاطمة ذرّيته وأبناؤه ، وعصبته . روى ابن عبّاس ، قال : كنت أنا والعبّاس جالسين عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إذ دخل عليّ بن أبي طالب فسلّم فردّ عليه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) السلام ، وقام إليه وعانقه وقبّله بين عينيه وأجلسه عن يمينه ، فقال العبّاس : يا رسول الله ، أتحبّ هذا ؟ فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( يا عمّ ـ والله ـ الله أشدّ حبّاً له منّي ، إنّ الله جعل ذرّية كلِّ نبيٍّ في صُلبه ، وجعل ذرّيتي في صُلب هذا ) . وهكذا شاء الله أن تمتدَّ ذرية رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن طريق عليٍّ وفاطمة ، ويكون منهما الحسن والحسين (عليهما السلام) والذرّية الطاهرة ، أئمةً ، وهداةً ، لهذه الأُمّة .. ولهذا الأمر ، والسرّ الخطير ، كان زواج فاطمة أمراً إلهياً لم يَسبق رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إليه ، ولم يتصرّف حتّى نزل القضاء ، كما صرّح هو نفسه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بذلك .