من المهم جدا في محاولة فهم أسباب تطور أو تخلف بناء منظومة الحقوق الإنسانية في تجربة المجتمعات العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة، دراسة الدور الذي قدر للتجربة النبوية أن تمارسه في تثبيت القواعد الأساسية لمنظومة الحقوق الإنسانية، وبطبيعة الحال لا يمكن أن يجر الإنصاف أي باحث- مسلما كان أم لا- للقول بأن الرسول الأكرم (ص) قد مارس إهمالا تجاه الاهتمام بمثل هذه الحقوق، وذلك لأن شواهد التنظير والممارسة في حياة النبوة قد أفصحت عن تشكيل مستجد لفهم المسألة الحقوقية تجاوز في عمقه واستيعابه وشموليته وحساسيته كل التوقعات، ليس بحسب المقاييس المعهودة في ذاك الزمن فحسب، بل حتى بحسب أرقى المقاييس التي يزعم البعض أن عصرنا الحاضر قد اعتمدها في الحكم على أي تطور أو تخلف يمكن أن يتحققا في مجال حقوق الإنسان.
فبالرغم من تطور مفاهيم حقوق الإنسان في العصر الحديث، وفي ظل التجربة الغربية الحديثة والمعاصرة، إلا أن هذه التجربة مازالت في الكثير من الأحيان تقصر عن بناء الحس الحقوقي السليم والمرهف عند إنسان العصر، بينما خطت التجربة النبوية في هذا الشأن خطوات قد يحسبها الإنسان في بعض الأحيان ضربا من الخيال والمثالية غير المحتملة، وهو الأمر الذي يفسر صدور بعض المرويات ونسبتها إلى رسول الإنسانية (ص)، رغم أنه من الصعب الجزم بصدورها عنه، كما في هذا الحديث المروي عنه في مسند أحمد، والمعجم الوسيط للطبراني وغيرهما، والذي يقول: (إن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها فلم تدعها تصيب من خشاش الأرض ولم تطعمها ولم تسقها حتى ماتت).
وعلى كل حال فلسنا بحاجة إلى الأحاديث والأخبار التي يختلف في نسبتها إلى رسول الله (ص) بعد أن توافرت أمامنا الكثير من المعطيات الواضحة التي تدلل على عمق وجدة وسعة الأثر الذي تركه الرسول الأكرم (ص) في وجدان الأمة في مجال العناية بالحقوق بشكل عام، والحقوق الإنسانية بشكل خاص، وهي الحقوق التي أخذت حيزا من الاهتمام في التراث الإسلامي فاق في بعض الأحيان الاهتمام بالحقوق الإلهية، وهو ما يشرح سببه هذا الأثر المروي عن الإمام علي بن أبي طالب ربيب الرسول وتلميذه الوفي (ع) والذي يقسم الذنوب إلى ثلاثة أقسام واضعا الذنب أو الظلم الذي يتجاوز من خلاله الإنسان على حقوق العباد في أعلى درجات المسئولية والمحاسبة، فعن (أبي رفعه قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام صعد المنبر فحمد الله فأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إن الذنوب ثلاثة ثم أمسك، فقال له حبة العرني [وهو أحد أصحاب علي (ع)]: يا أمير المؤمنين قلت: الذنوب ثلاثة ثم أمسكت؟ فقال له: ما ذكرتها إلا وأنا أريد أن أفسرها ولكنه عرض لي بهر [أي انقطاع في النفس] حال بيني وبين الكلام، نعم الذنوب ثلاثة: فذنب مغفور، وذنب غير مغفور، وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه، قيل: يا أمير المؤمنين فبينها لنا قال: نعم، أما الذنب المغفور فعبد عاقبه الله تعالى على ذنبه في الدنيا، فالله أحكم وأكرم أن يعاقب عبده مرتين، وأما الذنب الذي لا يغفر فظلم العباد بعضهم لبعض، إن الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قسما على نفسه فقال: وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كف بكف، ولو مسحة بكف، ونطحة مابين الشاة القرناء إلى الشاة الجماء، فيقتص الله للعباد بعضهم من بعض، حتى لا يبقى لأحد عند أحد مظلمة، ثم يبعثهم الله إلى الحساب وأما الذنب الثالث فذنب ستره الله على عبده ورزقه التوبة، فأصبح خاشعا من ذنبه راجيا لربه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة، ونخاف عليه العقاب).
وفي القرآن الكريم نشاهد توصيفا جميلا ورائعا لشخصية الرسول الكريم (ص) يلمح إلى الرحمة الواسعة التي تطفح من هذا القلب الكبير في علاقته بالخلق، إذ يقول سبحانه: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) [آل عمران 159]، ويقول عز شأنه: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) [التوبة 128].
إن هذه التوصيفات القرآنية للشخصية الأولى في المجتمع المسلم في أول تجربة بشرية يقيمها الإسلام على أرض الواقع، تثير الانتباه إلى دور متميز قام به النبي (ص) في مجال بناء منظومة الحقوق الإنسانية، ولاسيما في بعد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو بتعبير آخر: بين صاحب السلطة ومن تمارس عليه السلطة، ولا شك أن هذه العلاقة هي أكثر العلاقات حرجا وجدلية في دائرة العلاقات الإنسانية، لأننا عادة ما نفترض أن صاحب السلطة يتوفر على كل عناصر القوة التي تدفعه دفعا إلى الاستبداد والاستئثار، بينما يفتقد من تمارس عليه السلطة أية إمكانيات أو صلاحيات تتيح له دفع أذى صاحب السلطة فضلا عن منافسته والتغلب عليه، ولكن طبيعة العلاقة التي يشرحها القرآن المجيد هاهنا بين الرسول (ص) وأتباعه، تتجاوز هذه الإشكالية ضمن أطروحة تعزز حاكمية الرحمة والرأفة في قلب الحاكم على من يحكمه ويدير شؤونه، وفوق ذلك فإن البيان القرآني يوجه رسول الله (ص) إلى ضرورة اعتماد المشورة في ما بينه وبين أصحابه والمحيطين به من أجل أن يشركهم في مهام الإصلاح والتغيير، كي يندفع الجميع في القيام بها بعد شعورهم بأن المشروع مشروعهم بالمستوى الذي هو مشروع الرسول القائد (ص).
وفي هذا السياق يأتي لفت رسول الله (ص) إلى أهمية اعتماد المسؤلية كأصل أولى في العلاقة بين مختلف الأطراف في المجتمع البشري، حينما يقول في الخبر المشهور عنه: (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم).
وبطبيعة الحال أن هذه المسئولية التي يتحملها كل فرد من أفراد المجتمع ضمن دائرة مهامه وصلاحياته، سيكون الإنسان مسئولا عنها ومحاسبا على ما أنجزه فيها، كل بحسبه، وبحسب حجم المسئولية الملقاة على عاتقه، لأن الفهم الذي عمل رسول الله (ص) على ترسيخه في الوعي الديني للناس يقوم على مبدأ: أن كل حق يقتضي واجبا، كما أن كل واجب يستدعي حقا، ولأجل ذلك قال: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته).
ولم يقتصر هذا الأمر على مجرد تبني الخطابات لتتحول إلى شعارات فارغة غير ذات معنى وتفتقد المغزى، بل تمثل رسول الله (ص) هذه القناعات المبدئية على مستوى الفعل والممارسة، وهو الأمر الأكثر أهمية من أجل تأصيل فاعلية الحقوق في الواقع المعيشي، لأننا في مجال تثبيت منظومة الحقوق الإنسانية ندرك أن الأهم في ذلك هو بناء التجربة والممارسة، لا بناء النظرية والفكرة، فبالرغم من الأهمية التي تحظى بها الأفكار والمفاهيم والقيم من حيث طبيعتها في ترسيخ الشعور بأهمية الحقوق وضرورة مراعاتها، إلا أن الأهم في ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان وتحصيل القدرة على الاستمرار في العمل بمقتضياتها ومراعاة مستلزماتها، هو قدرة أصحاب الأطروحة على هضم وتفعيل وممارسة هذه المبادئ على أرض الواقع والتجربة، وهذا ما يستدعي أن تعمم نتائج التجربة ليثبت أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وأنه لا يوجد يستثنى من مبادئ وضرورات الحق، فكل فرد من أفراد المجتمع يرى نفسه ملزما بمرجعية الحق، وأنه الأساس الذي يرجع إليه الجميع من دون مكابرة أو معاندة أو تحايل، ولا شك أن الدور الذي يقوم به القائد والرأس في أي مجتمع في الحفاظ على الحقوق ومراعاتها يمثل أهم ضمانة تقدم للتدليل على أن الحق يعلو على الجميع، وهو الأمر الذي تمثله الرسول الكريم (ص) في موارد عديدة ومواقف كثيرة، إن هذه الشواهد من حياة النبوة في الوقت الذي تعطينا إحساسا مفعما بالفخر والاعتزاز بشرف انتمائنا- كمسلمين- إلى صاحب هذه الدعوة والرسالة، فإنها تستثير في مواجهتنا- نحن المنتمين إلى هذه الرسالة- المزيد من الأسئلة المحرجة عما أخفقت الأمة في تحقيقه في مجال تدعيم وتثبيت تلك الحقوق التي عمل رسول الله (ص) طوال حياته وبجهود مضنية من أجل تعزيزها ومنع النيل منها والمساس بها.