لا نجد في القرآن الکريم بأنَّ من هذه الأمّة من زوّد بعلم لدنّي وهو علم التأويل غير أهل البيت (عليهم السلام). فإنَّ سورة الکهف تفصح لنا أنَّ العلم اللدنّي هو علم التأويل، کما نقرأ في سورة: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيکَ الْکِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْکَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيغٌ فَيتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يقُولُونَ آمَنَّا بِهِ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)(1)، البعض من مفسّري المدارس الإسلامية الأخرى قالوا: إنَّ (الواو) هنا استئنافية وليست عاطفة، يعني أنَّ الذي يعلم تأويل القرآن هو الله فقط، أمَّا الراسخون في العلم فلا يعلمون، وإنَّما الراسخون في العلم (يقُولُونَ آمَنَّا بِهِ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)، يعني نؤمن بالمحکم والمتشابه، وطبعاً (يقُولُونَ) هي صفة أو خبر آخر للراسخين في العلم.(2)
لکن الواو هنا هي عاطفة وليست استئنافية، وذلک لعدّة أدلّة وبراهين وشواهد، منها:
أنَّ سورة الکهف تبين أنَّ کلّ شريعة لها علم تأويل يزوّد الله به ثُلّة من أفراد البشرية يستطيعون بذلک أن يقيموا الشريعة کما يريدها الربّ، ويرضاها بتلک الإقامة وتلک الشاکلة من بناء الصرح، ونصّ القرآن الکريم هکذا يقول في حال الخضر: (آتَينَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً) (3)، وقول النبي موسى: (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُکَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قالَ إِنَّکَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً * وَکَيفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَکَ أَمْراً * قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَکَ مِنْهُ ذِکْراً) (4)، ثمّ قول الخضر أيضاً: (سَأُنَبِّئُکَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيهِ صَبْراً) (5)، ويقول أيضاً في نهاية تلک القصَّة والحادثة التي يرويها لنا القرآن الکريم على لسان الخضر: (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِکَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيهِ صَبْراً)(6)
إذن الخضر صاحب علم لدنّي وتأويل، فإذا کان الله عز وجل جعل إقامة کلّ شريعة بحقيقة الإقامة وإنجازها بحقيقة الإنجاز في الوعد الإلهي والحکمة الإلهية والغاية الإلهية هي بتوسّط علم التأويل، أليس للشريعة الإسلامية التي هي أکبر الشرائع أن يکون من هذه الأمّة من يزوّدهم الله بالعلم اللدنّي، أي علم التأويل؟! فلا بدَّ أن تکون تلک الواو عاطفة في سورة آل عمران.
العلم اللدنّي وعلم التأويل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):
العلم اللدنّي وعلم التأويل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لهما ترجمان ولهما تفسير ولهما موضع في منظومة عقائد أهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّه علم التدبير نفسه، وقد بينته سورة الکهف بشکل واضح جدَّاً في ظاهرة الخضر، وهو أنَّه مرتبط بقيامه بأدوار في النظام الاجتماعي، أدوار نظمية مرتبطة بالإدارة والتدبير، أي بالقيادة، أي بالإمامة، فسورة الکهف هنا تبين وتفصح بشکل طافح لائح غير غامض أنَّ العلم اللدنّي وعلم التأويل مرتبط بتدبير نظام البشر، أي مرتبط بالإمامة وبالخلافة وبالحاکمية، فهي موقعية إلهية ومنصب إلهي تدعى وتسمّى بالخلافة الإلهية، (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (7)، هذا المقام لا يبتر ولا ينقطع عن هذه السُنّة الإلهية المستمرّة من بدو الخليقة البشرية إلى نهايتها.
فسُنّة الله عز وجل - کما يعلّمنا القرآن من حقائق العقائد التي يجب أن نلتزم بها - أنَّ الخلافة الإلهية لم ولن تکون منقطعة، بل مستمرّة، نعم النبوّة والخلافة والرسالة ختمت بسيد الأنبياء، وکان بين کلّ نبوّة ونبوّة وکلّ رسالة ورسالة فترات، ولکن الخلافة ليس فيها فتور؛ لأنَّ حلقاتها متَّصلة دائماً من بدء الخليقة ابتداءاً بآدم إلى المهدي الثاني عشر خاتم الأوصياء، فللنبي خلفاء اثنا عشر کما ورد في الحديث النبوي المتواتر بين الفريقين، وهو مطابق لأصول القرآن والسُنّة القطعية.
وهنا يطرح هذا السؤال وهو: هل هناک وجه اشتراک ووجه اختلاف بين الشبکة الإنسانية الخفية في الحکومة الإلهية المزوّدة بالعلم اللدنّي وبين الإمامة والخليفة لله تعالى في أرضه المزوّدة أيضاً بالعلم اللدنّي؟
الجواب:
في الحقيقة إنَّ بيانات القرآن وبراهينه ونوره وهداه وبصائره الاعتقادية والعقدية جلية واضحة، بأنَّ الاصطفاء الإلهي لا ينحصر بالنبوّة والرسالة، بل الاصطفاء الإلهي جعل الفرد البشري المصطفى والمجتبى من قبل الله تعالى خليفة لله في الأرض وإمام، کما في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ، وقوله في شأن إبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) (8)، ومن الواضح أنَّ هذا الجعل يفترق عن التعبير فيما لو ورد: إنّي جاعلک للناس نبياً، أو إنّي جاعلک للناس رسول، فقول الله تعالى کما ورد في شأن إبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) هذا التعبير وهذه النغمة اللفظية النورية القرآنية هي على نفس وتيرة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، فالاصطفاء الإلهي لا ينحصر بالنبوّة والرسالة، بل يعمّ، کما أنَّ هناک أنبياءً وليسوا برسل فهناک خلفاء لله وأئمّة وليسوا بأنبياء ولا رسل، وقد يکون الأئمّة المنصوبون من قبل الله تعالى أيضاً أنبياء ورسل، فتجمع في بعض الأفراد کما في إبراهيم، فإنَّه نبي ورسول وإمام وخليفة لله تعالى في أرضه، لکن هذه مقامات متعدّدة في الاصطفاء الإلهي، قد تتفرَّق في أفراد، وقد تجتمع في فرد ينال أوسمة ومقامات إلهية متعدّدة، ولکن المهمّ على المسلم في تبرئة ذمّته وما يدين الله عز وجل به لينجو يوم القيامة هو أن يلتفت ويعتقد بما يقرّره له القرآن الکريم في حقائقه وبصائره، من أنَّ هناک مقاماً يسمّى مقام الإمامة الإلهية ومقام الخلافة الإلهية، له دور تدبير البشر ويزوّد بالعلم اللدنّي، وهو يغاير مقام النبوّة والرسالة من حيث المقام ومن حيث الإنسان، وإن کان قد يجتمع في شخص کما اجتمع في إبراهيم واجتمع کذلک في سيد الرسل وخاتم الأنبياء بشکل أجلى وأتمّ، وکذلک هناک مقام رابع يقصّه ويبينه لنا القرآن الکريم کما في شأن مريم وفي شأن فاطمة الزهراء، حيث ورد نصّ القرآن الکريم بتطهير کلّ من فاطمة ومريم: (إِنَّما يرِيدُ اللَّهُ لِيذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيطَهِّرَکُمْ تَطْهِيراً) (9)، وقال تعالى في خصوص مريم: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاکِ وَطَهَّرَکِ وَاصْطَفاکِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (10)، وکانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ضمن أهل البيت الخمسة، کما ورد نظير ذلک أيضاً في مريم (عليها السلام) وإن کان دون درجة الطهارة في فاطمة؛ لأنَّ درجة الطهارة التي في فاطمة کانت من نمط ونوعية الطهارة لسيد الأنبياء، وإن کانت هي تابعة لسيد الأنبياء في الفضل، لکن أشرک الله عز وجل نمط طهارة خاتم الأنبياء مع طهارة فاطمة (عليها السلام)، بينما الطهارة التي ذکرها القرآن الکريم في مريم لا تساوي أو تشاکل بينها وبين طهارة سيد الأنبياء، ممَّا يعلم بأنَّ طهارة فاطمة (عليها السلام) هي بدرجة أرقى وأعلى وأعظم شأناً من طهارة مريم، حيث ورد أيضاً في شأنها أنَّها مصطفاة وأنَّها مطهّرة، وتسمّى: صفية لله؛ وهي ليست بنبية ولا برسولة ولا بإمام ولا خليفة، ولکنَّها حجّة من حجج الله، ويجب على المسلم أن يتدبَّر هذه الحقائق العقائدية في القرآن ويستلهم عقيدته من القرآن الکريم.
وعلى طبق ذلک العلم الإلهي الذي زوّدت به مريم بقناة غيبية خاصّة أمرت مريم ببرنامج إلهي خاصّ: (فَإِمَّا تَرَينَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُکَلِّمَ الْيوْمَ إِنْسِيا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) (11)، إلى أن قامت بأداء ما عليها من وظيفة إلهية، وقد أوحي إليها بذلک، وليس هذا وحي شريعة ولا نبوّة ولا وحي رسالة، ولکن وحي حجّية، وکذلک في اُمّ موسى، أمَّا فاطمة الزهراء (عليها السلام) فهي في درجة الطهارة والاصطفاء أعلى من مريم، ومن ثَمَّ فإنَّ ما ورد في روايات الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبشکل متواتر، حتَّى في کتاب البخاري وغيره من الکتب الصحيحة عند المدارس الإسلامية الأخرى، أنَّ (فاطمة سيد نساء أهل الجنّة)، ومن أهل الجنّة مريم، واُمّ موسى، وامرأة فرعون الصالحة أيضاً التي کانت ذات مقام معين خاصّ، وفاطمة (عليها السلام) سيدة نساء أهل الجنّة أجمع، لها السؤدد لمکانها ودرجة طهارتها وارتفاعها العلوي الذي تشارک في طهارتها طهارة أبيها خاتم الرسل.
ومن الواضح أنَّ هناک درجات في العلم اللدنّي، کما في النبوّة والرسالة والأنبياء والرسل، وکيف أنَّ الله تعالى فضَّل بعضهم على بعض: (تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَينا عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ الْبَيناتِ وَأَيدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ...) (12)، ممَّا يدلّل على أنَّ في کلّ مقام من هذه المقامات الأربعة: النبوّة، والرسالة، والإمامة، والحجّية درجات ومفاضلة، فمريم حجّة ومصطفاة، واُمّ موسى حجّة ومصطفاة، وفاطمة (عليها السلام) مطهّرة وحجّة ومصطفاة اصطفاها الله للطهارة، ولکن نمط طهارة فاطمة تعلو درجة عن نمط طهارة مريم، مع کون کلّ من النموذجين أو النماذج هذه هي في مقام الحجّية والاصطفاء، ولکن فيها درجات.
إذن هناک درجات ومفاضلة، فالعلم اللدنّي الذي تزوّد به الشبکة الخفية والحجج يکون دون العلم اللدنّي الذي عند الخليفة، وکذلک ورد في الروايات في ذيل ظاهرة الخضر أنَّه بعد ما انتهى وأزف الوقت في الفراق بين النبي موسى والخضر، أتى طائر وهو ملک بصورة طائر وألقى قطرات من البحر جانباً يميناً وشمال، وشرقاً وغرب، فأوحى الله إلى النبي موسى والخضر أنَّ علمهما کقطرة من علم خاتم الأنبياء وأهل بيته. وهذا طبعاً تشهد له آيات قرآنية أخرى.
التطبيق الإلهي للشريعة:
في سورة الکهف تبين لنا أنَّ کلّ شريعة لا بدَّ أن تقترن بتطبيق إلهي أيض، کما أنَّ جهاز التطبيق وجهاز التنفيذ والجهاز الحاکم والحکومة لا بدَّ أن يکون أيضاً تعيينه وبرامجه وأوامره من الله عز وجل، وإليک هذا المثال ربَّما نشاهد دولة مرکزية، وحکومة مرکزية، وهناک حکومات محلّية لمحافظات ومقاطعات، لکن يبقى الدور الرئيسي للحکومة المرکزية، فإذا أردنا أن نقايس بينها وبين الحکومة الإلهية في وجه الأرض الذي أحد أشکالها وأنماطها دائماً هو الحکومة الخفية کما تستعرضه لنا سورة الکهف، هذه الحکومة هي الحکومة المرکزية على وجه الأرض، وبقية نظم البشر أشبه ما يمکن أن يقول القائل فيها: إنَّها حکومة محافظات أو مقاطعات ليس بيدها الحلّ والعقد في الأمور المرکزية والفصل المرکزي، نعم لها مساحات وصلاحيات محدّدة لا تتجاوزها.
وإليک مثالاً آخراً أيض، ربَّما نشاهد في عصرنا دولاً عظمى ذات نفوذ وهيمنة على دول أخرى ضعيفة، فالدولة العظمى ذات النفوذ قد تسمح للدول التي تحت هيمنتها وسيطرتها بأن تشکّل مجالس نيابية أو حکومات أو أموراً أخرى ليست خطيرة، لکن ما أن يصل الأمر إلى قضية خطيرة سواء في الجانب الاقتصادي أو العسکري أو السياسي عندها يکون التدخّل والإملاء من تلک الدولة العظمى على تلک الدول الصغيرة، أي إنَّ المسار الأصلي الذي حدّد في المنعطفات المهمّة ينطلق من الدول العظمى على الدول الصغيرة، أمَّا التفاصيل ذات الشأن غير الاستراتيجي بالنسبة للدول العظمى، توکله إلى الدول المتوسّطة أو الدول الصغيرة أو الدول الضعيفة حتَّى يخيل أنَّ فيها ديمقراطية وفيها حرّية نسبية أو سطحية، وأمَّا اللبّ والجوهر فهو بيد الدول الغنية التي يصطلح عليها بالدول العظمى ذات النفوذ، والمسار الأصلي يبقى بيدها بالضغط وبالترغيب وبالترهيب، ونحن دائماً نشاهد في ظلّ الأنظمة البشرية هناک مساحات في النفوذ ومساحات في الحکم، دوائر في القدرة لا تتقاطع، بل هي کما يقال دوائر مرکزية، وفيها دوائر فرعية جانبية. والحکومة الإلهية لخليفة الله في الأرض مع أنظمة البشر نستطيع أن نمثّل لها بهذا المثال القريب، وإن کان المثال يقرّب من جهة ويبعّد ربَّما من عشرات الجهات، لکن کتقريب إلى هذه العلاقة بين حکومة الله السياسية التي أحد أشکالها حکومة خفية تسطرها لنا سورة الکهف في ظاهرة الخضر کضمانة رابعة لبقاء الدين، وهو الموضوع الأصلي المرکزي لسورة الکهف حيث تفيدنا هذه السورة: أنَّ هذه الحکومة الإلهية بالجهاز الإلهي المزوّد بالعلم اللدنّي وبالبرامج والأدوار العصيبة المهمّة في البيئات المختلفة أنَّ الحکم والحسم والفصل له، أمَّا فيما تدنّى من أدوار أخرى متوسّطة في البرنامج الإلهي فيمکن فسح المجال لتلک الأنظمة والحکومات الوقتية البشرية، وهي تظنّ أنَّ کلّ المقدّرات بيده، والحال أنَّه ليس کلّ المقدّرات بيدها کما يظنّ کثير من الشعوب في العالم الثالث أنَّه إذا أسّس لها مجالس نيابية ودوائر انتخابية وما شابه ذلک فإنَّ زمام الأمور کلّه بيده، والحال أنَّ کثيراً من المساحات الحساسة مفروضة عليها بهيمنة الدول الکبرى، ففي الحقيقة هذا التغافل أو هذا التخيل موجود لدى دول العالم الثالث أو الدول الصغيرة أو الدول المتوسّطة بالقياس إلى هيمنة وقدرة نفوذ الدول الکبرى.
إذن الأمور الحساسة التي تقف حائلاً وسدّاً دون الفساد المنتشر ودون کثير من المخاطر المحيطة بالبشر وبالنظام البشري يقوم بها هذا الجهاز الخفي الذي تنبئنا به سورة الکهف، کما ورد لدينا في النصّ عنهم (عليهم السلام) أنَّه: (لو لا الحجّة لساخت الأرض بأهلها)(13)، وأحد تفاسير ومعاني هذا الحديث الشريف هو عين مفاد الآية الکريمة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يفْسِدُ فِيهَا وَيسْفِکُ الدِّمَاء) ، هي نوع من قطع النسل البشري، وقد أورد الباري تعالى هذا الحديث على الملائکة لأجل أن يبين أنَّ الدور المرکزي المحوري لخليفة الله هو المحافظة على عمارة الأرض وحياة البشر في الأرض، وأنَّه لولاه لانفرط عقد ونظم الحياة.
فهاهنا محور مرکزي مصيري تبينه لنا تعاليم القرآن الکريم وبياناته وبصائره، وهو أنَّ السُنّة الإلهية في جعل الخليفة والإمام (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) الذي هو على نسق (إِنِّي جاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِماماً) ، في شأن النبي إبراهيم، هذا الجعل للخليفة والإمام في الحقيقة ليس منصباً تشريفياً ووساماً إلهي، بل هو حقيقة الدور العميق الذي يشرحه لنا القرآن الکريم في سورة البقرة: (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يفْسِدُ فِيهَا وَيسْفِکُ الدِّمَاء)، أي إنَّ الخليفة والإمام في الأرض بتدبيره يحول دون الإفساد في الأرض ودون سفک الدماء ودون قطع النسل البشري، فطبيعة البشر تقتضي وتستلزم استئصال النسل البشري وسفک الدماء: (اهْبِطُواْ بَعْضُکُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (14)، طبيعة البشر تقتضي الإفساد في الأرض، ولولا تلک الحکومة الخفية لما سلم الکثير من البشر، والنظم البشرية تستعمل تجارب في شتّى المجالات والبيئات، وتلک التجارب أو تلک کثيراً ما تکون فاتکة بالصلاح البشري وببقاء النسل البشري سواء على الصعيد الصحّي أو الأمني أو البيئي أو الغذائي أو غيرها من المجالات حيث يفاجئون بعد فترة وبرهة أنَّ هذا النظام المالي أو النظام الصناعي يعصف ويحدق بالخطر على البشرية في تلک الفترة. فمن الذي حال دون وقوع المخاطر قبل أن يفيق البشر وتفيق القافلة العلمية للبشر من غفلتهم فيما يستعملونه من برامج ونظم تکون قاتلة لهم وللصلاح البشري في تلک الفترة والغفلة؟ من الذي حفظهم ودبَّر أمرهم؟ هناک قوى ما وراء معرفتهم، قوّة ما وراء شعورهم، قوّة موجودة بين أيديهم وظهرانيهم يحدّثنا عنها القرآن الکريم، وهي من أمثال شبکة الخضر تقوم بتلک الأدوار بالتنسيق مع المرکز وهو خليفة الله في الأرض.
صلة الأمّة الإسلامية بالعلم اللدنّي:
هنا نقطة أخيرة في ظاهرة الخضر، تظهر عندما نسأل أنفسنا: هل أنَّ العلم اللدنّي وعلم التأويل في خليفة الله له صلة بهذه الأمّة الإسلامية، وأنَّ سورة الکهف تعالج شأن الأمّة الإسلامية؟ هل القرآن الکريم ينبئنا عن ثلّة في هذه الأمّة لديها هذا العلم اللدنّي وعلم التأويل؟
وقد مرَّ بنا الحديث في ذلک بشکل مقتضب، أنَّ القرآن الکريم في سورة آل عمران وفي سور عديدة يحدّثنا بحديث الثقلين، وکما مرَّ بنا فحديث الثقلين قبل أن يکون حديثاً نبوياً هو حديث قرآني، وفي عدّة سور تمَّ استعراضه نظير قوله تعالى: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيکَ الْکِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْکَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيغٌ فَيتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يقُولُونَ آمَنَّا بِهِ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يذَّکَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلْبابِ).
إذن للقرآن تأويل لا يعلمه فقهاء الأمّة وعلماؤه، وإنَّما: (وَما يعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، فمن في هذه الأمّة ادّعى علم التأويل بالقرآن کلّه؟ ليس من أحد استطاع أن يدّعي ذلک غير أهل البيت (عليهم السلام)، فهم الراسخون في العلم، وهم الثقل الثاني في هذه الأمّة بعد الثقل الأوّل وهو کتاب الله، وهذه الآية في سورة آل عمران تبين أنَّ هناک ثِقْلَين مقرونين، وکما ورد الخبر المتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا أيها الناس، إنّي فرطکم، وإنَّکم واردون علي الحوض، حوض أعرض ممَّا بين بصرى إلى صنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فضّة، وإنّي سائلکم حين تردون علي عن الثقلين، فانظروا کيف تخلفوني فيهما، الثقل الأکبر کتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديکم، فاستمسکوا به لا تضلّوا ولا تبدلّوا، وعترتي أهل بيتي، فإنَّه قد نبَّأني اللطيف الخبير أنَّهما لن ينقضيا حتَّى يردا علي الحوض)(15)، والواو في (وعترتي) عاطفة کما مرَّ بن، فهل کان تأويل القرآن غير معلوم لأحد من البشر ويکون مجهولاً ومعطَّلاً! حاشا لکتاب الله أن يکون معطَّل، هذا قول المعطّلة _ والعياذ بالله _ الذين يعطّلون أحکام القرآن والمعرفة بالشريعة والمعرفة بالمعارف الإلهية، وأمَّا المثبّتين لهذه الحقائق المعتقدين لها يعلمون بأنَّ الواو عاطفة، فللقرآن الکريم تنزيل وتأويل کما ورد في الحديث النبوي الذي رواه الفريقان: أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنَّه سيقاتل على تأويل القرآن کما قاتل هو على تنزيله،(16) ومن الواضح أنَّ سيد الأنبياء وخاتم الأنبياء کان معلّم سيد الأوصياء من أهل بيته، وقد ورَّث علياً علم التنزيل والتأويل الحقّ للقرآن الکريم، وبذلک يکون خلفاء النبي من أهل بيته هم أصحاب علم التأويل، أي العلم اللدنّي.
وقد اقترن علم التأويل بالعلم اللدنّي وبأدوار الحکومة الإلهية، أي دور الإمام ومقام الإمامة والحکومة الإلهية الخفية في الأرض، وأحد أشکالها يکون في الخفاء، وبعض من أشکالها يکون في العلن.
السورة الأخرى التي تحدّثنا بحديث الثقلين في القرآن الکريم هي سورة الواقعة: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِيمٌ * فِي کِتابٍ مَکْنُونٍ) (17)، هنا الثقل الأوّل والأکبر هو کتاب مکنون، يعني في لوح محفوظ، يعجز البشر أن يصل إلى أعماقه ودرجاته وبواطنه، (لا يمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (18)، الثقل الثاني المطهّرون، وهم من عرَّفهم القرآن في سورة الأحزاب: (إِنَّما يرِيدُ اللَّهُ لِيذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيطَهِّرَکُمْ تَطْهِيراً) (19)، إذن أهل البيت هم المطهّرون في هذه الأمّة الذين اصطفاهم الله عز وجل لعلم تأويل الکتاب، فهم أصحاب مقام الإمامة.
____________________
المصادر:
1. آل عمران: 7
2. تفسير الرازي 2: 4.
3. الکهف: 65
4. الکهف: 66 -70
5. الکهف: 78
6. الکهف: 82
7. البقرة: 30
8. البقرة: 124
9. الأحزاب: 33
10. آل عمران: 42
11. مريم: 26 و27
12. البقرة: 253
13. الکافي 1: 179/ علل الشرائع 1: 197.
14. البقرة: 36
15. رواه الهيثمي في: مجمع الزوائد 10: 363؛ والطبراني في معجمه الکبير 3: 67/ ح 2683؛ والمتّقي الهندي في کنز العمّال 1: 189/ ح 958، وقد روى الحديث جمهور الخاصّة والعامّة بألفاظ عدّة لا تخرجه عن المعنى، فراجع.
16. ذخائر العقبى: 66؛ مسند أحمد 3: 33؛ مستدرک الحاکم 3: 122.
17. الواقعة: 77 و78
18. الواقعة: 79
19. الأحزاب: 33
source : http://shiastudies.net