الأسرة الكريمة :
إنّ اُسرة الإمام الصادق (عليه السلام) ، هي أجل وأسمى أسرة في دنيا العرب والإسلام،
فإنّها تلك الأسرة التي أنجبت خاتم النبيين وسيد المرسلين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)
من هذه الأسرة التي أغناها الله بفضله، والقائمة في قلوب المسلمين وعواطفهم تفرّع عملاق
هذه الاُمة، ومؤسس نهضتها الفكرية والعلمية الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)،
وقد ورث من عظماء أسرته جميع خصالهم العظيمة فكان ملء فم الدنيا في صفاته وحركاته.
الأب الكريم :
هو الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) سيد الناس لا في عصره، وإنما في جميع العصور
على امتداد التأريخ علماً وفضلا وتقوى،
ولم يظهر من أحد في ولد الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) من علم الدين والسنن وعلم
القرآن والسير، وفنون الأدب والبلاغة مثل ما ظهر منه .
الاُم الزكية :
هي السيدة المهذبة الزكية (اُم فروة) بنت الفقيه القاسم، بن محمّد بن أبي بكر، وكانت من سيدات
النساء عفة وشرفاً وفضلا، فقد تربت في بيت أبيها وهو من الفضلاء اللامعين في عصره، كما
تلقت الفقه والمعارف الإسلامية من زوجها الإمام الأعظم محمّد الباقر (عليه السلاموكانت على
جانب كبير من الفضل، حتى أصبحت مرجعاً للسيدات من نساء بلدها .
ولادة النور :
ولم تمضِ فترة طويلة من زواج السيدة (اُم فروة) بالإمام محمّد الباقر(عليه السلام) حتَّى حملت،
وعمت البشرى أفراد الأسرة العلوية، وتطلعوا إلى المولود العظيم تطلعهم لمشرق الشمس، ولما
أشرقت الأرض بولادة المولود المبارك سارعت القابلة لتزف البشرى إلى أبيه فلم تجده في
البيت، وإنما وجدت جده الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فهنأته بالمولود الجديد، وغمرت
الإمام موجات من الفرح والسرور لأنه علم أن هذا الوليد سيجدد معالم الدين، ويحيي سنّة جدّه
سيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبرته القابلة بأن له عينين زرقاوين جميلتين، فتبسم
الإمام (عليه السلام) وقال: إنه يشبه عيني والدتي .
وبادر الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى الحجرة فتناول حفيده فقبّله، وأجرى عليه مراسيم
الولادة الشرعية، فأذّن في اُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى.
لقد كانت البداية المشرقة للإمام الصادق (عليه السلام) أن استقبله جدّه الذي هو خير أهل
الأرض، وهمس في أذنه:
«الله أكبر..»...
«لا إله إلاّ الله»...
وقد غذاه بهذه الكلمات التي هي سرّ الوجود لتكون أنشودته في مستقبل حياته.
تاريخ ولادته :
اختلف المؤرخون في السنة التي وُلد فيها الإمام الصادق (عليه السلام) فمن قائل إنه وُلد
بالمدينة المنورة سنة ( 80 هـ ) .
وقال آخرون إنه وُلد سنة ( 83 هـ ) يوم الجمعة أو يوم الإثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من
شهر ربيع الأول .
وقال ثالث إنه وُلد سنة ( 86 هـ ) .
تسميته وألقابه :
اسمه الشريف فهو (جعفر) ونص كثير من المؤرخين على أن النبيّ (صلى الله عليه وآله
وسلم) هو الذي سماه بهذا الاسم، ولقّبه بالصادق.
من اسمائه : الصادق- الصابر- الفاضل- الطاهر - عمود الشرف - القائم - الكافل - المنجي
جــوده وكرمــه :
قال سعيد بن بيان : مرَّ بنا المفضل بن عمر - أنا وأخت لي - ونحن نتشاجر في ميراث
فوقف علينا ساعة ثم قال لنا : تعالوا إلى المنزل ، فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم دفعها
إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا صاحبه قال المفضل : أما إنها ليست من مالي و
لكن أبا عبد اللـه الصادق أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا أن أصلح وأفتد بها من ماله -
فهذا مال أبي عبد اللـه .
حلمــه ورأفتــه :
كان (عليه السلام ) إذا بلغه من أحد نيلاً منه أو وقيعة فيه قام إلى مصلاّه فأكثر من ركوعه
وسجوده وبالغ في ابتهاله وضراعته وهو يسأل اللـه أن يغفر لمن ظلمه بالسب ونال منه .
وإن كان من أقربائه الأدنين فكان يوصله بمال ويزيد في بره قائلاً : إني لأحب أن يعلم اللـه
أني أذللت رقبتي في رحمي ، وأني لأبادر أهل بيتي أصلهم قبل أن يستغنوا عني .
صبــره وأمانتــه :
1- كان للإمام ولداً يدعى ( إسماعيل ) وكان أكبر أولاده ، فلما شبَّ كان جمَّاع الفضائل والمكارم
حتى حسب أنه خليفة أبيه والإمام من بعده ، ولما اكتمل نبوغه صرعته المنية ، فلم يخرج لوفاته
بل دعا أصحابه إلى داره لمراسم الدفن وأتى إليهم بأفخر الأطعمة وحثهم على الأكل الهنيء ،
فسألوه عن حزنه على الفقيد الفتي الذي اختطفه الموت في ربيعه ولما يكمل من الحياة نصيبه ،
قال لهم : ومالي لا أكون كما ترون في خير أصدق الصادقين - أي الرسول (ص) - : { إنك
ميت وإنهم ميتون }
2 - وكان له ولد آخر كان في بعض طرقات المدينة يمشي أمامه غضاً طرياً ، اعترضته
غصة في حلقه فشرق بها ومات أمامه ، فبكى (ع) ولم يجزع بل اكتفى بقوله مخاطباً لجثمان
ولده الفقيد :
" لئن أخذت لقد أبقيت ، ولئن أبليت لقد عافيت " .
ثم حمله إلى النساء فصرخن فأقسم عليهن ألا يصرخن .
ثم أخرجه إلى المدفن وهو يقول : " سبحان من يقتل أولادنا ولا نزداد له إلاّ حبّاً "
عبادتــه وطاعتــه :
كل من وصف جعفر بن محمد الصادق (ع) بالعمل شفعه بالزهد والطاعة وإليك بعض
كلماتهم في ذلك :
قال مالك - إمام المذهب - : " كان جعفـر لا يخلو مـن إحـدى ثلاث خصـال ، إما مصلٍّ وإما
صائم وإما يقرأ القرآن "
وقال : " ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد
الصادق (ع) علماً وعبادةً وورعاً
امامته :
المدرسة الكبرى :
لعلنا لن نجد في التاريخ الإنساني مدرسة فكرية استطاعت أن توجه الأجيال المتطاولة ، و
تفرض عليها مبادئها وأفكارها ، ثم تبني أمة حضارية متوحدة لها كيانها وذاتيتها ، مثلما
صنعته مدرسـة الإمـام الصادق (ع) .
إن من الخطأ أن نحدد إنجازات هذه المدرسة في من درس فيها وأخذ منها من معاصريها
وإن كانوا كثيرين جدا ، وإنما بما خلّفته من أفكار ، وبما صنعته من رجال غيرّوا وجه التاريخ
ووجهوا أمته ، بل وكوَّنوا حضارته التي ظلت قروناً مستطيلة .
وإذا عرفنا بأن الثقافة الإسلامية - الشيعية منها أو السنّية - كانت ولا زالت تعتمد على الأئمة
من معاصري الإمام الصادق (ع) كالأئمة الأربعة ممن توقف المسلمون على مذاهبهم فقط ،
وبالتالي عرفنا بان معظم هؤلاء الأئمة أخذوا من هذه المدرسة أفكارهم الدينية ، حتى أن ابن
أبي الحديد أثبت أن علم المذاهب الأربعة راجع إلى الإمام الصادق في الفقه . وقد قال المؤرخ
الشهير أبو نعيم الأصفهاني : ( روى عن جعفر عدة من التابعين منهم : يحيى بن سعيد الأنصاري
وأيوب السختياني ، وأبان بن تغلب ، وأبو عمـرو بن العلاء ، ويزيد بن عبد اللـه بن هاد ، وحدث
عنه الأئمة الأعلام : مالك بن أنس ، وشعبة الحجـــــاج ، وسفيان الثوري ، وابن جريح ، وعبد
اللـه بن عمر ، وروح بن القاسم ، وسفيان بن عيينه ، وسليمان بن بلال ، وإسماعيل بن جعفر،
وحاتم بن إسماعيل ، وعبد العزيز بن المختار ، ووهب بن خالد ، وإبراهيم بن طهمان ، في
آخرين ، وأخرج عنه مسلم بن الحجاج في صحيحه محتجاً بحديثه .
بعض القصص والأحداث المهمة :
1 - كان ابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الأعمى وابن
المقفع مجتمعين بنفر من الزنادقة في الموسم بالمسجد الحرام ، وكان الإمام الصادق (ع)
متواجداً آنذاك يفتي الناس ويفسر لهم القرآن ويجيب عن المسائل بالحجج والبينات .
فطلب القوم من ابن أبي العوجاء تغليظ الإمام وسؤاله عما يفضحه بين المحيطين به .
فأجابهم بالإيجاب واتجه - بعد ان فرَّق الناس - صوب الإمام ، وقال : يا أبا عبد اللـه إن
المجالس أمانــــات ولا بدّ لكل من به سؤال أن يسأل ، أفتأذن لي في السؤال ؟ فقال له
أبو عبد اللـه : سل إن شئت .
فقال ابن أبي العوجاء : إلى كم تدوسون هذا البيدر ، وتلوذون بهذا الحجر ، وتعبدون هذا البيت
المرفوع بالطوب والمدر ، وتهرولون حوله هرولة البعير ، فهناك من فكّر في هذا وقدّر بأنه
فعل غير حكيم ولا ذي نظر . فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه ؟
فقال الصادق (ع) :
" إن من أضله اللـه وأعمى قلبه استوهم الحق فلم يستحث به ، وصار الشيطان وليّه وربّه
يورده مناهل الهلكة ولا يصدره ، وهذا بيت استعبــــد اللـه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه،
فحثهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله قبلة للمصلين له ، فهو شعبة لرضوانه ، وطريق يؤدي
إلى غفرانه ، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال ، خلقه اللـه قبل دحو الأرض
بألفي عام ، فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما زجر ، هو اللـه المنشئ للأرواح والصور " .
فقال له ابن أبي العوجاء : فأحلت على غائب .
فقال الصادق (ع) : " كيف يكون يا ويلك غائباً من هو مع خلقه شاهد ، وإليهم أقرب من حبل
الوريد ، يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يكون
إلى مكان أقرب من مكان ، تشهد له بذلك آثاره ، وتدل عليه أفعاله ، والذي بعثه بالآيات المحكمة
والبراهين الواضحة محمد رسول اللـه (ص) الذي جاءنا بهذه العبادة ، فإن شككت في شيء
في أمره فاسأل عنه " .
فأبلس ابن أبي العوجاء ولم يدر ما يقول
ثم انصرف من بين يديه ، وقال لأصحابه : سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة فألقيتموني على جمرة .
فقالوا له : أسكت فو اللـه لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه .
فقال : إليّ تقولون هذا ، إنه ابن من حلق رؤوس من ترون - وأومأ بيده إلى أهل الموسم
انطباعات عن شخصية الإمام الصادق(عليه السلام) :
أشاد الإمام الباقر (عليه السلام) أمام أعلام شيعته بفضل ولده الصادق (عليه السلام) قائلا: هذا
خير البريّة .
وافصح عمه زيد بن علي عن عظيم شأنه فقال: في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج الله به
على خلقه وحجة زماننا ابن أخي جعفر لايضلّ من تبعه ولا يهتدي من خالفه .
وقال المنصور الدوانيقي مؤبّناً الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ جعفر بن محمّد كان ممّن قال
الله فيه: (ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) وكان ممن اصطفى الله وكان من السابقين
بالخيرات .
تأسيس جامعة أهل البيت (عليهم السلام) :
1- لقد عُزلت الاُمة عن تبني أفكار الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وفقههم أكثر من قرن
وبقيت تتناقله الخواصّ في هذه الفترة عن طريق الكتابة والحفظ شفاهاً وبالطرق السرّية.
2 ـ في هذه الفترة طرحت على العالم الإسلامي تساؤلات فكريّة ومستجدّات كثيرة لم تمتلك
الاُمة لها حلاّ بسبب اتّساع البلاد الإسلامية وتبدّل الظروف وحاجات المسلمين.
3 ـ شعر المسلمون في هذا الظرف بأهمية البحث عن مبدأ فكري يتكفّل حلّ مشكلاتهم;
لأنّ النصّ المحرّف واجتهادات الصحابة أصبح متخلّفاً عن المواكبة بل أصبح بنفسه مشكلة
أمام المسلم لتعارضه مع العقل والحياة.
4 ـ في هذا العصر ظهرت مدارس فكرية متطرّفة مثل مدرسة الرأي القائلة بالقياس و
الاستحسان. زاعمة أنّ للنصوص التي نقلت عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قليلة
لا تفي بالغرض .
5- غياب القدوة الحسنة والجماعة الصالحة التي تشكل مناخاً لنمو الفضيلة وزرع الأمل في
نفوس الاُمة باتّجاه الأهداف الربّانيّة .
قام الإمام الباقر (عليه السلام) بتشكيل حلقاته العلمية في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) فكان وجوده (عليه السلام) مركز جذب لقلوب طلاب الحقيقة فالتفّ حوله صحابة أبيه
الإمام زين العابدين(عليه السلام)، وبدأ منذ ذلك الحين بالتركيز على بناء الكادر العلمي آملا
أن يواجه به المشكلات الفكرية التي بدأت تغزو الاُمة المسلمة. وكان يشكّل هذا الكادر فيما بعد
الأرضية اللازمة لمشروع الإمام الصادق (عليه السلام) المرتقب فتناول الإمام (عليه السلام)
أهمّ المشكلات الفكرية التي كان لها ارتباط وثيق بحياة الناس العقائدية والأخلاقية والسياسية.
وزجّ الإمام بكادره العلمي وسط الاُمة بعد أن عبّأه بكـل المؤهّلات التي تمكــنهُ من خوض
المعركة الفكرية حينما قال لأبان بن تغلب: «إجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإنّي اُحبّ
أن أرى في شيعتي مثلك .
موقف الإمام الصادق (عليه السلام) من ثورة زيد :
يقول مهزم الأسدي دخلت على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: يا مهزم مافعل زيد؟
قال: قلت: صلب، قال: أين؟ قلت: في كناسة بني أسد. قال: أنت رأيته مصلوباً في كناسة
بني أسد؟ قال: قلت: نعم، فبكى حتَّى بكت النساء خلف الستور .
نجد الإمام الصادق (عليه السلام) في مواقف متعدّدة يتبنّى الدفاع عن عمه زيد ويتَرحّم عليه
ويوضح منطلقاته وأهدافه ويرسّخ في النفوس مفهوماً اسلامياً عن ثورته حيث يعتبر هذه
الثورة جزءاً من حركة الإمام (عليه السلام) وليس حدثاً خارجاً عنها،
أمر الإمام (عليه السلام) شيعته بدفن زيد، لأنّ الاُمويين كانوا قد علّقوه على أعواد المشانق،
قال سليمان بن خالد: سألني الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: ما دعاكم إلى الموضع الذي
وضعتم فيه زيداً؟ قلت: خصال ثلاثة: أما إحداهنّ فقلّة من تخلّف معنا إنّما كنا ثمانية نفر،
أمّا الاُخرى فالذي تخوّفنا من الصبح أن يفضحنا، وأما الثالثة فإنّه كان مضجعه الذي كان سبق
إليه فقال: كم إلى الفرات من الموضع الذي وضعتموه فيه؟ قلت: قذفة حجر. فقال: سبحان الله
أفلا كنتم أو قرتموه حديداً وقذفتموه في الفرات وكان أفضل؟..
الإمام الصادق (عليه السلام) يشيد بثورة عمّه زيد :
كانت السلطة الحاكمة عندما تريد الانتقام من خصومها تلقي عليهم تهماً مستهجنة في نظر
عامة الناس، مثل شق عصا المسلمين ووتهمة الزندقة لتكون مسوّغاً لاستباحة دمائهم وتحشيد
البسطاء من الناس عليهم.
ومن هنا قالوا بأن ثورة زيد بن علي (عليه السلام) هي خروج على سلطان زمانه «هشام
بن عبد الملك» المفروضة طاعته من قبل الله! لأهداف كان يريدها زيد لنفسه.
وهذا الاتهام قد ردّ عليه الإمام الصادق (عليه السلام) وحاربه حين قال: لاتقولوا خرج زيد،
فإنّ زيداً كان عالماً صدوقاً ولم يدْعُكم إلى نفسه إنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله
عليه وآله وسلم)، ولو ظفر لَوَفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه .
الإمام الصادق يرسّخ الاعتقاد بالإمام المهدي (عليه السلام) :
من المبادئ التي سعى الإمام الصادق (عليه السلام) لترسيخها في نفوس الشيعة و ضمن الدور
المشترك الذي مارسه الأئمة (عليهم السلام) من قبله هي مسألة القيادة العالميّة المهدويّة التي
تمثّل الإمتداد الشرعي لقيادة الرسول (صلى الله عليه وآله) لأنها العقيدة التي تجسّد طموحات
الأنبياء والأئمة حسب التفسير الإسلامي للتأريخ الذي يؤكّد بأن وراثة الأرض سوف تكون
للصالحين من عباده قال تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذّكر أن الأرض يرثها عبادي
الصالحون ) .
وترسيخ فكرة الإمام المهدي وتربية الشيعة على الاعتقاد الدائم بها تمنح الإنسان الشيعي الثائر
روح الأمل الذي لا يتوقّف والقدرة على الصمود والمصابرة وعدم التنازل للباطل، فكان الإمام
الصادق (عليه السلام) يقول : « إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلاّ نودي فيها شهادة أن
لا اله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله»
وبهذه الحقيقة التأريخية يزداد الشيعي اعتقاداً بأن جهده سوف يكون جزءاً من الحركة الإلهيّة
بجهوده المستمرّة سوف يقترب من الهدف المنشود ويرى الاضطهاد الذي يتعرّض له الشيعة
والمسلمون سيزول حتماً حين ينتقم اصحاب الحق ممن ظلمهم وتعمّ العدالة وجه الأرض جميعاً
الإمام الصادق يهيّء الخط الشيعي للمواصلة :
لقد كانت الفترة الأخيرة من حياة الإمام الصادق (عليه السلام) مع حكومة المنصور فترة تشدّد
ومراقبة لحركة الإمام، تخللتها محاولات اغتيال عديدة، لكن الإمام(عليه السلام) علم أن المنصور
قد صمّم على قتله، ولهذا مارس جملة من الانشطة ليهيّء فيها الخط الشيعي لمواصلة الطريق
من بعده.
النشاط الأول :
حاول الإمام الصادق (عليه السلام) أن يجعل من الصف الشيعي صفّاً متماسكاً في عمله و
نشاطه ، وركّز على قيادة الإمام الكاظم (عليه السلام) من بعده فيما لو تعرّض لعملية قتل من
قبل المنصور .
تأكيد الإمام الصادق على إمامـة الإمام الكاظم سلام الله عليه من بعده :
أمام حشد كبير من أعيان الشيعة بأن اسماعيل قد توفّي ودفناستغلال بعضهم لقضية إسماعيل
وزعمهم بأن الإمامة تقع في إسماعيل وأنّه حيّ وقد خرج في البصرة وشاهده بعض الناس .
وهنا يقوم الإمام الصادق(عليه السلام) بجملة من الخطوات لمعالجة هذه المشكلة التي سوف
تُفتّت الصفّ الشيعي من بعده.
1 ـ قال زرارة بن أعين: دعا الإمام الصادق (عليه السلام) داود بن كثير الرقي وحمران بن
أعين ، وأبا بصير ، ودخل عليه المفضّل بن عمر وأتى بجماعة حتى صاروا ثلاثين رجلا
فقال: « يا داود اكشف عن وجه اسماعيل »، فكشف عن وجهه ، فقال : «تأمّله يا داود ،
فانظره أحيّ هو أم ميّت ؟» فقال: بل هو ميّت . فجعل يعرّضه على رجل رجل حتى أتى على
أخرهم فقال : «اللّهم اشهد» . ثم أمر بغسله وتجهيزه .
ثم قال : «يا مفضّل احسر عن وجهه، فحسر عن وجهه»، فقال: «أحيّ هو أم ميت؟»
انظروه أجمعكم» فقال : بل هو يا سيدنا ميّت .
فقال : «شهدتم بذلك وتحققتموه»؟ قالوا : نعم، وقد تعجبوا من فعله .
فقال : «اللّهم أشهد عليهم». ثم حمل إلى قبره ، فلمّا وضع في لحده ، قال :
«يا مفضل ، اكشف عن وجهه» فكشف ، فقال للجماعة: «انظروا أحيّ هو أم ميتّ ؟»
فقالوا : بل ميّت، يا وليّ الله .
فقال: «اللّهم اشهد فإنه سيرتاب المبطلون (يريدون أن يطفئوا نور الله) » ـ ثم أومى إلى
موسى (عليه السلام) وقال:(والله مُتم نوره ولو كره الكافرون) .
ثم حثّوا عليه التراب ، ثم اعاد علينا القول فقال: «الميّت المكفّن المدفون في هذا اللحد من
هو ؟» قلنا : اسماعيل ولدك .
فقال: «اللّهم أشهد». ثم أخذ بيد موسى فقال : «هو حق ، والحق معه ومنه ، إلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها .
نماذج من فقه الإمام الصادق(عليه السلام) :
1- قال الصادق(عليه السلام): «خلق الله الماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه
أو ريحه» .
2- قال أبو عبدالله(عليه السلام): «إن سمعت الأذان وأنت على الخلا، فقل مثل ما يقول المؤذّن
ولا تَدَع ذكر الله في تلك الحال، لأنّ ذكر الله حسن على كلّ حال».
3- وقال(عليه السلام): «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة».
4- وقيل للصادق(عليه السلام): «ليلة القدر كانت أو تكون في كلّ عام؟ فقال: «لو رفعت
ليلة القدر، لرفع القرآن».
من مواعظ الإمام الصادق(عليه السلام) :
1 ـ قال(عليه السلام): «ليس منّا ولا كرامة من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وفيهم
من هو أورع منه».
قال الصادق(عليه السلام) لرجل: «أوصيك إذا أنت هممت بامر فتدبّر عاقبته، فإن يك رشداً
فأمضه وإن يك غيّاً فانته عنه ».
3-وقال(عليه السلام): «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه»، قيل: كيف يذل نفسه؟ قال: «يتعرّض
لما لا يطيق .
استشــهاده سلام الله عليه :
في النصف من رجب، والأوّل هو المشهور، واتّفق المؤرّخون من الفريقين على أن وفاته كانت
عام 148 .
كما اتّفق مؤلفو الشيعة على أن المنصور اغتاله بالسمّ على يد عامله بالمدينة، وقيل أن السّم كان
في عنب كما ذكر ذلك الكفعمي في المصباح .
وذكر بعض أهل السنّة أيضاً موته بالسمّ، كما في «إِسعاف الراغبين» و«نور الأبصار» و
«تذكرة الخواص» و«الصواعق المحرقة» وغيرها .
ولمّا كاد أن يلفظ النفس الأخير من حياته أمر أن يجمعوا له كلّ مَن بينه وبينهم قرابة، وبعد أن
اجتمعوا عنده فتح عينيه في وجوههم فقال مخاطباً لهم : إِن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة ..
وهذا يدلّنا على عظم اهتمام الشارع الأقدس بالصلاة، فلم تشغل إِمامنا عليه السلام ساعة الموت
عن هذه الوصيّة، وما ذاك إِلا لأنه الإمام الذي يهمّه أمر الاُمة وإِرشادها الى الصلاح حتّى آخر
نفس من حياته، وكانت الصلاة أهم ما يوصي به ويلفت اليه.
وكانت زوجته اُمّ حميدة تعجب من تلك الحال وأن الموت كيف لم يشغله عن الاهتمام بشأن هذه
الوصيّة، فكانت تبكي اذا تذكّرت حالته تلك .
وأمر أيضاً وهو بتلك الحال لكلّ واحد من ذوي رحمه بصلة، وللحسن الأفطس بسبعين ديناراً،
فقالت له مولاته سالمة : أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك ؟ قال : تريدين ألا أكون
من الذين قال اللّه عزّ وجل فيهم : « والذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربّهم و
يخافون سوء الحساب» نعم يا سالمة إِن اللّه خلق الجنّة فطيّب ريحها، وإِن ريحها ليوجد من
مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريحها عاقّ ولا قاطع رحم .
وهذا أيضاً يرشدنا الى أهميّة صِلة الأرحام بعد الصلاة وقد كشف في بيانه عن أثر القطيعة.
وما اكتفى عليه السلام بصِلة رحمه فقط بل وصل من قطعه منهم بل مَن همّ بقتله، تلك الأخلاق
النبويّة العالية.
الموت والفناء في نظر الصادق (عليه السلام) :
يعتقد سواد الناس، ولو من الناحية السطحية، أن الموت حقيقة تدل على أن الحياة عبث، و
لا طائل من وراءها، وانه دليل على بطلان كل شيء، كما أن هناك من يعتقد أن الموت
عقوبة ظالمة للعباد.
ولكن الواقع أن الموت يؤدي وظيفة هامة بالنسبة للإنسان والحيوان والكائنات الحية، ولولاه
لأنقرض نسل الإنسان ولضاقت الأرض بسكانها، ولاعتدى القوي على الضعيف.
إلى هذا المح الإمام الصادق (عليه السلام) في الدروس التي كان يلقيها على بعض طلابه.
حديث الإمام الصادق سلام الله عليه الى المفضل عن الموت :
قال المفضل: فلما كان اليوم الرابع ، بكرت إلى مولاي، فستؤذن لي، فأمرني بالجلوس،
فجلست، فقال عليه السلام: من التحميد والتسبيح والتعظيم والتقديس، للاسم الأقدم والنور
الأعظم العلي العلام ذي الجلال والإكرام، ومنشئ الأنام، ومفني العوالم والدهور، وصاحب
السر المستور، والغيب المحظور، والاسم المخزون والعلم المكنون.
وصلواته وبركاته على مبلغ وحيه، مؤدي رسالته، الذي بعثه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله
بإذنه وسراجاً منيراً، ليهلك من هلك عن بينه، ويحيى من حي عن بينة، فعليه وعلى آله من
بارئه الصلوات الطيبات، والتحيات الذاكيات الناميات، وعليه وعليهم السلام.
الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك:
(( وقد شرحت وقد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق، والشواهد على صواب التدبير
والعمد في الإنسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك، ما فيه عبرة لمن اعتبر. وأنا أشرح
لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخلق
والخالق، والعمد والتدبير، وما أنكرت المعطلة والمنافية من المكاره والمصائب، وما أنكروه
من الموت والفناء.
ومما ينتقده الجاحدون للعمد والتقدير للموت والفناء، فإنهم يذهبون إلى انه ينبغي ان يكون الناس
مخلدين في هذه الدنيا، مبرئين من هذه الآفات، فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته، فينظر
ما محصوله.
أفرأيت، لو كان كل من دخل العالم ويدخله يبقون، لا يموت أحد منه من ألم تكن الأرض تضيق
بهم، حتى تعوزهم المساكن والمزارع والمعائش، فإنهم والموت يفنيهم أولاً فأولاً، يتنافسون
في المساكن والمزارع، حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب وتسفك فيهم الدماء، فكيف كانت
تكون حالهم لو كانوا يولدون ولا يموتون، وكان يغلب عليهم الحرص والشره وقساوة القلوب،
فلو وثقوا بأنهم يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء يناله، ولا أفرج لأحد عن شيء من أمور
الدنيا، كما قد يمل الحياة من طال عمره، حتى يتمنى الموت والراحة من الدنيا...
فإن قالوا: إنه ينبغي أنه يرفع عنهم المكاره والأوصاب حتى لا يتمنوا الموت ولا يشتاقوا إليه،
فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو والأشر، الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا والدين.
وإن قالوا: إنه كان ينبغي ان لا يتوالدوا لكيلا تضيق عنهم المساكن والمعائش.
قيل لهم: إذا كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم والاستمتاع بنعم الله تعالى ومواهبه في الدارين
جميعاً، إذن لم يدخل العالم إلا قرن واحد، لا يتوالدون ولا يتناسلون...
فإن قالوا: إنه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق ويخلق إلى
انقضاء العالم.
يقال لهم: رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن والمعائش عنهم، ثم لو كانوا لا يتوالدون
ولا يتناسلون، لذهب بالقرابات وذوي الأرحام والانتصار بهم عند الشدائد، وموضع تربية الأولاد والسرور بهم، نفي هذا دليل على أن كل ما تذهب إليه الأوهام ـ وما جرى به التدبير ـ خطأ وسفه
من الرأي والقول.
ولعل طاعناً يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول: كيف يكون ها هنا تدبير، ونحن نرى الناس
في هذه الدنيا أن القوي يظلم ويغضب، والضعيف يظلم ويسام الخسف، والصالح فقير مبتلى، و
الفاسق معافى موسع عليه، ومن ركب فاحشة أو انتهك محرماً لم يعالج بالعقوبة.
فلو كان في العالم تدبير، لجرت الأمور على القياس القائم، فكان الصالح هو المرزوق، والطالح هو المحروم، وكان القوي يمنع من ظلم الضعيف، والمنتهك للمحارم يعالج بالعقوبة.
فيقال في جواب ذلك: إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل الله به الإنسان على
غيره من الخلق، وحمل النفس لى البر والعمل الصالح احتساباً للثواب وثقة بما وعد الله عنه، و
لصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا والعلف ويلمح لها بكل واحدٍ منهما ساعة فساعة
فتستقيم على ذلك ولم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب، حتى كان هذا يخرجهم عن حد
الإنسية إلى حد البهائم، ثم لا يعرف ما غاب، ولا يعمل غلا على الحاضر من نعيم الدنيا، وكان
يحدث من هذا أيضاً أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق والسعة في هذه الدنيا ويكون الممتنع من
الظلم والفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته، حتى تكون أفعال الناس كلها
تجري على الحاضر، لا يشوبه شيء من اليقين بما عند الله، ولا يستحقون ثواب الآخرة والنعيم
الدائم فيها، مع إن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من الغنى والفقر والعافية والبلاء ليست بجارية
على خلاف قياسه، بل قد تجري على ذلك أحياناَ.
فقد ترى كثير من الصالحين يرزقون المال لضروب من التدبير، ولكيلا يسبق إلى قلوب الناس
أن الكفار هم المرزقون، والأبرار هم المحرومون، فيؤثرون الفسق على الصلاح، وترى كثيراً
من الفساق يعالجون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم وعظم ضررهم على الناس وعلى أنفسهم، كما
عولج فرعون بالغرق وبختنصر (نبوخذنصر) بالتيه وبلبيس بالقتل.
وإن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة وأخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى
على العباد، لم يكن هذا مما يبطل التدبير، فإن مثل هذا يكون من ملوك الأرض ولا يبطل
تدبيرهم، بل يكون تأخيرهم ما أخروه وتعجيلهم ما عجلوه داخلاً في صواب الرأي والتدبير،
وإذا كانت الشواهد تشهد وقياسهم يوجب أن للأشياء خالقاً حكيماً قادراً، فما يمنعه أن يدبر خلقه،
فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال، إما عجز وإما
جهل وإما شرارة، وكل هذا محال في صنعته عز وجل وتعالى ذكره. وذكر أن العاجز لا يستطيع
أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة، والجاهل لا يهتدي لما فيها من الصواب والحكمة، والشرير
لا يتطاول لخلقها وإنشائها. وإذا كان هذا هكذا، وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا
محالة، وإن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير ومخارجه، فإن كثيراً من تدبير الملوك لا تفهمه العامة
ولا تعرف أسبابه، لأنها لا تعرف دخيلة الملوك وأسرارهم، فإذا عرف سببه وجد قائماً على
الصواب والشاهد المحنة )) .
تلك كانت نظرية الصادق (عليه السلام) بشأن الموت وحكمته، وكانت له نظريات أخرى في
الحركة والوجود أوردناها في ما سبق، وكلها تشهد له بنفاذ النظرة، وصفاء المذهب، وسلامة
المنطق، وجلاء البصر والبصيرة، والقدرة على استكناه حقائق الأشياء، والاستعداد التلقائي
لاستيعاب فلسفة الحياة والكون واستنباط ما استتر من خفاياها وما غفلت عنه كبار العقول المفكرة.
حقاً، لقد كان الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) واحد عصره، وقمة القمم في علوم الدين والدنيا
في عصور كثرة ممتدة.
فسلام الله عليك يا إمـامي مابقيت وبقي الليل والنهار ..
source : www.aban.ir