جيران اللّه
هؤلاء هم جيران الناس، ولكن هناك جيران من نوع آخر وهم الذين اصطلحت عليهم بعض الأحاديث وفق ما جاء في القرآن الكريم بقوله تعالى[ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ] [القمر:55] تعبير عن جوار الله ، ولذا نقول عن المؤمن العامل إذا مات انتقل إلى جوار اللّه.
وفي الحديث الشريف عن رسول اللّه (ص) : ((إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الخلائق في صعيد واحد ونادى مناد من عند اللّه أين أهل الصبر؟ـ فيأتون فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بغير حساب ـ ثم ينادي مناد آخر: أين أهل الفضل؟ ـ فيقال لهم : ادخلوا الجنة بغير حساب، ـ ثم ينادي مناد من اللّه عز وجل يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم، فيقول: أين جيران اللّه جلّ جلاله في داره؟ـ فاللّه تعالى يعطيهم هذه المكرمة بأن يجعلهم جيرانه وهو الشرف كلّ الشرف والعزّ كلّ العزّ ـ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم: ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران اللّه تعالى في داره؟ فيقولون: كنّا نتحابّ في اللّه عزّ وجل ـ فعندما نحبّ بعضنا بعضاً فإننا نحبّ من خلال عمق العلاقة باللّه سبحانه وتعالى، لأنّ اللّه أراد للمؤمن أن يحبّ المؤمن، لا على أساس مصلحة أو غاية أو قرابة ـ ونتباذل في اللّه ـ بحيث يبذل كلّ واحد من ماله ونفسه لصاحبه ـ ونتآزر في اللّه ـ أي يؤازر كلّ واحد منا صاحبه ويساعده في شؤون البرّ ومجالات الخير والعمل الصالح، وكلّ ذلك لحساب اللّه ولأجل رضاه ـ قال: فينادي منادٍ من عند اللّه تعالى: صدق عبادي خلّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار اللّه في الجنّة بغير حساب)). وهذه من أعمق الأخلاق الإسلامية التي يعيشها الإنسان المؤمن في داخل نفسه لتنعكس على حركته الاجتماعية في الحياة، فالإنسان الذي تحرّكت عاطفته ومشاريعه التعاونية والتواصلية على أساس أن يقصد بها وجه اللّه ولا يقصد بها غيره هو إنسان وصل إلى مستوى إيمانيّ رفيع في محبّته للّه تعالى بحيث انعكس ذلك على كلّ علاقاته وتحرّكاته الاجتماعية.
كما أنّ قيمة هذا السلوك الذي يرتفع بصاحبه بحيث يصبح جاراً للّه هو أنّه يشدّ المجتمع المؤمن بعضه أزر بعض بحيث يشعر المؤمن أنّ إيمانه يتحرّك اجتماعياً، وأنَّ هذا الإيمان يحميه اجتماعياً ويحقّق له المحبّة في نفوس أبناء مجتمعه من خلال التواصل الاجتماعي معهم، وبذلك ينمو الإيمان في وجدان الإنسان عندما يرى أثره في المجتمع المؤمن في الدنيا، كما ينمو إيمان المجتمع المؤمن عندما تتركز علاقاته على أساس العلاقة باللّه سبحانه وتعالى. وهذا أمر لابدّ أن نربّي أنفسنا وأولادنا عليه. لأنّ المشكلة التي نعيشها في أغلب المجتمعات غير الإسلامية، وحتى في مجتمعاتنا الإسلامية هي أن هذه المجتمعات استحالت إلى تجمعات حقد وتباغض وعداوة، بحيث لم يعد الإنسان يأمن على نفسه ولا على سمعته ولا على ماله ولا على حقوقه التي له على الناس، لأنّ العلاقات الاجتماعية أصبحت تتحرّك من خلال التعقيدات الذاتية والمصالح الشخصية، أكثر مما تتحرّك من خلال الخطوط الإيمانية.
ولعلّ هذا الواقع المأساوي الذي تعيشه مجتمعاتنا الإسلامية بلغ من التمزّق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمنيّ حدّاً أنّ اللّه تعالى لم يعد له أدنى حساب في علاقات الناس ببعضهم البعض، فالحسابات اليوم هي حسابات الناس الذين لدينا مصالح معهم، فلو نشب خلاف بين مؤمنين وأنت أحد الطرفين وجاءك الناس يتوسطون عندك ويقولون لك: في سبيل اللّه وعلى حساب اللّه تسامح في حقّك؟ إلا تقول: ما دخل اللّه في الأمر؟ أو: لا تدخلوا اللّه في هذا الحساب؟ ولكن لو قالوا لك: على حساب فلان، الذي هو رئيس عشيرة أو وجيه اجتماعي أو مسؤول سياسي، فأنت تتساهل وتلبي رغبتهم وكأن وجاهة فلان هي اليوم أكثر تقديراً عند بعض الناس من اللّه سبحانه وتعالى. أليس هذا هو الواقع الاجتماعي الذي نعيشه؟ .
فعلينا أن نعيد النظر في ذلك، لأنّنا نخشى - ونعوذ باللّه من ذلك - أن يكون الإيمان عندنا مجرّد شيء على السطح.
الجوار الاجتماعي
هذا ما كان من الحديث عن الجوار بالمعنى الماديّ المستقر كبيت إلى جوار بيت آخر، ولكن هناك جوار اجتماعي متمثّل بجار المجلس، فالحاضرون في المجلس جيران بعضهم البعض ولا يصح أن يؤذي أحد غيره من الجيرانه في المجلس، فنحن نستوحي مراعاة الجار في البيت مراعاته في المجلس، فلا ينبغي أن يزعج أحدهم بأي شكل من أشكال الإزعاج فلا يؤذيه ولا يضيّق عليه مجلسه، بل عليه احترام جاره في المجلس فلا يقوم بأيّ عمل يؤدّي إلى إهانته، وعندما يشعر بأنه جاره يتأذى منه بسبب التدخين فمن حقه عليه أن لا يدخن وهو جالس إلى جانبه، فحرية الإنسان أن يدخن في بيته بل لا يجوز له ذلك لأنه يضرّ بزوجته وأطفاله. ذلك أنّ الأطباء يقولون: إنّ التدخين السلبي هو أخطر من التدخين الإيجابي، فضرر الدخان الذي يتلقاه الجليس من المدخن أكبر من الضرر الذي يصيب المدخن نفسه، وخصوصاً المرأة الحامل لأنّ الدخان يؤذيها ويؤذي جنينها في نفس الوقت.
الجار في السيارة أيضاً، فلا يجوز لك أن تدخن وأنت جالس إلى جواره أو في أي مقعد من المقاعد، وإذا كان يسيئه الصوت العالي فلا ترفع صوت المذياع عالياً، لأنَّ ذلك يحطّم أعصابه. ولا يجوز لك أن تفعل ذلك بحجّة أنّك حرّ، فحرّيتك في المجتمع تنتهي عندما تبدأ حرية غيرك، فهناك فرق بين الحياة الفردية وبين الحياة الاجتماعية، ففي الأولى تملك نفسك فيما أحلّه اللّه ولكنّك لا تملك غيرك، فعندما تصبح زوجاً - ذكراً كنت أم أنثى - فعليك أن تراعي الآخر الذي اصبح داخلاً في حياتك وأصبحت داخلاً في حياته { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } [البقرة:87]. فالعلاقة الزوجية الحياتية في التداخل كعلاقة الثوب بالبدن، فعلى الزوج أو الزوجة أن يتركا حياتهما الفردية إذا كانت تضرّ بحياتهما الزوجية المشتركة، فقد يسهرالزوج مع رفاقه إلى ساعة متأخرة، وقد تذهب الزوجة إلى بيت أهلها لوقت طويل ويبقى زوجها في انتظارها، ناسيين أنّهما عندما عقدا عقد الزواج ارتبطا برباط يتعيّن عليهما احترام شروطه ومقتضياته.
فهناك إذاً الإنسان الفرد والإنسان المجتمع، فلا يصحّ أن يدخل الإنسان الفرد في الإنسان المجتمع، الجار هو جار سواء في البيت أو في المسجد أو في المجلس أو في محلّ العمل أو في الشارع، فالناس الذين يمشون في الشارع كلّ منهم جارٌ للآخر، فعلينا أن لا نعمل في الشارع ما يؤذي جيراننا، فإذا أردت أن تعبّر عن الاحتجاج باشعال دولاب سيارة فإنّك بذلك تؤذي كلّ الذين يمشون في الشارع أو يسكنون بالقرب منه، فنحن نستوحي من الاحاديث الخاصّة بحق الجليس على جليسه والمسافر على مرافقه، بأنّ مسألة الجوار تتسع لأية حالة يجاور فيها شخص شخصاً في مجلس أو شارع أو قاعة وما إلى ذلك .
إن المشكلة التي نعيشها في المجتمع العربي ، هي أننا لم نتربّ كمجتمع وإنّما نتربّى كأفراد، وكما تحدثت مراراً فإنّ أمامنا معادلتين تمثلان المجتمع الحضاري والآخر المتخلّف: الأولى معادلة (أنا والآخر)، والثانية معادلة (أنا لا الآخر) كما قال الشاعر:
ما علينا إن قضى الشعب جميعاً أفلسـنا فـي أمـان؟!
فلننطلق من أجل إن نكون المسؤولين عن المجتمع إذا كنّا جزءاً منه ، وهذا ما عبّر عنه رسول اللّه (ص): ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر)) بأن نكون مجتمع تكامل وتكافل الأعضاء في الجسد، ولنصنع الإنسان والمجتمع .. ويبقى للإنسان الفرد دائرة ضيقة من حيث ما يأكل ويشرب ويستمتع، أمّا في المسؤوليات العامّة، فعلى الفرد أن يحبس نفسه في دائرته الشخصية وينطلق إلى الساحة العامّة بمزاج المجتمع لأنّ هذا هو الإسلام: ((ما آمن بي..))، و((مثل المؤمنين..))، ومعنى ذلك أن الإسلام يمثل حركة عقلك وقلبك وطاقاتك من أجل سعادة المجتمع كله والحياة كلّها.
source : www.tebyan.net