الشيعة في اندونسيا
ماذا يعني بالاتجاه الشيعي؟
ان الفرق الاساسي بين الشيعة والسنة هو التمسك و التقيد بأهل بيت النبي (ص)، حيث ان الشيعة يرون ان اهل البيت هم الثقل الثاني بعد القرآن الذي اوصى بهما النبي (ص) وانهم الخلفاء والأئمة الذين يمسكون أعنّة الامور الدينية والدنيوية من بعد وفاة النبي (ص). بخلاف اهل السنة الذين كفاهم في امور الدين الرجوع الى القرآن والسنة. كما ان البيئة الدينية التي عايشها الشيعة تختلف عن البيئة الدينية السنية فلا يعرف عند الشيعة الاتجاه الديني التقليدي و التجديدي لأنّهم معتقدون ان الطريق في فهم الشريعة على نحوين: الاجتهاد والتقليد. وهم بالتالي منقسمون الى قسمين: المجتهدون الذين لديهم كفائة علمية معترفة تؤهّلهم لمراجعة القرآن واحاديث النبي واهل بيته في فهم الشريعة بصورة مباشرة، و العوام الذين يقلدون المجتهدين في ممارسة الشريعة.
واذا كان الرجوع بصورة مباشرة الى القرآن والسنة مما يفرضه الحركة التجديدية و كذا التقليد من سمات التقليديين عند اهل السنة فكلا حالين موجودان عند الشيعة على حدة الا ان الفرق بين اهل السنة والشيعة في هذه المسألة، ان الحركة التجديدية من
اهل السنة يفرضون الرجوع الى القرآن والسنة على كافة المسلمين واما الشيعة فيخصّون ذلك للمجتهدين فقط، و اما العوام فيجب عليهم التقليد، وعند التقليديين من اهل السنة ان التقليد بأحد الأئمة الأربعة يجب على كافة المسلمين.
تواجد الشيعة في اندونسيا
نظر بعض الناس أن الشيعة تواجدت في اندونسيا متزامنة ومجيئ الدعاة المسلمين العرب والفرس الاولين. بعض النقوش الحجرية على المقابر وبعض التقاليد التي تشبه بشيئ من تقاليد المجتمع الشيعي من المؤيدات على هذه النظرية(78). وقد يدفعهم ايضا الى هذه النظرية وجود السادة المنتسبة الى الرسول صلى الله عليه وآله المنتشرة في اندونسيا. لقد ذكر العلامة محمد جواد مغنية في كتابه " الشيعة في الميزان " عن عدد الشيعة في اندونسيا حيث يقول: وفيها (اندونسيا) اليوم عدة ملايين من الشيعة الاثني عشرية " (79).هذا العدد الذي ذكره يحتاج الى التثبت. وليس غرضي هنا التعرّض الى البحث عن تاريخ دخول التشيّع في اندونسيا وعدده بالتدقيق.
على أيّ حال, ان تواجد الشيعة -قلّة اوكثرة و منذ قديم او حديث - مما يشهده الواقع الاندونسي الراهن. وكان للثورة
____________
(78) راجع " دخول وانتشار الاسلام في اندونسيا " و " المملكات الاسلامية في سومطراء " في الصفحات السابقة.
(79) الشيعة في الميزان، محمد جواد مغنية 204.
الاسلامية تحت زعامة السيد الامام الخميني في ايران اليد الطولى والدور المهمّ في ان يتعرّف الشعب الاندونسي المسلم على التشيّع, لأن المتبادر الى اذهان كثير من المسلمين فور انتصار الثورة الاسلامية على اكبر طاغوت في الدول الاسلامية هو التساؤل عمّا يحقّق هذا الانتصار من خلفيات ايدلوجية او فكرية. فإنّ وراء كلّ ثورة تغيّر الثبات بشكل جذريّ قوّةً ايدلوجية اوفكرية تلهم روّادها لتكريسها, كثورة فرنسية تسوقها القوة العلمانية. فالتشيّع كمنهاج فكريّ وعمليّ ثوّار بلاريب هوالذي يحفّز الشعب الايراني المسلم الى تغيير الثبات الملكي الذي شيّده الشاهنساهي. وقد عبّر عن خلفية هذا الانتصار زعيم الثورة السيد الخميني قائلا: " إن كل مانمتلكه انمانمتلكه من محرم وصفر " ,مؤميا بذلك الى أن إحياء مناسبة عاشوراء و الأربعين قد درّستهم روح التفاني والإيثار وما الى ذلك من نبائل الصفات.
ففي سنتي التاسعة والسبعين و الثمانين ملأ الجوّ الإعلامي في اندونسيا أنباء انتصار الثورة وماانتجته من تشكيل الجمهورية الاسلامية، ولم يعد في هاتين السنتين الحديث حول التشيّع يجلب مسامع وقلوب المسلمين لأن الثورة قد أبهرتهم وشغلتهم عن غيرها. ثم شرع عقب هذا الإعلام انتشار الكتب عن التشيّع وفي طليعتها كتاب " المراجعات " الذي تمّ له تجديد الطبع مرات عديدة، فصابوا نحو التشيّع صوبا حثيثا لعدة سنوات, ولايسدّ هذا الصوب الحثيث الا الذين سمّوا انفسهم بحركة التوحيد (السلفي) والذي همّهم
الوحيد تصفية عقائد المسلمين من امور زعموها شركا وبدعة، فضربوا طبل الحرب على التشيّع بين عشية وضحاها ثمّ تبعا لهم بعض التقليديين من السنة فينسبون الى التشيّع أشياء و هو بريئ منها. فكان من مغبّة ذلك أن تخفّ دعوة التشيّع وتصاب بنوع من الفتور والخمود. وهذا لايعني أن دعوة التشيّع توقّفت كلّيا او انّ بؤرته خمدت ولم تعد تتوقّد، بل ولازالت المؤسسات و المنتديات العلمية الشيعية تمارس نشاطاتها وبرامجها.
ولم يجر الى الآن الفحص الإحصائي عن عدد الشيعة في اندونسيا عدا ما يقدّر بمالايبلغ خمسين الفا نسمة. وهذا العدد الأقلّ ليس بشيئ يذكر اذا قيس بكلّ سكان اندونسيا البالغ عددهم مائتين مليون نسمة.
التطور الفكري الشيعي في اندونسيا
وأقصد من الفكرة الشيعية في اندونسيا هي الافكار التي تسود المجتمع الشيعي فيها. فقد تنشأ الافكار في المجتمع الشيعي الجديد كإندونسيا-مثلا- تختلف عن الافكارالسائدة في المجتمع الذي تعرّف على التشيّع منذ مئات السنة, وهذا امر تحكمه طبيعة تشكّل المجتمع الجديد المتنقّل من الافكار والتقاليد القديمة. فالمجتمع الشيعي في اندونسيا بصفته مجتمع جديد جاءت أفراده من خلفيات مذهبية و ثقافية وعلمية متعددة ذات افكار وتقاليد قد تختلف عن افكار و تقاليد الشيعة. وعليه فإن الاعراض عن الافكار والتقاليد
القديمة كلّيا والممارسة على الافكار والتقاليد الجديدة ليس كتقليب الأكفّ في ثانية واحدة ,وانما يحتاج ذلك الى الوقت الطويل.
وأركّز حديثي في هذه الصفحات على ثلاثة افكار منها: الفكرة الفقهية والفكرة الفلسفية والفكرة العرفانية.
الأولى: الفكرة الفقهية
ان الفقه مماأكّدت عليه مدرسة التشيّع ويعتبر جزءها الرئيسي بل هو من أبرزسماتها. وقد اهتمّ به علماء الشيعة -قديما وحديثا- اهتماما بالغا يفوق اهتمامهم بغيره من معالم التشيّع كالكلام والفلسفة والعرفان. ويمكن القول بالتأكيد ان مدارس الفقه السنية لاتحافظ على الفكرة الفقهية بمقدار ما تحافظ عليه مدرسة التشيّع. وقد أسس أساس هذه الفكرة الامام الباقر والامام الصادق وشيّد صرخها على ذلك الاساس علماء الشيعة منذ حقب من الزمان الى يومنا هذا. ولازالت هذه المدرسة تخرّج المجتهدين الفقهاء البارعين وتنزّلهم في أعلى درجة الصدارة بحيث تفوّض اليهم أعنّة الزعامة لأنهم - حسب اعتقاد الشيعة - نوّاب المعصومين - النبي واهل بيته - الشرعيين في العلم والمنصب.
بماأن خلفيات أفراد التشيّع في اندونسيا تتعدد وقد كان بعض منهم له خلفية مذهبية تعاكس مدرسة التشيّع فيأتي اليها مع خلفيته المذهبية. وعلى سبيل المثال مسألة التقليد والمرجعية، علما بانهما من معالم الشيعة البارزة. فقد تشيّع البعض منذ سنوات ولكن لازال
في ممارسة الفقه الامامي لايقلد أيّ مرجع بل يرجع الى كتب الأحاديث , ولايرى لنفسه لزاما على التقليد فلا يفهم جيدا مساءل التقليد والمرجعية, وذلك لأنه كان سابقا ممن يحرّم التقليد، او لأن بيئته المذهبية لاتهتمّ بالتقليد بمقدار ما تهتمّ به بيئة التشيّع. وقد حصل للبعض الأخر عدم الفهم المطلوب في مسألة الخمس بحيث يخرّج الخمس بمالايطابق فتاوى الفقهاء. كما ان البعض منهم تصوّر ان التقيّد بالفقه الامامي ليس مهمّا, ولايرى لنفسه لزاما على ممارسة الفقه , ويرى ان ممارسة الفقه ليست الا زيادة الامور الخلافية, فيقصرون في اتباع التشيّع على مايتعلق بالإعتقادات والتاريخ بأن أمير المؤمنين علي احقّ الناس بالخلافة وان أئمة اهل البيت هم خلفاء الرسول المعصومون وسدنة وحيه وابواب علمه.
الثانية: الفكرة الفلسفية
لاشك أن للفلسفة الالهية بصورة عامة-خاصة في العقود الاخيرة- مكانة عالية في مدرسة التشيّع. وقد الّفت في هذه المدرسة الكتب الفلسفية كما تصدّر منها نوابغ الفلاسفة كالعلامة الطبأطبائ والامام الخميني والشهيد المطهري. نعم، بعض علماء الشيعة لاتروقهم الافكار الفلسفية لأسباب لايهمّنا ذكرها هنا.
على أي حال، أصبحت الفلسفة هي سمة اخرى تخص هذه المدرسة، وليس لبقية الفرق الاسلامية في اندونسيا ادنى اعتناء بالفلسفة، بل بعضها يحرّم المنطق والفلسفة لانها من ابداعات العقل
الذي لا ينتج الا تهافتات وتناقضات. فاذا لمع فيلسوف منهم فإنه بالتأكيد لايمثّل مدرسته بل ربما يواجه العداء من ابناء مدرسته.
وعلى عكس الفكرة الفقهي، فإن الفلسفة الالهية من أحد الاسباب التي تدفع الكثير من الشباب المتعلمين والمفكرين الى التشيّع، لأن البيئة الدينية او المذهبية التي عايشها المسلمون في اندونسيا عزلت الفلسفة والمساءل العقلية وأماتت القوة العقلية المفطورة في كل انسان. وهذا مما أدّى لبعض المفكّرين والشباب الأحرارمنهم الى بحثها والجري وراءها تلبية لنداء فطرتهم. ولولا أن تعرّفوا على مؤلّفات الشهيد المطهري و الشهيد محمد الباقر الصدر وعلي شريعتي لانكبّوا على الكتب الفلسفية المادية الغربية وتأثروا بها. فوجدوا من التشيّع مايروي الغليل ويشفي العليل. ثم دعتهم خلفيتهم الأكاديمية الحرية الى الاطّلاع على الفلسفة اكثر، فشرعوا يطالعون الكتب الفلسفية الالهية الدقيقة من خلال ترجمتها الانجلزية كمنظومة السبزواري و بعض مؤلفات الحكيم صدرالدين الشيرازي.
الثالثة: الفكرة الصوفية
إنه لمن مميّزات مدرسة التشيّع ان تقف في طليعة كل شعبة من شعب العلم الاسلامي بل كل علم بشري اجمع اذا لم تخنها غوالي الزمان العصيب الطويل, لأن هذه المدرسة تلقّت معالمها من معينها الذي لاينضب وكنزها الذي لاينفد, رسول الله واهل بيته
عليهم الصلاة والسلام. ومماتمتاز به مدرسة التشيّع هو التحفظ على التراث الذي ورّثه ائمتهاالمعصومون في منهاج السير والسلوك الى الله تعالى, اومايعبّر عنه بالعرفان أو -ان صحّ التعبير- " التصوّف " . ان حياتهم الفكرية والعملية لدلالة واضحة على انطلاقهم الى الله تعالى. وقد كان كلّ طريقة صوفية دارجة عند المسلمين كالنقشبندية او التيجانية اوغيرها- حسب مايدعيه اتباعها- لها صلة مباشرة اوغير مباشرة في سلسلة اشياخهم بأحد أئمة اهل البيت عليهم السلام, وهم يعترفون بفضل أئمة اهل البيت وسبقهم في السير والسلوك نحوالله تعالى. وعندي في ادعائهم وجود الصلة الى اهل البيت واعترافهم بفضلهم وسبقهم ملاحظة تسائلني في كثير من الاحيان وهي ماالذي ادّى بطرائق صوفية الى الأخذ بالتصوف من اهل البيت حسب زعمهم ولم يأخذوا بغيره من الاعتقادات والاحكام منهم؟.
هذه الملاحظة ربما يعتبرها بعض الشيعة في اندونسيا من الطفيليات وانها تنشأ من ذوي الافكار الساذجة الجامدة , ثمّ بالتالي يقولون ان السنة والشيعة ليست الا الفئات الفقهية التي تصبّ اهتمامها الى الهملات الاعتقادية والفقهية الموجبة للتفرقة ,وان الانسان السالك - شيعيا كان او سنيا- نحو ربّه في انشغال دائم به تعالى عن تلك الهملات. هذا النوع من التفكير ألمّ بعض الشيعة في اندونسيا, وهم بهذا التفكير يفرّقون بين الفقه والعرفان (التصوف) وان الانسان المتقيد بالفقه لايمكن ان يسلك مدارج العرفان كما ان
السالك لابد وان يخلع من نفسه المظاهر المذهبية ويتحرر من الاطار الفقهي.
في رأيي ان هذا التفكير من رسوبات الفكرة الصوفية السنية, وليس في مدرسة التشيّع التفريق بين الفقه والعرفان والفلسفة, وان كل واحد منه شعاع من أشعّة مدرسة التشيّع. وحسبي في ذلك شخصية الامام الخميني حيث يتوحّد فيها الفقه والعرفان والفلسفة, بالطبع ليس هو الوحيد المتخرج من مدرسة التشيع.
واكبر مظهر لهذا التفكير هو عقد المهرجان باسم " الرقص الصوفي " المنسوب الى الشيخ جلال الدين الرومي. وفي هذا المهرجان يرقص الرجال والنساء مع حركات تشير-على زعم القائلين بهذا التفكير- الى جمال الله و جلاله وتعبّر عن العشق الالهي على مرأى ومسمع من الناس. ولايمكن القول - في نظرهم- بعدم جواز ذلك, فإن هذا القول من شأن الفقهاء الذين لايدركون مقامات واحوال الصوفيين, على ان التصوف أسمى من اطارات الفقه.
والذي لابدّ من النقاش هنا بعد تقديري للشيخ جلال الدين الرومي أربع نقاط تالية:
الأولى:
صحة نسبة هذا الرقص الصوفي الى الشيخ جلال الدين الرومي.
الثانية:
اذا صحّت النسبة اليه فهل بالتأكيد انّ المعنيّ من الرقص تلك الحركات الجسدية؟ ولعلّ معنى اخر غير معنى ظاهري تعنيه كلمة الرقص, لان العرفاء قد يعبّرون عن المعنويات وتجاربهم الروحية من خلال الكلمات المألوفة عند اكثر الناس, وليس بمقدور كل انسان ان يدرك مقاصدها الحقيقية.
الثالثة:
اذا قلنا ان الشيخ الرومي يرقص جسديا وذلك لأجل انه وجد نفسه في نشوة اللقاء مع الله تعالى, وما تمثّل في ذلك المهرجان ليس عن نشوة اللقاء الالهي وانما طرب ينبعث من الغناء والموسيقا, والطاربون كلهم شابّ وشابّة ولاتلوح منهم أثار اللقاء مع الله تعالى.
الرابعة:
ليس هناك مايضمن على عدم وجود التحريفات في تعاليم الشيخ الرومي, والتحريفات امر طبيعي في التعاليم التي اخترقت السنوات الطوال.
هذا, والأمر ادهى وأمرّ ان نسب هذا الرقص الى مدرسة التشيّع لأن بعض القائمين به من أجلّة الشيعة في اندونسيا.
ثم ان الحياة المادية العصرية قد أبعدت المسلمين من المعنويات ثم دعتهم فطرتهم الى الرجوع الى الله تعالى فشاعت الجلسات والمنتديات الصوفية سواء في ساحة النظرية او العملية خاصة
للأثرياء الذين كانت اسباب العيش الرغد المرفّه متوفّرة بين ظهرانيهم.