ولادة الإمام الجواد:
كان قد مرّ من عمر الإمام الثّامن عليّ بن موسى الرّضا (عليه السلام) اكثر من اربعين عاماً لكنّه لم يُرزق بولد، فكان هذا الامر محزنا ومقلقاً للشّيعة ، حيث كانوا يعتقدون (حسب الرّوايات الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)والأئمة المعصومين(عليهم السلام)) بأنّ الإمام التّاسع سيكون ابن الإمام الثّامن، ولهذا كانوا ينتظرون بفارغ الصّبر ان يمّن الله تعالى على الإمام الرّضا (عليه السلام) بولد، حتّى انّهم في بعض الاحيان كانوا يذهبون الى الإمام (عليه السلام)ويطلبون منه ان يدعوا الله سبحانه بان يرزقه ولداً، والإمام (عليه السلام)يسلّيهم في الجواب ويقول لهم:
« انّ الله سوف يرزقني ولداً يكون الوارث لي والإمام من بعدي ».
واخيراً ولد الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) في اليوم العاشر من شهر رجب عام «195» هجريّة قمريّة.
وقد سُمّي بـ«محمّد»، وكنيته «أبو جعفر»، وأشهر ألقابه « التقيّ » و« الجواد ».
وأشاعت ولادته الفرح والسّرور في المجتمع الشّيعيّ، وأدّت الى تقوية الايمان والاعتقاد، وذلك لانّ التّرديد الّذي كان من الممكن ان يطرأ على قلوب بعض الشّيعة بسبب تأخّر ولادة هذا الإمام الكريم قد زال تماماً.
و قد روى الكليني عن يحيى الصنعاني، قال: دخلت على أبي الحسن الرضا (ع) وهو بمكة, وهو يقشّر موزاً ويطعمه أبا جعفر (ع)، فقلت له:
جعلت فداك, هذا المولود المبارك؟
قال: (نعم، يا يحيى, هذا المولود الذي لم يُولد في الإسلام مثله مولودٌ أعظم بركةً على شيعتنا منه). (الكافي6/361)
تقول «حكيمة» أخت الإمام الرّضا (عليه السلام): عند ولادة الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) طلب منّي اخي أن أكون الى جانب «خيزران»، وفي اليوم الثّالث من ولادة هذا الطّفل فقد فتح عينيه ونظر الى السّماء ثمّ التفت يميناً وشمالاً وقال:
«اشهد ان لا اله اِلا الله وأشهد ان محمّداً رسول الله»، ولمّا لا حظت هذا الامر العجيب نهضتُ خائفة مضطربة وذهبت الى اخي ونقلت له ما شاهدته، فقال الإمام: إنّ ما سوف ترونه منه بعد ذلك اكثر مما رأيتموه لحدّ الان.
زوجاته وأولاده (ع):
تزوج (ع) أم الفضل بنت المأمون، واتخذ (ع) أمهات أولاد فأنجب منهن علي الهادي(ع)، وموسى، وفاطمة وامامة، أما أم الفضل فلم ينجب منها.
أمُّه (ع)
أم ولدٍ يقال لها (سبيكة) نُوبيّة، وقيل ايضا: إن اسمها كان (خيرزان)، وروي أنّها كانت من أهل بيت مارية أمّ إبراهيم بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله). (الكافي1/492).
كنيته ولقبه (ع)
كنيته (أبو جعفر). وأما ألقابه فهي: (المرتضى) و(القانع) و(الجواد)، وهو أشهرها.
أبناؤه
ابنه الأكبر الإمام عليّ الهادي عليه السّلام ، ومِن بعده موسى المعروف بـ « المُبرقَع » ويكنّى بأبي أحمد. ويقال إنّ له أبناء آخرين ، هم : الحسن ، وأبو أحمد الحسين ، وأبو موسى عمران.
أمّا من البنات فذكروا للإمام الجواد عليه السّلام عدداً منهنّ : فاطمة ، وأُمامة ، وحكيمة ، وخديجة ، وأمّ كلثوم ، وبريهة ، وزينب ، وميمونة ، واُمّ محمّد. وقيل : لم يخلّف من البنات إلاّ فاطمة وأُمامة ، ولكنّ حكيمة عمّة الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام كانت معروفة ، وهي التي حضرت مولد الإمام الحجّة المهديّ عجلّ الله تعالى فرجّه الشريف.
أصحابه وخواصّه
مِن ثقاته : أيّوب بن نوح بن دَرّاج الكوفيّ ، وجعفر بن محمّد بن يونس الأحول ، والحسين بن مسلم بن الحسن ، والمختار بن زياد العبديّ البصريّ ، ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب الكوفي.
أمّا أصحابه فقد عدّ بعضهم قرابة مئتين وسبعين شخصاً ، أشهرهم : أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ ، الفضل بن شاذان ، أبو تمّام حبيب الطائيّ ، أبو الحسن عليّ بن مهزيار الأهوازيّ ، محمّد بن أبي عُمَير ، محمّد بن سِنان ، عليّ بن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام ، إسماعيل بن الإمام الكاظم عليه السّلام ، زكريّا بن آدم ، يونس بن عبدالرحمن ، عبدالجبّار النهاونديّ ، خَيران الخادم ، هشام بن الحكم.. وآخرون.
روى بعضهم عنه عليه السّلام ، كما روى عنه العشرات ، منهم : إبراهيم بن أبي البلاد ، إبراهيم بن أبي محمود ، إبراهيم بن هاشم القمّي ، أحمد بن أبي عبدالله البرقيّ ، أحمد بن محمّد بن عيسى القمّي ، الحسين بن عليّ الوشّاء ، الحسين بن الإمام موسى الكاظم عليه السّلام ، حكيمة ابنته ، حكيمة اُخته ، أبو هاشم داود بن القاسم الجعفريّ ، دِعبِل بن عليّ الخزاعيّ ، الريّان بن شَبيب ، الريّان بن الصَّلت ، زكريّا بنه آدم القمّي ، الصقر بن أبي دُلَف ، السيّد عبد العظيم بن عبدالله الحسَنيّ ، ابنه الإمام عليّ الهادي سلام الله عليه ، عليّ بن مهزيار ، محمّد بن إسماعيل بن بزيغ ، محمّد بن الحارث النوفليّ ، محمّد بن الفضيل الصيرفيّ ، مُعمَّر بن خلاّد ، الموفّق ، ياسر الخادم.. وآخرون كُثر.
إمامة الجواد (ع):
تولّى الإمام الجواد (ع) الإمامة الفعلية في سن مبكرة من عمره الشريف، فقد كان عند شهادة أبيه الرضا (ع) ابن سبع سنين الأمر الذي أثار استغراب الناس عموماً.
وقد رُوي عن صفوان بن يحيى أنه سأل الرضا (ع) عن الخليفة بعده، فأشار الإمام إلى ابنه الجواد (ع) وكان في الثالثة في عمره فقال صفوان: جعلت فداك! هذا ابن ثلاث سنين؟! فقال (ع): وما يضر ذلك؟ لقد قام عيسى (ع) بالحجة وهو ابن ثلاث سنين. وكان الرضا (ع) يخاطب ابنه الجواد (ع) بالتعظيم وما كان يذكره إلاّ بكنيته فيقول "كتب إليّ أبو جعفر" و"كنت أكتب إلى أبي جعفر" وكان يكرر هذا الكلام في حق ابنه رغم صغر سنه دفعاً لتعجب الناس من انتقال الخلافة إليه وهو صغير السن، كما كان يستشهد على أن البلوغ لا قيمة له في موضوع الإمامة بقوله تعالى في شأن يحيى (ع): "واتيناه الحكم صبيا". وقد أثبت الإمام الجواد (ع) سعة علمه وقوّة حجته وعظمة اياته منذ صغره، فكان الناس في المدينة يسألونه ويستفتونه وهو ابن تسع سنين.. والمتتبع للروايات والأخبار يجد أن الإمام الرضا (ع) عمل على إزالة اللبس والاشتباه في موضوع إمامة الجواد (ع) بالأدلة والبراهين ومهّد له بكافّة الطرق والأساليب فكان يأمر أصحابه بالسلام على ابنه بالإمامة والإذعان بالطاعة كما في قوله لسنان ابن نافع: "يا بن نافع سلّم وأذعن له بالطاعة، فروحه روحي، وروحي روح رسول الله (ص)".
ويقول«محمّد بن أبي عباد» أيضاً: سمعت الإمام الرّضا (عليه السلام)يقول: أبو جعفر وصيّي من بعدي وخليفتي من أهل بيتي.
ينقل «الخيراني» عن ابيه أنّه قال: كنت عند الإمام الرضّا (عليه السلام)في خراسان فسأله شخص: لو حدث لك أمر فلمن نرجع؟
قال: ارجعوا لولدي أبي جعفر.
وكأنّ السائل لم يكن يرى عمر الإمام الجواد كافيا (وهو يفكّر كيف يمكن ان يتولّى الإمامة طفل صغير) فقال الإمام الرضا (عليه السلام): « لقد بعث الله تعالى عيسى بالنبوّة والرسالة بينما كان عمره أقلّ من العمر الحاليّ لابي جعفر ».
يقول «عبد الله بن جعفر»: ذهبت مع «صفوان بن يحيى» الى الإمام الرضا (عليه السلام)، وكان الإمام الجواد حاضراً وعمره ثلاث سنين ، فسألنا الإمام: لو جرى لك حادث فمن هو خليفتك؟
فأشار الإمام الى أبي جعفر وقال: ولدي هذا.
قلنا: وهو بهذا العمر؟
قال: اجل بهذا العمر وهذا السنّ، والله تعالى جعل عيسى (عليه السلام)حجّته بينما لم يصل حتّى الى ثلاث سنين.
الإمام (ع) والمأمون:
كان الإمام الجواد (ع) في السادسة من عمره حينما خرج والده الرضا (ع) من المدينة إلى خراسان، وبعد اغتيال الإمام الرضا (ع) انتقل المأمون إلى بغداد واستدعى الإمام الجواد إليه، في محاولة احتوائه والحد من نشاطه في المدينة التي كان يرقى إلى منبرها ويخاطب الناس بقوله: "ولولا تظاهر أهل الباطل، ودولة أهل الضلال ووثوب أهل الجهل لقلتُ قولاً تعجّب منه الأولون والاخرون!! يضع يده الشريفة على فمه ويقول: "يا محمد أصمت كما صمت اباؤك من قبل".
وفي بغداد تظاهر المأمون بإكرام الإمام وبرّه فأنزله بالقرب من داره وأسكنه في قصره وعزم على تزويجه من ابنته أم الفضل. ليدفع عنه التهمة بتصفية الرضا (ع) التي زعزعت من ولاء أهل خرسان له. وعرّضته لانتفاضاتهم التي كانت تظهر بين حين واخر، وليتركه قريباً منه وتحت المراقبة الأمنية خوفاً وحذراً من تحريك العلويين ضده.
ولكن تزويجه من ابنته أم الفضل أثار مخاوف العباسيين من أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى إليه مع أبيه الرضا من ولاية العهد، فاجتمع أقطابهم إلى المأمون قائلين له: "إن هذا الفتى صبي لا معرفة له ولا فقه، فأمهله حتى يتأدب ويتفقّه في الدين.." في محاولة منهم لمنع حصول هذا الأمر إذ كان يؤرقهم دائماً فكرة انتقال الخلافة إلى منافسيهم العلويين. فأجابهم المأمون: "ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم! وإن أهل هذا البيت علمهم ومواهبهم من الله تعالى ومن إلهامه، وإن شئتم فامتحنوه" فأجمعوا أمرهم على إحضار قاضي القضاة يحيى بن أكثم ليمتحن الإمام (ع). واختيارهم لقاضي القضاة وهو أعلى منصب ديني في الدولة انذاك يدل على مدى خوفهم من الإمام واعترافهم بعظمته رغم صغر سنه. وفي مجلس حاشد واجه القاضي يحيى الإمام (ع) بالمسألة التالية: ما تقول في محرم قتل صيداً؟ وبكل بساطة واطمئنان أجاب الإمام (ع): قتله في حِل ٍ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حراً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصراً على ما فعل أم نادماً؟ ليلاً كان قتله للصيد أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟ واشرأبت الأعناق إلى القاضي يحيى الذي كان أعجز من أن يتابع مسألة الإمام (ع) فبان عليه الارتباك وظهر فشله وعجزه، فقال المأمون لهم: أعرفتم ما كنتم تجهلون؟ وتوّج المأمون انتصاره بعقد قران ابنته من الإمام (ع) في نفس المجلس.
الإمام (ع) في المدينة:
لم تخفَ على الإمام (ع) أهداف المأمون التي كانت تخضع للحسابات الانية الضيقة والمصلحة الشخصية. بينما جاءت تصرفات الإمام مبنية على أساس المصلحة الإسلامية العامة ومنسجمة مع الحسابات الواسعة التي تخدم الإسلام عل المدى البعيد. واستطاع الإمام بذلك أن يحقق أهدافه من خلال:
1- إبقاء الشرخ الكبير بين المأمون والأسرة العباسية بتزوّجه من أم الفضل.
2- تدعيم قضية الإمامة وإظهار أحقيتها، في مواجهة التشكيك بها نتيجة صغر سنه، وتمّ ذلك عبر مواجهة قاضي القضاة أعلى منصب ديني في الدولة وإفحامه، وغيرها من المحاججات.
3- إيجاد أكبر قدر من الحرية على مستوى تحركات الإمام واتصاله بقواعده الشعبية وتخفيف وطأة الضغط عليهم.
وبالفعل إنتقل الإمام (ع) إلى المدينة رغم تحفظات المأمون ليمارس مهامه في التوعية والتثقيف والإرشاد في أجواء ملائمة لم يكن خلالها في ضيق من أمره ولا مراقباً من أحد. فكان أصحابه يتصلون به مباشرة وتصل إليهم الأحكام الشرعية والحقوق. كما كان يدرّس ويحاور ويبين للناس ما اشتبه عليهم من أمر دينهم ودنياهم حتى تحوّل بيته إلى مدرسة يؤمها العلماء والفقهاء من مختلف أقطار العالم الإسلامي، وتخرّج منها العديد من أصحاب الفضل في حفظ الأحاديث والأحكام ونقلها لأتباعهم.
من وصايا الإمام الجواد (ع)
"توسد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض الشهوات، وخالف الهوى، واعلم أنك لن تخلو من عين اللّه، فانظر كيف تكون".
"إياك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف المسلول، يحسن منظره، ويقبح أثره".
"لا تعادي أحداً حتى تعرف الذي بينه وبين اللّه تعالى، فإن كان محسناً فإنه لا يسلمه إليك، وإن كان مسيئاً فإن علمك به يكفيه فلا تعاده".
"لا تعالجوا الأمر قبل بلوغه فتندموا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم، وارحموا ضعفاءكم، واطلبوا من اللّه الرحمة بالرحمة فيهم".
"لا تكن ولياً للّه تعالى في العلانية، وعدواً له في السر".
"اصبر على ما تكره فيما لزمك الحق، واصبر عما تحب فيما يدعوك إلى الهوى".
ـ من نصائحه (ع) لبعض شيعته ودعائه لهم
عن علي بن مهزيار, عن بكر بن صالح قال: كتب صهرٌ لي إلى أبي جعفر الثاني (ع): أن أبي ناصب خبيث الرأي, وقد لقيت منه شدّةً وجهدا، فرأيك - جعلت فداك - في الدعاء لي، وما ترى - جُعلت فداك - أفترى أن أُكاشفه أم أُداريه؟
فكتب (عليه السلام): (قد فهمت كتابك وما ذكرت من أمر أبيك، ولست أدَعُ الدعاء لك إن شاء الله، والمداراة خيرٌ لك من المكاشفة، ومع العسر يسر، فاصبر إنّ العاقبة للمتقين، ثبّتك الله على ولاية من تولّيت، نحن وأنتم في وديعة الله الذي لا تضيع ودائعه).
قال بكر: فعطف الله بقلب أبيه حتى صار لا يخالفه في شيء. (مستدرك الوسائل15/178).
مناظرة الإمام محمد الجواد عليه السلام مع يحيى ابن أكثم:
لما ثَقُلَ على العباسيين أمر تزويج الإمام محمد الجواد من ابنة المأمون قال لهم: ويحكم إني أعْرَفُ بهذا الفتى منكم، وإن شئتم فامتحنوه، فإن كان كما وصفتم قَبِلْتُ منكم، فقالوا: لقد رضينا لك ولأنفسنا بامتحانه فَخَلِّ بيننا لنعين من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة فإن أصاب الجواب لم يكن لنا اعتراض ... ثم اجتمع رأيهم على يحيى بن أكثم وهو يوم ذاك قاضي القضاة، على أن يسأل مسألة لا يعرف الجواب عنها، ووعده بأموال نفيسة إن هو استطاع ذلك. وعادوا إلى المأمون يسألونه أن يعين يوماً لهذه المناظرة. وفي اليوم الذي عينه المأمون حضر الإمام (ع) وقاضي القضاة والمأمون وجلس الناس على مراتبهم، واستأذنه يحيى بن أكثم في السؤال فأذن له فقال: أصلحك الله يا أبا جعفر ما تقول في مُحْرِمٍ قتل صيداً، فقال الإمام (ع) وهو ابن سبع سنين وأشهر: قتله عمداً أو خطأً، حراً كان أم عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أم معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيره، من صغار الصيد كان أم من كباره، مصراً على ما فعله أو نادماً، في الليل كان قَتْلُه للصيد في أوكارها أم نهاراً وعياناًَ محرماً كان للعمرة أو للحج؟!
فتحيَّر يحيى بن أكثم وانقطع انقطاعاً لم يخفَ على أحد من أهل المجلس وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتى عرف الناس منه ذلك .. فطلب المأمون من الإمام (ع) أن يذكر الحلول لتلك الفروض. وبعد أن أجاب عنها بكاملها اسودت وجوه العباسيين.
وأضاف الرواة لذلك أن المأمون طلب من الإمام أبي جعفر أن يسأل يحيى بن أكثم كما سأله فأجابه الإمام وقال ليحيى: أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار حلت له،فلما زالت الشمس حروت عليه، فلما دخل عليه وقت العصر حلت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما دخل عليه وقت عشاء الآخرة حلت له، فلما انتصف الليل حرمت عليه، وبطلوع الفجر حلت له. فما حال هذه المرأة وبما حلت له وحرمت عليه؟ فقال يحيى بن أكثم: والله لا أهتدي لجوابك ولا أعرف الوجه في ذلك فإن رأيت أن تفيدنا. فقال أبو جعفر (ع): هذه أَمَةٌ لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليها، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلَّت له، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلَّت له، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له.
فأقبل المأمون على من حضره من اهل بيته فقال لهم: هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال فقالوا: لا والله إن أمير المؤمنين أعلم بما رأى. ثم قال لهم كما يدعي الراوي: ويحكم إن أهل هذا البيت خُصُّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أن رسول الله (ص) افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو ابن عشر سنين وقَبِلَ الإسلام منه وحكم له ولم يدع أحداً في سنه غيره، أفلا تعلمون الآن ما خصَّ الله به هؤلاء القوم وأنهم ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم، فقالوا: صدقت يا أمير المؤمنين.
إستشهاده (ع)
استمر الإمام الجواد (ع) في مسيرته الإصلاحية حتى وفاة المأمون. وخلفه المعتصم الذي كان يمثّل قمّة الإنحراف على رأس السلطة. ولم ترق له نشاطات الإمام الإصلاحية فاستدعاه إلى بغداد ووضعه تحت الإقامة الجبرية مدة من الزمن بهدف الحد من نشاطه، ولكنه بات يشكل خطراً عليه نتيجة التفاف الناس حوله وتأثرهم به.
و کان المعتصم العبّاسي يتحيّن الفرص لقتل الإمام الجواد عليه السّلام حتّى تهيّأ له سببان ، الأوّل : تحريك قُضاته له ، ومنهم أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة ، فأثاروا في نفسه الخبيثة مكامن الحقد والغضب والانتقام. والثاني : تبنّي جعفر بن المأمون موضوع الاغتيال على يد اُخته الخائنة اُمّ الفضل إمرأة الإمام الجواد عليه السّلام ، فأقدمت اُمّ الفضل ، بأمرٍ من عمّها المعتصم ، وتشجيعٍ من أخيها جعفر على هذه الجريمة ، فدسّت السمّ للإمام الجواد عليه السّلام وكان صائماً في يوم صائف ، فأفطر عليه وقضى به مسموماً شهيداً ، يوم السبت آخرَ ذي القعدة الحرام سنة 220 هجرية ، وهو في ريعان شبابه الشريف ، إذ لم يبلغ عمره المبارك إلاّ خمساً وعشرين سنة وأربعة أشهر.
جاء في كتاب (المناقب - ابن شهر آشوب) أنه (ع) قبض ببغداد مسموماً في آخر ذي القعدة، وقيل: يوم السبت لستٍ خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين, ودفن في مقابر قريش إلى جنب موسى بن جعفر (عليه السلام) (وهي اليوم تُدعى بـ « الكاظميّة » وتقع في جانب الكرخ من مدينة بغداد عاصمة العراق) وعمره خمسٌ وعشرون سنة, وقالوا: وثلاثة أشهرٍ وإثنان وعشرون يوما. (راجع بحار الأنوار50/7).
من خصال الامام الجواد(ع)
ـ عصمته ومقاومته (ع) للإغراءات والاستفزازات
روى محمد بن الريّان, فقال:
اِحتال المأمون على أبي جعفر (عليه السلام) بكلّ حيلة, فلم يمكنه فيه شيء، فلمّا اعتلَّ وأراد أن يبني عليه ابنته - (أي يزوّجه بـ ابنته أم الفضل) - دفع إليّ مائتي وصيفة - (الأمة الجميلة) - من أجمل ما يكون, إلى كل واحدةٍ منهنَّ جاماً فيه جوهرٌ يستقبلن أبا جعفر (عليه السلام)، إذا قعد في موضع الأخيار, فلم يلتفت إليهنّ.
وكان رجلٌ يقال له مخارق صاحب صوتٍ وعودٍ وضربٍِ، طويل اللحية، فدعاه المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره، فقعد بين يدي أبي جعفر (عليه السلام), فشهق مخارق شهقةً اجتمع عليه أهل الدار، وجعل يضرب بعوده ويغنّي، فلمّا فعل ساعةً وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه لا يميناً ولا شمالاً، ثم رفع رأسه إليه رأسه، وقال:
(اتقّ الله ياذا العُثنون!). (العُثْنون من اللحية: مانبت على الذقن وتحته سِفْلاً، ويقال لطويل اللحية).
قال: فسقط المضراب من يده والعود، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات.
قال: فسأله المأمون عن حاله، قال: لمّا صاح بي أبو جعفر فزعت فزعةً لا أفيق منها أبداً. (الكافي1/495,494).
- ترحُّمه (ع) على الثابتين على الحق وتجليله لهم
عن محمد بن إسحاق والحسن بن محمد قالا: خرجنا بعد وفاة زكريا بن آدم إلى الحجّ فتلقّانا كتّابه - (أي كتّاب الإمام الجواد (ع)) - في بعض الطريق:
(ذكرتَ ما جرى من قضاء الله في الرجل المتوفى رحمه الله يوم وُلِدَ ويوم قُبض ويوم يبعث حيّاً، فقد عاش أيام حياته عارفاً بالحقّ, قائلاً به، صابراً محتسباً للحق، قائماً بما يحبّ الله ورسوله، ومضى رحمة الله عليه غير ناكثٍٍ ولا مبدّل، فجزاه الله أجر نيتّه وأعطاه جزاء سعيه..). (بحار الأنوار50/104)
علم الإمام الجواد :
إنّ الإمام الجواد ( عليه السلام ) انتهت إليه الإمامة وهو ابن سبع ، ونهض بأعبائها ، وقام بما قام به آباؤه من التعليم والإرشاد ، وأخذ منه العلماء خاضعين مستفيدين ، وما وجدت فيه نقصاً عن علوم آياته ، وهذا علي بن جعفر ـ شيخ العلويين في عهده سنّاً وفضلاً ـ إذا أقبل الجواد ( عليه السلام ) يقوم فيقبّل يده ، وإِذا خرج يسوّي له نعله .
وسئل عن الناطق بعد الإمام الرضا ( عليه السلام ) فقال : أبو جعفر ابنه ، فقيل له : أنت في سنّك وقدرك وأبوك جعفر بن محمّد تقول هذا القول في هذا الغلام ، فقال : ما أراك إِلاّ شيطاناً ، ثمّ أخذ بلحيته ، وقال : فما حيلتي إِن كان الله رآه أهلاً لهذا ، ولم ير هذه الشيبة لها أهلاً .
هذا ، وعلي بن جعفر أخ الكاظم ( عليه السلام ) ، والكاظم جدّ الجواد ، فماذا ترى بينهما من السن ، وعلي أخذ العلم من أبيه الصادق وأخيه الكاظم وابن أخيه الرضا ( عليهم السلام ) ، فلو كان علمهم بالتحصيل لكان علي أكثر تحصيلاً ، أو الإمامة بالسنّ ، لكان علي أكبر العلويين سنّاً .
على أنّ الإمام الجواد ( عليه السلام ) قد فارقه أبوه يوم سافر إلى خراسان وهو ابن خمس ، فمن الذي كان يؤدّبه ويثقّفه بعد أبيه حتّى جعله بتلك المنزلة العالية لو كان ما عندهم عن تعلّم وتأدّب ؟ ولم لا يكون المعلّم والمثقف هو صاحب المنزلة دونه .
زهد الإمام الجواد ( عليه السلام)
لقد كان الإمام الجواد (عليه السلام ) شاباً في مقتبل العمر ، وكان المأمون يغدق عليه الأموال الوافرة البالغة مليون درهم . وكانت الحقوق الشرعية ترد إليه ( عليه السلام ) من الطائفة الشيعية التي تذهب إلى إمامته ، بالإضافة إلى الأوقاف التي في مدينة قُم المقدسة وغيرها .
إلا أنه ( عليه السلام ) لم يكن ينفق شيئاً منها في أموره الخاصة ، وإنما كان ينفقها على الفقراء والمعوزين والمحرومين .
وقد رآه الحسين المكاري في بغداد ، وكان محاطاً بهالة من التعظيم والتكريم من قِبل الأوساط الرسمية والشعبية ، فحدثَتْه نفسُه أنه لا يرجع إلى وطنه يثرب ، وسوف يقيم في بغداد راتعاً في النعم والترف .
فعرف الإمام ( عليه السلام ) قصده وانعطف عليه وقال له : يا حسين ، خبز الشعير ، وملح الجريش ، في حرم جَدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحب إليَّ مما تراني فيه .
عبادة الإمام الجواد ( عليه السلام )
كان الإمام الجواد ( عليه السلام ) كثير النوافل ، ويقول الرواة : كان يصلّي ركعتين يقرأ في كلّ ركعة سورة الفاتحة ، وسورة الإخلاص سبعين مرّة .
وكان الإمام الجواد ( عليه السلام ) كثير الحجّ ، وقد روى الحسن بن علي الكوفي بعض أعمال حجّه ، قال : رأيت أبا جعفر الثاني ( عليه السلام ) ودّع البيت بعد ارتفاع الشمس ، وطاف بالبيت يستلم الركن اليماني في كل شوط ، فلمّا كان الشوط السابع استلمه واستلم الحجر ومسحه بيده ثمّ مسح وجهه بيده ، ثمّ أتى المقام ، فصلّى خلفه ركعتين ، ثمّ خرج إلى دبر الكعبة إلى الملتزم ، فالتزم البيت ، وكشف الثوب عن بطنه ، ثمّ وقف عليه طويلاً يدعو ، ثمّ خرج من باب الحنّاطين وتوجّه .
و کذلک کان للإمام الجواد ( عليه السلام ) أدعية كثيرة ، تمثّل مدى انقطاعه إلى الله تعالى ، فمن أدعيته هذا الدعاء : ( يا من لا شبيه له ، ولا مثال ، أنت الله لا إله إلاّ أنت ، ولا خالق إلاّ أنت ، تفني المخلوقين ، وتبقى أنت ، حلمت عمّن عصاك ، وفي المغفرة رضاك ... ) .
روى المؤرخون أن أحمد بن حديد قد خرج مع جماعة من أصحابه إلى الحج ، فهجم عليهم جماعة من السُرَّاق ونهبوا ما عندهم من أموال ومتاع .
سخاء وكرم الإمام الجواد ( عليه السلام )
كان الإمام الجواد ( عليه السلام ) من أندى الناس كفّاً ، وأكثرهم سخاءً ، وقد لُقِّب بـ ( الجواد ) لكثرة كرمه ومعروفه وإحسانه إلى الناس .
وقد ذكر المُؤَرِّخون بوادر كثيرة من كرمه ( عليه السلام ) ، و منها ما يلي :
ولما انتهوا إلى يثرب انطلق أحمد إلى الإمام الجواد ( عليه السلام ) وأخبره بما جرى عليهم ، فأمر الإمام ( عليه السلام ) له بكسوة ، وأعطاه دنانير ليفرقها على جماعته ، وكانت بقدر ما نهب منهم .
source : www.sibtayn.com